الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٥

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٨

وإنما عدّي «رضوان» ب «من» حيث الأصل هو رضوان من الله عن عبده وليس العكس إلا تقدمته.

ذلك ، وإلى مواصفات للذين اتقوا عند ربهم في قال وفعال :

(الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٦) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ) (١٧).

هؤلاء الأكارم هم في خماسية من واقعية الصفات الإيمانية بعد قولة الايمان وطلبة الغفران والاتقاء عن النيران ، دروب ثمان إلى جنة الرضوان (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

والنصب في هذه الخمس على الإختصاص : أخص من القائلين (رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا ..) : (الصَّابِرِينَ ...).

وهذه الصفات تحلق على كافة الصفات الايمانية على الإطلاق ، كما وتحلق كلّ منها على سائر الخمس ، فالصابر في الله حقا هو الصادق حقا كما الصادق صابر ، والقانت حقا لله هو الصابر الصادق المنفق في الأسحار كما المنفق والمستغفر صابر صادق قانت.

ذلك ـ وفي كل صفة من هذه الخمس تتحقق سمة ذات قيمة في حياة الإيمان ، ففي الصبر ترفّع على الآلام دون انكسار وتراجع ، ثباتا على أعباء الدعوة واستعلاء على الشكوى.

وفي الصدق اعتزاز بالحق المطلق ومطلق الحق في ظلاله ، ترفعا عن ضعف الكذب وكذب الضعف فما الكذب إلا ضعفا عن ناصع الحق اتقاء عن ضرر او اجتلابا لنفع.

وفي القنوت لله أداء ـ قدر المستطاع ـ لحق الربوبية وواجب العبودية وتحقيق لكرامة النفس بالقنوت الخنوع لله الذي لا قنوت لسواه.

٦١

وفي الإنفاق تحرّر من أسر المال بأسره ، وانفلات من ربقة الشح ، وإعلاء لحقيقة الأخوة الايمانية على شهوة اللذة الشخصية وتكافل بين الناس يليق بعالم الناس خروجا عن عالم النسناس.

ومن ثم الاستغفار بالأسحار يلقي ظلالا عميقة الندى ، قريبة الهدى ، كما وصيغة الأسحار راسمة ظلال فترتها قبيل الفجر حيث يصفو فيها الجو وتترقرق فيها خواطر النفس ، تلاقيا حفيفا بين روح الإنسان والكائنات ككلّ اتجاها إلى خالق الكون.

(شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١٨).

هذه من غرر الآيات الجامعة لبراهين التوحيد ، الجامعة لكل مداليل آيات التوحيد آفاقيا وانفسيا ، يجدر بنا ان نسبر اغوار البحث فيها كما سبرت.

هنا سؤال يطرح نفسه بطبيعة الحال ان كيف يشهد الله لنفسه وطبيعة الشهادة ان تكون لاثبات الدعوى من غير مدعيها عند فقدان اي برهان عليها؟ وإلّا فلكل مدع ان يشهد لنفسه دون حاجة إلى سواه؟!.

هنا ـ بعد التأكد من معنى الشهادة أنها أداؤها عن حضور كامل وهو بالنسبة لله الحضور المحلّق على كل محضر لتلقي الشهادة وإلقاءها قبل خلق المشهود وبعده وبعد فناءه ـ هنا نقول أولا : ان شهادة الله بوحدانيته قد تخص الذين يعتقدون في وجوده ثم هم به مشركون ، وهم معترفون أنه الإله الأصيل وقد اتخذ لنفسه شركاء ، فأفضل من يشهد لوحدانيته هو نفسه المقدسة ، إذ هو الذي يعلم شركاءه لو كانوا ، وهو الذي يتخذهم لو كان متخذا لهم ، فلمّا ينفي العلم بان له شريكا ، وينفي اتخاذه لنفسه شريكا ، فتلك إذا شهادة قاطعة على توحيده : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ

٦٢

شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (١٠ : ١٨) ـ (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) (١٣ : ٣٣).

فلان اتخاذ الشركاء لله لا يعلم ـ كأفضل معلم ـ إلا من قبل الله ف (شَهِدَ اللهُ) هي أفضل شهادة لتوحيد الله وجاه من يفترون على الله انه اتخذ لنفسه شركاء.

هذا ـ ولكن شهادة الله على توحيده ليست لتقف عند هذه فحسب ، فانه شهيد بكل حقول الشهادة على (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ..).

فقبل كل شهادة (شَهِدَ اللهُ) باسمه «الله» : (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) ف (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) (١٩ : ٦٥)؟ كلا يا ربنا حيث اجمع العالمون ملحدين ومشركين وموحدين على توحيد اسم «الله» لله فلم يسمّ به أحد إلا الله ، مهما اتخذوا من دونه شركاء ، إذ لا يحملون اسم «الله».

ثم «الله» في ذاته القدسية يشهد ألا اله الا هو ، فان ذاته اللّامحدودة تحيل تعدّده ، حيث اللّامحدود لا يتعدد ولو كان مخلوقا ، وهو في الخلق لا محدودية نسبية ، فالماء ـ مثلا ـ دون اي تقيّد بزمان او مكان او ألوان ليس إلا واحدا ، ولا يتصور التعدد إلا على ضوء اختلاف مّا في ايّ من هذه المواصفات.

فاللامحدودية الإلهية ـ وهي حقها وحاقها ـ تحيل التعدد ، فهو واحد لا بعدد ولا عن عدد ولا بتأويل عدد ، و (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) الآلهة إلا الله مع الله ، حيث العدد يحيل ألوهية المعدود أيا كان.

٦٣

وصفاته ـ كذلك ـ ذاتية هي ذاته القدسية ، وفعلية هي أفعاله ، إنها لا محدودة فلا تعدد في الموصوف بها بنفس السند.

كما وأفعاله المنضدة المنتظمة دون تهافت وتفاوت ، وبكل تناسق وتوافق حيث (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) ذلك ايضا دليل وحدة الخالق الناظم الناسق ، فتدبيره العجيب وصنعه اللطيف اللبيب وحكمته البالغة وقدرته الحالقة ، كل ذلك دليل وحدة الصانع الحكيم القدير.

كما وشهد الله بما خلق في أنفسنا ودبر من فطر وفكر وعلوم ، فالفطرة شاهدة ، والعقل شاهد ، والعلم في كل حقوله شاهد ، شهداء ثلاثة هي من الآيات الأنفسية اضافة الى الآيات الآفاقية (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ).

ثم (وَالْمَلائِكَةُ) المدبرات أمرا ، والحاملات رسالات الله على رسل الله ، إنها تشهد بوحدة التدبير ووحي الرسالة التوحيدية (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فلا تجد الرسالات الإلهية ملكا يحمل خلاف التوحيد ، او يعمل في تدبير أمر الكون خلاف التوحيد.

وكذلك (أُولُوا الْعِلْمِ) بالله ، ف (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) ولا سيما الرسل والنبيون (١) وهم الرعيل الأعلى من اولى العلم بالله ، فإنهم

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٣٢٣ في تفسير العياشي عن جابر قال سألت أبا جعفر عليهما السلام عن هذه الآية (شَهِدَ اللهُ) قال أبو جعفر عليهما السلام : شهد الله .. فإن الله تبارك وتعالى يشهد بها لنفسه وهو كما قال ، فأما قوله : والملائكة ، فإنه أكرم الملائكة بالتسليم له بهم وصدقوا وشهدوا كما شهد لنفسه وأما قوله : «وأولوا العلم قائما بالقسط ، فإن أولي العلم الأنبياء والأوصياء وهم قيام بالقسط والقسط العدل في الظاهر والعدل في الباطن أمير المؤمنين» أقول : قائما بالقسط هي صفة لله لإفرادها دون الآخرين المجموعين ، مهما حملوا القسط في شهادتهم بالوحدانية ، اللهم إلّا تأويلا أو حملا لقسطهم على هامش قسط الله.

٦٤

يزدادون على مثلث العلم لسائر العلماء علم الوحي الرسالي : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (٢١ : ٢٥).

ذلك وأفضل الشهادات الربانية في حقل الكتب الرسالية هو القرآن : (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) (٤ : ١٦٦).

وهي بصورة عامة : (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) (١٣ : ٤٣).

هذا ، وكذلك سائر اولي العلم ، علما بالله كما الموحدون ، او علما بخلق الله ، حيث العلوم التجريبية بأسرها ـ لو خليت وطباعها ـ تحيل ازلية المادة (١).

إذا فالكون بأسره ـ خالقا ومخلوقا ، وفي كل حقوله ـ شاهد صدق بكل صنوف الشهادة (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فلا نكير لتوحيده تعالى إلّا نكير فطرته وعقليته وعلمه.

إذا ف (شَهِدَ اللهُ) : ١ باسمه «الله» ٢ وذاته و ٣ صفات ذاته ٤ وصفات فعله ، ٥ ومن الفطر ٦ والعقول ٧ وبقرآنه و ٨ ملائكته وسطاء في حمل التكوين والتشريع ، ٩ وأولوا العلم الرسل ومن يحذو محذاهم ١٠ وسائر اولي العلم حيث الصالح في ذاته يدل على وحدانيته تعالى.

فكل هذه الشهود العشرة هي من (شَهِدَ اللهُ) منه او من فعله شهادة عقلية او علمية او واقعية ، وليست شهادات لفقدان البرهان.

__________________

(١) تجد القول الفصل في شهادة العلوم لإثبات وجود الله وتوحيده في كتابنا «حوار بين الإلهيين والماديين» في فصله الخاص.

٦٥

ومهما دخلت في سائر الشهادات خلاف العدل والقسط ، ولكن الله في شهادته وفي ربوبيته ككلّ ليس إلّا :

(قائِماً بِالْقِسْطِ) تشهد لقيامه بالقسط ألوهيته ، فانما يحتاج الى الظلم الضعيف ، كما وتشهد سائر الشهداء من الملائكة واولي العلم ، دون اي دخل ولا دجل أو دغل في الشهادة التوحيدية ، فإنما هو قسط فوق العدل ، وليس ظلما دون العدل ، ولا هي ـ فقط ـ عدل ، فالقسط من اعدل العدل وأفضله ، وهكذا تكون شهادة الله على توحيده : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فعزته الوحيدة غير الوهيدة ، وحكمته الوحيدة الوطيدة تشهدان لتوحيده شهادة قاسطة.

تلك هي جملة براهين التوحيد المستفادة من هذه الغرة الكريمة ، فكما ان وجود الله يملك كل البراهين المثبتة ، كذلك توحيده وسائر أسماءه الحسنى وصفاته العليا ، فإنه تعالى قائم بالقسط في كافة مسارح ربوبيته بمصارح آياته آفاقية وانفسية دون إبقاء.

وها نحن نرى على مدار الزمن في التاريخ الجغرافي والجغرافيا التاريخي ، ان الفترات التي حكمت فيها شرعة الله وحدها ، هي التي ذاق فيها الناس طعم القسط واستقامت حياتهم قاسطة ، في حين نراها في الفترات المتخلفة عن شرعة الله ساقطة.

لذلك نرى آية الشهادة الإلهية ـ هذه ـ مع زملائها في لسان الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) «معلقات بالعرش ما بينهن وبين الله حجاب» (١)

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ١٢ ـ أخرج ابن السني في عمل يوم وليلة وأبو منصور الشجامي في الأربعين عن علي قال قال رسول الله (ص) : وإنّ فاتحة الكتاب وآية الكرسي والآيتين من آل عمران : شهد الله .. إن الدين عند الله الإسلام ـ وقل اللهم مالك الملك .. بغير حساب ، هن معلقات ـ

٦٦

وذلك لأنهن رافعات الحجاب عن وجه التوحيد كل نقاب.

(إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) (١٩).

... في الحق «ان الدين» الطاعة الحقه (عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) لله خالصا ناصعا دونما خليط من هواك ام أهواء من سواك ، والإسلام في كل شرعة هو الإسلام لله فيها دونما تخلف عنها قيد شعرة.

إذا فالدين عند الله في الشرعة الأخيرة هو الإسلام فيها لله ، دونما إبقاء على تهود او تنصر ، ولذلك سميت هذه الشرعة الإسلام اعتبارا بمضي أدوار سائر الشرائع في دوره ، مهما كانت كل إسلاما في دوره الخاص به ، (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٣ : ٨٥) وهو إسلام الوجه لله بكل وجه في كل الأدوار الرسالية ، وهو هذا الإسلام الأخير بعد مضي ادوارها.

(وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) في هذا الإسلام وهو أصله وأثافيّه (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) من قبل في كتاباتهم بشارات بهذا الإسلام ، ومن بعد في القرآن العظيم (بَغْياً بَيْنَهُمْ) في هذا الإسلام ، ترسبا على شرعة الطائفية وطائفية الشرعة فكفرا بآيات الله (وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) بالنسبة لهؤلاء المنحرفين عن إسلام الوجه لله.

__________________

ـ بالعرش ما بينهن وبين الله حجاب يقلن يا رب تهبطنا إلى أرضك وإلى من يعصيك قال الله إني حلفت لا يقرؤكن أحد من عبادي دبر كل صلاة ـ يعني المكتوبة ـ إلّا جعلت الجنة مأواه على ما كان فيه وإلّا أسكنته حظيرة الفردوس وإلّا نظرت إليه كل يوم سبعين نظرة وإلّا قضيت له كل يوم سبعين حاجة أدناها المغفرة وإلّا أعدته من كل عدو ونصرته منه.

أقول وفي المجمع روى جعفر بن محمد عليهما السلام عن أبيه عن آبائه عن النبي (ص) مثله.

٦٧

(الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) هم أخص من اهل الكتاب ، فالذين لا يعلمون الكتاب إلا اماني ، هم لم يؤتوا الكتاب علميا معرفيا مهما أوتوه مبدئيا ، ومن ادلة الاختصاص (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) فلا يشمل (أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ).

وهذا الإسلام الذي هو الدين عند الله ، ليس فقط إقرارا باللسان فانه ليس دينا وطاعة ، بل هو تبلور الايمان وتمامه وكماله (١) دخولا في جو السلم على ضوء الطاعة المطلقة لله.

فالإسلام هو احسن دين مهما كان الايمان دينا وإسلام الإقرار ـ كذلك ـ دينا في حقل الإقرار : (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) (٤ : ١٢٥) ـ (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٢ : ١١٢) ـ (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) (٣١ : ٢٢).

إسلام الوجه لله يشمل كل وجه في الإسلام وهو الدخول في السلم كافة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (٢ : ٢٠٨).

وهكذا يؤمر مؤمنوا كل الشرايع الإلهية ، وحين تنتهي الى الشرعة الأخيرة فهي هي الإسلام فقط الى يوم الدين : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) والإسلام هو التسليم والتسليم هو اليقين

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٣٢٣ في تفسير العياشي عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليهما السلام في الآية قال : يعني الذي فيه الإيمان.

أقول : فما ورد من تفسير الإسلام أنه الإقرار وأنه قبل الإيمان ، وأنه لا يشرك الإيمان والإيمان يشركه كل ذلك يعني الإسلام الأوّل لا الإسلام الذي بعد الإيمان ولا الأعم منه ومن الذي قبل الإيمان.

٦٨

واليقين هو التصديق والتصديق هو الإقرار والإقرار هو الأداء والأداء هو العمل (١).

(فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) (٢٠).

(فَإِنْ حَاجُّوكَ) اهل الكتاب وسائر الكفار في شرعتك هذه الجديدة الجادة «فقل» كلمة واحدة قاطعة للحجاج (أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ) واسلموا وجوههم (مَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ) فأنتم إذا أمثالنا مسلمون بشرعة القرآن ، فقد بعث محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالإسلام كسائر الرسل والنبيين (عليهم السلام) (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) (٢).

(فَإِنْ أَسْلَمُوا) وجوههم لله فأسلموا (فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا) عن الإسلام (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) ف (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) (وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) المسلمين منهم والمتولين.

__________________

(١) عن الإمام علي أمير المؤمنين (ع) قال : لأنسبن الإسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلي ولا ينسبها أحد بعدي الإسلام هو التسليم ...

(٢) الدر المنثور ٢ : ١٣ ـ أخرج الحاكم وصححه عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال أتيت النبي (ص) فقلت يا نبي الله إني أسألك بوجه الله بم بعثك ربنا؟ قال : بالإسلام ، قلت وما آيته قال : أن تقول : أسلمت وجهي لله وتخليت وتقيم الصلاة وتؤدّي الزكاة كل مسلم على مسلم محرم اخوان نصيران لا يقبل الله من مسلم أشرك بعد ما أسلم عملا حتى يفارق المشركين إلى المسلمين ما لي آخذ بحجزكم عن النار ألا إن ربي داعيّ ألا وإنه سائلي هل بلغت عبادي وإني قائل رب قد أبلغتهم فليبلغ شاهدكم غائبكم ثم إنه تدعون مقدمة أفواهكم بالفدام ثم أوّل ما يبين عن أحدكم لفخذه وكفه قلت يا رسول الله (ص) هذا ديننا؟ قال : هذا دينكم وأين ما تحسن يكفك.

٦٩

هنا إسلام الوجه لله يشمل كل الوجوه المقامة للدين حنيفا في آية الفطرة ، من الوجوه الروحية والحسية ، فالإنسان ـ ومعه كل الكائنات ـ هو أمام الله وجه لا يخفى عليه منه خافية ، والمطلوب منه ان يختار إسلام الوجه بكل وجوهه لله ، دخولا في سلم الطاعة المطلقة لله.

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢١) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) (٢٢).

هنا ثالوث من أبعاد الكفر للبعاد عن شرعة الله وإسلام الوجه لله مهما كانوا كتابيين ام سواهم :

١ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) وحيا وصاحب وحي ٢ ـ (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ) فالقتل بحق حق ولكن قتل النبيين ليس إلا باطلا لأنهم يحملون بلاغ الحق من الله ، فقتلهم قتل للحق.

٣ (وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ) وهم حملة الرسالات بعد النبيين أيا كانوا (١).

__________________

(١) المصدر أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي عبيدة الجراح قال قلت يا رسول الله أي الناس أشد عذابا يوم القيامة؟ قال : رجل قتل نبيا أو رجل أمر بالمنكر ونهى عن المعروف ثم قرء رسول الله (ص) الآية ثم قال يا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا أوّل النهار في ساعة واحدة فقام مائة رجل وسبعون رجلا من عباد بني إسرائيل فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعا من آخر النهار من ذلك اليوم فهم الذين ذكر الله.

وفي نور الثقلين ١ : ٣٢٤ في أصول الكافي بسند متصل عن يونس بن ظبيان قال سمعت أبا عبد الله (ع) يقول قال رسول الله (ص) إن الله عز وجل يقول : ويل للذين يختلون الدنيا بالدين ويل للذين يقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس وويل للذين يسير المؤمن فيهم بالتقية أبي يغترون أم علي يجترون فبي حلفت لأتيحن لهم فتنة تترك الحليم منهم حيرانا.

٧٠

(فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) وإذا كانت بشارتهم العذاب الأليم فما هي ـ إذا ـ نذارتهم ، فانما التعبير يشي بعمق العذاب لهم وتحليقه عليهم لحد لا بشرى لهم إلّا العذاب!.

(أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) إذ فسدت فبطلت ، وذلك مأخوذ من الحبط وهو داء ترم له أجواف الإبل فيكون سبب هلاكها وانقطاع آكالها ، وهكذا تكون اعمال هؤلاء الأغباش قد تنتفخ وتتضخّم في الأعين ولكنه الانتفاخ المؤدي الى البطلان والهلاك ، ثم ولا ينصرهم ناصر ولا يعذرهم عاذر ، وقد أفردنا بحثا فصلا حول الحبوط من ذي قبل فلا نعيد.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ) (٢٣).

سؤال تعجيب وتأنيب ، تعجيب للرسول والذين معه ، وتأنيب بالذين أوتوا نصيبا من الكتاب ، وتراه نصيبا من وحي التوراة والإنجيل إذ حرفا عن جهات اشراعهما فلم يبق لهم منه الا نصيب عسيب؟ وقد أوتوا كأصل كل الوحي في الكتابين!.

ام نصيبا من الوحي ككل ، فما وحي سائر الكتاب بجنب هذا الكتاب المبين إلا نصيبا ضئيلا من الكتاب؟ و (يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ) حيث تعني الكتابين قد لا يناسبه!.

«نصيبا» هنا قد تتحمل النصيبين ولكلّ وجه والجمع أوجه ، وخلاصة القول انهم ما أوتوا كل كتاب الوحي وهم يزعمونهم قد أوتوا كله ثم انقطع به الوحي ، وتراهم إذا أوتوا كل الوحي فلما ذا يتولى فريق منهم عن كتاب الله حين يدعون وهم معرضون؟.

هنا (كِتابِ اللهِ) هو كل كتابه تعالى ، فليس ـ إذا ـ نصيبا من الكتاب ،

٧١

وأعجب بهم وهم لم يؤتوا الا نصيبا من الكتاب وهم لا يرضون بكتاب الله ككل وهو القرآن حكما!.

وقد يعني (كِتابِ اللهِ) كل ما كتبه الله على عباده ومنه التورات كما في الروايات ان اليهود حوكموا ـ في احكام عدة كتابية ـ إلى التوراة فتولى فريق منهم وهم معرضون (١).

ذلك ، ولكن الآية ليست لتجمد على طائفة غابرة من اليهود غائرة في خضم التاريخ ، بل هي شاملة لكل من أوتوا نصيبا من كتاب الوحي هودا او نصارى امن أشبههما ، في الطول التاريخي والعرض الجغرافي ، فان ذلك التأبي والتولي شيمتهم وطبيعتهم الطائفية العارمة ، لا يرضون عما عندهم بديلا ، ولا بما عندهم دليلا إذا خالف أهوائهم! و :

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) (٢٤).

«ذلك» التأبي عن قبول الحق والتجرّؤ على الحق (بِأَنَّهُمْ قالُوا ...)

__________________

(١) في التفسير الكبير للفخر الرازي ٧ : ٢٣٢ ذكر في سبب نزول الآية روايات ثلاث :

١ ـ أن رجلا وامرأة زنيا من اليهود وفي كتابهم الرجم فكرهوا الرجم لشرفهما فتحاكموا إلى الرسول (ص) لعله يكون عنده رخصة فحكم بالرجم فأنكروا ذلك فقال بيني وبينكم التوراة فلما أتى ابن صوريا على آية الرجم وضع يده عليها فقال ابن سلام قد جاوز موضعها يا رسول الله (ص) فرفع كفه عنها فوجدوا الآية فأمر (ص) برجمهما فغضب اليهود فأنزل الله الآية.

٢ ـ أنه (ص) دخل مدرسة اليهود فدعاهم إلى الإسلام فقالوا : على أي دين أنت؟ فقال : على ملة إبراهيم ، فقالوا : إن إبراهيم كان يهوديا فقال (ص) هلموا إلى التوراة فأبوا ذلك فأنزل الله الآية.

٣ ـ إن علامات بعثته (ص) مذكورة في التوراة فدعاهم النبي (ص) إليها فأبوا فأنزل الله الآية.

أقول : هذه مروية في الدر المنثور باختلاف يسير مع الحفاظ على الأصول.

٧٢

قيلتهم العليلة انهم أبناء الله فلا تمسهم النار ، ولو مستهم ف (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) عبدنا فيها العجل ، وبذلك الضمان والأمان حرروا أنفسهم في كل تخلفة عن شرعة الله ، فإنهم ـ على زعمهم ـ مثابون على اية حال ، وليس عذابهم ـ لو كان ـ إلا أياما معدودات محتملات هي متحمّلات.

وهكذا (غَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) فلا يبالون بما يعملون.

(فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُون) (٢٥).

«فكيف» تكون حالهم بمآلهم في اعمالهم (إِذا جَمَعْناهُمْ) مع سائر الجموع يوم الجمع (لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ) في الشرائع الكتابية في ميزان العدل السوي (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ) نفس «ما كسبت» من خير او شر ، دون زيادة الا في خير ولا نقيصة في كل من الشر والخير «وهم» هودا ام سواهم «لا يظلمون» انتقاصا عما كسبوا.

وحين ينحصر الوفاء بما كسبت ، فهو المحور الأصيل ، حيث (تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) (٣٠).

(قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٦)

٧٣

تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢٧) لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (٢٨) قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٩) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٣٠) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣١) قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) (٣٢)

٧٤

(قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ٢٦.

آية منقطعة النظير في مسرح الملك والعزة والذلة سلبا وإيجابا ننفد فيها من مفرداتها الى جملها فجملتها ، لكي نحصل على مغزاها الصالحة ، ذبا عما يخيل إلى الذين في قلوبهم زيغ من طالحة بشأنها والله من وراء القصد.

«قل» أنت يا رسول الهدى كحامل الوحي الأخير ، و «قل» ايها التالي للذكر الحكيم مع الرسول ، قولا باللسان والأفعال والجنان ، قولا لازما ودعائيا في مختلف الجموع ومحتشد المكلفين الى يوم الدين.

(قُلِ اللهُمَّ) أمرا من الله ان نخاطب الله في كل الحقول والمسارح ، بكل المصارح.

(مالِكَ الْمُلْكِ) : «مالك» ملكا حقيقيا لا حول عنه ، دون المالكين سواه ، فإنهم بملكهم مستودعون فيما يملّكون ومستخلفون فيما يملكون.

«والملك» يعم الملك ككل ، زمنيا وروحيا ، تكوينيا وتشريعيا ، ام هو مثلث ملك المال دولة (١) وملك المنال دولة في حقلي القيادة : الروحية

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ١٤ ـ أخرج ابن أبي الدنيا في الدعاء عن معاذ بن جبل قال : شكوت إلى النبي (ص) دينا كان علي فقال يا معاذ أتحب أن يقضى دينك؟ قلت : نعم قال قل اللهم مالك الملك.

وفيه أخرج الطبراني عن معاذ بن جبل أن رسول الله (ص) افتقده يوم الجمعة فما صلى رسول الله (ص) أتى معاذا فقال يا معاذ ما لي لم أرك؟ فقال : ليهودي علي وقية من بر فخرجت إليك فحبسني عنك فقال : ألّا أعلمك دعاء تدعو به فلو كان عليك من الدين مثل صبير أداه الله عنك فادع الله يا معاذ قل اللهم .. ـ إلى ـ بغير حساب ، رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما تعطي من تشاء منهما وتمنع من تشاء منهما ارحمني رحمة تغنيني بها عن رحمة من سواك اللهم اغنني من الفقر واقض عني الدين وتوفني في عبادتك وجهاد في سبيلك.

٧٥

والزمنية ، فمثلث الملك المحلق على كل ملك يختصه انحصارا فيه وانحسارا عمن سواه إلا من آتاه وديعة زائلة ، فقد يستعمل الملك في مصطلح الذكر الحكيم في كل من الثلاثة.

وهنا «تؤتى» دون «تهب او تعطي» للإشعار بان الملك أيا كان ليس عطية ربانية فان قضيتها البقاء دونما تحول ولا تحويل ، ثم لا عطاء في الملك غير الحق لو صح في الملك الحق.

فانما الملك يؤتى إيتاء ، زمنيا او روحيا او ماليا ، بحق او بباطل ، والتشريعي منها كله حق ، لأنه شرعة من الدين ولا باطل في دين الله.

ولكن التكوين ـ وكله حق ـ يعم تكوين الشر بما يختاره الشرير قضية الاختيار للمكلفين.

فمن الملك الزمني : (يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ) (٤٠ : ٢٩) (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ) (٤٢ : ٥١).

وهو بين حق كما للنبيين وسائر المعصومين الملوك ، وباطل كما للفراعنة والنماردة ، فليس الله بمؤتيهم الملك مرضاة له حتى يحتج لبني أمية «أليس قد آتى الله عز وجل بني أمية الملك؟ حيث الجواب : ليس حيث تذهب إن الله عز وجل آتانا الملك وأخذته بنو أمية بمنزلة الرجل يكون له الثوب فيأخذه الآخر فليس هو الذي أخذه (١).

واين إيتاء من إيتاء ، إيتاء الله لأهله تشريعييا ، ثم إيتاءه لغير اهله تكوينيا بمعنى عدم منعه تسييرا ، كما (الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٣٢٤ في روضة الكافي بإسناده إلى عبد الأعلى مولى آل سام عن أبي عبد الله (ع) قال قلت له : قل اللهم ... أليس ...

٧٦

الْمُلْكَ) وهو نمرود الطاغية في أحد وجهي الآية وهما معا معنيان.

ومن الروحي : في وجه لإبراهيم (عليه السلام) : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) (٢ : ٢٥٨) وبكل الوجوه : (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً) (٤ : ٥٣) فالرسالة الإلهية ملك ، بل هي أفضلها ومن ضمنها الزمني: (إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (٧ : ١٥٨) (قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) (٣٨ : ٣٥).

ذلك ، وهو بين حق كما شرعه الله وقرره لأنبيائه وأولياءه ، وباطل اغتصبه الذين احتلوا المناصب الروحية عن أصحابها الصالحين ، فهذه خرافة مجازفة ان واقع المرجعية الدينية ليس الا بخيرة صاحب الأمر عجل الله تعالى فرجه ، فكل مرجع ديني ـ إذا ـ هو نائبه المنصوب المرضي عنده.

فان واقع الخلافة الروحية عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) كان واقعا في الخلاعة اغتصابا لتلك الخلافة فضلا عن المرجعية الروحية زمن الغيبة ومن ملك الملك فانه من الملك ، فكل ما يملك يشمله الملك ، من دولة ودولة وقيادة روحية ، حقا ام باطلا.

فقد يجتمع الإيتاءان تشريعا وتكوينا كما في الملك الحق في مثلثه ام مثناه ام موحّده كما في الصالحين.

واخرى إيتاء تشريعي ولم يحصل تكوين ، كالقيادة الزمنية للروحيين الصالحيين حيث تحول بينها وبينهم طغاة بغاة ، ثم لا ينصرهم في معركتهم الصاخبة المؤمنون معهم قصورا أو تقصيرا.

وثالثة تحمل الإيتاء التكويني دون التشريعي كمن يؤتى من هذه الثلاثة ام كلها دون حق شرعي ، فليس الحصول عليها تغلبا على ارادة الله وتألبا عليها ،

٧٧

وانما هو تخلف عن شرعة الله : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) (٣ : ١٧٨) (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) (٧ : ١٨٣) (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها) (٢٢ : ٤٨) ، وأصل الاملاء هذا من الشيطان ثم الله لا يحول بينه وبينهم فينسب اليه كما ينسب الى الشيطان وبينهما بون الرحمن والشيطان : (الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ) (٤٧ : ٢٥) (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) ومن الجامع بين الأولين ام والثالث : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) (٢ : ١٠٢) (وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ) (٢ : ٢٥١) ـ (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) (١٢ : ١٠١) (فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) (٤ : ٥٤).

وذلك المثلث كما هو بين حق وباطل ، وبين جعل تشريعي وتكويني ، كذلك هو بين شخصي ـ كما في أشخاص الملوك ـ أو جماعي ـ كما في بيوتات صالحة ام طالحة ام عوان بينهما.

ثم (تُؤْتِي الْمُلْكَ) دون «تعطي» تعميم لعطية الملك وهو الهبة الربانية في حقلي التشريع والتكوين ، ولإيتائه لمن يؤتاه تكوينا في طالح الملك زمنيا وروحيا ، بمعنى ألا يحول دون وصول الطالحين إليهما ام إلى أحدهما ، حين يحاولون بمختلف المحاولات والحيل الوصول إليه ، والصالحون بمعزل عن المحاولات الصالحة لفصله عنهم وصولا للقواد الصالحين إليه ، حيث الدار العاجلة هي دار الاختيار دون إجبار ، اللهم الا فيما لا تكليف فيه امّا أشبهه.

إذا فمشية الإيتاء تعم التكوينية المحلقة على صالح الملك وطالحه ، والتشريعية الخاصة بصالحه.

٧٨

فمهما كان الملك الظالم ـ روحيا او زمنيا ـ هو المتغلب على ملكه والغاصب لما في يده ، ولكنه تعالى ليس بمنعزل عن إيجابه وسلبه ، حيث الارادة الإلهية المحلقة على كل كائن هي قضية التوحيد الأفعالي ، فقد يحاول الظالم كل محاولة له ممكنة للوصول الى حكم والله يحول بينه وبين مغزاه ، ام يحاول بعض المحاولات والله لا يحول بينه ومغزاه ، وكما يراه من الحكمة العالية.

وعلى أية حال ليس مالك الملك ـ كأصل ـ إلّا هو ، ولا يؤتيه لأحد إلا من يشاءه ، دون جبر ولا تفويض ، فإنهما تنقيص لساحته وتقويض ، فله الحكم في كل الحقول دون انعزالية تامة تفويضا ، ولا ايجابية طامة جبرا ، كما ويضل من يشاء ويهدي من يشاء ولا يظلمون نقيرا.

إنه (مالِكَ الْمُلْكِ) أيا كان من الثلاثة بين تشريع وتكوين (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ) منهم في صالح الحكمة الربانية امتحانا بامتهان ام سواه ، بإضفاء النعم عليهم ، وإقرار الأموال الدثرة عندهم ، وبما ترفدهم به من بنين وحفدة ، وعديد وعدّة ، وإلزاما لمن دونهم على طاعتهم متى أجابوا داعيك واتبعوا أوامرك ، وحين يعدلون عن نهج طاعتك ويفارقون سواء محجتك نزعت منهم الملك ، بان تسلبهم ملابس نعمك وتجعل أموالهم وأحوالهم ، دولتهم ودولتهم ، غنما ونفلا لغيرهم من عبادك.

ذلك ـ وإيتاء الملك تشريعيا ككل يخص الصالحين فلا انتزاع له عنهم ، اللهم إلا نقلة لملك الشّرعة عن قوم إلى آخرين بما بغوا وطغوا على صلاح رسلهم ، كما انتقلت الشرعة الإلهية من بني إسرائيل الى بني إسماعيل ، وإليكم نصا من التوراة من الأصل العبراني بهذا الصدد تصديقا للقرآن العظيم :

ففي سفر التكوين (٤٩ : ١٠) : «لوء يا ثور شبط ميهوداه ومحوقق ميبن رغلايو عدكي يا بوء شيلوه ولوء ييقهت عميم أو ثري لنفن عيروه ...».

٧٩

«لا تنهض عصى السلطنة من يهودا ولا الحكم من بين رجليه حتى يأتي شيلوه الذي يجتمع فيه كافة الأمم ...».

فانتهاض السلطة من يهودا هو انتقالها من الشعب الاسرائيلي إلى غيرهم ، وهو هنا «شيلوه» من غير إسرائيل ، إذ لو كان منهم لما قوبل بهم في انتهاض السلطة عنهم إليه (١) وقد يندد بهم القرآن في ادعائهم الجوفاء ان النبوة منحصرة فيهم (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً) (٤ : ٥٣) (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) (٤ : ٥٤).

وقد ورد في الأثر ان نبي الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) سأل ربه أن يجعل ملك فارس والروم في أمته فأنزل الله هذه الآية (٢) وذلك بعد ما أمره ربه ان يسأله (٣) ويروى عنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ان اسم الله الذي إذا دعي به أجاب في هذه الآية (٤).

ذلك! فليكن الصالحون على مدار الزمن ظروفا لتحقيق مشيئة الله ان يؤتيهم الملك تحقيقا لشرعة الله في بلاد الله ، دون تكاسل او تعاضل في أسبابه (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى).

__________________

(١) راجع كتابنا (رسول الإسلام في الكتب السماوية).

(٢) الدر المنثور ٢ : ١٤ ـ أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة قال : ذكر لنا أن نبي الله (ص) ...

(٣) المصدر أخرج ابن المنذر عن الحسن قال جاء جبرئيل إلى النبي (ص) فقال : يا محمد سل ربك قل اللهم ... ثم جاء جبرئيل فقال يا محمد فسل ربك قل رب ادخلني مدخل صدق ... فسأل ربه بقول الله تعالى فأعطاه ذلك.

(٤) المصدر أخرج الطبراني عن ابن عباس عن النبي (ص) قال : اسم الله ..

٨٠