الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٥

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٨

يروى عن حفيده الصادق (عليه السلام) انه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان رأيه الخروج(١).

__________________

ـ وبقي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

فوطئ على جرف نهر فقط فأخذت حربتي فهززتها ورميته بها فوقعت في خاصرته وخرجت

(١) نور الثقلين ١ : ٢٨٤ مجمع البيان عن أبي عبد الله (عليه السلام) ـ وفيه نقل قصة احد باختلاف يسير عما نقلناه عن الدر المنثور ومنها ـ فقام سعد بن معاذ وغيره من الأوس فقالوا يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ما طمع فينا أحد من العرب ونحن مشركون نعبد الأصنام فكيف يظفرون بنا وأنت فينا لا حتى نخرج إليهم ونقاتلهم فمن قتل منا كان شهيدا ومن نجا منا كان مجاهدا في سبيل الله فقبل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) رأيه وخرج مع نفر من أصحابه يتبوءون موضع القتال كما قال سبحانه : وإذ غدوت من أهلك .. وقعد عبد الله بن أبي وجماعة من الخزرج اتبعوا رأيه ووافت قريش الى احد وكان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عبأ أصحابه وكانوا سبعمائة رجل ووضع عبد الله بن جبير في خمسين من الرماة على باب الشعب واشفق ان يأتي كمينهم من ذلك المكان فقال لعبد الله بن جبير وأصحابه ان رأيتمونا قد هزمناهم حتى أدخلناهم مكة فلا تبرحوا من هذا المكان وان رأيتموهم قد هزمونا حتى أدخلونا المدينة فلا تبرحوا والزموا مراكزكم ووضع ابو سفيان خالد بن الوليد في مأتي فارس كمينا وقال : إذا رأيتمونا قد اختلطناه فأخرجوا عليهم من هذا الشعب حتى تكونوا وراءهم وعبأ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أصحابه ورفع الراية الى أمير المؤمنين (عليه السلام) فحمل الأنصار على مشركي قريش فانهزموا هزيمة قبيحة ووقع اصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في سوادهم وانحطّ خالد بن الوليد في مأتي فارس على عبد الله بن جبير فاستقبلوهم بالسهام فرجع ونظر اصحاب عبد الله بن جبير الى اصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ينتبهون سواد القوم فقالوا لعبد الله بن جبير قد غنم أصحابنا ونبقى نحن بلا غنيمة؟ فقال لهم عبد الله اتقوا الله فان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد تقدم إلينا ان لا نبرح فلم يقبلوا منه واقبلوا ينسل رجل فرجل حتى اخلوا مراكزهم وبقي عبد الله بن جبير في اثنى عشر رجلا وكانت راية قريش مع طلحة بن أبي طلحة العبدري من بني عبد الدار فقتله علي (عليه السلام) فأخذ الراية أبو سعيد بن أبي طلحة فقتله علي (عليه السلام) وسقطت الراية فأخذه مسافع بن أبي طلحة فقتله حتى قتل تسعة نفر من بني عبد الدار حتى صار لواءهم إلى عبد لهم اسود يقال له صواب فانتهى اليه علي (عليه السلام) ـ

٣٦١

__________________

ـ فقطع يده فأخذ باليسرى فضرب يسراه فقطعها فاعتنقها بالجذماوين الى صدره ثم التفت إلى أبي سفيان فقال : هل أعذرت في بني عبد الدار فضربه علي (عليه السلام) على رأسه فقتله فسقط اللواء فأخذتها عمرة بنت علقمة الكنانية فرفعتها والخط خالد بن الوليد على عبد الله بن جبير وقد فر أصحابه وبقي في نفر قليل فقتلهم على باب الشعب ثم أتى المسلمين من ادبارهم ونظرت قريش في هزيمتها الى الراية قد رفعت فلا ذوابها وانهزم اصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هزيمة عظيمة فأقبلوا يصعدون في الجبال وفي كل وجه فلما رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الهزيمة كشف البيضة عن رأسه وقال : انا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الى اين تفرون عن الله وعن رسوله؟ وكانت هند بنت عتبة في وسط العسكر فكلما انهزم رجل من قريش دفعت اليه ميل ومكحلة وقالت انما أنت امرأة فاكتمل بهذا وكان حمزة بن عبد المطلب يحمل على القوم فإذا رأوه انهزموا ولم يثبت له احد وكانت هند قد اعطت وحشيا عهدا لئن قتلت محمدا او عليا او حمزة لاعطينك كذا وكذا وكان وحشي عبدا لجبير بن مطعم جشيّا فقال وحشي : اما محمد فلا اقدر عليه واما علي فرأيته حذرا كثير الالتفات فلا مطمع فيه فكمن لحمزة قال : فرأيته يهد الناس هدا فمربي فوطئ على جرف نهر فقط فأخذت حربتي فهززتها ورميته بها فوقعت في خاصرته.

وفيه أخرج ابن جرير عن السدي ان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال لأصحابه يوم أحد أشيروا علي ما أصنع فقالوا يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) اخرج إلى هذه الأكلب فقالت الأنصار يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ما غلبنا عدو لنا أتانا في ديارنا فكيف وأنت فينا فدعا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عبد الله بن أبي ابن سلول ـ ولم يدعه قط قبلها ـ فاستشاره فقال يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) أخرج بنا إلى هذه الأكلب وكان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يعجبه ان يدخلوا عليه المدينة فيقاتلوا في الأزمة فأتى النعمان ابن مالك الأنصاري فقال يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : لا تحرمني الجنة فقال بم قال باني اشهد أن لا إله الا الله وانك رسول الله واني لا افر من الزحف قال : صدقت فقتل يومئذ ثم ان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) دعا بدرعه فلبسها فلما رأوه وقد لبس السلاح ندموا وقالوا بئسما صنعنا نشير على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والوحي يأتيه فقاموا واعتذروا اليه وقالوا : اصنع ما رأيت ، فقال : رأيت القتال وقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لا ينبغي لنبي ان يلبس لامة فيضعها حتى يقاتل وخرج رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الى ـ

٣٦٢

كلا وكما ان تبوّئ مقاعد للقتال كان من شئونه القيادية ، كذلك الخروج إلى تلكم المقاعد ، وانتصاب الجموع الخاصة لها ، كل ذلك كان من رأيه الخاص بما أراه الله ، مهما شاور المسلمين في ذلك ليشير عليهم صالح الأمر إن اخطأوا ويثبتهم تشجيعا لهم إن أصابوا ، وكما استصوب رأي المشيرين عليه بالخروج دون المشيرين بالمقام داخل البلد.

وان لمكان القتال ومقاعدها مكانة هامة في النجاح ، يجب تقريرهما على القائد العام للقوات المسلحة حيث يراهما من المصلحة في صالح الحرب.

(وَاللهُ سَمِيعٌ) أقوالهم «عليم» بأحوالهم ، إذ تقوّلوا قيلات حول الحرب ومكانها ومقاعدها ، وتحولوا حالات : (إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ).

لقد مشى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يومئذ على رجليه يبوّئ المؤمنين مقاعد للقتال بنفسه الشريفة وهم قرابة الف تقابلهم ثلاثة آلاف من قريش ، كنفس القياس بين الجيشين يوم بدر ، فلما تخلف من تخلف بغية الغنيمة ، خلّف ذلك انهزاما دمويا وكارثة قارصة بلبل حالة المؤمنين وزلزل طائفة منهم واثبت آخرين ، امتحانا من الله للمؤمنين وامتهانا للمتخلفين.

(إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا ..).

هنالك واقع الغل والفشل من طائفتين أولاهما عبد الله بن أبي ومعه قرابة ثلث الجيش حيث تخلف إذ خالف رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) رأيه في المقام بالمدينة للدفاع قائلا : يخالفني ويسمع للفتية ، فيتبعهم عبد الله بن عمر وابن حرام والد جابر بن عبد الله يوبخهم ويحضهم على الرجوع ويقول : تعالوا قاتلوا في سبيل الله او ادفعوا ، قالوا : لو نعلم قتالا لاتّبعناكم وهم كما قال

__________________

ـ احد في الف رجل وقد وعدهم الفتح إن يصبروا فرجع عبد الله بن أبي في ثلاثمائة فتبعهم ابو جابر السلمي يدعوهم فأعيوه وقالوا له : ما نعلم قتالا ولئن اطعتنا لترجعن معنا وقال : (إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا) وهم بنو سلمة وبنو حارثة هموا بالرجوع حين رجع عبد الله بن أبي فعصمهم الله وبقي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في سبعمائة.

٣٦٣

الله : هم يومئذ للكفر أقرب منهم للإيمان فرجع عنهم وسبّهم ، فهؤلاء لم يحضروا القتال حتى يقال فشلوا ، فانما فلّوا وتخلفوا.

ولماذا ولى الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) رأس النفاق عبد الله بن أبي على ثلث الجيش؟ لكي يعرّف به والذين معه انهم منافقون مهما تظاهروا انهم موافقون ، فالمعركة معركة امتحان وامتهان ضمن أنها ميدان دفاع.

ولقد فصلت الآيات الآتية بشأن حرب احد أبعادا هامة من الواقعة ، نتحدث على ضوءها كما تتحدث ، فهذه هي الطائفة الاولى من «طائفتان».

والأخرى هي الخمسون الذين قررهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مع عبد الله بن جبير حيث تركوا قاعدتهم للقتال طمعا في الغنيمة ففشلوا ، ومن ثمّ هم الفشل ولا فشل ـ وهو فتّ في عضد التصميم بجبن ـ (وَاللهُ وَلِيُّهُما) فولى أمرهما فلم تفشلا ، وهما حيان من الأنصار : بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس لما انهزم عبد الله بن أبي ، همّتا باتباعه فعصمهما الله فثبتوا مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولقد بقيت رابعة وليهّا علي (عليه السلام) لم تفل ولم تفشل ولم تهم بالفشل حفاظا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمره.

فقد افترقت اصحاب أحد اربع فرق وانكسر المسلمون بهزيمة عظيمة لما خولف أمر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أولا فيما ارتآه من الخروج للحرب خارج المدينة فخالفه ابن أبي ، وثانيا ما قرره من مقاعد القتال وأهمها لابن جبير حيث تفرق جل أصحابه فحصل ما حصل!.

أترى الحال في «والله وليهما» مدح لهما بتلك الولاية الربانية؟ ام قدح فيهما لماذا همتا بفشل والله وليهما؟ إنها مدح من ناحية حيث عصمهما الله بتلك

٣٦٤

الولاية عن تلك الهوة الجارفة إذ لم تخرجا عن ولاية الله بذلك الهم (١) فهم داخلون في ولاية الله و (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا).

وقدح فيهما من اخرى لماذا همتا (وَاللهُ وَلِيُّهُما) فيما وعد من النصر!. (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) ولا سيما في همّ العصيان ، فإذا توكلوا عليه يعصمهم بولايته العشيرة للمؤمنين.

وهكذا يجب على المؤمنين أن يتوكلوا على الله مضيّا في أمر الله ، واحترازا عن نهي الله ، فلو أن الله وكّل أمورنا إلينا دونما عصمة منه وتسديد لما نجى منا أحد عن ورطات الهلاك ، كيف لا والرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ـ على محتده العظيم ـ يقول : ربنا لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين أبدا ، ويقول الله فيه (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ (٢) إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) وفي يوسف «وهم بها لولا أن رأى برهان ربه».

ذلك ، وكيف (هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ. وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ ...) إذ كنتم ذلا لله وظلا لرسول الله ، ثم ولم ينصركم في أحد أن لم تكونوا ذلا ، وكنتم أقوياء دون ذلّة في عدّة او عدّة :

(وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (١٢٣).

وترى كيف (وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) وفيهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ٦٨ ـ اخرج جماعة عن جابر بن عبد الله قال : فينا نزلت في بني حارثة وبني سلمة (إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا ...) وما يسرني انها لم تنزل لقول الله (وَاللهُ وَلِيُّهُما).

وفيه عن قتادة في الآية قال : ذلك يوم أحد والطائفتان بنو سلمة وبنو حارثة حيان من الأنصار هموا بأمر فعصمهم الله من ذلك وقد ذكر لنا انه لما أنزلت هذه الآية قالوا : ما يسرنا انا لم نهم بالذي هممنا به وقد أخبرنا الله انه ولينا.

٣٦٥

والمؤمنون الصالحون ، (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ)؟ فهل نزلت «وأنتم قليل» ام ضعفاء (١) كما قيل؟ وهو قول عليل يختلقه الضعفاء حيث يعارض متواتر القرآن! .. إنها كماهيه (وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) تعني القلة المستضعفة ، وهي ذلة بحساب الخلق الجاهلين ، مهما كانوا أعزة بحساب الخالق (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٨ : ٢٦).

إذا ف (أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ) هي عبارة أخرى عن (أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) تتجاوبان في عناية واحدة ، كما وتعقيبتهما واحدة : (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

وقد تكون «أذلة» جمعا للذّل لا الذّل ، فهم كانوا ببدر ذلّا لله ـ وتحت ظله ـ ولرسوله دون شماس ، فلذلك نصرهم الله وهم قليل مستضعفون ، ولكنهم انهزموا في أحد لتركهم ذلّهم إلى شماسهم.

وقد يكون المعنيان معنيين وما أحسنه جمعا تجاوبا مع أدب اللفظ وحدب المعنى ، أن الله نصركم لأنكم مستضعفون خضّعا لله ولأمره.

و «أذلة» جمع قلة قد تؤيد ذلة القلة في عدّة وعدّة حربية ، وهم مع ذلك ذلّ بطوع الرسول دون شماس.

فلقد كانوا في بدر ثلاثمأة وثلاثة عشر رجلا بفرس واحد وجمال قليلة ربما ركب جمع منهم جملا واحدا وجلّهم مشاة ، والكفار هم قرابة ألف ومعهم مائة فرس بأسلحة كثيرة.

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٣٧٨ في تفسير العياشي عن أبي بصير قال قرأت عند أبي عبد الله (عليه السلام) (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) فقال : مه ليس هكذا أنزلها الله انما نزلت «وأنتم قليل».

وفيه عن تفسير القمي في الآية قال أبو عبد الله (عليه السلام) ما كانوا اذلة وفيهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وانما نزل «ولقد نصركم الله ببدر وأنتم ضعفاء».

٣٦٦

ولأن غزوة بدر هي بداية الغزوات الإسلامية ، وقد شاهد الصحابة من صلابة المشركين في مكة وقوتهم وثروتهم وهم أولاء لا يملكون ما يملكه هؤلاء من عدّة وعدّة ، فهم كانوا ـ على إيمانهم ـ أذلة في حساب الكفار ، بل وفي حسبانهم أنفسهم قضية ظاهر الحال ، وهم مع ما هم عليه من ذلة وذلة كانوا ذلا لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لا يخافون في الله أية قوة قاهرة ظاهرة.

ذلك! (فَاتَّقُوا اللهَ) لا سواه «ولا تعبدوا الا إياه» (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) الله بما نصركم يوم بدر وينصركم إن كنتم متقين شاكرين (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ ...).

(إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (١٢٤) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ) (١٢٥).

(نَصَرَكُمُ ... إِذْ تَقُولُ) فهما ـ إذا ـ يختصان ببدر ، نصرة وقولة ، ولكنه نقلة كانت في أحد تنديدا بهم أن لم يصبروا ويتقوا حتى ينصرهم فيه كما نصرهم ببدر ، اللهم إلا في بدايته ولمّا يتركوا مقاعدهم.

ثم (أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ ..) سئوال تأنيب ينفي الإحالة المزعومة بالنسبة لتلك الكفاية بإمداد ملائكي ، كأن فيهم من زعم ألّا يفيد الإمداد إلّا بالجيوش الأرضية ، حيث القلة المسلمة ترى نفير المشركين لمحاربتهم لأوّل مرة ، وهم مفاجئون بها إذ خرجوا لالتقاء طائفة العير الموقرة بالمتاجر لا الموقرة بالسلاح ، وقد أبلغهم الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ما أوحي إليه لتثبيت قلوبهم وأقدامهم في هذه المفاجأة المفاجعة ، وهم ـ على إيمانهم ـ بشر يحتاجون إلى خارقة العون في هذه الحالة الاستثنائية في صورة تبلغ مشاعرهم المألوفة ، وقد أبلغهم ذلك الإمداد شرط الصبر على تلقّي صدامات الهجمة الفاتكة الهاتكة ، والتقوى

٣٦٧

التي تربط القلب بالله في الإنتصار والانهزام.

ذلك ـ وبأحرى ان تتعلق «إذ» بمحذوف معروف هو «اذكر» فقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ إذا ـ كان يوم أحد تنديدا بالمتخلفين من جيشه عن اصل الحرب او عن مقاعدهم (أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ) الآن كما كان يوم بدر «أن يمدكم ربكم ... بلى يكفيكم» ان كنتم مؤمنين الآن كما كنتم يوم بدر ، بلى و (إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا) كما صبرتم واتقيتم يوم بدر (وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ) زيادة على بدر لاستمرارية الصبر والتقى و (أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) (١).

وترى كيف (بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ) يوم بدر ، والكفار كانوا يرونهم مثليهم رأى العين : (قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ) (٣ : ١٣) وهو ألفان ، بل والف كما (فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) (٨ : ٩) ، فأين ثلاثة آلاف من ألفين ، ثم اين هم من ألف؟.

ان الالف المردفين هم اردفوا ألفين آخرين ، مما يوضح ان ثلاثة آلاف لم ينزلوا دفعة واحدة ، فانما «جاءت الزيادة من الله ..» (٢).

واما (مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ) فهو موقف آخر من بدر كنصرة ثانية ، فواقع

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ٦٩ ـ اخرج ابن جرير عن زيد قال قالوا الرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهم ينتظرون المشركين يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أليس يمدّنا الله كما أمدنا يوم بدر فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : ألن يكفيكم .. منزلين ـ فانما أمدكم يوم بدر بألف قال فجاءت الزيادة من الله على ان يصبروا ويتقوا.

(٢) مضت هذه الجملة عنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في الهامش السالف فلا نعيد.

٣٦٨

النصرة كان بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين من حيث تحارب ولا ترى ، وظاهر النصرة أنهم كانوا يرونهم مثليهم ـ لا لأنهم كانوا مثليهم ـ وانما ـ رأى العين.

ثم «بلى» يكفيكم ذلك الإمداد الملائكي غير المرئي ، بلى و (إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا) كما صبرتم في بدر (وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا) كما أتوكم (يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ) خمسة هنا بديلا عن ثلاثة هناك ، و «مسوّمين» هنا بديلا عن «منزلين» ـ فقط ـ هناك ، وقد صدقهم الله وعده في بداية أحد فأمدّهم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين كما صدقهم في بدر : (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ ..) (١٥٢).

والتسويم هو التعليم علامة ، وهو هنا علّه يجمع إلى علامة الحرب بالمظاهر الجندية ، علامة ملائكية تميزهم عن سائر الجيش.

وقد تجمع «مسومين» ـ حالا ـ بين حال المؤمنين والملائكة ، مهما كان تسويهمها على سواء أو مختلفين (١).

(وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) (١٢٦).

ما جعل الله ذلك الإمداد الملائكي إلّا بشرى لكم للانتصار ولتطمئن

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٣٨٨ في تفسير العياشي عن إسماعيل بن همام عن أبي الحسن (عليه السلام) في قول الله «مسومين» قال : العمائم ، اعتم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فسد لها من بين يديه ومن خلفه.

وفيه عن جابر عن أبي جعفر (عليهما السلام) قال : كانت على الملائكة العمائم البيض.

وفي الدر المنثور ٢ : ٧٠ قال النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم): نزلت الملائكة على سيما أبي عبد الله ...

٣٦٩

قلوبكم به ، لا لأن النصر مربوط النياط ـ ككل ـ بأمثال هذه الإمدادت ، وإنما هي موجبات ظاهرة تلتقي مع ظواهر النظرات (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) سواء أكان بأسباب ظاهرة كهكذا إمداد ام غير ظاهرة كسائر النصر.

هنا القرآن ـ كأضرابه فيه ـ يحرص على تقرير هذه القاعدة الرصينة المتينة في التصور الإسلامي ، ان مرد الأمور كلها إلى الله وليس نزول الملائكة إلا بشرى لهم واطمئنانا لقلوبهم أنسا بالمألوف.

(لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ) (١٢٧).

ولماذا (نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ ... وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ)؟ (لِيَقْطَعَ طَرَفاً ... أَوْ يَكْبِتَهُمْ).

فهناك غاية محدودة لنصر الله هي أن يقطع طرفا من الذين كفروا ، نفسا او نفيسا ، وأرضا أو سلطة أو أية فاعلية ، وهذه حاصلة منذ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وحاضري الائمة وزمن الغيبة الكبرى ، ولأن الطرف من الهيكل عضو له أيا كان ، فقد تصور الذين كفروا هيكلا واحدا له أطراف ، وقد يعني هنا لينقص عددا من أعدادهم او عددا من إعدادهم فيوهن عضدا من أعضادهم ، كواجب نضالي على الذين آمنوا ، مستمر على طول الخط حتى يصل إلى «او يكبتهم» :

فهنا غاية غير محدودة لذلك النصر هو «أو يكبتهم» : يصرعهم ـ ككل ـ لمكان ضمير الجمع دون تبعيض كان في ليقطع ، يصرعهم على وجوهم ، ويهلكهم ويلعنهم ويهزمهم ويذلهم ويغيظهم ـ والكل معان للكبت ـ (فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ) آيسين لا أمل لهم في رجوع إلى كيان أيا كان ، وهذا في الدولة الاسلامية الأخيرة العالمية حيث لا يبقى للكفر رطب ولا يابس ، اللهم إلّا

٣٧٠

شرذمة من أهل الكتاب في ذمة الإسلام ، لا دور لهم في الحكم.

فكل نصر من الله للمؤمنين محدد بحدود صبرهم وتقواهم حتى يصل الأمر الى اصحاب صاحب الأمر الذين هم نخبة التاريخ الرسالي ككلّ ، أصحاب ألوية وجيشا وأنصارا آخرين من الراجعين معه ، عجل الله تعالى فرجه.

ذلك! وبصورة عامة الكبت كتب على الكافرين على مدار الزمن قليلا او جليلا ف: (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ) (٥٧ : ٥).

(لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ) (١٢٨).

ترى ما هو الأمر المسلوب عنه مستغرقا ، وبماذا نصب «او يتوب او يعذبهم»؟.

أتراه كل أمر حتى المختارة في حقل التكليف؟ ويعارضه واقع الإختيار وأدلته في الكتاب والسنة ، وبراهينه العقلية والفطرية! ثم ولا رباط بين سلب الإختيار وموقف الحرب المحرّض فيها بتقديم كل مكنة ممكنة ، وبالصبر والتقوى! ثم (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ) وهما ليسا من أمره لا تخييرا ولا تسييرا.

فلا رباط لهذه الجملة ولا تعلق في تصحيح مذهب المجبرة المسيّرة ، الواهي المتهافت ، وهم يسمعون الله تعالى يأمر نبيه أن يدعو الكفار إلى الله ، مكررا دعاءه على أسماعهم ، مصرا على إصغائهم ، ناهجا لهم طريق الإيمان ومناره ، ومنذرا ومحذرا ، وموقظا ومبشرا ، وآخذا بحجزهم من التهافت في النيران ، فكيف له من أمر التكليف شيء؟!.

ام هو أمر الأمر والنهي بعد الدعوة؟ وهما معها قوائم ثلاث لكيان الداعية

٣٧١

في الدعوة! فسلبها ـ إذا ـ استئصال للرسالة عن بكرتها ، واسترسال للمرسل إليهم في نكرتهم.

أم هو امر التكوين والتشريع ثم له أمر الشرعة بقيادتها في كل حقولها الرسالية للداعية؟ وذلك واقع لا مردّ عنه ، وهناك النصر الموعود والواقع قبل ، وهنا التوبة عليهم او تعذيبهم بعد ، كلاهما من الأمر التكويني الذي ليس له منه شيء ، ثم وليس مشرّعا كما ليس مكونا ، فإنما هو رسول يحمل شرعة الله دون تخلف عنها قيد شعره ، دون زيادة او نقيصة.

فالهداية والإضلال ، والثواب والعقاب ، وما أشبه ، كل ذلك من أمره تعالى ، اللهم إلا هداية الدلالة وضلالة تركها ، فإنهما من فعل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو لا محالة دال دون ترك على أية حال : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ).

اجل (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) من هداهم وضلالهم ، من ثوابهم وعقابهم ، من استصلاحهم او استئصالهم او تدبير مصالحهم او تهديرها ، او تقديم آجالهم او تأخيرها.

فلقد كان (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إذا رأى من الكفار تشديدا في تكذيبه ، ومبالغة في إطفاء نوره سأل الله تعالى ان يأذن له في الدعاء عليهم باستئصال او تعجيل عذاب ، فكان تعالى قد يأذن وقد لا يأذن تبيينا له أنه سبحانه العالم بمسائر الأمور ومصايرها ، لعلمه ان منهم من يؤمن ويتوب ـ كالوحشي قاتل حمزة ، وأضرابه ـ فيكون ـ إذا ـ زائدا في عداده ، وعضدا من أعضاده.

او يأتي من ظهره من يظهر به الدين ويزيد في المسلمين ، إذ يعلم سبحانه

٣٧٢

من المغارب مطالعها ومن المغارس طوالعها ، ومن أوائل التلاقح والتزاوج عواقب التولد والنتائج.

ولقد نزلت هذه الآية يوم أحد إذ شجّت جبهته ، وكسرت رباعيته ، واستقطرت دماءه على صفحته المباركة وهو مع ذلك حريص على دعاءهم ، ومجتهد في إنقاذهم ... أم وهو عازم على الدعاء عليهم مستأذنا ربه سبحانه فهم أن يدعوا عليهم فقال : كيف يفلح قوم أدموا وجه نبيهم وهو يدعوهم الى الله ويدعونه الى الشيطان ، ويدعوهم الى الهدى ويدعونه الى الضلالة ، ويدعوهم الى الجنة ويدعونه الى النار ، فهم ان يدعو عليهم فانزل الله: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ...) فكف رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن الدعاء عليهم (١).

فليس له من أمر النصر الخارق لعادته ، ولا من أمر الهدى والضلالة والثواب والعقاب أما شابه من امور تكوينية او تشريعية ، ليس له شيء ، فانما هو رسول ، كل كيانه رسالة الله ، دون مشاركة مع الله فيما يختص من تكوين او تشريع بالله ، ولا تفويض له في أي أمر حتى الولاية الشرعية ، ف (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) دون ما يراه ، فضلا عمن سواه.

ثم ترى (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ) معطوفان على (لِيَقْطَعَ طَرَفاً ..)

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ٧١ ـ اخرج ابن جرير عن الربيع قال نزلت هذه الآية على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم أحد وقد شج وجهه وأصيبت رباعية فهم ..

وفيه اخرج الترمذي وصححه وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عمر قال : كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يدعو على اربعة نفر فأنزل الله (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ...) فهداهم الله للإسلام.

٣٧٣

ف (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) جملة معترضة بينهما؟ وهو فتّ في عضد الفصاحة وثلم في جانب البلاغة! وهو لا يناسب كونه غاية ل «نصر الله» فان (يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) لا تمت بصلة للنصر ، فقد يتوب ولا نصر وقد لا يتوب مع النصر!.

أو ان «او» فيها بمعنى «إلّا أن» أو «حتى» كما هما من معانيها؟ وهو الظاهر هنا معنويا كما هو أدبيا أن (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) من التوبة عليهم وعذابهم إلا ان يتوب الله عليهم او يعذبهم ، يتوب عليهم إن تابوا اليه ، او يعذبهم فإنهم ظالمون.

إذا ف «إلّا» هنا استثناء منقطع ، ان ليس لك من الأمر شيء إلّا لله.

ام و «حتى يتوب عليهم او يعذبهم» فهنالك امر المتابعة لأمر الله ، ولماذا ـ إذا «او» بدلا عن «حتى» او «إلّا أن»؟ علّه لعناية المعنين مع العلم أن عناية العطف هنا غير مناسبة ، ام انه ـ ايضا ـ معني معهما عطفا لكلا التوبة والعذاب على القطع والكبت ، فقد «نصركم الله ببدر ـ وما النصر إلا من عند الله» ليقطع او يكبت او يتوب او يعذب ، وليس لك فيها من الأمر شيء ، وما أجمله جمعا بين مثلث المعاني ل «أو» لم تكن تعنيها لا حتى ولا إلّا أن ، وما أقبحه تحريفا من لا يعرف مغازي كلام الله فيختلق تجديفا(١).

وفي الحق (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) كجملة مستقلة ـ مهما عنت ما عنت فيما احتفت بها ـ هي من خلفيات ملابسة في السياق تقتضيها ، فيرد قول

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٣٨٩ عن تفسير العياشي عن الجرمي عن أبي جعفر (عليهما السلام) انه قرء «ليس لك من الأمر شيء أن تتوب عليهم او تعذبهم فإنهم ظالمون».

أقول : وأية صلة بين (فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ) وما قبلها ان كان «تتوب عليهم او تعذبهم» ، ولم يخلد ـ بعد ـ بخلد الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ابدا ان يتوب او يعذب ، اللهم إلا ان يدعو الله لقبول توبة ام عذاب!.

٣٧٤

بعضهم «هل لنا من الأمر شيء» وقول آخرين (لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا) ليقول لهم ولأضرابهم ـ حين ليس لرسول الهدى من الأمر شيء فبأحرى لمن سواه.

فليس لهم ـ ككل ـ من الأمر شيء لا في نصر ولا هزيمة ، إلّا قدر ما يسعون او يفشلون ، وبذلك ينسلخ المسلمون بأشخاصهم من بطر النصر وخطر الهزيمة ، ويطامنون من الكبرياء التي يثيرها الانتصار في نفوسهم ومن الزهو الذي تتنفج به أرواحهم وتتنفخ أوداجهم.

فليس لهم ـ ككل ـ رسولا ومرسلا إليهم ـ شأن إلا تأدية الواجب في كل حقل ، ثم نفض أيديهم من النتائج.

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٢٩).

(لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) إذ لا تملك مما في السماوات وما في الأرض شيئا (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ملك التشريع والتكوين ، ف (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) ان يغفر له حين يستحقه ، بأن يشاء هو المغفرة ويعمل له ، (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) ان يعذبه حين يستحقه بان يشاء هو العذاب بما يعمل له.

إذا ففاعل «يشاء» فيهما هو الله حيث يشاء مغفرة وعذابا ، وهو المغفور له والمعذب حيث يشاء هما فيشاءهما الله (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ).

ذلك ، ولكنه سبقت رحمته غضبه ، كما تلمح له هذه التعقيبة (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فبرحمته يغفر ما لم يناف عدله سبحانه ، كما بعدله يعذب حين لا مجال لغفره ورحمته.

٣٧٥

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٣٠) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (١٣١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٣٢) وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣٤) وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٣٥) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (١٣٦) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١٣٧) هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ

٣٧٦

وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) (١٣٨)

هذه الآيات تظهر كأنها منقطعة الصلة عما قبلها وما بعدها من عرض الغزوتين بدر وأحد ، ولكنها قريبة الصلة وعريقتها بالحرب حيث تأمر بمحاربة الأهواء والشهوات ، وتطهير النفوس ، فهي بين سلبيات وإيجابيات ، سلبا لكل ثلب وإيجابا لكل واجب.

فكما أن جهاد النفس وسط في جهاد الكفار ، كذلك آياتها تتوسط بين آيات الجهاد.

ولان الجهاد من أفضل سبل الله وهو بحاجة إلى انفاق النفيس كإنفاق النفس ، فلا بد ـ إذا ـ من التحريض إلى الإنفاق ، وليس المرابي ولا سيما بالأضعاف المضاعفة ممن ينفق ، فليترك الربا ثم لينفق ، ثم ليسارع الى مغفرة الرب.

ولان المشركين كانوا يأخذون الربا أضعافا مضاعفة لينفقوا في سبيل حرب المسلمين ، فخيّل الى المسلمين انه ليس محظورا حيث يصرف في حرب المشركين ، وأن الجو يومذاك كان ـ ككل ـ جو أكل الربا أضعافا مضاعفة ، لذلك تتقدم آية النهي عنها في هذه الآيات التسع الوسيطة بين الغزوتين :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ١٣٠.

لقد أسلفنا قولا فصلا حول الربا بتضاعيفها وكل حقولها على ضوء آية البقرة ، فإنما علينا هنا أن نقف عند أضعاف مضاعفة دون إعادة لما مضى.

أترى أن هذا النص يحرّم من الربا ـ فقط ـ أضعافا مضاعفة ، ليتوارى

٣٧٧

المرابون وراءه بقالتهم القالة الغائلة ، المفهوم من هذا النص أن الضعف في الربا والضعفين وما دونهما ليست محظورة ، وانما هي الأضعاف المضاعفة؟.

كلا ثم كلا! حيث الأضعاف المضاعفة هنا ليست شرطا لأصل الحرمة ، إنما هي مواصفة لواقع كان في الجزيرة (١) وهو طبيعة الحال في النظام الربوي.

فالنظام الربوي يقيم دورة المال ـ كأصل ثابت ـ على الأضعاف المضاعفة ، فهو عملية متكررة على مدار الزمن ، ومتركبة من الأضعاف المضاعفة من أخرى ، فليست مقصورة على واقع الحال في الجزيرة ، بل قد تضخمت وتضاعفت ما تضاعفت الجماهير وتضخمت ، وتقدمت في الاقتصاد الظالم الغاشم.

لقد كان يكفي نص آية البقرة لحرمة أصل الربا مهما كانت درهما ، فليست ـ إذا ـ لتتقيّد بآية الأضعاف المضاعفة ، فان آية البقرة نص في إطلاقها ، لا تقبل اي تقيد مهما كان بنص ينفي الحرمة في بعض مواردها ، وآية الأضعاف لا تنفي حرمتها في اي مورد ، انما تثبت حرمة مغلظة في اضعاف مضاعفة ، والمتوافقان من الإطلاق والتقييد لا يتعارضان حتى يقيد مطلقهما بمقيدهما ، اضافة الى ان نص الإطلاق لا يقبل اي تقييد في نفسه من مقيد سلبي ، فضلا عن الايجابي كآيتنا هذه.

والأضعاف المضاعفة ، هي الربا المضاعفة على رأس المال في بيع او دين أم أية معاملة ربوية ، أن يزاد في الأجل فيضاعف الربا على ما قررت ، ثم تستمر المضاعفات حتى تصبح الألف آلافات دون أي حق إلّا مزيد الأجل ، وذلك هدم لأركان الإقتصاد من أصولها.

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ٧١ ـ عن مجاهد كانوا يتبايعون الى الأجل فإذا حل الأجل زادوا عليهم وزادوا في الأجل فنزلت هذه الآية ، وأخرج مثله عن مجاهد وسعيد بن جبير.

٣٧٨

(لا تَأْكُلُوا ... وَاتَّقُوا اللهَ) في أكل الربا وما سواها من باطل الأكل والعمل (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) في حياتكم الإنسانية والإيمانية ، شقا لعراقيل الحياة بسفينة التقوى ، قضاء حاسما على الطغوى ، فإن الإسلام يعني للأمة المسلمة نظافة حيوية في كل حقولها ، والنهي عن أكل الربا في سياق التعقيب على معركة النضال أمر قاصد مفهوم في المنهج التربوي الإسلامي ، فإن النظام الربوي لا يلائم إيمان الجهاد وجهاد الإيمان ، فلا يأكل الربا إنسان يتقي الله ويجاهد في سبيل الله ويخاف النار التي أعدت للكافرين :

(وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) ١٣١.

فآكل الربا أضعافا مضاعفة هو مع الكافرين في نارهم المختصة بهم ، حيث النار دركات ، منها ما يختص بالكافرين ، كما منها ما يختص بالمنافقين ومنها ... فلا يدخل آكل الربا مهما كان مسلما النار التي يدخلها عصاة المسلمين.

ذلك! ولأن الربا تخلّف ويلات بشعة لا تنجبر ، وتعمل حريقا عريقا على حياة المجتمع فتحرقها عن بكرتها وتخرق ألفتها ، فهي نار تدخل آكلها (النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ).

فترى إن أكل الربا كفر بالله وإن كان آكله مسلما؟ أجل انه كفر عملي داخل في طليق الكفر ، ثم وكما ان الكفر دركات ، كذلك (النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) دركات ، فلا يعني دخول المرابي في هذه النار تسويته مع سائر الكفار في دركات النار ، ثم وأكل الربا وان كان كافرا عمليا فقد يورد صاحبه الى كفر عقيدي حين يحلل الربا بالمآل ليبرر موقفه من أكل الربا.

وهنا (أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) دليل وجود النار بمعداتها ، والقدر المعلوم منها نار البرزخ ، واما نار القيامة الكبرى فليست الآن موجودة كما وزبانيتها لا

٣٧٩

تحصل الا بوقودها وهي رءوس الكفر والأعمال الكافرة.

فقد يعني الإعداد للنار حاضر معدات النار في حياة التكليف من الوقود الأصيل وما دونه ، أم وإعداد مكانها وهو في السماوات والأرض ، ولكن إعداد الجنة اكثر فانها مخلوقة حسب آية النجم.

(وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) ١٣٢.

طاعة لله طليقة عن اي تخلف ، حقيقة لساحة الربوبية ، هي طاعة في كتابه ، ثم وطاعة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في سنته الجامعة على ضوء كتاب الله وطاعته : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ).

(أَطِيعُوا ... لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) وترى حين تكون طاعة الله والرسول منجحة مفلحة فما هو دور الترجي على وشك الشك في (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)؟.

علّه لأن الرحمة الربانية غير واجبة لفاعليها فهي من فضله وليست من عدله ، فهي ـ إذا ـ غير محتمة عليه فيصح الترجي لها لمن أطاع الله ورسوله؟

ولكنها واجبة عليه بما كتبها على نفسه للتائبين من ذنوبهم فضلا عن المطيعين جملة وتفصيلا : (وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٦ : ٥٤) كما (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ ..) (٦ : ١٢) ، فالحشر الرحمة والرحمة في الحشر مكتوبان عليه تعالى بما كتب على نفسه فكيف (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)؟ ، علّه لأن الطاعة الحاضرة لله والرسول لا يضمن الموت على الطاعة ، فعلّه يموت عليها ، وعلّه لا ، وذلك مجال الترجي للمؤمنين ككل ، ولكن المعصومين السابقين والمقربين ، المضمون لهم الموت على طهارة العصمة ، هم كذلك مضمونه لهم الرحمة ، ولكنهم ـ على

٣٨٠