الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٥

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٨

دور الأمر والنهي بشروطهما المسرودة في الكتاب والسنة ، فلا أمر ولا نهي قبل الدعوة الصالحة إلى الخير ، ف (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (١٦ : ٢٥).

وأيم الله إن هذه لآل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومن تابعهم يدعون إلى الخير ويأمرون وينهون عن المنكر (١) دون هؤلاء الذين يجب ان يدعوا الى الخير ويؤمروا وينهوا.

ولقد أمضينا القول الفصل حول هذين العمادين الإسلامين على ضوء قوله تعالى (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ) و (لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) واضرابهما فلا نعيد (٢).

والجدير بالذكر هنا ضرورة الطاقة القوية الصامدة في هذه الأمة الداعية الآمرة الناهية ، ولا سيما الأخريان ، حيث إن القضية الطبيعية للأمر والنهي هي السلطة الصالحة لتنفيذهما قدر المقدور.

لا أقول إنها هي السلطة الزمنية ، فقليل هؤلاء المرسلون والذين معهم لهم تلك السلطة ، وواجب الدعوة والأمر والنهي كان عليهم لزاما أوليا.

إنما أقول ، هي الطاقة النفسية والثقافية أماهيه من طاقات تسمح لتلك الدعوة الصارمة والأمر والنهي من وراءها.

فهذه الزوايا الثلاث المحمّلة على تلك الأمة ليست باليسيرة الهينة ، حيث

__________________

(١) نور الثقلين في تفسير علي بن ابراهيم في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليهما السلام) في الآية : فهذه ..

(٢). الفرقان ١ : ٣٧٣ ـ ٣٨٥ و ٢٨ : ٢٩٨ ـ ٣٠١.

٣٢١

تصطدم بطبيعة الحال بشهوات الناس ونزواتهم ومصلحياتهم ، بغرورهم وكبريائهم ونخوتهم ، وفيهم جبارون غاشمون ، والهابطون الكارهون لكل صعود روحي او عملي ، وفيهم المسترخي المهمل الكاره لكل جدّ واشتداد ، فلتتزود تلك الأمة بكل قوة وسداد ، وهزم واجتهاد واستعداد لمواجهة المكاره المضنية والمعارك الدموية (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

وتعقيبة الآية هذه الواصفة لهذه الامة الداعية بالإفلاح ، هي من عساكر الدلائل على اشتراط المعرفة بالخير وفعل المعروف وترك المنكر للداعي الآمر الناهي ، فان فاقدها أم فاقد أحدها ليس من المفلحين ، بل هو من الفالجين المفلجين!.

(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (١٠٥).

(لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا) عن حبل الله ، وعن الاجتماع في الاعتصام به «واختلفوا» فيما بينهم عن جمعية الاعتصام ، اعتصاما بحبل وتركا لآخر ، ام تبعيضا في كل حبل كتابا وسنة ، وذلك السقوط الجارف الخارف (مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ) الداعية إلى الوحدة الإيمانية الجماهيرية ، وأية بيّنة أبين من بينة الوحي الصارم وهو حبل الله المعتصم به لمن أراد الاعتصام.

«وأولئك» الحماقى البعاد (لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) في الأولى والأخرى ، إذ يعيشون شفا حفرة من النار ... أجل وإن الاختلاف في المذاهب هو نتيجة طبيعية للتفرق عن حبل الله ، أن يتخذ كلّ لنفسه وذويه مذهبا يعتبره كأنه الإسلام كله وما سواه كفر ، وكما ابتليت الأمة الإسلامية كالذين من قبلهم بذلك فاختلفوا بعد ما تفرقوا أيادي سبا ، وفصلت بينهم شتى المذاهب واستعبدتهم السلطات الاستعمارية ، فأصبحت الأمة الإسلامية على سعتها وسيادتها شذر مذر أيادي

٣٢٢

سبا! وقد تواتر عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إنباءه عن افتراق الأمة الإسلامية إلى ثلاث وسبعين فرقة واحدة منها ناجية وهي الجماعة (١) تعني المعتصمين بحبل الله جميعا ، دون أية جماعة فان كل فرقة جماعة لا محالة ، فالفرقة المعتصمة بحبل الله في ثقليه هي الفرقة الناجية ، وغيرها من الفرق غير ناجية! مهما كانت سنة او شيعة ، ف (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) (٤ : ١٢٣).

وفي أخرى ان الواحدة ما انا عليه اليوم واصحابي (٢) وهم الذين معه في حمل هذه الرسالة السامية بحذافيرها.

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ٦٢ ـ أخرج أحمد وأبو داود والحاكم عن معاوية قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إن اهل الكتاب تفرقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة وتفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين ملة كلها في النار الا واحدة وهي الجماعة ويخرج في امتي أقوام تتجارى تلك الأهواء بهم كما يتجارى الطلب بصاحبه فلا يبقى منه عرق ولا مفصل إلّا دخله ، وفيه عن انس عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) في لفظ آخر قال : الجماعة الجماعة.

(٢) المصدر اخرج الحاكم عن عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يأتي على امتي ما أتى على بني إسرائيل افترقوا على إحدى وسبعين ملة وتفترق امتي على ثلاث وسبعين ملة كلها في النار إلا ملة واحدة فقيل له ما الواحدة؟ قال : ما انا عليه اليوم واصحابي.

في ملحقات احقاق الحق (٧ : ١٨٤) الشيخ حسين الصيمري في الإلزام قال روى الحافظ أحمد بن موسى الشيرازي ـ الى ان قال ـ : رووا عن انس بن مالك قالوا كنا جلوسا عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ... فقال : يا أبا الحسن إن امة موسى افترقت على إحدى وسبعين فرقة فرقة ناجية والباقون في النار وان امة عيسى افترقت على اثنتين وسبعين فرقة فرقة ناجية والباقون في النار وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة فرقة ناجية والباقون في النار فقلت يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فما الناجية؟ قال : المستمسك بما أنت وشيعتك وأصحابك ...

وممن أخرجه علي بن عبد العال الكركي في نفحات اللاهوت (٨٦) والتونسي الشهير بالكافي في السيف اليماني المسلول (١٦٩).

وفيه (١٤ : ٥٩٦) الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل (١ : ٦٨) أخبرنا محمد بن علي بن محمد ـ

٣٢٣

وترى التفرق والاختلاف في الفروع الأحكامية لاختلاف في تفهم البينات ، ولان المجتهدين ليسوا بمعصومين ، هل هو داخل في تهديد العذاب الأليم؟.

كلّا ، وإنما هو التفرق عن حبل الله والاختلاف فيه أو عنه بعد البينة علما وعتوا وتقصيرا ، وأما القصور بعد صالح الجهد والاجتهاد ـ جمعا بين جمعية الاعتصام التي تضمن شورى بينهم ـ فلا ، بل هو مشكور محبور مهما كان للمخطئ غير المقصر أجر واحد وللمصيب أجران.

(يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) (١٠٦).

هنا اسوداد خاص للوجوه الخصوص ، هؤلاء الذين كفروا بعد ايمانهم اهل كتاب او مسلمين حيث تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البيّنات ، وهي ضمن سائر الوجوه الكافرة ، ومن العجاب أن كل مذهب يذهب الى ان غيره من المسودة وجوهم باختلاق روايات وتكلف تأويلات (١) تفرقا في ذلك

__________________

ـ المقري ان أبي قال : ... عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال قال لي سلمان الفارسي ما طلعت على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يا أبا الحسن وانا معه إلا ضرب بين كتفي وقال : يا سلمان هذا وحربه هم المفلحون.

وفي لفظ آخر عن سلمان الخبر فقال يا أبا الحسن قلما أقبلت أنت وانا عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا قال : يا سلمان هذا وحزبه هم المفلحون يوم القيامة.

ورواه عن الحسن حسين بن الحكم الجري وأبو القاسم سهل بن محمد بن عبد الله مثله.

(١) الدر المنثور ٢ : ٦٢ ـ اخرج الخطيب في رواة مالك والديلمي عن ابن عمر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الآية قال : تبيض وجوه اهل السنة وتسود وجوه اهل البدع ، وفيه اخرج ابو نصر السنجري في الامانة عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قرأ هذه الآية قال : تبيض وجوه اهل الجماعات والسنة وتسود وجود اهل البدع والأهواء.

أقول : ان كان هذا قول الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فهو لا يقول الا عن الله ، فالجماعة ـ

٣٢٤

واختلافا بعد ما جاءتهم البينات ، وإن المسودة وجوههم هم المتخلفون عن الاعتصام بحبل الله جميعا ، ومن المجمع عليه ضروريا بين كافة المسلمين أن عليا (عليه السلام) من المبيضة وجوههم ، فالذين معه هم من هؤلاء الوجوه النيرة ، فسواهم سواهم ، وعلى الجملة فهذه الوجوه المسودة هي من ضمن سائر الوجوه الكالحة : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) (٣٩ : ٦٠) (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ) (٨٠ : ٤٠) (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) (٧٥ : ٢٤).

ثم هنا (فَذُوقُوا الْعَذابَ) يعم خالده وسواه ، فان الضالين من المسلمين ليسوا على سواء ، فمنهم من يذ(ق العذاب ثم ينجو ، وفي ذوق العذاب دون دخوله تلميح مليح أنهم لا يستحقون دخول النار ولا خلوده ، إلا من يستحقه بارتداد وسواه من شاكلة الكفر بعد الايمان.

(وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (١٠٧).

فالخلود في رحمة الله هو الأبدية اللانهائية فإنها عطاء غير مجذوذ قضية الفضل في واسعة الرحمة ، وذوق عذاب الله مقدر بقدر الاستحقاق فإنه جزاء وفاق قضية العدل فإنه مضيق ، واللّانهائية في العذاب ظلم فانها جزاء غير وفاق. هكذا ينبض المشهد بحوار مع المعتصمين بحبل الله والكفار في دار

__________________

ـ والجماعات هم المعتصمون بحبل الله جميعا ، واهل السنة هم المعتصمون بسنة الرسول على هامش كتاب الله ، ونرى قسما ممن يسمون باهل السنة تاركين للكتاب والسنة وكما نرى قسما ممن يسمون بالشيعة أمثالهم ، فالمعتصمون جميعا بالكتاب والسنة جميعا هم من الذين ابيضت وجوههم.

أترى القائل هذا كتاب الله حسبنا رفضا لوصية رسول الله وهي أسنى السنة وأسنّها ، هو من الذين ابيضت وجوههم ، والمعتصمين بتلك الوصية وسائر السنة التي حملها العترة الطاهرة هم من الذين اسودت وجوههم؟!

٣٢٥

القرار ، معروضة عليهم في دار الفرار ، نبهة لهم عن غفوتهم ، وأدركا بعد سهوتهم و :

(تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ) (١٠٨).

«تلك» البعيدة المدى ، القريبة الهدى (آياتُ اللهِ) رسولية ورسالية (نَتْلُوها عَلَيْكَ (١) بِالْحَقِّ) ـ آيات بالحق ـ نتلوها بالحق ـ عليك حالكونك بالحق ، بسبب الحق ومصدره ، مصاحبة للحق ، لغاية الحق ، بيانا للحق ، (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) بل هم أنفسهم يظلمون ، وكما في حديث قدسي «خلقتهم ليربحوا علي لا لأربح عليهم» (١).

ف «تلك» المساير والمصاير ، تلك الحقائق البينة الصادرة من رب العزة غير السادرة ، «تلك» هي (آياتُ اللهِ) دون من سواه ، دالة بأنفسها انها ربانية المصدر والصدور ، (نَتْلُوها عَلَيْكَ) يا حامل الرسالة الأخيرة «بالحق» الثابت الحقيق بالبقاء دون نسخ ولا تجديف او تحريف (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ) وهو القوي العزيز ، فإنما يحتاج إلى الظلم الضعيف!.

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) (١٠٩).

وترى ماذا يعني رجوع الأمور إلى الله ، وهي في علمه وسلطانه ، غير خارجة عنهما ما وجدت؟ إنه تعالى ملّكنا في دار التكليف والامتحان أمورا نحن فيها مستخلفون ليبلونا أينا أحسن عملا ، ثم عند تقضّي هذه الدار وانتقال هذه الحال ترجع أمورنا المخيرة لنا الى الله مسيّرة علينا ، وكما كنا أجنة في بطون أمهاتنا دون حول ولا قوة إلّا بالله.

إن الأمور المسيّرة هي راجعة الى الله على أية حال حيث لا فاعل لها إلا الله ، فانما الأمور المخيرة هي الراجعة الى الله في يوم الله ، حيث الله يحاسبها

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ٨ : ١٧٢ قال عليه الصلاة والسلام حاكيا عن رب العزة سبحانه : ...

٣٢٦

ويجازي عليها ، وقد كان قبل يعلم مصادرها ومسايرها ومصائرها ، والى ما ترجح أوائلها وأواخرها ، فقد رجعت الآن إلى ما كان يعلم الله فاتقوه ان توافوه بمعاصيكم ومآسيكم.

كما وان ناسا في هذه الأدنى ربما يخيل إليهم زورا وغرورا أنهم يملكون لأنفسهم أم ولسواهم نفعا أو ضرا دون تخويل من الله أو تمويل ، إضافة للمخصوص بالله إلى أنفسهم ، خلعا لبعض صفاته عنه الى خلقه ، فإذا انحسر قناع الشك ، وانكشف غطاء الرأس ، واضطر الناس الى معارف وانقطع التكليف وتقوضت الدنيا بحذافيرها ، علم الجميع ألّا مؤثر في الكون إلا الله (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) على أية حال في الأولى والأخرى مهما اختلفتا تخييرا وتسييرا.

فهنا الرجوع ليس إلّا بالنسبة لمعرفة الغافلين ، وليس حقيقة الرجوع لأنها كائنة على أية حال.

ذلك! وأصل الرجوع هو الانعطاف والانقلاب بشيء ، لا أنه كان عندك ففارقك تماما او بعضا ، وإنما الانعطاف بعد الانحراف ، والانقلاب بعد الانغلاب ، فالسابقون هم راجعون بأمورهم إلى الله إذ ما يشاءون إلا أن يشاء الله وكما يروى عن علي (عليه السلام): لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا.

(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ) (١١٠).

أترى من هم المعنيون هنا ب «كنتم»؟ أهم أمة الإسلام كلهم ومنهم ـ وهم أكثرهم ـ فسقة يدعون إلى الخير ويؤمرون وينهون وقد لا يأتمرون او ينتهون! ثم ولا تختص الفريضتان بهذه الأمة ، بل تحلقان على كل الأمم الرسالية حفاظا عليها : (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) ام هم

٣٢٧

الأمة الآمرة الناهية ، وهم عدول الأمة الإسلامية وربانيّوها ، المتوفرة فيهم شروطات الأمر والنهي ، حيث الخطاب يخص السابق ذكرهم في (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ)؟ فكذلك الأمر في ثاني الأمرين وهو أممية ذلك الفرض الرسالي دون اختصاص بالدعاة المسلمين!.

فهم الأمة الوسط بين الرسول والأمة ، التي وجبت لها دعوة ابراهيم (عليه السلام) (١) : (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) (٢ : ١٢٨).

ذلك! مهما شملت هذه الأمة في ذيلها ربّانيّ الامة الاسلامية ، فهما ـ بين كل الأمم الداعية في التاريخ الرسالي ـ خير امة أخرجت للناس وهم كل المرسل إليهم ، أم هم المسلمون الأوّلون إذ كانوا خير أمة آمرة ناهية مؤمنة؟ ومتى كانوا هم كلهم كذلك ثم تحوّلوا عن ذلك! أفي العهد المكي؟ ولم يكن هناك أي مجال لأمر او نهي أللهم إلّا امن الحفاظ على أنفسهم وعقائدهم! ام في العهد المدني؟ والآية نازلة فيه! أم في بدايته؟ والنهاية كانت أحسن من البداية وقد تمركزت دولة الإسلام!.

ثم وهم بداية ونهاية في ذلك العهد لم يكن الآمرون منهم والناهون إلّا الأقلين ، وكما الحالة نفس الحالة في كل الأدوار الإسلامية!.

هنا «أمة» هم الأمة الآمرة الناهية ، فالآمرون الناهون من المسلمين هم خير الدعاة في تاريخ الدعوات (٢) على مدار الزمن الرسالي ، لا سيما بمن

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٣٨٢ في تفسير العياشي عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) قال : يعني الأمة التي وجبت لها دعوة ابراهيم (عليه السلام) فهم الأمة التي بعث الله فيها ومنها وإليها وهم الأمة الوسطى ، وفي تفسير البرهان (١ : ٢٠٧) القمي في

(٢) الدر المنثور اخرج جماعة عن معاوية بن حيدة انه سمع النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في هذه الآية قال : انكم تتمون سبعين امة أنتم خيرها وأكرمها على الله.

٣٢٨

فيهم من السدة العليا لرسولية والرسالية محمد وعترته المعصومون (عليهم السلام) (١) صحيح أن الأمة الإسلامية هي خير الأمم رسوليا ورساليا لإسلامها السليم ، ولكنهم ليسوا ـ ككلّ ـ خير الأمم ، وانما هو مبدئيا بارز في دعاتهم إلى الله ، وخيرهم ـ كما هم خير الدعاة ـ هم الدعاة المعصومون (عليهم السلام).

فالخطاب هنا يشمل مثلث الدعاة إلى الله في هذه الأمة ، والمعصومون منهم هم رأس الزاوية ، ثم الربانيون ، ومن ثم سائر الآمرين ـ من الامة ـ والناهين.

إذا فهو خطاب يحلّق على كل الأدوار الرسالية الإسلامية منذ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى يوم الدين ، فهم أولاء الثلاثة هم (خَيْرَ أُمَّةٍ) آمرة ناهية على مدار الزمن الرسالي بكل خيوطه وخطوطه.

«أخرجت» اصطفاء بين الكل «للنّاس» كل الناس ، فهم كل من سواهم من سائر المكلفين مسلمين وكتابيين وسواهم.

وقد تلمح «كنتم» الماضية ، دون «أنتم» (٢) الطليقة عن اي زمان خاص ، أن الميزة البارزة في دعاة هذه الأمة ماضية في بشارات من كتابات

__________________

(١) نور الثقلين رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليهما السلام) في الآية : فهذه الآية لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وآله ومن تابعهم يدعون ...

وفي الدر المنثور اخرج ابن أبي حاتم عن أبي جعفر (عليهما السلام): كنتم خير امة ... قال : اهل بيت النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

(٢) نور الثقلين ١ : ٣٨٢ في كتاب المناقب لأبن شهر آشوب وقرأ الباقر «أنتم خير امة» بالألف نزل بها وهم الأوصياء من ولده.

أقول : «أنتم» مرفوضة لمخالفتها نص الكتاب «كنتم».

٣٢٩

الوحي ، وكما نراها فيها (١) كما هي ماضية في علم الله ، فلا تخالفوه ، وحقّقوه بأعمالكم ليكون آكد لحجتكم على أعدائكم تحقيقا حقيقا لتلكم البشارات ، وإلا فقد يجد الطاعن منهم فيكم مطعنا والغامز مغمزا.

إذا فلا تعني «كنتم» هنا إلا العليّة من هذه الأمة دون الدنية او الوسيطة البسيطة ، أنهم كانوا قبلئذ «خير أمة» ثم غيروا منذ الخطاب!.

إذا فهي ماضية في الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعترته الطاهرة والذين معهم طول الزمن دعاة إلى الله حتى القيامة الكبرى.

ومما يبرهن بقاء هذه الكينونة المشرفة الماضية واقع الداعية الإسلامية من رباني الأمة مهما قلوا ، كما و «تأمرون وتنهون» في مضارعتهما دليل استمرارية هذه الخيرية بالخيرين ، ف (كُنْتُمْ ... تَأْمُرُونَ ..) ماض بعيد مستمر مع الزمن الرسالي الاسلامي دونما انقطاع مهما لم تكن فيهم الكفائة بتقصير من قصّر.

__________________

(١) ففي سفر التثنية ١٧ : ٢٠ يقول ما ترجمته الحرفية كالتالية : ولإسماعيل سمعته (إبراهيم) ها انا أباركه كثيرا وانميه واثمره كثيرا وارفع مقامه كثيرا بمحمد واثني عشر اماما يلدهم (إسماعيل) واجعله امة كبيرة.

ويعبر داود (عليه السلام) عن دعاة هذه الأمة بالأصفياء ، كما في مزمور (١٤٩ : ١ و ٦ ـ ٩) من الزبور هللويا. رنّموا للرب ترنيما جديدا ، أقيموا تسبيحه في مجمع الأصفياء ، يبتهج الأصفياء في المجد يرتمون على أسرتهم. تعظيم الله في أفواههم وبأيديهم سيف ذو حدين. لإجراء الانتقام على الأمم والتأديب على الشعوب. لا يثاق الملوك بالقيود وشرفائهم بكبول من حديد ليمضوا عليهم القضاء المكتوب. هذا فخر يكون لجميع أصفياءه هللويا.

وفيه ٤٥ : ١٨ يكون بنوك عوضا من آباءك تقيمهم رؤساء على جميع اهل الأرض ، سأذكر اسمك في كل جيل فجيل. لذلك يعترف لك الشعوب.

وفي «نبوئت هيلد» : وحي الطفل : ستأتي امة تزعزع العالم وتحدث خرابات وإطفاءات بيد ابن الأمة (راجع رسول الإسلام في الكتب السماوية).

٣٣٠

وصحيح ان الدعاة المعصومين (عليهم السلام) هم خير أئمة (١) ولكن لقط الآية (خَيْرَ أُمَّةٍ) تعني خير الأمم الداعية الآمرة الناهية ، فهم في التنزيل (خَيْرَ أُمَّةٍ) وفي التأويل «خير أئمة» كقادة لهؤلاء الأكارم.

ولقد تكفي آية الفتح بيانا لهم وتعريفا بهم : (... وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) (٢) ف اختلاق «أنتم خير امة» دلالة على ثبوت هذه المواصفة لهم دون تقض قضية المضي في «كنتم» ليس إلّا لسوء الفهم وقلة الحزم.

وما أجهله في تفهم معاني القرآن من يبتدر باختلاق أمثال هذه المختلقات

__________________

(١) من مثلهم في التوراة ما أخرجناه من البشارات ، ومن مثلهم في الإنجيل : «في أبناء الملكوت حبات الحنطة التي تعطي مأة ضعف وفيهم أولاد إبليس» (متى ١٣ : ٢٤ ـ ٣٠ و ٣ : ٤٧ ـ ٥ و ٢٢ : ١٠) «أبناء الملكوت هم ملح الأرض وبقدر ما يحتاج الطعام الى الملح فكذلك كل العالم وجميع أقوام كرة الأرض يفتقرون الى أبناء ملكوت الله» (متى ٥ : ١٤ ـ ١٦) راجع ص ١٢٦ ـ ١٢٧ رسول الإسلام).

(٢) المصدر في تفسير القمي بسند متصل عن ابن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال قرأت على أبي عبد الله (عليه السلام) (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) فقال ابو عبد الله (عليه السلام) خير امة تقتلون امير المؤمنين والحسن والحسين ابني علي (عليهم السلام)؟ فقال القارئ جعلت فداك كيف نزلت؟ فقال : كنتم خير أئمة أخرجت للناس ، الا ترى مدح الله لهم (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ)؟.

وفيه عن تفسير العياشي ابو بصير عنه (عليه السلام) قال : انما أنزلت هذه الآية على محمد (صلى ـ

٣٣١

الزور ، تزييفا لموقف القرآن (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً)!.

ف (أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) هو الإخراج التصفوي من كل الناس المرسل إليهم على مدار الزمن الرسالي ، أخرجهم الله إلى الوجود في آخر الزمن بين من من الدعاة على ضوء هذه الرسالة السامية الأخيرة ، فعليهم ـ إذا ـ دعوة الناس جميعا إلى الخير ، سواء ناس الإسلام ومن سواهم من الناس ، حملا لحمل الرسالة الإسلامية بكل أعباءها الثقيلة إلى مشارق الأرض ومغاربها كأفضل ما يرام ، حيث الدعوة في مادتها ومدتها ، في عدّتها وعدّتها شاملة كاملة.

وخير أدوارها المحلقة على كافة المكلفين هو دور القائم المهدي من آل محمد صلوات الله عليهم أجمعين الذي به يملأ الله الأرض قسطا وعدلا بعد ما ملئت ظلما وجورا ، وعلى الأمة الإسلامية على مدار الزمن وقبل آخر الزمن تحقيق هذه الفضيلة الكبرى قدر المستطاع والإمكانية ، تخليصا لأنفسهم عن حكم الطواغيت وتعبيدا لطريق المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف.

والمواصفات الثلاث لهم : (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ـ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ـ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ) في كونهم خير أمة ، تقتضي أنهم في القمة المرموقة من هذه الثلاث ، فان أصولها مشتركة بين الأمم كلها ، وكما ان «كنتم تأمرون» تضرب الى اعماق الماضي الرسالي بشارة ، كذلك استمرارية استقبالية واقعا مهما تخلف عن واجبهم متخلفون ، فإنهم لا يعنون من «كنتم» ولا «تأمرون».

__________________

ـ الله عليه وآله وسلم) فيه وفي الأوصياء خاصة فقال : كنتم خير أئمة أخرجت للناس ... هكذا والله نزل بها جبرئيل وما عنى بها إلا محمدا وأوصيائه صلوات الله عليهم.

٣٣٢

وكما ان الدعاة المعصومين من هذه الأمة هم خير أمة أخرجت للناس ، فليكن كذلك من يخلفهم من الربانيين المسلمين ، ثم المسلمون ككل.

و «أخرجت» مجهولة لتشمل الإخراج الرباني أمرا منه في «ولتكن» وانتصابا للقمة العليا وهم المعصومون في الرسل والرسالات ، وانتخابا من الأمة هذه الأمة الصالحة للدعوة والأمر والنهي.

فما لا بد منه في كافة الأمم الرسالية إخراج امة منهم لهذه المسئولية الكبرى التي هي استمرارية للرسالات حيث تعنيهم ـ فيما تعني ـ (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً).

فكما الرسل والائمة المعصومون هم الأمة العليا في حمل مسئوليات الرسالات كأصول فيها ، والله هو المكّون لهم والمنتصب إياهم ، كذلك سائر الدعاة الى الله ، الآمرين الناهين ، يجب تكوينهم في كل أمة ، وذلك على عواتق الأمم كلهم ، أن يكونوا هؤلاء الدعاة الذين هم خلفاء الرسل وربانيو الأمم.

ف (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) تعني دعاة الإسلام الآمرين الناهين ، انهم (خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) توحيدا للأمة الداعية الآمرة الناهية على مدار الرسالات كما الرسل واحدة وأممهم امة واحدة في أصل الدعوة مصدرا ومسيرا ومصيرا مهما اختلفت شكليات من فروع لهم شرعية.

فكما (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) على وحدتهم ، كذلك «أمة» الدعوة بعد الرسل ، وكما أن خاتم الرسل هو خير الرسل ، كذلك الدعاة ـ معه وبعده ـ الى الله هو (خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) في (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) حيث الدعوة درجات بمادتها وشكليتها وحملتها.

فقد أراد الله تعالى قمة القيادة لهذه الأمة البارعة ، لتقود الناس ككل الى

٣٣٣

كل مصالح الدين والدنيا على ضوء الاعتصام بحبل الله جميعا وتقوى الله حق تقاته.

فلا مجاملة هنا ولا محاباة او مصادفة ، إنما هو امر قاصد هادف ان تكون الإمامة العليا لهذه الأمة ، فكما أن رسولها هو رسول الرسل ووليهم ، كذلك أئمتها وسائر الأمة.

ليس توزيع الاختصاصات والكرامات هنا كما كان ولا يزال يزعمه اهل الكتاب (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) فانما هو العمل الإيجابي الجاد لحفظ الحياة الايمانية الجماهيرية على رعاية الله ، بكل ما يتطلبه هذه التكاليف من متاعب ، قضية الأمر والنهي الصارم اللذين يتبناهما الإيمان الصارم مهما كلف الأمر الإمر في هذه السبيل الشائكة الملتوية المليئة بالاشواك والعقبات ، فإن زادهم في هذه السبيل هو الإيمان بالله ، اعتصاما بحبل الله جميعا دون تفرق ، بتقوى الله حق تقاته ، لكي يمضوا في طريقهم الشاقة الطويلة قدما ، احتمالا لكل تكاليفها وهم يواجهون الطغاة البغات بكل عرامتها وشقوتها وشدتها.

ذلك! (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ) ككل «لكان خيرا لهم ، إذ يصبحون» ـ إذا ـ من خير امة أخرجت للناس ، ولكن (مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ) فالإيمان خير لهم في أولاهم وأخراهم ، فهنا يستعصمون به من الفرقة والهلهلة المحلقة على كل حياتهم وحيوياتهم ، ويكسبون السودد ـ الذي يخافون على زواله ـ وزيادة ، وهناك في الأخرى رحمة الله ورضوانه.

وهنا «المؤمنون والفاسقون» معرّفين تاشيرا الى المعلوم من أحوالهم لدى المتفرسين من المؤمنين ، وليس يختص «المؤمنون» هنا بمن آمن منهم بالفعل إذ لا يشملهم (أَهْلُ الْكِتابِ) بل هم من لا يفسق عن الايمان مقصرا ، وأما القصور

٣٣٤

عن الايمان بالرسالة الأخيرة مع الحفاظ على أصل الإيمان ، فهو يدخل القاصرين في المؤمنين.

وترى بإمكان الفاسقين منهم ان يضروا خير أمة أخرجت للناس ، المتوفرة فيها المواصفات السابغة السابقة؟ كلا! :

(لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) ١١١.

الأذى هي دون الضرر او الضرر الأدون وإلّا لتناقض المستثنى منه إلا بانقطاعه منه ، وعلّ القصد منها ما يقولونه بألسنتهم تعريضا بكم وتعييرا لكم ، دون واقع الاصطدام بإيقاع الغليظ المكروه الشديد.

ام وأذى الجراح والقراح والقتل بدنيا إن يقاتلوكم ، دون ضرر الغلبة بحجة أم سلطة عسكرية أماهيه ، فحسن استثناء «أذى» من (لَنْ يَضُرُّوكُمْ) حيث إن تلك الأذى هي بالنسبة لتلك الإضرار كأنها لا تضر إذ لا تؤثر عميقا ولا تجحف ، فحاصل المعنى «لن يضروكم الا ضررا قليلا».

ولم تذكر الأذى في سائر القرآن إلّا في قليل الضرر اللهم إلا إذا أفردت بذكر ، فعامته ك (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ).

ذلك ومتى بلغ الأمر الى المدافعة والمقاتلة وانتهى الوعيد إلى المواقعة كان المؤمنون أقوى ظهورا وأشدا استظهارا ، والكفار أنقض ظهورا وأضعف عمادا وأكثر استدبارا ، وذلك من ملاحم الغيب ودلائل صحة هذه النبوة السامية وكما رأينا في ماضي تاريخنا المجيد أن اليهود لم يقاتلوا المسلمين إلا منحوهم أكتافهم وأجزروهم لحومهم كبني قريظة وبني قينقاع ، ويهود خيبر وبني النضير وكم لهم من نظير!.

٣٣٥

ف «لن» لها دور الإحالة لمدخولها وهو هنا «يضروكم» وهم فسقة اهل الكتاب وافسقهم اليهود و «لن يضروكم» هؤلاء بحذافيرهم أي ضرّ بأنفسكم وعقائدكم وكل كيانكم الإسلامي السامي «إلا أذى» وهو دون ضرّ (وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) عليكم.

أترى بعد أن تلك الإحالة تعم كافة المسلمين وهو خلاف الواقع الملموس طول القرون الإسلامية حتى الآن؟.

كلّا ، فإنها خاصة بمن خوطبوا من ذي قبل بتحقيق شروط السيادة : اعتصاما بالله ـ حيث تتلى عليهم آيات الله وفيهم رسوله ـ وبتقوى الله حق تقاته ، وأن يعيشوا على طول الخط مسلمين لله ، وأن يعتصموا بحبل الله جميعا ولا يتفرقوا ، وتكن منهم أمة داعية آمرة ناهية ، وأخيرا يصبحوا من خير أمة أخرجت للناس ، إذا ف «لن يضروكم» أنتم المخاطبون بهذه الأوامر ، المحققون لها كما أمرتم (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ)!.

فلأن الأذى هي دون الضرر فالاستثناء ـ إذا ـ منقطع ، أو هو الضرر القليل الضئيل فمتصل ، وعلى أية حال فالنص يبشر باستحالة الضرر من فسقة اهل الكتاب على هؤلاء المؤمنين القائمين بشرائط الإيمان ، المسرودة من ذي قبل.

فالانهزامات العقيدية والثقافية والعسكرية أماهيه لمن يسمون مسلمين ليست إلا من خلفيات الانهزامات الإيمانية (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى).

إنه ليست صيغة الإسلام والإيمان هي العاصمة لحامليها عن الشر والضر ، الكافلة للخير ، ولا أن صيغة التهود والتنصر هي القاضية على حامليها ، إنما الكافل هو الإيمان الصامد أيا كان ف : (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً).

٣٣٦

(ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) ١١٢.

هذه تضرب عليهم الذلة إلا بحبل من الله وحبل من الناس ، ثم تضرب عليهم المسكنة دون استثناء ، وأخرى تضربهما عليهم دون ذكر للحبلين : (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) (٢ : ٦١).

وهذه مقيدة بتلك قضية تقييدها وطبيعة الحال في زوال تلك الحال.

ومن الذلة الدائبة على اليهود سوم العذاب عليهم من المجاهدين مسلمين وسواهم في دويلاتهم النحسة الويلات كما قال الله (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ. وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (٧ : ١٦٨).

وترى الذلة المضروبة «عليهم» : فسقة اهل الكتاب ، هي التشريعية لمكان (أَيْنَ ما ثُقِفُوا) أي وجدوا في تحري المؤمنين الملاحقين إياهم ، حيث الثقف هو الحذق في إدراك الشيء ومنه الثقافة فانها حذق في ادراك العلوم.

فبحذق المؤمنين تكميلا لشروط الإيمان ، وحذقهم في ملاحقة المؤذين من فسقة اهل الكتاب ، (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ) (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ) (٨ : ٥٧) (مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً) (٣٣ : ٦١) (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ) (٣ : ١٩١) فحذار حذار ألّا يثقفوكم بفاشل إيمانكم ف (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا

٣٣٧

لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) (٦٠ : ٢).

أم وهي الذلة التكوينية حيث الفسق ذل في نفسه وذل في المجتمع الصالح ، وذل عند الفاسق نفسه إذ لا يفلح الفاسقون مهما أبرقوا وأرعدوا ردحا من الزمن ، و «ذلك» الضرب في ذلة وسكنة (بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ).

(ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ ..) ولكن لا على أية حال ومهما تحولت الأحوال ، بل هي دون الحبلين ف (إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) يصد عنهم الذلة تشريعا وتكوينا ، فما هما الحبلان؟.

(بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ) معروف انه «حبل الله» اعتصاما بالله وبكتاب الله وتنكير «حبل» تلميح بان كل قدر من حبل الله له عصمته عن الذلة ، فإذا اكتمل يصبح عاصما طليقا عن كل ضرّ.

فبزوغ الإيمان من فسقه اهل الكتاب هو «حبل من الله» ولمّا يكمل ، ثم تكامل إيمانهم بشروطه تكامل لاعتصامهم بحبل الله ، فليس الاعتصام إلا بقدر فتل الحبل ، ولا الذلة إلا على قدر فلّ الحبل ، إذا ف «حبل من الله» طليقة بالنسبة لكل درجات الحبل : رسوليا ورساليا ، فحين يؤمن الكتابي الفاسق بكتابه كما يحق فلا ذلة له ، مهما لم يؤمن برسالة الإسلام قصورا كما في آية اللاسواء التالية ، وحين يؤمن بهذه الرسالة ولمّا يكمل إيمانه تكامل عزه ، حتى يصل إلى القمة المعنية بالآيات السالفة اعتصاما كاملا بحبل الله.

وهكذا الأمر (حَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) حيث تقصد بعد الله بكتابه ، رسول الله ، ثم الدعاة الرساليين ثم سائر المؤمنين ، او ومن ثمّ سائر الناس أجمعين حيث الجمعية المعاضدة لها أثرها عضدا مهما كانت باطلة فضلا عن الجمعية

٣٣٨

الحقة الحقيقية وبين «حبل من الله» و «حبل من الناس» عموم من وجه ، ف «حبل من الله» فقط هو الاعتصام بالله وبكتاب الله ف «حبل من الناس» فقط هو الاعتصام بالناس غير الرساليين ، ومجمع بينهما هو الناس الرساليون معصومين وسواهم من المؤمنين حيث يجتمع هنا الحبلان مع بعضهما البعض.

ولقد بين الحبلان في آية الاعتصام (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً) ف (بِحَبْلِ اللهِ) هو الأصل ل (بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ) و «جميعا» هو الأصل ل (حَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) ولا سيما الثقل الأصغر رسولا وعترته (١).

فالحبلان العاصمان يعصمان المعتصمين بهما عن كل ذل ومسكنة في كافة الحقول الحيوية ضمانا صارما من الله وهو حسبنا ونعم الوكيل : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ).

(وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ) وكما نلمسها في اليهود مهما كانوا أثرياء فإنهم مساكين فقراء في ذوات نفوسهم.

وترى ان هذه المسكنة تزول عنهم كما الذلة بحبل من الله وحبل من الناس؟ طليق المسكنة بعد الاستثناء يقول : لا ، ثم (لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٣٨٣ في تفسير العياشي عن يونس بن عبد الرحمن عن عدة من أصحابنا رفعوه الى أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية قال : الحبل من الله كتاب الله والحبل من الناس هو علي بن أبي طالب (عليه السلام).

أقول وهذا من التفسير بالمصداق الوسيط بين الرسول والأمة ، تلحيقا له بالرسول امام ناكريه ، وقد مضى الحديث عن تفسير البرهان عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في جواب السائل بين لنا ما هذا الحبل؟ فقال هو قول الله : الا بحبل من الله وحبل من الناس فالحبل من الله كتابه والحبل من الناس وصيي ...

٣٣٩

مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ) (٥ : ٦٦) ، هذه واضرابهما من الواعدة زوال الذلة والمسكنة تقول : نعم ، فقد تلمح تأخر المسكنة بطليقها تأخر زوالها عن هؤلاء الفسقة ، أم وبأحرى أن زوال الذلة يكفيه حبل من الله وحبل من الناس ، وليس زوال المسكنة ليكفيه حبل ما الموافق لبقاءهم على دينهم قاصرين ، وكما نرى اليهود القاصرين في مسكنة بيّنة ، وهذا هو الفارق بين الذلة والمسكنة هنا ، حيث الثانية هي لزام التأخر عن كامل الحبلين كما هو ملموس في اليهود!.

وذيل الآية المعلّل للذلّ والمسكنة يقرر أنهم هم فسقة اليهود ، إذ لم يعهد من النصارى أن يقتلوا النبيين ، فمصب الآية منذ (لَنْ يَضُرُّوكُمْ) ـ حتى ـ «المسكنة» هم اليهود ، مهما شمل استحالة الضر كل فسقة اهل الكتاب لمكان رجوع ضمير الجمع إلى (وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ) حيث لا يختص بفسقة اليهود.

إذا فثالوث : الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ـ يشمل كل فسقة أهل الكتاب على قدر فسقهم ومروقهم ، ولا سيما اليهود المغضوب عليهم وهم أشد عداوة للذين آمنوا وأضر ضراوة عليهم كما قال الله : (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ. وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) (٥ : ٨٣).

وترى إذا السابقون كانوا يقتلون الأنبياء بغير حق فما على اللاحقين الذين لم يقتلوا؟ ذلك لأنهم سلسلة موصولة طوال تاريخهم المنحوس المدسوس ، فأولئك قتلوا الأنبياء وهؤلاء قتلوا النبوات ، فلو وصلت أيديهم إليهم لقتلوهم ، فهم نمط واحد على طول الخط ، فتشملهم الذلة والمسكنة كذلك (إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ).

٣٤٠