الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٥

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٨

ومن ثم عمل الحج (١) بفارق أن الأوّل كفر عقيدي والثاني عملي ، ثم الكفر بثواب الحج إن أتى به وعدم العقاب على تركه سواء أتى به في هذه الحالة ام ترك ، وهذه الأربع كلها معنية ب (وَمَنْ كَفَرَ ..) حيث الآية تشمل هذه الزوايا : فرضه ـ تطبيقه ـ ثوابه ، وعقاب تركه ـ ثم وتركه ، كما والأحاديث تدلنا على هذا الإطلاق.

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (٩٨) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها

__________________

ـ رسول الله (ص) من ترك الحج فقد كفر؟ قال : لا ولكن من جحد الحق فقد كفر.

وفيه ٢٣٠ علي بن جعفر عن أخيه موسى (ع) في حديث حول الآية قلت فمن لم يحج فقد كفر؟

قال : لا ولكن من قال : هذا ليس هكذا فقد كفر.

وفي الدر المنثور ٢ : ٥٧ لما نزلت آية الحج جمع رسول الله (ص) أهل الملل فقال إن الله فرض عليكم الحج فحجوا البيت فلم يقبله إلّا المسلمون وكفرت به خمس ملل قالوا لا نؤمن به ولا نصلي إليه ولا نستقبله فأنزل الله (وَمَنْ كَفَرَ ..) وفيه أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن أبي داود نفيع قال قال رسول الله (ص) (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ... وَمَنْ كَفَرَ ..) فقام رجل من هزيل فقال يا رسول الله (ص) : من تركه كفر؟ قال: من تركه لا يخاف عقوبته ومن حج لا يرجو ثوابه فهو ذاك.

(١) وفيه ٢٣٠ عن الإحتجاج في إحتجاج أمير المؤمنين (ع) على الخوارج : ولقد قال الله جل ذكره (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ ...) فلو ترك الناس الحج لم يكن البيت ليكفر بتركهم إياه ولكن كانوا يكفرون بتركهم إياه لأن الله قد نصبه لهم علما وكذلك نصبني علما حيث قال رسول الله (ص) : يا علي أنت مني بمنزلة الكعبة تؤتى ولا تأتي ، وفيه عن فقه الرضا (ع) وسمى تارك الحج كافرا وتوعد على تاركه من النار فنعوذ بالله.

٢٨١

عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (١٠٠) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٠١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠٣) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٤) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٥)

٢٨٢

يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٠٧) تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (١٠٨) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (١٠٩) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (١١٠) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١١١) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) (١١٢)

٢٨٣

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ) (٩٨).

استفهام إنكاري بتعريض عريض أن كيف يكفر الكتابي بآيات الله وهو عشيرها لكونه من اهل الكتاب ، وذلك النكران هو أضل سبيلا لهم أولاء الأنكاد وللذين آمنوا ببساطة ولمّا يقع إيمانهم موقعه الصامد ، حاسبين أن لو كان القرآن ورسوله حقا من الله لآمن به أهل الكتاب قبلنا ، إلّا من هداه الله ونجاه بما جاهد في سبيل الله وكرّس حياته لله ف (الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) (٤٧ : ١٧).

(لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) رسالية ورسولية ، النازلة بعد ما أنزل إليكم من كتاب (وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ) في كفركم وبمختلف أساليب التضليل ، لا تخفى عليه منكم خافية ، وقد كانوا يظنون ان الله لا يعلم كثيرا مما يعملون (أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ. أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) (٢ : ٧٦).

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (٩٩).

ليس فحسب أنكم (تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) في أنفسكم ، بل و (تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ) صدا بكفركم ، وآخر بإيمانكم ثم كفركم : (آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) وثالث بدعاياتكم الباطلة الخواء ، عائشين ثالوث الصد عن سبيل الله من آمن ، حال أنكم (تَبْغُونَها عِوَجاً) تطلّبا للسبيل العوجاء (وَأَنْتُمْ شُهَداءُ) سبيل الله لمكان الكتاب ، و «شهداء» الحق بما شهد لكم الكتاب ورسول الكتاب ، «وأنتم» يجب عليكم ان تكونوا «شهداء» الحق لمن لم يشهده (وَأَنْتُمْ شُهَداءُ) على ماذا

٢٨٤

تعملون بكفرهم وصدكم عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا!.

فشهادة الحق والشهادة بالحق والشهادة على الحق وشهادة نكران الحق هي زوايا اربع من (وَأَنْتُمْ شُهَداءُ) مما يضخّم مسئولية الكافرين الصادين عن سبيل الله.

ذلك كيد لعين لئيم من اهل الكتاب الكافرين ، فحذار حذار للذين آمنوا أن يتخذوا فريقا منهم أولياء لأنهم اهل الكتاب :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ) (١٠٠).

وإنما حذروا عن طاعة فريق منهم وطاعة غير المؤمن محظور أيا كان؟

لأن اهل الكتاب فرق ثلاث ، منهم الصادون عن سبيل الله وهم الذين حذّر عن طاعتهم ، ومنهم المؤمنون بهذا الرسول وكتابه وهم آهلون للطاعة في سبيل الله وهم قادة الايمان بسند الكتاب ، ومنهم عوان لأنهم (أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ) لا يدعون إلى شيء حتى يطاعوا وهم حائرون في أمرهم أنفسهم ، مهما افترقوا إلى متحر عن الحق ليتبعه ، ومهمل يعيش حائرا مائرا ، والجامع بينهما ألا دور لهما في دعوة حتى يأتي دور الطاعة سلبا وإيجابا ، ثم ولما ذا يطاع أهل الكتاب؟ ألكي يهدوكم سبيل الرشاد؟ وأنتم راشدون بكتاب الله ورسوله! :

ذلك وكما قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حينما دس يهودي بين الأوس والخزرج فأخذا يتقاتلان : «يا معشر المسلمين الله الله أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ هداكم الله الى الإسلام وأكرمكم به وقطع عنكم أمر الجاهلية واستنقذكم به من الكفر وألف به بينكم ترجعون الى ما كنتم عليه كفارا فعرف القوم أنها نزعة من الشيطان وكيد من عدوهم فألقوا السلاح

٢٨٥

وبكوا وعانق الرجال بعضهم بعضا ثم انصرفوا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سامعين مطيعين قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله ...» (١).

(وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (١٠١).

(كَيْفَ تَكْفُرُونَ) بعد ايمانكم ـ بطاعتهم ثم كفركم ـ مهما دخلت فيكم الدعايات الكتابية الكافرة وأنتم أقوى منهم حجة ، (وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ) خالصة عن كل دس وتجديف ، آيات هي دلالات ذات بعدين على الحق ، إذ تدل بنفسها على انها من الله ، ثم تدل على حظائر القدس ، وهي اتقن الآيات الرسالية على مدار الزمن الرسالي.

ثم (وَفِيكُمْ رَسُولُهُ) وليس فيهم رسولهم ، فأنتم مزودون بالحجتين

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ٥٧ ـ اخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابو الشيخ عن زيد ابن اسلم قال : مرّ شاس بن قيس وكان شيخا قد عسا في الجاهلية عظيم الكفر شديد الضغن على المسلمين شديد الحسد لهم على نفر من اصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه فغاظه ما رأى من ألفتهم وجماعتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية فقال : قد اجتمع ملا بني قيلة بهذه البلاد والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار فأمر فتى شابا معه من يهود فقال : اعمد إليهم فاجلس معهم ثم ذكرهم يوم بعاث وما كان قبله وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الاشعار وكان يوم بعاث اقتتلت فيه الأوس والخزرج وكان الظفر فيه للأوس على الخزرج ففعل فتكلم القوم عند ذلك وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب أوس بن قيظى احد بني حارثة من الأوس وجبار بن صخر احد بني سلمة من الخزرج فتقاولا ثم قال أحدهما لصاحبه ان شئتم والله رددناها الآن جذعة وغضب الفريقان جميعا وقالوا قد فعلنا السلاح السلاح موعدكم الظاهرة والظاهرة الحرة فخرجوا إليها وانضمت الأوس بعضها إلى بعض والخزرج بعضها الى بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية فبلغ ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتى جاءهم فقال : ...

٢٨٦

البالغتين الإلهتين؟؟؟ وهم خواء عنهما ، لا يعيشون إلا خليطا من وحي السماء بوحي الأرض ف (كَيْفَ تَكْفُرُونَ)؟!

ثم (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ) بالله كأصل في كافة الحالات ولا سيما في أجواء التضليل والتجديل ، وبكتاب الله ورسوله دلالة صادقة معصومة على الله لأنه اعتصام بالله ، حيث يذكر بعد (آياتُ اللهِ وَرَسُولُهُ) بل هو الأصل والسبيل الوحيد في الاعتصام بالله ، ثم زيادة الهدى من الله تتبنّاه : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ).

فمن يزعم انه معتصم بالله ، تاركا لكتاب الله ورسوله ، فقد ضل ضلالا مبينا ، ف (إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ ...).

اجل هناك اعتصام بالله دون وسيط وهو ان تدعوا الله ان يهديك ويغفر لك ذنوبك ، ولكنه لا يفيد ما لم تعتصم بالله بوسيط كتابه ورسوله وهما العاصمان بالله عن ورطات الجهل والطغوى الى درجات العلم والتقوى (١) ف «من جعل الهموم هما واحدا كفاه الله ما أهمه من امر الدنيا والآخرة ومن تشاعبت به الهموم لم يبال الله في أي أودية هلك» (٢).

و «أيما عبد أقبل قبل ما يحب الله عز وجل أقبل الله قبل ما يحب ومن اعتصم بالله عصمه الله ومن أقبل الله قبله وعصمه لم يبال لو سقطت السماء على

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ٥٩ ـ اخرج تمام في فوائده عن كعب بن مالك قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أوحى الله الى داود يا داود ما من عبد يعتصم بي دون خلقي أعرف ذلك من نيته فتكيده السماوات بمن فيها إلا جعلت له من بين ذلك مخرجا وما من عبد يعتصم بمخلوق دوني أعرف منه نيته إلا قطعت أسباب السماء من بين يديه وأسخت الهواء من تحت قدميه.

(٢) المصدر اخرج الحاكم وصححه عن ابن عمر قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ...

٢٨٧

الأرض ...» (١) و «المعصوم هو الممتنع بالله من جميع محارم الله» (٢).

فمثلث الاعتصام بالله ينجي اهل الله عن ثالوث الصد عن سبيل الله (فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ. وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٢٢ : ٥٤) (.... فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٢ : ٢١٣).

وهنا (تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ) مما يثبت ان الكتاب والسنة يكفيان في التدليل على الحق المطلق في أجواء التضليلات فضلا عما سواها ، فما دام الرسول فينا فهو الذي يهدينا الى ما خفي عنا من دلالات الكتاب وتأويلاته وإذا ارتحل عنا فسنته الثابتة المعروفة بموافقة الكتاب هي الحجة بعد الكتاب ، ثم لا حجة بعدهما لأي سلب او إيجاب ، في أي قليل او جليل.

ولأن العترة الطاهرة المعصومة هم حملة السنة الصالحة نسمع الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول فيما تواتر عنه : «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي» فمهما صدقنا ما يروى عنه : «وسنتي» بدلا عن عترتي ما كنا نصدق حاملا للسنة إلا الأمناء المعصومين وهم عترته.

ف «سنتي» لأنها سنتي ، ثم «عترتي» لأنهم المأمونون على سنتي ، كما

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٢٧٦ عن اصول الكافي بسند متصل عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ...

(٢) المصدر عن معاني الأخبار باسناده الى حسين الأشقر قال قلت لهاشم بن الحكم ما معنى قولكم ان الامام لا يكون الا معصوما؟ فقال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن ذلك فقال : ...

٢٨٨

وهم الذين يفسرون الكتاب حقه كما أنا الرسول.

ولو أن هناك غير الكتاب والسنة هاديا الى الصراط المستقيم ـ من إجماعات وشهرات ونظرات واجتهادات بقياسات واستحسانات واستصلاحات وأشباهها من غير الكتاب والسنة ـ لجاء ذكره ـ وإن مرة يتيمة او اشارة ـ في الذكر الحكيم.

فانما هو الاعتصام بالله في خضم الضلالات والتضليلات مهما قويت فان الله أقوى والمضلون هم أضعف وأغوى.

وماذا بعد الهدي الى صراط مستقيم ، فالمؤمن كالجبل الراسخ لا تحركه العواصف ولا تزيله القواصف ... وهنا اعتصام فردي للحفاظ على الايمان الفردي ، دفعا لمكائد الصادين عن سبيل الله ، ثم اعتصام جمعي جماهيري للمؤمنين بالله يعصمهم عن المكائد الجماهيرية الكافرة ، ويحافظ على دولة الايمان عالية خفاقة ، تبين الآيات التالية شروطا متأصلة لذلك الاعتصام.

هذه الآيات تبين لنا الشروط الايجابية الأربع والسلبية الثلاث والنتائج المنتوجة على ضوء تطبيقها ومنها (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً ...) :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (١٠٢).

ركيزة أولى بعد الايمان تقوم عليها الجماعة المسلمة تحقيقا لكيانها وتأدية لدورها ، صمودا في وجه أعداءها الألداء ، هي تقوى الله حق تقاته والموت مسلما ، فبدون هذه الركيزة تكون الأمة فالتة في تجمّع جاهل قاحل مهما ملكت من ادعاءات وحملت من أسماء براقة مشرقة ك : «المؤمنون».

(اتَّقُوا اللهَ) ولكن كيف وكم وإلى اين؟ (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) كما وكيفا (وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) مدى وغاية ، أن تصبح حياة الإيمان تقوى حقة

٢٨٩

حقيقية بحذافيرها في كل صغيرة وكبيرة.

وليس ل (حَقَّ تُقاتِهِ) حدّ يتصور ، فكلما أوغل القلب في هذه السبيل تكشفت له آماد وآفاق وجدت له أشواق ، في تيقظ من شوقه الى درجات فوق ما ارتقى.

وقد يروى عن أحق الأتقياء في (حَقَّ تُقاتِهِ) ـ «ان يطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسى» (١) و «لا يتقي الله عبد حق تقاته حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما اخطأه لم يكن ليصيبه» (٢).

إذا فبادروا العمل وخافوا بغتة الأجل فانه لا يرجى من رجعة العمر ما يرجى من رجعة الرزق ما فات اليوم من الرزق رجى غدا زيادته وما فات أمس من العمر لم ترج اليوم رجعته الرجاء مع الجائي واليأس مع الماضي ف (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (٣).

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٢٧٦ عن معاني الأخبار باسناده إلى أبي بصير قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الآية قال : «يطاع ولا يعصى ويذكر فلا ينسى ويشكر فلا يكفر».

وفي تفسير البرهان عن ابن شهر آشوب عن تفسير وكيع عن عبد خير قال سألت علي بن أبي طالب (عليه السلام) عن قوله «يا ايها الذين آمنوا اتقوا الله حتى تقاته ...» قال : والله ما عمل بها غير بيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) نحن ذكرناه فلا ننساه ونحن شكرناه فلا نكفره ونحن أطعناه فلم نعصه فلما نزلت هذه الآية قال الصحابة لا نطيق ذلك فأنزل الله : فاتقوا الله ما استطعتم.

أقول : لا نطيق ـ ان صح ـ يعني تلك الدرجة المعصومة من التقوى ، فالآية الثانية بيان ل (حَقَّ تُقاتِهِ) انه على قدر الاستطاعة فلا يكلف غير المعصوم بتقوى المعصوم.

(٢) المصدر اخرج الخطيب عن أنس قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) : ...

(٣) نور الثقلين ١ : ٢٧٦ عن نهج البلاغة قال (عليه السلام) : ...

٢٩٠

والتقى الحقة هي المحلّقة على ظاهر التقي وباطنه علما واعتقادا وعملا صالحا اسرارا وإعلانا ف : «الدنيا كلها جهل إلا مواضع العلم والعلم كله حجة إلا ما عمل به والعمل كله رياء إلا ما كان مخلصا والإخلاص على خطر حتى ينظر العبد بما يختم له» (١).

وترى كيف يؤمر المؤمنون ان يتقوا الله حق تقاته وهو غير مستطاع لأحد او مستحيل على كل أحد حتى أوّل العابدين محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فضلا عمن دونه من المؤمنين؟.

فهل إنها منسوخة بآية الاستطاعة (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (٦٤ : ١٦)؟ و (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) (٣ : ٢٨٦) و (إِلَّا ما آتاها) (٦٥ : ٧)! فكيف يكلفهم بغير ما يستطيعون ، وما لم يؤتهم من الطاقة حتى يتقون (حَقَّ تُقاتِهِ)؟.

فرواية النسخ (٢) منسوخة ـ لأن فيها نسخا للمحال بالممكن ـ أو مأولة بمعنى التخصيص ، أنها خصت بآية الاستطاعة بقدر المستطاع فحق تقاته من الرعيل الأعلى ، غير المستطاع ممن دونهم ، انه لا يكلف به من لا يستطيعه ، فل (حَقَّ تُقاتِهِ) درجات ، لا يكلف منها أحد إلا قدر استطاعته ، فقد تحلّق (حَقَّ تُقاتِهِ) على كل مدارج «تقاته» حسب المستطاع ، و (مَا اسْتَطَعْتُمْ) بيان

__________________

(١) المصدر في عيون الأخبار باسناده إلى داود بن سليمان القاري عن أبي الحسن الرضا عن أبيه عن آبائه عن أمير المؤمنين (عليهم السلام) انه قال : ...

(٢) الدر المنثور ٢ : ٥٩ ـ اخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : لما نزلت هذه الآية اشتد على القوم فقاموا حتى وردت عراقيبهم وتقرحت جباههم فأنزل الله تخفيفا على المسلمين (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) وفيه عن ابن عباس قال : لم تنسخ ولكن حق تقاته ان يجاهدوا في الله حق جهاده ولا تأخذهم في الله لومة لائم ويقوموا لله بالقسط ولو على أنفسهم وآباءهم وأمهاتهم.

٢٩١

ل (حَقَّ تُقاتِهِ) انه ليس الحق الاول للسابقين في «تقاته» فأين النسخ او التخصيص اللهم إلّا التفسير والتوضيح.

ذلك ، فل (حَقَّ تُقاتِهِ) درجة مستحيلة على الكل وهي كما يحق لساحته تعالى ، واخرى مستطاعة للرعيل الأعلى غير مستطاعة لمن دونهم ، وثالثة مستطاعة لمن دونهم ، ولا تعني (حَقَّ تُقاتِهِ) إلا الأخيرين كلّا في درجته حسب المستطاع.

فلا يعني (حَقَّ تُقاتِهِ) إلا الحق المطلوب منهم ، المستطاع لهم ، كلّ على قدره وقدره ، فكما الايمان درجات كذلك تقوى الايمان درجات من أعلاها كما لأول العابدين الى أدناها كما لآخر العابدين وبينهما عوان من المتقين.

وعلّ الخطاب هنا في أعلاه موجه الى المعصومين (عليهم السلام) كما في «وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم ... ملة أبيكم ابراهيم» (٢٢ : ٧٨).

ثم المستحيل على العباد هو معرفة الله حق معرفته وعبادته حق عبادته ، واما تقواه حق تقاته فكما قال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) «ان يطاع فلا يعصى وان يذكر فلا ينسى» وهذا يطم في خضمّه كل مراتب التقوى الحقة حسب مختلف القابليات والفاعليات ، شاملة لحق العدالة والعصمة ، ثم العاصي المقصر خارج عن نطاق الآية ، والمعصومون هم في قمتها العالية.

ولا يعني «يذكر فلا ينسى» أن المؤمن مأخوذ بذكره تعالى أبدا فانه غير مستطاع إلا للمعصومين حيث الغفلات المتاهة تخلّله ، والشهوات المباحة تتوسطه ، والنوم والإغماء والتقية والمرض تحول دونه.

فانما أمروا أن يتقوا الله حق تقاته كما يستطيعون ، وليهابوا بلوغ أدنى حدود المعصية ، ويقفوا عن اولى مراتب السيئة ، فلا يقتربوها كيلا يقترفوها ،

٢٩٢

فالمعاصي حمى الله ومن حام حوم الحمى أوشك ان يوقع فيها ، فاجعل بينك وبين الحرام حاجزا من الحلال ، فانك متى استوفيت جميع الحلال تاقت نفسك الى فعل الحرام ، وكلما كثرت الزواجر كانت على المعاصي اردع ، والى فعل الطاعات أحوش واجذب.

ذلك ـ فمن جانب جميع ما نهاه الله عنه دون مقارفة ولا مقاربة ، وأتى بجميع ما امره الله به ، وكل ذلك قدر المستطاع دون إهمال ولا تقصير ، فقد اتقى الله حق تقاته.

وترى بعد كيف (وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) والموت مسيّر لا مخير؟ وكما (إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (٢ : ١٣٢).

هنا النهي موجه الى الموت دون إسلام ، ناظرا الى عاقبة الأمر لمن اتقى الله حق تقاته ، فلا تكفي هذه التقوى الحقة لفترة من حياة التكليف ، بل والاستمرار فيها تكليف فوق تكليف ، ومهما كان الموت مسيرا ، فالموت حالة الإسلام مخيّر ، أن يستمر التقي في تقواه ، او تكون كل لاحقة منه خيرا من أولاه ، تقدما على طول خط الحياة في تقوى الله ، دون تنازل عن حدها المستطاعة ولا وقفة عليه.

وفي صيغة أخرى إن الإنسان مكتوم عنه أجله أيا كان لما في كتمانه من مصلحة تربوية ، فلا يعرف متى تكون منيّته ، وعلى أي جنب صرعته ، فحين ينهاه الله أن يموت إلا مسلما فقد ألزمه في كل حال على ذلك الإسلام ، إذ لا يأمن على أية حال أن يموت عبطة او هرما.

ذلك ومن جملة كمال إسلام المؤمن التوبة واستدراك الذنوب الفارطة ، فقد الزمه سبحانه بما أمره ونهاه ـ مع التمسك بفرائض الأوقات وطاعاتها

٢٩٣

واجتناب محارمه ومقبحاته ـ ان يستدرك ماضيه بتوبته لكيلا يموت إلا وهو مقطوع بإسلامه السليم.

ثم هنا خطاب المؤمنين ان يتقوا الله حق تقاته مما يشي بان التقوى أخص من الايمان ، ومن ثم (إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) غاية لتقوى المؤمنين مما يوضع أنه الإسلام بعد الإيمان بوسيط التقوى ، فليس هو الإسلام قبل الايمان ولا مع الايمان وتقواه ، بل هو الإسلام لله خالصا مخلصا نتيجة لتقوى الإيمان ، إذا فالإسلام الأول وهو الإقرار ذريعة الايمان والايمان ذريعة التقوى والتقوى ذريعة للإسلام الثاني فهو ذروة الايمان والتقوى ونتيجة لهما.

(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (١٠٣).

إن ذلك الايمان والتقوى والإسلام لا تصح إلا أن تتبنّى اعتصاما بحبل الله جميعا ، فبدونه ليست هي عاصمة لحامليها ولا معصومة عن الاخطاء الموجهة إليها الهاجمة عليها.

والحبل حبلان مادي ومعنوي ، سمي به لأن المتعلق به ينجو مما يخافه كالمتشبث بالحبل إذا وقع في غمرة أو ارتكس في هوّة ، وكذلك الحبل العهد وثيقا حيث يستأنس بها من المخاوف ، والحبال يستنقذ بها من المتالف وهذا هو التشابه بينهما.

فكلما كان صاحب الحبل أعلم وأقوى فحبله أعصم وأنجى ، فحبل الله ينجي المتمسك به من كلّ عطب وهوّة ويعصمه عن كل خوفة.

لقد امر الله المؤمنين ـ ككل ـ ان يتقوا الله حق تقاته ولا يموتن ألا وهم مسلمون ، فلا بد ـ إذا ـ من حبل رباني يعتصمون به في حق تقاته ، فالتقوى

٢٩٤

دون حبل هي قد تكون طغوى فان الله يحب ان يعبد كما يحب.

والاعتصام هو طلب العصمة وهي درجات ثلاث ، عصمة بشرية دون حبل الله ، وعصمة غير المعصومين بحبل الله ، وعصمة المعصومين بحبل الله.

فلان العصمة البشرية بالفطرة والعقلية والفكرة لا تكفي لها هديا الى صراط مستقيم ، ثم العصمة المطلقة خاصة بالمعصومين ، لذلك يؤمر المؤمنون ان يعتصموا بحبل الله جميعا حتى يحصلوا على عصمة دون الطليقة ، فكما المعصومون يعصمون علميا بحبل الله ، كذلك من دونهم ، كل على قدره.

الاعتصام بحبل الله جميعا يعصم المعتصمين فطريا وعقليا وفكريا ، علميا وعقيديا وخلقيا ، سياسيا وحربيا واقتصاديا وسلطويا ، فهذه العشرة الكاملة من العصمة فردية وجماعية مضمونة للمعتصمين بحبل الله على أقدارهم (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى).

وذلك الاعتصام يعتمد على أركان : المعتصم ـ المعتصم به ـ المعتصم عنه ـ المعتصم لأجله.

فالمعتصم هم المؤمنون على درجاتهم من أعلى الايمان كما المحمديون (عليهم السلام) ، وإلى أدناه وبينهما متوسطون في الإيمان ، حيث الكل مأمورون بتقوى الله حق تقاته ، ومن حقها التقوى الجماعية بعد الفردية.

والمعتصم به هو حبل الله ، وهو وحي الله الأصيل غير الدخيل.

والمعتصم عنه هو كافة المزالق في الحياة الفردية والجماعية.

والمعتصم لأجله الحصول على كامل مرضات الله في معرفته وطاعته وعبادته.

وعلى هذه الأركان الأربع يتبنى عرش الايمان الصالح الصامد.

وللاعتصام بحبل الله شروط ثلاثة هي الاعتصام جميعا ـ للمعتصمين

٢٩٥

جميعا ـ بحبل الله جميعا ، فان «جميعا» تتعلق بهذه الثلاث جميعا.

و (بِحَبْلِ اللهِ) على وحدته تعم الحبل الرسولي الى الحبل الرسالي ، وحدة ثنوية وثنوية ووحدوية ، فان محمدا هو القرآن والقرآن هو محمد ، طالما كان القرآن بنفسه أطول وأدوم وأكمل وأعظم من محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فهما وحدة متماسكة متجاوبة في كافة الحقول دونما اي أفول إلّا شخص الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ولكن سنته باقية كما القرآن ، مهما لم تتبين إلا بالقرآن كما القرآن يتبين بها تفسيرا باطنيا وتأويلا.

وكما المعصوم بالروح القدسي والعصمة الربانية يعتصم علميا بالقرآن ، كذلك سائر المعتصمين بالقرآن يعتصمون به على درجاتهم في العصمة البشرية وفرقان من الله (إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً).

فلان القرآن هو طليق النور من نور السماوات والأرض ، فالاستنارة به للمعتصمين به تعصمهم على أقدار أنوارهم البهية المرضية.

ليس القرآن كتاب العلوم الرسمية التي تفتح أبوابها لكل شارد ومارد ، إنما (أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ) فلا تفتح أبوابه المعنية في عناية الله إلّا لأهل الله.

وخير المخارج عن المضايق هي مخارج الآيات و «من يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب .. قد جعل الله لكل شيء قدرا» (٦٥ : ٢).

فإتقان اللغة والأدب وإتقان التدبر والتفكير في استفسار الآيات بعضها ببعض ، إن ذلك كله راحلة لسفر القرآن والزاد هو التقوى التي بها توصل إلى مرادات الله جل وعلا.

ثم وجميعا في جمعية الاعتصام نفسه تعني جميع الطاقات والامكانيات التي تصلح لذلك الاعتصام حيث تصلحه.

فعلى كل مؤمن بالرسالة الاسلامية تجميع كل طاقاته في مهام أوقاته

٢٩٦

وأحسنها وانضرها وانظرها ، تكريسا لها كلها للاعتصام بحبل الله ، تقديما له على سائر الحبال وكما قال : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ).

ذلك والى تدبر واسع حول آية الاعتصام بحول الله الملك العلام.

ولنعرف «حبل الله» جيدا جادا لكي نتمكن من الاعتصام به جميعا ولا نتفرق عنه او فيه؟ «حبل الله» لا تحمله إلّا هذه الآية اليتيمة ، اللهم إلّا (بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) (٣ : ١١٢) وقد تعني (بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ) حبل الله هنا مهما اختلفا محتدا في شريعتي القرآن والتوراة.

فقد يخيل الى البسطاء انه غير مفسّر في القرآن ، والقرآن هو ككلّ حبل الله ، إذ لا وسيط ـ منذ بزوغ الإسلام حتى القيامة الكبرى ـ بين الله وبين المرسل إليهم إلا القرآن كأصل ثابت لا عوج له ولا حول عنه ولا أفول لشمسه ، ومن ثمّ الرسول وذووه المعصومون (عليهم السلام) تفسيرا له وتأويلا ، وحبل القرآن أتم وأدوم وأكمل وأعظم ، والحبل الظاهر الدائم هو المحور الأصيل لواجب الاعتصام على مدار زمن التكليف ، كما انه الحبل للرسول والائمة من آل الرسول (عليهم السلام).

فهو الصراط المستقيم والنور المبين وحجة الله على الخلق أجمعين والشهيد لرب العالمين ، فمواصفات القرآن في نفسه بأسمائه وفي آيات منه تؤكد لنا انه حبل الله المتين وسببه الأمين لا يعوج فيقام ولا يزيغ فيستعتب ، وكما يروى عن ثاني الحبلين رسول القرآن (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قوله : «كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء الى الأرض» (١) و «ان هذا القرآن سبب طرفه بيد

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ٦٠ ـ اخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ...

٢٩٧

الله وطرفه بأيديكم فتمسكوا به فانكم لن تضلوا ولن تضلوا بعده أبدا» (١) و «إني تارك فيكم كتاب الله هو حبل الله من اتبعه كان على الهدى ومن تركه كان على الضلالة» (٢).

ذلك حبل الله الأصيل ، ومن ثم الرسول البديل الدليل على الله الجليل ، ثم الذين يحملون ذلك الروح الرسالي المعصوم ، الذين يقال عنهم : «أولنا محمد ـ أوسطنا محمد ـ آخرنا محمد وكلنا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)» فإنهم هم الصادرون عن محمد كما محمد صادر عن الله في كتاب الله وسنته الشارحة لكتاب الله.

صحيح أن (بِحَبْلِ اللهِ) بإفراده يعني حبلا واحدا لا ثاني له ، وإلا لقال حبلي الله أو حباله ، ولكن محمدا (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هو القرآن كما القرآن هو محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فرقدان لا يفترقان (٣) وقد أشير إليها قبل بعد (وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ) مما يبرهن ثنوية الحبل

__________________

(١) المصدر اخرج ابن أبي شيبة عن أبي شريح الخزاعي قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ...

وفي معاني الأخبار عن السجاد (عليه السلام) في حديث : وحبل الله هو القرآن.

(٢) المصدر اخرج ابن أبي شيبة والطبراني عن زيد بن أرقم قال خطبنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال : اني ...

(٣) نور الثقلين ١ : ٢٧٧ في كتاب معاني الأخبار باسناده إلى موسى بن جعفر (عليهما السلام) عن أبيه جعفر بن محمد عن أبيه محمد بن علي عن أبيه علي بن الحسين (عليهم السلام) قال : الامام منا لا يكون إلا معصوما وليست العصمة في ظاهر الخلقة فيعرف بها ولذلك لا يكون الا منصوصا ، فقيل له يا بن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فما معنى المعصوم؟ فقال : هو معتصم بحبل الله وحبل الله هو القرآن لا يفترقان إلى يوم القيامة والإمام يهدي الى القرآن والقرآن يهدي الى الإمام وذلك قول الله (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ).

٢٩٨

حال وحدويته ، وكذلك الآيات الآمرة باتباع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مصرحة بهذه التثنية الموحدة الموحدة.

لذلك لا يصدق أي حديث يروى عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) او حملة علم الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلّا إذا وافق كتاب الله ـ أم لأقل تقدير ـ لم يخالفه ، شريطة اطمئنان بصدوره عنهم بوجه صالح دونما تقية.

فلذلك نجد في الحديث المتواتر عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ان حبل الله هما الثقلان ، أحدهما أطول ـ اكبر ـ أفضل ـ أول ـ أعظم ـ وهو كتاب الله والآخر الأصغر هم عترة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) رواه بمخمّس الافضلية للكتاب الفريقان في قمة التواتر من أحاديث الإسلام عن زهاء ثلاثين من اصحاب الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ونفر من الصحابيات عنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) (١).

__________________

(١) ففي الدر المنثور ٢ : ٦٠ ـ اخرج احمد عن زيد بن ثابت قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إني تارك فيكم خليفتين كتاب الله عز وجل حبل ممدود ما بين السماء والأرض وعترتي اهل بيتي وانهما لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض ، وفيه اخرج الطبراني عن زيد بن أرقم قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إني فرط لكم وانكم واردون علي الحوض فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين قيل وما الثقلان يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال : الأكبر كتاب الله عز وجل سبب طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم وفتمسكوا به ولا تضلوا والأصغر عترتي وانهما لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض وسألت لهما ذاك ربي فلا تقدموهما لتهلكوا ولا تعلموهما فإنهما اعلم منكم ، وفيه مثله أخرجه ابن سعد وأحمد والطبراني عن أبي سعيد الخدري عنه (صلى الله عليه وآله وسلم).

وفي جامع أحاديث الشيعة لاستاذنا الأقدم الا علم المغفور له آية الله العظمى السيد البروجردي نقلا عن العقبات انه روى حديث الثقلين نفر كبير من الصحابة ثم ذكر اسماء كل واحد منهم من ـ

٢٩٩

__________________

ـ المائة الأولي إلى الثالثة عشر ، في كل مائة نحوا من عشرين الى ثلاثين رجلا من كبار أحبار الحديث وإليكم نماذج من اسمائهم : منهم علي بن أبي طالب (عليه السلام) أخرجه عنه خمسة من الأعاظم مثل الطبري والسيوطي ، ومنهم الحسن بن علي (عليهما السلام) وسلمان وأبو ذر رواه عنهم ثمانية ، ومنهم ابن عباس وأبو سعيد الخدري رواه عنهما تسعة وأربعون رجلا ، ومنهم جابر بن عبد الله الأنصاري رواه عنه ثلاثون رجلا ، ومنهم ابو الهيثم بن التيهان رواه عنه خمسة وأبو رافع مولى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وحذيفة بن اليمان وحذيفة بن السيد أخرجه عنه إحدى وعشرون رجلا وخزيمة بن ثابت ذو الشهادتين روى عنه خمسة وزيد بن ثابت روى عنه ستة وعشرون رجلا ، وأبو هريرة روى عنه ستة وعبد الله بن حنطب ثلاثة ، وجبير بن مطعم ثلاثة ، وبراء بن عازب وانس بن مالك وطلحة بن عبيد الله التميمي وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعمرو بن العاص وسهل بن سعد الأنصاري خمسة ، وعدي بن حاتم وعقبة بن عامر وأبو أيوب الأنصاري وأبو شريح الخزاعي وابو قدامة الانصاري وضميرة الاسلمي ، روى حديثهم الاجله والأكابر من أحبار الحديث من إخواننا السنة وعامر بن ليلى بن حمزة تسعة ، ومن هؤلاء الرواة صحابيات مثل الصديقة الطاهرة سلام الله عليها وام سلمة رواه عنهما ستة وام هاني اخت الامام علي (عليه السلام) رواه عنها اربعة.

أقول : وقد ذكر المرجع الديني السيد شهاب الدين المرعشي النجفي في سفره العظيم «ملحقات احقاق الحق ، أسماء ممن اخرج عن هؤلاء في ج ٩ ص ٣٠٩ ـ ٢٧٦ ونختصرهم كالتالي :

١ حديث ابو سعيد الخدري : روى عنه جماعة منهم ابن سعد في الطبقات الكبرى (٢ : ١٩٤) واحمد بن حنبل في المناقب والطبراني في المعجم الصغير (٧٢) والمعجم الكبير (١٢٧) وابن المغازلي في المناقب والنيسابوري في الرسالة القوامية في مناقب الصحابة (مخطوط) وموفق بن احمد في مقتل الحسين (١٠٤) ومحب الدين الطبري في ذخائر العقبى (١٥) والحمويني في فرائد السمطين (المخطوط) والزرندي في نظم درر السمطين (٢٣٢) والهيثمي في مجمع الزوائد (٩ : ١٦٢) والسيوطي في احياء الميت المطبوع بهامش الاتحاف (١١١) وفي الدر المنثور ـ كما نقلناه ـ والمتقي الهندي في كنز العمال (١ : ٣٤٢) والعسقلاني في المواهب اللدنية (٧ : ٧) والبدخشي في مفتاح النجا (المخطوط) ومحمد الصبان في اسعاف الراغبين المطبوع بهامش نور الأبصار (١٢٢) والقندوزي في ينابيع المودة (٢١) وزيني دحلان في السيرة النبوية المطبوع بهامش السيرة الحلبية

٣٠٠