الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٥

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٨

فهناك توفّر شروط القيادة روحيا وزمنيا فيمن يحق له ان يقود الأمة ، يجب تحصيلها كفائيا بينهم ، وهنا محاولات عاقلة صالحة لسائر المؤمنين في سلب القيادة عن الطالحين وإيصالها الى الصالحين ، ففي نقض شرط او نقصه هنا او هناك الفرصة متاهة لمن يتربصون بهم دوائر السوء ، لكي يجعلوا القيادة وحتى الروحية منها فريسة لهم بكل إدغال ، وهنا ناقص الشرط او ناقضة عن تقصير متخلف عن مشيئة الله وشرعته ، قائدا او مقودا.

نجد النقص والنقض في عصور أئمة الدين المعصومين إذ لم يناصرهم المؤمنون كما يحب فاحتلت مناصبهم فاختلت موازين القيادتين روحية وزمنية.

ثم نجدهما في زمن الغيبة لولي الأمر تقصيرا جاهلا او متجاهلا قاحلا من قبل الأمة ، ومن قبل من تحق لهم القيادة ، مهما بان البون بين القواد والمقودين في أبعاد التقصير او القصور.

ثم الملك قد يكون عزا كما يرضاه الله ، وهو نفسه ذل فيما لا يرضاه ، كما الانحسار عن الملك ذل فيما يتوجب تقلده لصالح الأمة ، وهو نفسه عز إذا لزم محاظير اكثر حظرا من تركه.

وكضابطة ثابتة في إيتاء الملك وسواه وإيتاء العز وسواه : الخير كله بيديه والشر ليس إليه إذ : (بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فبيده اصل الخير كله بيديه والشر ليس إليه إذ : (بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فبيده اصل الخير في وصله وفصله ، وليس الشر إلا ممن يؤتاه مهما أمضاه ربنا تحقيقا للمحنة في دار البلية ـ تكوينا ـ وهو لا يرضاه تشريعا.

فمهما كان كل من الخير والشر من عند الله ، ولكن الخير منه والشر من نفسك : (.. وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً. ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ

٨١

وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) (٤ : ٧٩).

ومن خيره في تدبيره امور الكون غير المختار كما يدبر الكائن المختار وفي رجعة اخرى الى الآية نقول :

إن (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) تحلق الخير على كل أفعاله تعالى ، إذنا في خير او شر وعدمه في خير او شر ، فحين يريد فاعل تحقيق شره بما قدم له ، والله يعلم ما يريد ويكرهه ، فهلّا يريد الله هنا سلبا ولا إيجابا وقد حرّمه؟ وهذا انعزال عن الربوبية! ام يريد سلبا والشرير يحقق شره رغم ارادة الله؟ وهذا تغلب على ارادة الله! ام يريد إيجابا بعد ما اراده الشرير وقدم له ما أمكنه؟ وهذا هو الإيتاء الرباني لما حرّمه تشريعا ، فلو انه أراد سلبه اضطر الشرير الى تركه وخرجت حياة التكليف عن دور الامتحان ، فهذه الارادة الربانية ـ إذا ـ خير وليست شرا.

نعم في دوران الأمر بين ارادة السلب والإيجاب في الشر قضية الحكمة الربانية تقديم الأهم على المهم ، فان كانت ارادة السلب أهم قدّمت على الإيجاب كما في نار ابراهيم ، وان كانت ارادة الإيجاب أهم قدمت على ارادة السلب كما في الأكثرية الساحقة من الشرور الشخصية ، فانما يريد الله السلب في الشرور الجماعية التي فيها استئصال الحق باهله عن بكرته كما في قصة ابراهيم.

ولا يعني «الخير كله بيديك والشر ليس إليك» انه لا يريد الشر وان كانت ارادته خيرا ، وانما هو الشر الذي هو يسببه دونما اختيار لأهله.

وفيما يسد عن الشر رغم توفر مقدماته الاختيارية ، فقد يجازى الشرير حيث لم يكتف بالنية ، فقد قدم ماله فيه امكانية ، فليعاقب بما قدم مهما خف عقابه إذ لم يحصل شره!.

٨٢

اجل (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) فليس منه الا الخير مهما كان عندنا شرا وإيلاما ، فقد يمنع عن سلطة شريرة رغم توفر شروطها حفاظا على الأهم في صالح الحكمة الربانية ، ام لا يمنع تحريرا لاختيار السوء وإملاء لصاحبه وآخر لآخرين قدموا له ام سكتوا ام لم يقصّروا ، فكل الأفعال الشريرة لها واجهة شر هي شرارة الفاعل بعقيدته ونيته وعمليته ، وواجهة خير هي تحقيق الاختيار وتعذيب المختار بسوئه واملاءه ومن ثم إبلاء الآخرين.

وقد يأتي الشر خيرا مما في تركه كما قد يأتي الخير شرا مما في تركه ، ف (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ)!.

(تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) ٢٧.

آية الإيلاج هذه ونظائرها في سائر القرآن هي من أدلة كروية الأرض ، فليست الآفاق لوقت واحد ليلا ولا نهارا ، بل هي تقتسم إلى ليل بساعاته ونهار بساعاته وهما يتداخلان حسب مختلف الفصول كما يصلح في الحكمة العالية الربانية.

وهذه عبارة عبيرة لابقة لمحة عن كروية الأرض ، ان ما ينقصه من النهار يزيده في الليل وما ينقصه من الليل يزيده في النهار ، ولفظ الإيلاج هو ابلغ الألفاظ تعبيرا عن ذلك التناقص لأنه يفيد إدخال كل واحد منها في الآخر بلطيف الممازجة وشديد الملابسة فيصبح جزء من الليل نهارا وآخر من النهار ليلا.

ذلك ـ وكما الإخراج للحي من الميت وللميت من الحي فاعلية حكيمة أخرى هي الأخرى من صالح التدبير.

٨٣

وآية ثانية في متعاكس الإيلاج تشريع السماح في المعاقبة بالمثل : (ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ. ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (٢٢ : ٦١) تمثيلا للتشريع العدل بالتكوين العدل ، إذ يولج ليل العذاب في نهار الحياة الظالمة ، كما يولج نهار العذاب في ليل الحياة المظلومة.

وثالثة تمثيلا للخلق والبعث بمتعاكس الإيلاج : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ. أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (٣١ : ٢٩).

فكما انه يولج الليل في النهار ، كذلك يولج ليل الموت في نهار الحياة ، وكما انه يولج النهار في الليل كذلك يولج نهار الحياة في ليل الممات ، ف (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ)! إذا فمتعاكس الإيلاج ينعكس ـ بطبيعة الحال ـ على واقع الحياة بعد الموت آجلا ، كما هو في واقع التشريع قبل الموت عاجلا.

ذلك ـ وكما في إخراج الحي من الميت وإخراج الميت من الحي كشريطة تدار طول الحياة برهان لا مرد له على امكانية الإخراج الأول بعد الموت كما قبله ، كإمكانية الإخراج الثاني واقعا ملموسا في عاجل الحياة.

ذلك وكما يخرج الكافر من المؤمن والمؤمن من الكافر (١).

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ١٥ ـ أخرج ابن مردويه من طريق عثمان النهدي عن سلمان الفارسي قال قال رسول الله (ص) لما خلق الله آدم عليه السلام أخرج ذريته فقبض قبضة بيمينه فقال : هؤلاء أهل الجنة ولا أبالي وقبض بالأخرى قبضة فجاء فيها كل رديء فقال : هؤلاء أهل النار ولا أبالي فخلط بعضهم ببعض فيخرج الكافر من المؤمن ويخرج المؤمن من الكافر فذلك قوله : (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ).

٨٤

كما ومن إيلاج الليل في النهار حرمان اهل الله ـ أحيانا ـ عن السلطة الزمنية لتحقيق شرعة الله ، ومن إيلاج النهار في الليل إيتاء غير الآهلين السلطة الزمنية اماهيه ، وهما من الإيتاء التكويني دون التشريعي.

كما ومن إخراج الحي من الميت إخراج بلورة الايمان في دولة الكفر ، ومن إخراج الميت من الحي اخطاء السلطات الحقة فانتقالها الى اهل الباطل.

(وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) في النشآت الثلاث ، وليس (بِغَيْرِ حِسابٍ) فوضى جزاف ، بل هو بحساب وتقدير عادل قاسط (وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) فانه : (جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً) (٧٨ : ٣٦).

فالحساب هو المحاسبة مصدر حاسب ، والمحاسبة المنفية لا تناحر (عَطاءً حِساباً) فان حساب الحسابين مختلف.

فثابت الحساب هو الميزان العدل والفضل في رزقه سبحانه ، وساقط الحساب هو الحدّ من فضل الله ، إذ لا حد لفضله في مجالاته مهما حدّ عدله فيها حيث التجاوز عن العدل ظلم.

فرزقه بغير حساب لمن يشاء قد يعني عدم الموازنة بين الصالحات والمثوبات ، وعدم الحد في المثوبات ، وترك الحساب لصغائر السيئات وترك صغائر الحسنات ، وما أشبهها من حساب لا يناسب عميم فضله لأهله.

... لقد سبق (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ ... بِيَدِكَ الْخَيْرُ) مما ينبهنا بواجب المحاولة الدائبة للحصول على حق الملك بفضل الله ، وهنا يأتي واجب المفاصلة في اية ولاية بين كتلة الايمان والكفر ، وقد تختصران في (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) :

فهالة الايمان تقتضي حالة بين السلب والإيجاب في حقل الولاية كما في

٨٥

كافة الحقول ، فعلى المؤمن مثلث السلب في ولاية الكفار ، ثم مثلث الإيجاب في ولاية المؤمنين ، وهما المعبر عنهما في حقل الفروع الدينية بالتولى والتبري ، كلّ في كل الزوايا الثلاث إلا في حقل التقية وهي الحفاظ على أهم الواجبين.

وليس فحسب المؤمن بل الإنسان أيا كان يعيش بين إيجابيات وسلبيات ثلاث ، في نفسه وفي عمله شخصيا او جماعيا ، وعلى المؤمن تحقيق كلمة التوحيد إيجابا في مثلثه وسلبا في ثالوثه.

(لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) ٢٨.

«الكافرون» هنا يعم ثالوث الكفر إلحادا وإشراكا وتوحيدا كتابيا.

والولاية المنهي عنها هنا هي مطلق الولاية ما صدقت ، حبا وعمل الحب وقوله ، والسلطة الكافرة ، ثالوث منحوس من ولاية الكافرين يجمعها التحبب والتودد إليهم كيفما كان.

والاتخاذ في الأصل هو القصد الى أخذ الشيء والعزم عليه والتمسك به والملازمة له كما (اتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) (٤ : ٢٥) ـ (لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) (١٨ : ٢١) ـ (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً) (١٩ : ٨١) : انقطاعا إليها واقامة على عبادتها ، ففلتة الولاية قد لا يشملها الاتخاذ حتى تخلّف (فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ) فانها من اللمم والسيئات غير الكبيرة المكفّرة بترك الكبيرة : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً).

فالمتخذون الكافرين اولياء من دون المؤمنين لا يؤمنون بالله مهما ادعوه ، فهم بين ملحد يوالي الكافرين ولا يوالي المؤمنين ، او مشرك يواليهما مع بعض.

٨٦

واما المتفلت في ولاية للكافرين في لفظة قول ام فعل خارجين عن الاستثناء ، فلا يشمله (فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ).

ثم (مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) تعني من دون توحيد الولاية لهم كما «من دون الله» في اتخاذ من سواه ، فكما الإلحاد والإشراك في ولاية الله محظور ، كذلك هما في ولاية اهل الله محظور ، فانها استمرار لولاية الله.

إذا فولاية الكفار محظورة في مثلثها على اية حال ، توحيدا لولايتهم دون المؤمنين ـ وهو الحاد ـ فأنحس وأنكى ، ام اشراكا لهم بالمؤمنين في ولايتهم ، فما صدقت ولاية الكافرين اتخاذا لها فهي محظورة ، إذ كما تجب ولاية الله الموحّدة دون إلحاد به فيها ولا اشراك ، كذلك تجب ـ على هامشها ـ ولاية المؤمنين الموحدة ، دون إلحاد بهم فيها ولا اشراك ، فان ولاية المؤمنين من خلفيات ولاية الله ، فلا تتخلف عن ولاية الله اشراكا فيها للكافرين بالله.

فالمراد بالمنع هنا ليس ان يفردوا بالموالاة فلا تمنع موالاتهم معهم! بل هو المنع من اتخاذهم اولياء جملة وتفصيلا ، كما اتخاذ من دون الله آلهة يعني ضمهم اليه في الألوهية.

والنهي بات في ثالوث المثنى ، وهما توحيد الكفار في الولاية ام اشراكهم بالمؤمنين فيها على أية حال وان كان قليلا ضئيلا ، فان «لا يتخذ» تجتث كل دركات الولاية في ثالوثها.

(وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ) كما المشرك بالله والملحد في الله ليس من الله في شيء ، «في شيء» من مربع الولاية حبا وعمل الحب وقوله وسلطانه ، إذ لا يرضى من عباده إلا توحيد الولاية له لا لسواه ، وعلى هامشه اهل الله ف (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ (١١٧)) ـ (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ

٨٧

(بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ...) (٥٨ : ٢٢) ـ (وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٦ : ٦٨) ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ...) (٥ : ٥١).

تلك هي المفاصلة القاطعة دون أية مواصلة في ولاية بين كتلة الايمان والكفر ، لا شذوذ عنها ولا استثناء فيها على أية حال ، والولاية حبا وقولا وعملا وسلطة زمنية ام روحية ، موحّدة في اهل الله محبورة ، محظورة في غير اهل الله ولا سيما قلبيا وسلطة روحية فإنهما لا يلائمان الايمان على اية حال ، وليست التقية الا في الثلاثة الوسطى على اختلافها في الحظر.

(إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) ومع العلم ان التقية لا موقع لها ولا دور إلا في المظاهر ، نعلم أن الاستثناء محصور فيها محسور عن الباطن ، وهو المحبة القلبية والاعتقاد في ولايتهم وعقد القلب عليها ، فهي إذا تقية اللسان ، لا ولاء القلب بل ولا ولاء العمل إلّا عند الاضطرار.

فكما يستثنى مورد الإكراه في الكفر وليس إلا ظاهره : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) (١٦ : ١٠٦) كذلك التقية في ولاية الكفار ليست إلّا فيما سوى القلب اكراها على المظاهر وقلبه مطمئن بولاية موحدة للمؤمنين.

فقد بقيت عند التقية الولاية الظاهرة إظهارا للحب قولا او عملا ثم ولاية السلطة ، والاستثناء ظاهر في أولاهما ، منقسما الى تقية الخوف على اية حال وتقية الحب جذبا لهم الى الايمان فيمن يرجى منهم ، إذ : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ

٨٨

إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٦٠ : ٩).

فما أمكن جذب الكفار إلى الإيمان بتوليهم في ظاهر الحال وعشرة الأعمال ، فهو من تكاليف داعية الايمان وقد يجب ، وكما لهم كمؤلفة قلوبهم حق من الزكاة الواجبة مهما كانوا أغنياء ، كما ويسلّم على الكفار بنفس السبب كما سلم ابراهيم (عليه السلام) على آزر من قبل ان يتبين له انه من اصحاب الجحيم.

وعند الإياس منهم فلا ولاية إلا عند تقية الخوف على ما هو أهم من محظور الولاية نفسا وعرضا وما أشبه.

واما ولاية السلطة ولا سيما الروحية فالتقية فيها أضيق من الأخرى ، حيث السلطة الكافرة قاضية على خطوط الايمان وخيوطه مهما كانت بصورة تدريجية ، فلا تقية فيها على اية حال ، اللهم إلا إذا ترجحت ميزانية الحفاظ على النفس والنفيس على وجوب معارضة السلطة الكافرة ، وحرمة الإبقاء عليها تظاهرا بالولاء ، ولا دور لهذه الرجاحة إلا في غربة غريبة للمؤمن ، حيث لا يجد ناصرا له في دولة الكفر ، ولا سبيل له للقضاء عليها او معارضتها عمليا وقوليا ، فقد يتربص المؤمن في دولة الكفر ـ حين لا يجد حيلة لترك الموالاة ، ولا وسيلة للفرار الى دولة أخرى ـ يتربص نظرة ان يأتي دور المعارضة على السلطة والقضاء عليها (١) وأية ولاية مسموحة بالنسبة للكافرين هي مقدرة بقدر

__________________

(١) للوقوف على تفصيل البحث حول موارد التقية راجع تفسير الإكراه «إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ».

٨٩

الضرورة في تقية الحب والخوف ، دون استرسال فيها كما في المؤمنين حيث الضرورات تقدر بقدرها.

(وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) فحذار حذار من ولاية الكفار كما اتخاذ من دون الله آلهة ، حيث الولاية هنا هي من فروع الإلحاد في الله والإشراك بالله ، والمصير الى الله يقتضي الصمود على ولاية الله وولاية اهل الله (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) ، وترى كيف (يُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ)؟ والله نفسه لا يتحذر لأنه عدل كريم!.

إنه يحذركم نفسه لمكانة عدله ، فليس عذابه إلا من خلفيات عدله تعالى ، وعلّ «نفسه» دون «عقابه» قصد الى خاصة عقابه الذي يأتي من قبله ويصدر عن امره ، دون الذي يجريه على ايدي خلقه ، حيث العقاب على الوجه الأول أبلغ ألما وأشد مضضا.

ونفس الله هي ذاته سبحانه دون شيء من كيانه إذ لا يتجزأ ، فهي من إضافة الكائن إلى نفسه ، ولا تأتي لله إلّا مضافة دون إفراد.

هذا ـ ومن الولاية الظاهرة للكفار مخالطتهم التي تجركم إلى أهواءهم شئتم أم أبيتم ، مخالطة قولية أو عملية هي الولاية الوسطى بعد المحبة وقبل السلطة الكافرة ، التي كانت مجالة للتقية.

فانها في غير تقية الخوف ككل ، وغير تقية المحبة ـ في مجالاتها غير المحظورة ـ محظورة وقد نزلت فيما نزلت ـ بشأن الحظر عنها (١).

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ١٦ ـ أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كان الحجاج بن عمر وحليف كعب بن الأشرف وابن أبي الحقيق وقيس ابن زيد قد بطنوا بنفر من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم فقال رفاعة بن المنذر وعبد الله بن جبير وسعد بن خيثمة لأولئك النفر ـ

٩٠

ولأن التقية هي وقاية الأهم بتفدية المهم فليراع فيها الأهم من المهم دونما فوضى جزاف ، ان يتقى بأس الكافر في خطر دخولا في الأخطر ، فانما التعرض للهلاك حفاظا على ادنى منه محظورا هو خلاف التقية المحبورة (١).

فمن الايمان حفظ الأوجب في الايمان تفدية للواجب فيه كضابطة ايمانية صارمة ، إذا ف«لا ايمان لمن لا تقية له» (٢) كما وان «التقية في كل شيء يضطر اليه ابن آدم فقد أحله الله له» (٣) و «التقية ترس الله بينه وبين خلقه» (٤) ولا ترس إلا في المعركة ففي معركة الصدام بين الأهم والمهم دور للتقية دائر حفاظا على الأهم ، ولا بد ـ إذا ـ من تمييز الأهم في شرعة الله اجتهادا او تقليدا صالحا.

فالتقية قد تكون واجبة حينما يحافظ بها على الأهم المفروض ، أم محرمة حينما يهدر الأهم فيصبح المرفوض كتقية السحرة من فرعون الطاغية ، وثالثة

__________________

ـ اجتنبوا هؤلاء النفر من يهود واحذروا مباطنتهم لا يفتنوكم عن دينكم فأبى أولئك النفر فأنزل الله فيهم (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ ..).

وفيه أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق علي عن ابن عباس قال : نهى الله المؤمنين أن يلاطفوا الكفار ويتخذوهم وليجة من دون المؤمنين إلّا أن يكون الكفار عليهم ظاهرين أولياء فيظهرون لهم اللطف ويخالفونهم في الدين وذلك قوله : إلّا أن تتقوا منهم تقاة.

(١) نور الثقلين ١ : ٣٢٥ في الإحتجاج للطبرسي عن أمير المؤمنين (ع) حديث طويل يقول فيه لبعض اليونانيين : وآمرك أن تستعمل التقية في دينك فإن الله يقول (لا يَتَّخِذِ ... إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) ـ وإياك ثم إياك أن تتعرض للهلاك وأن تترك التقية التي أمرتك بها فإنك شائط بدمك ودماء إخوانك ، معرّض لنعمك ونعمهم للزوال ، مذل لهم في أيدى أعداء الدين وقد أمرك بإعزازهم.

(٢) المصدر في تفسير العياشي عن الحسين بن زيد بن علي بن جعفر عن محمد عن أبيه عليهم السلام قال : كان رسول الله (ص) يقول : لا إيمان ... ويقول قال الله : (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً).

(٣) المصدر عن جماعة من أصحاب الباقر (ع) سمعناه يقول : «التقية ...».

(٤) المصدر عن حريز عن أبي عبد الله (ع) قال : ...».

٩١

تتخير بين المحظورين وهما المتساويان وقد فرض أحدهما عليك ، ورابعة يترجح احد المحظورين برجاحة غير مفروضة.

ف (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) لا تعني إلا تقاة الأهم تركا للمهم الواجب وهو ترك توليهم ، إحرازا للأهم الأوجب وهو ترك النفس إذا كانت أنفس من الواجب الآخر.

(قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢٩).

اجل ـ وانه لا فارق في علم الله بين ما تخفونه في صدوركم وما تبدونه ، (فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) بل وككل (وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ).

ذلك ، وانه إمعان في التحذير والتهديد واستجاشة الخشية واتقاء التعرض للنقمة التي يساندها العلم والقدرة ، فلا ناصر منها ولا عاذر ، وإلى حاذر العذاب في تجسد الأعمال :

(يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) (٣٠).

(ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ) علّها تعم مربع العقائد والنيات والأعمال والأقوال ، إذ أفرد العمل بالذكر ، حيث العقيدة والنية هما عمل الجنان والآخران هما عمل الأركان.

وعلّ «ما عملت» على اختصاصها بعمل الأركان تطوي العقيدة والنية الصالحتين ، حيث العمل قولا او فعلا ليس خيرا إلّا بصالح العقيدة والنية.

ثم الوجدان هناك كما هنا هو وجدان نفس العمل بصورته وسيرته

٩٢

وصوته ، المسجلة في مربعة المسجلات : أعضاء وأرضا وملائكة وشهداء ، كما فصلناه في آية الأسرى والزلزال ونظائرهما.

وكذلك (عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ) ولكنما الوجدان في خيره وشره لا يحلّق على كل خير وشرّ ، وانما الخير الباقي غير الحابط ، والشر الباقي غير المكفر ، كما استثنتها آيات التكفير والغفر والإحباط.

ثم الخير هو بنفسه ثواب كما الشر بنفسه عقاب ، ف (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) حيث تبرز ملكوت الخير والشر ، مهما كان جزاء الخير فضلا وجزاء الشر عدلا.

ولماذا (تَوَدُّ .. أَمَداً بَعِيداً) في السوء ترجيا للمفاصلة الزمنية البعيدة ، دون المفاصلة الواقعية وهي هي المخيفة قريبة ام بعيدة؟.

لأنه لا يجد هناك مفرا عما عمل من سوء حيث يراه لزامه على اية حال ، فيترجى ـ لأقل تقدير ـ أمدا بعيدا ، يرتاح فيه عن بأسه.

فالعمل السوء كالقرين السوء لا مفر عنه ولا مفلت إلا ترجى البعد عنه لفترة كما : (نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ... حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ).

وعل (يُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) هنا المكررة بعد الأولى ، تعني في كلّ معناه ، فالاولى تحذير عن موالات الكفار ، والثانية تحذير عن كل الشرور ، إضافة الى ما تحمله الثاني من شديد الحذر حين تبرز الأعمال كما عملت فلا مجال لناكر او عاذر ، وقد حذرت الاولى عن وبال الاولى.

ثم (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) تزويد للخيرات في فضل الجزاء ، ورأفة في عدله ، انه يعاقب اقل ما تستحقه العصاة ، لحد لا يستوجب الظلم بحق المتقين.

٩٣

ومن صالح الأعمال وركيزتها اتباع الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على مدار حب الله :

(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣١) قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) (٣٢).

و «هل الدين إلا الحب» (١) فان الدين العقيدة والطاعة هو خلفية واقعية لواقع الحب ، حيث الحب ـ ومكانه القلب ـ ليس دعوى باللسان ، ولا هياما بالوجدان ، إلا بما يظهر من الجنان على الأركان ، والا فهو حب جاهل ، ام كاذب قاحل.

ان حب الله في أية درجة من درجاته لا دور له إلّا بآثاره الظاهرة كما الباطنة ، وهي اتباع الله ، ولا موقع لاتباع الله إلا باتباع رسول الله ، إذ ليس الله ليوحي إلى محبيه إلا الرسل ، فانما يحب الله من يحبه إذا اتبع رسوله الحامل لشروطات حبه (فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) ف «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» (٢).

وإذا كانت لكم ذنوب (وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) بذلك الإتباع (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يغفر سيئاتكم إذا تركتم الكبائر ، ومن اكبر الكبائر التولي عن رسول الله مع الادعاء انك تحب الله : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ).

فاتباع رسول الله على ضوء حب الله هو الإيمان ، والتولي عن رسول الله وان كنت تدعي حب الله هو من الكفر (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ) في محكم كتابه وفيما

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٣٢٦ في كتاب الخصال عن سعيد بن يسار قال قال أبو عبد الله (ع) : هل الدين إلّا الحب إن الله تعالى يقول : (إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ ...).

(٢) في ظلال القرآن ١ : ٥٧٠.

٩٤

امر من طاعة رسوله «والرسول» رسالة من الله «فان تولوا» عن طاعة الله ورسوله ، او طاعة الله او طاعة رسوله (فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ).

هنا (يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) لا تتعلق إلا ب «فاتبعوني» فالحب الفاضي عن اتباع الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هو حب لا يتبع حب الله وغفرانه ، فانه تعالى يحب من يحبه إذا اتبع مرضاته ، بل وليس الحب إلا في اتباع مرضاته ، والحب الفارغ عن مرضاته فارغ عن حبه ومرضاته ، بل هو مجرد ادعاء جوفاء لا تحمل من الواقعية شطرا إلّا الدعوى.

وإذا كان حب الله لا يفيد إلا باتباع شرعته ، فبأحرى لا يفيد حب الرسول وذويه إلا بنفس الإتباع ، و «حب علي حسنة لا يضر معها سيئة» لا تعني ـ إن صحت ـ انه الحب فقط ، بل لا تأتي معها سيئة حتى تضر ، او لا تضر معها الصغائر لأنه من كبائر الحسنات كما (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً).

وقد يروى عن الصادق (عليه السلام) قوله : ما أحبّ الله من عصاه ثم تمثل بقوله:

تعصي الإله وأنت تظهر حبه

هذا لعمري في الفعال بديع

لو كان حبك صادقا لأطعته

إن المحب لمن يحب مطيع (١)

فالحب من خلفيات الإيمان ، والطاعة من خلفيات الحب ، مثلث لا تفارق في زواياها وحواياها إلّا فصلا عن صادق الايمان.

فالناس في حب الله على ضروب شتى.

١ منهم من يؤمن به ولا يحبه نتيجة الايمان.

__________________

(١) في المعاني عنه (ع) وفي الكافي عنه (ع) في حديث قال : ومن سره أن يعلم أن الله يحبه فليعمل بطاعة الله وليتبعنا ألم يسمع قول الله عز وجل لنبيه (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ ...) وفيه عنه (ع) لا قول إلّا بعمل ولا قول ولا عمل إلّا بنية ولا قول ولا عمل ولا نية إلّا باصابة السنة.

٩٥

٢ ومنهم من يحبه كما يؤمن به ولا يطيعه.

٣ ومنهم من يطيعه على حبه والايمان به ولكنه على خلاف طاعة رسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، وهؤلاء هم شرع سواء في ان الله لا يحبهم ولا يغفر لهم سيئاتهم.

٤ ومنهم من يطيع رسوله على حب الله والايمان به ، تبنّيا لحياته على تلك الطاعة ، وهم ـ على درجاتهم ـ ممن يحبهم الله ويغفر لهم سيئاتهم.

(إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٣) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٣٤) إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٣٦) فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) (٣٧)

٩٦

هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٨) فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (٣٩) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (٤٠) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٤١) وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (٤٢) يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) (٤٤)

(إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٣) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٣٤).

٩٧

«آدم» هنا وفي سائر القرآن هو الوالد الاوّل من هذا النسل الأخير ، كما هو لائح في سائر القرآن دون ريب حيث جيء باسمه الخاص هذا (٣٥) مرة.

وترى اصطفاءه يلمح انه كان معه أوادم آخرون ، فاصطفاه الله من بينهم رسولا ، فليس ـ إذا ـ هو الوالد الاوّل إذ قد يكون هو من مواليدهم وهذا النسل الانساني متنسل مقسما بينهم؟ وليست قضية اصطفاءه ذلك الهارف الخارف ان هناك كان أوادم آخرون لم يكن هو والدهم ، حيث الاصطفاء المطلق وفي حقل الرسالة كما هنا لا يقتضي المجانسة بين جمع ، بل يعني اصطفاءه من بين سائر الخليقة ليكون حامل لواء الدعوة الربانية بين المكلفين! حيث الرسالة الى العالمين خاصة بالإنس أصالة مهما كانت في الجن أيضا كفروع للرسالة الإنسانية الى قبيلهم قبل اختتام الوحي.

إذا فلا بد في الاصطفاء الرسالي من اجتباء الأصفى بين عامة المكلفين ، حتى يصلح الرسول المصطفى لحمل الرسالة الى العالمين أجمعين.

فالله اصطفاه من بين قرينيه زوجه وإبليس وذريته الابالسة وسائر الجن حيث (الْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ) (١٥ : ٢٧) ومهما كان الاصطفاء بحاجة إلى عديد ، فقد يكفي له اثنان يصطفى أحدهما على الآخر ، فضلا عن آخرين ـ سوى زوجه ـ من قبيل الجن ككل.

وليس اصطفاءه حين خلقه حتى يقال فكيف ذلك الاصطفاء ولما يخلق زوجه؟ وانما كان بعد عصيانه وهبوطه وتوبته وتوبة الله عليه : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى. ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) (٤٠ : ١٢٢) واجتبائه هو اصطفاءه وهو مرحلة تالية لعصيانه فتوبة الله عليه ليتوب وتوبته الى الله وتوبة ثانية من الله عليه قبولا لتوبته ثم هدايته الى ما قبل عصيانه من طهارته ثم يأتي دور اجتبائه واصطفائه (١).

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٣٢٨ في عيون الأخبار في مجلس الرضا (ع) عند المأمون مع أهل الملل والمقالات ـ

٩٨

وهكذا يجاب عن غائلة العصيان في الرسول المعصوم ، انه اصطفي رسولا بعد توبته النصوح ، الكاملة الكافلة لتركه على طول خط الحياة الرسالية ، كما فصلناه في طه والبقرة ، وهنا الاصطفاء الاوّل لآدم يعني الاولية الزمنية ، لا في الرتبة.

ثم (نُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ) المصطفين (عَلَى الْعالَمِينَ) تشمل كافة المرسلين والنبيين ، فنوح ـ وهو أول اولي العزم ـ اوّل من دارت عليه رحى ولاية العزم الرسالية.

(وَآلَ إِبْراهِيمَ) تعني ابراهيم وآله الابراهيميين رسلا ونبيين ، منذ إسماعيل إلى خاتم النبيين وعترته المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين (١) ومنذ إسحاق ويعقوب وسائر الرسل الاسرائيلين (عليهم السلام) ، وهنا يختص

__________________

ـ وما أجاب به علي بن محمد بن الجهم في عصمة الأنبياء صلوات الله عليهم حديث طويل يقول فيه الرضا (ع) أما قوله عز وجل في آدم (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) فإن الله عز وجل خلق آدم حجة في أرضه وخليفة في بلاده ، لم يخلقه للجنة وكانت المعصية من آدم في الجنة لا في الأرض وعصمته يجب أن تكون في الأرض ليتم مقادير أمر الله عز وجل ، فلما أهبط إلى الأرض وجعل حجة وخليفة عصم بقوله عز وجل (إِنَّ اللهَ اصْطَفى ...).

وفيه في باب مجلس آخر للرضا (ع) عند المأمون في عصمة الأنبياء حديث طويل وفيه يقول : وكان ذلك من آدم قبل النبوة ولم يكن ذلك بذنب كثير استحق به دخول النار وإنما كان من الصغائر الموهوبة التي تجوز على الأنبياء قبل نزول الوحي عليهم فلما اجتباه الله تعالى وجعله نبيا كان معصوما لا يذنب صغيرة ولا كبيرة قال الله تعالى : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى. ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) وقال عز وجل : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ ...).

(١) الدر المنثور ٢ : ١٧ ـ أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق علي عن ابن عباس في قوله (وَآلَ إِبْراهِيمَ) قال : هم المؤمنون من آل إبراهيم وآل عمران وآل ياسين وآل محمد (ص) ، وفيه عن قتادة قال : ذكر الله أهل بيتين صالحين ورجلين صالحين ففضلهم على العالمين فكان محمد (ص) من آل إبراهيم (ع).

٩٩

بالذكر «آل عمران» اعتبارا بمريم العذراء الطاهرة المعصومة وابنها المسيح (عليهما السلام) حيث المسرح هنا في سورة آل عمران سرد القصص الفصل لآل عمران.

فلا يعني عدم التصريح بمحمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هنا تسريحا له عن موقف الاصطفاء الخاص ، كما ولم يصرح بإسحاق ويعقوب وموسى وسائر الرسل الاسرائيلين ، وموسى هو رأس الزاوية الرسالية بينهم ، وقد يأتي في نفس السورة التصريح بان محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) إمام النبيين أجمعين ، ـ مهما لم يكن أمامهم ـ في آية الميثاق.

«ذرية» انتشأ (بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ) نشأة الروح القدسية مع نشأة الجسم (نُورٌ عَلى نُورٍ) (١) فليست نشأة الجسم ـ فقط ـ عن جسم بالذي يؤهل الناشئ للقدسية الروحية التي هي في المنشإ (وَاللهُ سَمِيعٌ) مقالات السائلين وسواهم «عليم» بحالاتهم ومؤهلاتهم فينشئ الذرية الرسالية عن الرسل.

هذا ـ والى نظرة تفصيلية في آية الاصطفاء نقول : الاصطفاء هو أخذ صفوة الشيء تخليصا له عما يكدره ، والصفوة الربانية هي العصمة لا محالة للرسل أمن سواهم ممن يخلفهم في حمل الدعوة الرسالية المعصومة العاصمة لها عن الانزلاق والانحياق.

فقد يشمل الاصطفاء هنا آل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) المعصومين وهم ورثة الكتاب بعده ، المصطفون في نص آخر : (وَالَّذِي أَوْحَيْنا

__________________

(١) المصدر أخرج ابن سعد وابن أبي حاتم عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عليهم السلام أن عليا (ع) قال للحسن (ع) : قم فأخطب الناس ، قال : إني أهابك أن أخطب وأنا أراك فتغيب عنه حيث يسمع كلامه ولا يراه فقام الحسن فحمد الله وأثنى عليه وتكلم ثم نزل فقال علي (ع) (ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).

١٠٠