الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٥

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٨

والقدر المعلوم من عدم قبول التوبة هو الموت على الكفر :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ) (٩٠).

فازدياد الكفر بعد الارتداد عن إيمان دليل العناد في اللّاإيمان فهم المضلّلون ـ إذا ـ لكتلة الايمان و (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) لأكيد الكفر المعاند ، المضلل للبسطاء.

وليس يعني (ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً) ـ فيما يعنيه ـ ازدياد الزمان إلى وقت الموت ، حيث تتكفله الآية التالية لها.

فكما لا تقبل توبة الكافر حين يموت على كفره ، كذلك حين يزداد كفرا بعد ارتداده ، ثم تقبل توبات الآخرين على شروطها :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) (٩١).

فاستحالة الملكية ل (مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً) واستحالة الافتداء به لو ملك ضنّة بتلك الثروة الهائلة ـ وقد سئلوا ما هو أيسر من ذلك فضنوا (١) ـ ثم وعدم قبولها منهم لو افتدوا ، ذلك المثلث من الاستحالة يفسر قدر الإحالة في «لن» ف (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ

__________________

ـ بالذي يخصص الآية بنفسه فإنما العبرة بعموم الآية دون خصوص المورد ، ولو كان الحكم مختصا بالمرتد مليا لاختص به نصا أو ظاهرا.

(١) المصدر ـ أخرج عبد بن حميد والبخاري ومسلم والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردوية والبيهقي في الأسماء والصفات عن أنس عن النبي (ص) : قال يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له : أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبا أكنت مفتديا به؟ فيقول : نعم فيقال : لقد سئلت ما هو أيسر من ذلك وذلك قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ ...).

٢٤١

عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٥ : ٣٦).

و «أولئك» الأنكاد البعاد (لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) في الآخرة (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) شفعاء وسواهم ـ ينفعهم نصرهم لو نصروهم.

وترى توبة المرتد الفطري كما الملي تقبل ـ ان تاب وأصلح ـ ظاهرا كما تقبل باطنا؟ طليق النص (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يقتضي طليق القبول في بعدية ، فتقبل توبة الفطري ظاهرا كما الباطن كقبول توبة الملي.

فانما الموت على الكفر هو الذي يقطع التوبة عن قبولها وتحقّق مفعولها : (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٢ : ٢١٧).

فهناك (كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ) لا تختص بالملي حيث الفطري قد يكفر بعد ايمانه كما الملي ، و «ايمانهم» هو واقعه قبل الكفر فطريا ومليا.

وكذلك هنا «عن دينه» الكائن أيا كان ، مليا او فطريا.

اجل قد لا تقبل توبة المرتد وان تاب بعد ارتداده مليا او فطريا ، وهو المكرّر لارتداده المستزيد في كفره : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً) (٤ : ١٣٧).

وذلك لضخامة كفره ووخامته ، حيث لا يجبرها شيء ، و «لم يكن» نفي مؤكد مؤبد لا يقبل اي استثناء ابدا (١).

__________________

(١) السيد الشريف الرضي في حقائق التأويل لمتشابه التنزيل ص ١٦١ وقد روي أن هذه الآيات نزلت في قوم ارتدوا مع الحارث بن سويد ابن الصامت الأنصاري ولحقوا بمكة ثم راجع الحارث الإسلام ووفد إلى المدينة فتقبل النبي (ص) توبته فقال من بقي من أصحابه على الردة : نقيم بمكة ما أردنا فإذا صرنا (عدنا) إلى أهلنا رجعنا إلى المدينة وأظهرنا التوبة فقبلت منا كما قبلت من الحارث قبلنا.

٢٤٢

فكما لا تقبل توبة المرتد الذي يموت وهو كافر ، كذلك الذي يزداد كفرا بارتداده مرتين ، وهما يعمان الفطري والملي ، ثم من سواهما تقبل توبته فطريا او مليا شريطة الإصلاح لما أفسد بارتداده.

ولا ينافي عدم قبول التوبة في الدنيا أو الآخرة وعده تعالى ـ طليقا ـ أنه يقبلها : (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) (٤٢ : ٢٥).

إذ تعني خاصة التوبة بشروطها دون عامتها الفوضى ، فهي غير مقبولة بعد الموت إطلاقا ، ولا قبل الموت إلا إذا كانت نصوحا مصلحا دون ازدياد الكفر بعد كرور الارتداد ، كما تدل عليها آياتها الأخرى فإن القرآن يفسر بعضه بعضا وينطق بعضه على بعض.

تلحيقة بقول فصل حول الواو في (وَلَوِ افْتَدى بِهِ) :

لقد أشبعنا الكلام بطيات الفرقان حول ان القول بالزائد في القرآن زائد من القول ، رغم ما تورط فيه ضعفاء العقول.

فمن قيلهم ان الواو هنا زائدة لا تعني اي عناية ، وآخر أنها مقحمة كما في (حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) حيث تعني (فُتِحَتْ أَبْوابُها).

والجواب ـ ككل ـ تحليقا على كل ما يزعم زيادته في القرآن ـ أنه لا شيء من كلمات وحروف جاءت في القرآن إلا لمعنى مفيد ، مهما كان تجويدا لظاهر البيان كما الباء في خبر «ليس» أما أشبه.

فالزيادات والنقائص في الكلام إنما يضطر إليها للمضطرين فيها لضرورة قافية شعرية أماهيه ، مدا للمقصور وقصرا للممدود ، او زيادة زائدة ونقيصة بائدة ، فحين تهجم القافية ويغل الزمام عن يد الشاعر يضطر الى زيادة او نقيصة.

٢٤٣

فأما إذا كان الكلام محلول العقال ، مخلوع العذار ، ممكّنا من جري المضمار ، غير محجور بينه وبين غاياته ، فان شاء صاحبه أرسل عنانه فخرج جامحا ، أو شاء قدع لجامه فوقف جانحا ، لا يحصره أمد دون أمد ، ولا يقف به حد دون حد ، فلا تكون الزيادة فيه إلا عيّا واستراحة ولغوبا وإلاحة.

ولكن كلام الله مرفّع عن كل إلاحة ولغوب ، فانه المتعذر المعوز ، والممتنع المعجز.

ذلك ، بل قد يرتفع عن ذلك كلام الفصحاء فضلا عما هو أعلى وهو في القمة العليا! ... إننا نجد كلام الإمام علي أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو بعد النبي العظيم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أبلغ البلغاء وأفصح الفصحاء ، نجده على علو طبقته وحلو طريفته وانفراد طريقته ، إذا حوّل ليلحق غاية من أداني غايات القرآن وجدناه ناكصا متقاعسا ، ومقهقرا راجعا ، وواقفا بليدا ، وواقعا بعيدا ، على أنه كلام يسبق كل المجارين ، عاليا على المسامين.

ذلك! فضلا عن كلام من دونه فإذا قيس إليه وقرن به شال في ميزانه ، وقصر عن رهانه ، وصار بالإضافة إليه قالصا بعد سبوغه ، وقاصرا بعد بلوغه ، وليصدق قول أصدق الصادقين : (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (٤١ : ٤٢) (١).

ثم الواو في (وَلَوِ افْتَدى بِهِ) تعني ـ فيما تعنيه ـ عدم حصر «لن تقبل» على اللاافتداء ، كأنه إن لم يفتد بملء الأرض ذهبا ـ لو ملكه هناك ـ «لن تقبل توبته» فيقول هنا (وَلَوِ افْتَدى بِهِ) فالمفتدي وسواه سواء في (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ).

__________________

(١) بين الهلالين ملتقطات من كلام السيد الشريف الرضي في كتابه حقائق التأويل في متشابه التنزيل ، مع زيادات أو نقيصات منا.

٢٤٤

(لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) (٩٢).

«لن» تحيل نيل البر أيا كان (حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) وأما غير المحبوب مبغوضا كان او عوانا بينهما فلا ينيل إنفاقه خيرا ، وعلّ العوان ـ ايضا ـ داخل في نطاق «ما تحبون» مهما كان أدناه فان قضية الملك حبه مهما لم يكن مرغوبا والإنفاق هنا هو في سبيل الله إذ لا خير في غير سبيله تعالى.

و «ما تحبون» يعم النفس والنفيس من النواميس الخمس : نفسا وعقلا ودينا ومالا وعرضا أن ينفق كلّ في سبيل الله ، إما عن بكرته كالتضحية بالنفس والمال ، ام مع الحفاظ على أصله كالقوات النفسية والفوائد المالية التي تنفق في سبيل الله ، وكذلك الإرشادات العقلية والعلمية ، وتعريض العرض ـ فيما يجوز ـ للحفاظ على عرض أعرض كعرض الدين والديّنين ، وكل ذلك تشمله (حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ).

ذلك وكما «مما تحبون» الشرعة التي تعود تموها ان تنفقوها في سبيل الله ومرضاته وتبدلوها بشرعة محكّمة بعدها.

ولأن للمحبوب درجات كذلك لنيل الخير في إنفاق الدرجات درجات ، كما والإنفاق في كمه وكيفه ومورده درجات.

ولقد أشار الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الذي ينفق مما يحب ان يجعله في قرابته الفقراء ، فإنه أحب من غيرهم (١) وهذا «مما تحبون» موردا.

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ٥٠ أخرج جماعة عن أنس قال كان أبو طلحة أكثر أنصاريّ بالمدينة نخلا وكان أحب أمواله إليه بيرحاء وكانت مستقبلة المسجد وكان النبي (ص) يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب فلما نزلت (لَنْ تَنالُوا ..) قال أبو طلحة يا رسول الله (ص) إن الله يقول : لن تنالوا البر ـ

٢٤٥

ومن الإنفاق الأحسن كيفية ما كان دون سؤال ولا سيما بالنسبة للوالدين ، ف «الإحسان أن تحسن صحبتها وأن لا تكلفها أن يسألاك شيئا مما يحتاجان إليه وإن كانا مستغنيين ...» (١).

ومما تنفقون مادة طيبات المكاسب فان «تحبون» هو الحب على ضوء الإيمان : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) (٣ : ٢٦٧).

هنا «مما تحبون» دون «ما تحبون» تبعّض الإنفاق كيلا تضلوا حاسرين عما تحبون ككل ، والرواية القائلة «ما تحبون» (٢) تخالف النص هنا ، وتخالف هنالك الآيات في الإنفاق العوان بين الإفراط والتفريط ، ولم يكن إطعام الطعام من أهل بيت الرسالة القدسية مسكينا ويتيما وأسيرا ، إطعاما لكل المحبوب إذ

__________________

ـ حتى تنفقوا مما تحبون وان أحب أموالي إلي بيرحاء وانها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله فضعها يا رسول الله حيث أراك الله فقال رسول الله (ص) بخ ذاك مال رابح ذلك مال رابح وقد سمعت ما قلت وإني أرى أن تجعلها في الأقربين فقال أبو طلحة أفعل يا رسول الله (ص) فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه ، وفيه نقل آخر قال (ص) : اجعله في فقراء أهلك.

وفيه أخرج جماعة عن محمد بن المنكدر قال لما نزلت هذه الآية (لَنْ تَنالُوا ..) جاء زيد بن حارثة بفرس له يقال لها شبلة لم يكن له مال أحب إليه منها فقال : هي صدقة فقبلها رسول الله (ص) وحمل عليه ابنه أسامة فرأى رسول الله (ص) ذلك في وجه زيد فقال إن الله قد قبلها منك ، وفي نقل آخر فكان زيد أوجد في نفسه فلما رأى ذلك منه النبي (ص) قال : أما إن الله قد قبلها.

(١) نور الثقلين ١ : ٣٦٣ في أصول الكافي بسند متصل عن أبي ولاد الحناط قال : سألت أبا عبد الله (ع) عن قول الله عز وجل (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) ما هذا الإحسان؟ قال : الإحسان ... أليس الله عز وجل يقول : (لَنْ تَنالُوا ...).

(٢) المصدر في روضة الكافي بسند عن يونس بن ظبيان عن أبي عبد الله (ع) (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) هكذا فاقرأها.

٢٤٦

كان عندهم ما يبدلوا به عنه وان على صعوبة فأبدلهم الله بأحسن منه.

وترى ما هي رباط الآية بما قبلها ، المنددة بالمتصلبين على القومية الكتابية ، والمتلونين في الايمان والكفر؟

علّها لأن التجاهل والتنازل عما هم عليه من شرعة انتقالا إلى شرعة أخرى ولا سيما إلى نبي غير إسرائيلي ، هو معدود في عداد الإنفاق مما تحبون ، فإيثار حب الله على ما تحبون يقتضي الانتقال عن كل شرعة سابقة ـ مهما كانت طولها وطولها ـ إلى الشرعة الأخيرة.

وذلك مما يوسّع نطاق الإنفاق المحبوب في الآية ، دون حصر في إنفاق المال حسرا عن سائر الإنفاق.

إن انفاق المحبوب في حب الله يختص بما يمكن إنفاقه مشكورا محبورا ، وأما غير الممكن او المنكور والمحظور فلا ، فانفاق النفس في سبيل الله فيما يتوجب أو يرجح ، وانفاق المال كذلك عوانا بين الإفراط والتفريط ، وانفاق العقلية الصالحة والعلم النافع والعظة الحسنة أماهيه من إنفاقات صالحة ، إنها كلها مشمولة لطليق الآية دونما تحدّد بحد إلّا ما حدده الله.

فالإنفاق مما تحب ـ ولا سيما إذا كان من أحب ما تحب ـ ذلك رمز إلى انك تؤثر حب الله على كل حب ، مهما كان ما تحب شيئا قليلا ضئيلا ، كما ان الإنفاق مما لا تحب رمز الى عدم الإيثار وانك لا تفضّل حب الله على حبّك مهما كان ما لا تحب شيئا كثيرا محبوبا لمن تنفق ، اللهم إلا ألّا تجد إلّا ما تنفقه ، وأنك في طويتك تفضل محبوب ربك على محبوبك.

إذا فإطعام علي وفاطمة والحسنين كسير خبزهم هو من أفضل الإنفاق : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) (٧٦ : ٨) وفي نفس الوقت إطعامك طعاما أفضل منه وأنت لا تحبه ليس من أفضله ولا فضيله ،

٢٤٧

اللهم إلّا أن يحبه المنفق عليه ولذلك ينفقه عليه المنفق.

فالإنفاق الصالح يرتكن أولا على الحب الأفضل ، ثم الإنفاق من الأفضل أو الفضيل دون الرذيل ثم الكيفية الفضلى.

ذلك ، (وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ) في حبه وكيفه وكمه ومورده (فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) لا عليكم أن تبدوه إلا إذا لزم الأمر بعيدا عن الرئاء والسمعة.

ذلك ، فهل ترى الذي ينفق مما لا يحبه ولا يبغضه لا ينال خيرا وقد أنفق؟ انه ينال خيرا إذا تمت اركان السماحة والرجاحة في الإنفاق ، ولكنه لن ينال البر ككل حتى ينفق مما يحب ، والبر هو واسع الخير من البرّ لا اصل الخير ، وهنا بر بديل بر ، حيث الإنفاق مما تحب بر تنال به البر (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى).

فالمنفق في سبيل الله إذا لم يأت بمحظور في إنفاقه مأجور قدر إنفاقه ، ولكنه لن ينال البر حتى ينفق مما يحب.

وفي الإنفاق في سبيل الله مما تحبون تحرّر من شح النفس على النفس والنفيس ، فالمنفقون مما يحبون يصعدون في ذلك المرتقى الراقي السامق الوضيء أحرارا خفافا طلقاء ، لا يرتبطون بشيء إلّا الله والحب في سبيل الله ، وهم ينالون البر والخير الواسع حسب السعة في إنفاقهم مما يحبون فطوبى لهم وحسن مآب.

وترى حين تحب شيئا يكرهه الله ، او تكره شيئا يحبه الله ، فهل تنال البر في انفاق ما تكرهه في حب الله او ما تحبه في كره الله؟.

للمحبوب هنا بعدان اثنان (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) ويحبه الله ، وكون الإنفاق في سبيل الله هو قضية الإيمان بالله يجعل محبوب الله محبوبا لنفسه ، ومحبوبه ليس إلّا محبوبا لله ، وهنا زاوية ثالثة للمحبوب ان يحبه المنفق

٢٤٨

عليه حتى يتم مثلث الحب فيتم نيل البر من الله.

فمن ينفق في الله ما يكرهه ويكرهه الله يكرهه الله : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) (١٦ : ٦٢).

فالمحور الأصيل في نيل البر «ما تحبون» كمؤمنين ، وقد تشمل الزاوية الثالثة للمنفق عليه كما المنفق في سبيله ، فحين تحب شيئا يحبه الله ولا يحبه المنفق عليه فعليك ألا تحب إنفاقه ، فليست مادة الحب ما تحبه ـ فقط ـ لنفسك ، بل ولمن تنفق عليه.

(وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ) قد تعني مثلثة الجهات ، «على حبه لهم ـ على حبه للمطعم ـ وعلى حبه لله وحب الله» وذلك أحسن الإنفاق.

ويتلوه ان تنفق ما لا تحبه ويحبه الله إنفاقا ويحبه المنفق عليه سؤلا.

والمحور الأصيل في «على حبه» هو حب الله وله درجات أعلاها مثلث الحب كما في (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ).

فما لم يكن الإنفاق على حب الله (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ) فيه وليس المؤمن ليحب ما لا يحبه الله.

إذا ف «مما تحبون» تعني ما تحبون في محبة الله وتحبونه ـ كذلك ـ لأهل الله ، وكلما كان الإنفاق أحب إليكم كمؤمنين بالله كان البر أبر لكم من الله.

(كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٩٣).

أترى ما هي الرباط بين هذه الآية وما قبلها ، ولا دور للطعام هنا سلبا وإيجابا على الإطلاق؟.

٢٤٩

علّها ـ بمناسبة الحوار الاسلامي الكتابي حول الشرعة الجديدة ـ وجه الى الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) اعتراض على حلية لحوم الإبل والبقر والغنم بكل أجزاءها ، ناقمين عليه ذلك التحليل الطليق والتوراة يحرمها ، فأجاب (كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ ...).

وهنا «كل الطعام» وليس «كل الطعام» لتعني الطعام المعروف حلّه في شرعة الإسلام ـ وطليق الحل هو مصب اعتراضهم على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ او والطعام الحل في الشرعة الابراهيمية فان بني إسرائيل كسائر المكلفين ـ هم وأنبياءهم ـ كانوا أتباع الشرعة الابراهيمية (مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ) و «كل الطعام» الحل في شرعة ابراهيم هو الحل في شرعتنا ، إذ لا تناسخ شرعيا في حل الطعام إلا عقوبيا كما حرم قسم منه في شرعة التوراة.

وهنا يتهدم صرح زعمهم أن النسخ مستحيل ، حيث خيّل إلى اهل التوراة انها هي الشرعة الإلهية منذ البداية الى النهاية ، فلا شرعة ـ إذا ـ بعدها كما لم تكن قبلها ، إلا إعدادات لها ، وتخيل ثان ان ما حرم عليهم من الطيبات لم تكن عقوبة.

وقد يروى ان إسرائيل حرّم على نفسه لحم الإبل ـ أماذا ـ مما فيه عروق إذ كان يهيج عليه وجع الخاصرة او نذر إن عافاه الله من وجعه ألا يأكل ما فيه عرق حيث تأذى به(١).

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ٥١ عن ابن عباس (كُلُّ الطَّعامِ ..) قال : العرق أخذه عرق النساء فكان يبيت له زقاء ـ يعني صياح ـ فجعل لله عليه إن شفاه أن لا يأكل لحما فيه عروق فحرمته اليهود ، وفيه عن ابن عباس قال : جاء اليهود فقالوا يا أبا القاسم أخبرنا عما حرم إسرائيل على نفسه؟ قال : كان يسكن البدو فاشتكى عرق النساء فلم يجد شيئا يداويه إلّا لحوم الإبل وألبانها فلذلك حرمها ، قالوا : صدقت.

٢٥٠

وأيا كان التحريم ودوره لم يكن تشريعا يخص الله تعالى ، ولا حكما ناسخا لشرعة ابراهيم إذ لم يكن إسرائيل من اولي العزم ، فانما كان تحريما شخصيا لمصلحة ملزمة كما حرم الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ما احلّه الله في شرعته على نفسه من زوجة قضية الفضيحة الدعائية من بعض نساءه حتى كفل الله أمره فرجع الى الحل.

وقد حرمت التوراة عقوبيا على أهلها ـ طيبات أحلت لهم : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ) (٦ : ١٤٦) ـ (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ..) (٤ : ١٦٠) ثم نراها ان المسيح (عليه السلام) أحلها : (وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ ... وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ...) (٣ : ٥٠).

فالطعام الذي حرمه إسرائيل على نفسه لمصلحة شخصية وقائية ليس ليحرم على أحد فضلا عن أن تحرمه التوراة اتباعا لما حرّم (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ألا نسخ ولا جديد في حكم التوراة تحريما وسواه ، كما وترون ليس فيه تحريم ما حرم إسرائيل على نفسه اتباعا لما حرّم بل فيها حل

__________________

ـ وعنه قال : حرم على نفسه العروق ولحوم الإبل كان به عرق النساء فأكل من لحومها فبات ليلة يزقوا فحلف أن لا يأكله أبدا ، وفيه عن ابن عباس قال قالت اليهود للنبي (ص) نزلت التوراة بتحريم الذي حرم إسرائيل فقال الله لمحمد (ص) «قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ، وكذبوا ، ليس في التوراة وإنما لم يحرم ذلك إلّا تغليظا لمعصية بني إسرائيل بعد نزول التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين وقالت اليهود لمحمد (ص) كان موسى يهوديا على ديننا وجاءنا في التوراة تحريم الشحوم وذي الظفر والسبت فقال محمد (ص) : لم يكن موسى يهوديا وليس في التوراة إلّا الإسلام يقول الله : قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين أفيه ذلك وما جاءهم بها أنبياءهم بعد موسى فنزلت في الألواح جملة.

٢٥١

كل الطعام الحل على المسلمين ، إلا ما حرمت على بني إسرائيل عقوبة لبغيهم.

وهنا (مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ) تلمح بقيلتهم الكذب ان إسرائيل حرم في التوراة ما حرمه عليه نفسه ، كقيلتهم ان ابراهيم كان يهوديا ، والقرآن يذب هذا التحريم الخاص عن التوراة ، لأنه كان (مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ) ، وذلك القبل يعم «حلا .. وحرم» فكلا الحل العام والتحريم الخاص كان من قبل أن تنزل التورات.

ثم (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها) فيه قضاء حاسم على استحالة النسخ ، حيث تنسخ التوراة حلية بعض الطيبات ، وعلى مزعمة عدم التحريم عقوبة لأنهم شعب الله الخصوص.

فقد تصرح التوراة ان للإبل منافع كثيرة ووهب إسرائيل ثلاثين إبلا ذات لبن أخاه عيص (التكوين ٣٢ : ١٥) ولكنها محرمة في شرعة التوراة (اللاويين ١١ : ٤ والتثنية ١٤ : ٧).

ثم في اللاويين ١١ : هذه هي الحيوانات التي تأكلونها من جميع البهائم التي على الأرض ٣ كل ما شق ظلفا وقسمه ظلفين ويجترّ من البهائم فإياه تأكلون ٤ إلّا هذه فلا تأكلوها مما يجترّ ومما يشق الظلف : الجمل لأنه يجتر لكنه لا يشق ظلفا فهو نجس لكم والدب والأرنب والخنزير ... وجميع البهائم التي لها ظلف ولكن لا تشقه شقا أو لا تجتر فهي نجسة لكم وكل ما يمشي على كفوفه من جميع الحيوانات الماشية على أربع فهو نجس لكم.

ذلك وكما حرمت عليهم الشحوم (اللاويين ٣ : ١٦ و ١٧ و ٧ : ٢٤ ـ ٢٧).

فقد اعترضوا على الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فيما اعترضوا

٢٥٢

كيف يأكل لحم الإبل وقد حرمه إسرائيل ، فيجيب القرآن انه من إسرائيل كان تحريما خاصا على نفسه وقائيا ، من قبل أن تنزل التوراة ، ثم التوراة حرمه عقوبيا ومن ثم أحله فيما أحله المسيح (عليه السلام) واستمر الحل في الإسلام.

وفي نظرة ثانية إلى الآية نقول (إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ) استثناء منقطع لأن إسرائيل ليس داخلا في بنيه ، ولا ما حرمه على نفسه داخلا في عموم التحريم ، فقد يلمح انقطاع الاستثناء باستغراق الحل في «كل الطعام».

ثم (مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ) يصح تعلقها بكلّ من «كان حلا» و (إِلَّا ما حَرَّمَ) والجمع أجمع والاول أوقع إذ «كان» هو أصل الكلام والاستثناء ـ ولا سيما المنقطع كما هنا ـ فرع لا يأخذ زمام المتعلقات إلا ضمنيا إذا صح المعنى.

إذا ف (كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا ... مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ) فليست المحرمات التوراتية أبدية ، ومنها عقوبية يدل عليه حلّها قبل نزول التوراة وبعد نزول الإنجيل وكما في متى : ٣ : ٤ انه يحل لحم الجمل ولبس وبره وجلده.

كما و (كُلُّ الطَّعامِ ... إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ) حسما لزعم أن التوراة حرمت ما حرمه إسرائيل.

(قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في زعم استحالة النسخ وأبدية التوراة ، وأن محرمات فيها عقوبية لبغيهم (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ) وهم كاذبون في رغم الحرمة الأبدية لما حرم فيها ومنها لحم الإبل حيث كانوا ينددون بالرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كيف يأكل ما حرمته التوراة كشرعة أبدية دائمة.

و «إسرائيل» هي في أصلها العبراني «ييسرائل» : عبد الله ، ولكن

٢٥٣

التوراة فسّرتها في قصة فنوئيل : صارع الله فصرعه فأخذ منه بركة النبوة!.

(فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٩٤).

افتراء الكذب على الله قبل ذلك البيان ظلم ولكنه (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) كأنه الظلم لا سواه (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) لأنهم على بينة من القرآن بحجته بعد التوراة ، وعلى بينة من صدق هذه الرسالة القرآنية.

(قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (٩٥).

(قُلْ صَدَقَ اللهُ) في كل قال وأنتم كاذبون ، فان كنتم صادقين انكم على ملة ابراهيم (فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) فلا تشركوا بالله فانه (ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) بالله في أي شأن من شؤون الربوبية.

(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٦) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) (٩٧)

إعلان صارخ في هذه الإذاعة القرآنية ـ العالمية ـ بأولية مطلقة لبيت الله الحرام ، ردا على شطحات يهودية أن القدس أقدس منه (١) فليكن هو المطاف

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ٥٣ ـ أخرج ابن المنذر والأزرقي عن ابن جريح قال بلغنا أن اليهود قالت بيت ـ

٢٥٤

والقبلة وكما كان في فترة ، والأصل على مدار الزمن الرسالي هو الكعبة المباركة قبلة ومطافا للعالمين! : (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ ..) (٢ : ١٤٢).

يذكر البيت الحرام في ساير القرآن عشرا مجردا كما هنا ، وثلاثا منسوبا فيها إلى الله ، وثلاثا أخرى إلى الناس ، مما يدل على أنه ليس لله بيتا كما للناس ، فهو للناس بيت قبلة ومطاف ومعتكّف ، ولله بيت يعبد فيه ، فهو بيت الله وبيت الناس (١).

وهنالك مواصفات لهذا البيت العتيق في عدة آيات ، منها هنا سبع ، عدد السموات السبع والأرضين السبع والأسبوع السبع والطواف بالبيت وبالصفاء والمروة السبع ، والجمرات السبع ، كما وان عدد أبواب الجحيم سبع تسكّر بسبعي الطواف وسبعات الجمرات.

١ (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ ...)

علّ الصلة القريبة لهاتين الآيتين بما قبلهما ـ ولا سيما واتبعوا ملة إبراهيم حنيفا ـ أن من أهل الكتاب معترضين على الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إذا تأمر باتباع ملة ابراهيم فكيف تستقبل الكعبة وتطوف حولها ونحن نقدس

__________________

ـ المقدس أعظم من الكعبة لأنه مهاجر الأنبياء ولأنه في الأرض المقدسة فقال المسلمون بل الكعبة أعظم فبلغ ذلك النبي (ص) فنزلت (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ) ـ إلى قوله ـ : (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ) وليس ذلك في بيت المقدس (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) وليس ذلك في بيت المقدس (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) وليس ذلك في بيت المقدس.

(١) الثلاث الأولى هي (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ) (٢٢ : ٢٦) (أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ) (٢ : ١٢٥) «عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ» (١٤ : ٣٧) والثانية هنا (أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ) و (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ) (٥ : ٩٧) (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً) (٢ : ١٢٥).

٢٥٥

القدس وهو كعبتها وشرعتها من شرعة ابراهيم؟ فجاء الجواب : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ ..) وكذلك الآيات التي تقول إن ابراهيم هو الذي رفع القواعد من البيت.

الأول هو السابق الذي لا يسبقه أو يقارنه مثيل له في الممكنات ، أم ولا يتأخر هو عنه كما الله تعالى ، حيث هو الأول لا ثاني له والآخر لا أول قبله : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٥٧ : ٣) والأول هنا هو من الأول إذ له أمثال بعده مهما كانت درجات ، كما هو في الدرجة القمة العليا ، لا يساوى او يسامى.

و «بيت» كمطلقه هو مكان البيتوتة والرياحة ، بدنيا او روحيا او هما معا ، فسواء أكانت أرضا ملساء ، ام وعليها بناية ، فليشمل أرض الكعبة وهي مكان البيت كما يشملها بعد عمارتها.

والأولية هنا مطلقة تطم الزمنية والمكانية (١) وفي المكانة ، مهما كان القصد

__________________

(١) هنا روايات متواترة بشأن هاتين الأوليين ففي الدر المنثور ٢ : ٥٢ ـ أخرج البيهقي في الشعب عن ابن عباس قال قال رسول الله (ص): أول بقعة وضعت في الأرض موضع البيت ثم مهدت منها الأرض .. وعن أبي جعفر (ع) عن آبائه عليهم السلام قال : إن الله بعث ملائكته فقال : ابنوا لي في الأرض بيتا على مثال البيت المعمور وأمر الله تعالى من في الأرض أن يطوفوا كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور(رواه بلفظه الرازي في تفسيره ٨ : ١٥٢ والتبيان بتفاوت يسير ١ : ١٥٧ وبوجه أبسط الخازن ١ : ٢٥٢ عن علي بن الحسين عليهما السلام والأزرقي في أخبار مكة عن أبي جعفر (ع) عن أبيه عن علي بن الحسين عليهم السلام ١ : ٣٥ وحسين بن عبد الله بإسلامه في تاريخ الكعبة ٤٠.

وروى الكليني في الصحيح عن أبي بكر الحضرمي عن أبي عبد الله (ع) قال : لما أراد الله عز وجل أن يخلق الأرض أمر الرياح فضرب متن الماء حتى صار موجا ثم أزبد فصار زبدا واحدا فجمعه في موضع البيت ثم جعله جبلا من زبد ثم دحى الأرض من تحته وهو قول الله عز وجل : إن أوّل ـ

٢٥٦

__________________

ـ بيت وضع للناس .. وقال تعالى والأرض بعد ذلك دحاها ورواه سيف بن عميرة عن أبي بكر الحضرمي عن أبي عبد الله (ع) (انظر الكافي (: ١٦) والفقيه ٢ : ١٥٤ والأخبار الدالة على دحو الأرض من موضع الكعبة كثيرة انظر العياشي ١ : ١٨٦ والبرهان ١ : ٢٩٧ ونور الثقلين ١ : ٣٠٣ والوسائل الباب ١٨ من أبواب مقدمات الطواف ٢٩٧ و ٢٩٨ والدر المنثور ١ : ١٤٥ ـ ١٤٧ والطبري ٤ : ٨ وأخبار مكة الأزرقي ١ : ٣١.

والبيت في هذه الأحاديث هو مكان البيت ، فله الأوّلية المطلقة على كل بيت كما روى العياشي عن عبد الصمد بن سعد قال أراد أبو جعفر أن يشتري من أهل مكة بيوتهم أن يزيد في المسجد فأبوا عليه فأرغبهم فامتنعوا فضاق بذلك فأتى أبا عبد الله (ع) فقال له : إني سألت هؤلاء شيئا من منازلهم وافنيتهم لنزيد في المسجد وقد منعوا ذلك قد غمني غما شديدا فقال أبو عبد الله (ع) لم يغمك ذلك وحجتك عليهم فيه ظاهرة ، قال : وبما احتج عليهم؟ فقال : بكتاب الله ، فقال : في أي موضع؟ فقال : قول الله (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ) قد أخبرك الله أن أوّل بيت وضع هو الذي ببكة فإن كانوا هم نزلوا قبل البيت فلهم افنيتهم وإن كان البيت قديما قبلهم فله فناءه فدعاهم أبو جعفر (ع) فاحتج عليهم بهذا فقالوا له : اصنع ما أحببت.

وفيه عن الحسن بن علي النعمان قال : لما بني المهدي في المسجد الحرام بقيت دار في تربيع المسجد فطلبها من أربابها فامتنعوا فسأل عن ذلك الفقهاء فكل قال له : أنه لا ينبغي أن تدخل شيئا في المسجد الحرام غصبا فقال له علي بن يقطين يا أمير المؤمنين إني أكتب إلى موسى بن جعفر عليهما السلام لأخبرك بوحي الأمر في ذلك فكتب إلى والي المدينة أن يسأل موسى بن جعفر عليهما السلام عن دار أردنا أن ندخلها في المسجد الحرام فامتنع عليها صاحبها فكيف المخرج من ذلك؟ فقال ذلك لأبي الحسن (ع) فقال أبو الحسن (ع) فلا بد من الجواب في هذا؟ فقال له : الأمر لا بد منه فقال له أكتب : بسم الله الرحمن الرحيم إن كانت الكعبة هي النازلة بالناس فالناس أولى بفنائها وإن كان الناس هم النازلون بفناء الكعبة فالكعبة أولى بفنائها ، فلما أتى الكتاب إلى المهدي أخذ الكتاب فقبله ثم أمر بهدم الدار فأتى أهل الدار أبا الحسن (ع) فسألوه أن يكتب إلى المهدي كتابا في ثمن دارهم فكتب إليه أن أرضخ لهم شيئا فأرضاهم.

وأما ما يروى عن علي (ع) أن رجلا قال له : أهو أوّل بيت؟ قال : لا قد كان قبله بيوت ولكنه أوّل بيت وضع للناس مباركا فيه الهدى والرحمة والبركة وأوّل من بناه إبراهيم (ع) ثم بناه قوم من ـ

٢٥٧

من (بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ) بيوت العبادة (١) فالواضع هو الله ، والموضوع لهم هم كل الناس ، فلا بيت يضعه الناس ، بالإمكان ان يوضع لكلّ الناس دونما اختصاص.

إلّا انه يشمل بيوت الناس بجنب بيوت الله ، فهو الأول زمانا إذ وضعه الله للناس قبل كل وضع وموضوع له ، حين دحى الأرض من تحتها.

إن مكان البيت هو الأم لسائر الأمكنة الأرضية ، كما مكة هي أم القرى من الناحية الرسالية ، فللبيت بمكانه أمومتان اثنتان ، فهو «أم القرى» في كافة الجهات ، حيث دحيت كل شرعة إلهية ـ كأصل ـ منها ، كما دحيت الأرض كلها من تحتها.

والوضع هنا تكويني وتشريعي ، و «للناس» تعم جميع الناس طول الزمن الرسالي ، مطافا للطائفين وقبلة للمصلين ، وكما نرى قبور النبيين وسائر الصالحين قبل الإسلام تجاه الكعبة المباركة دونما استثناء ، في القدس نفسه وفي الخليل ودمشق ولبنان وايران أم أيا كان من بلاد تضم قبور هؤلاء الكرام ، وكما حجه النبيون اجمع (٢) فهذا أقدس بيت على الإطلاق ، فان واضعها هو الله

__________________

ـ العرب من جرهم ثم هدم فبناه قريش فقد يعني من المتأخر عن بيوت عمارة البيت لإمكانه (رواه في البرهان ١ : ٣٠١ عن ابن شهر آشوب عنه (ع) وأخرجه السيوطي عن ابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق الشعبي عنه (ع) والرازي في تفسيره ٨ : ١٥٤ والأزرقي في أخبارمكة ١ : ٦١ و ٦٢ عنه (ع) بوجه أبسط.

(١) الدر المنثور ٢ : ٥٣ ـ أخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم وابن جرير والبيهقي في الشعب عن أبي ذر قال قلت يا رسول الله (ص) أي مسجد وضع أوّل؟ قال : المسجد الحرام ، قلت : ثم أي؟ قال : المسجد الأقصى ..

(٢) في روضة المتقين ٤ : ٩٧ قال أبو جعفر (ع) أتى آدم (ع) هذا البيت ألف أتية على قدميه منها سبعمائة حجة وثلاثمائة عمرة وكان يأتيه من ناحية الشام والمكان الذي يبيت فيه الحطيم ...

٢٥٨

الجليل ، والمهندس هو جبرئيل ، والباني هو الخليل والتلميذ إسماعيل ، لذلك ف «المقام بمكة سعادة والخروج منها شقوة» (١) وهي «دعامة الإسلام ..» (٢) والصلاة فيه تسوى الف الف صلاة (٣) والطواف به صلوة ، والمقام عنده فيه الفضيلة الكبرى ، كما الصوم في رمضانه مائة الف (٤).

لقد رسم الخط حول مكان البيت وبناه آدم الصفيّ (٥) ورفع القواعد منه

__________________

ـ وفيه ١١٤ في الموثق كالصحيح عن أبي بصير قال : سمعت أبا جعفر (ع) يقول : مر موسى بن عمران (ع) في سبعين نبيا على فجاج الروحاء عليهم العباء القطوانية يقول : لبيك عبدك وابن عبديك ..

وفيه في الحسن كالصحيح عن هشام بن الحكم عن أبي عبد الله (ع) قال : مر موسى النبي (ص) بصفاح الروحاء على جمل أحمر خطامه من ليف عليه عبائتان قطوانيتان وهو يقول : لبيك يا كريم لبيك ـ قال : مر يونس بن متى بصفاح الروحاء وهو يقول : لبيك كشاف الكرب العظام ـ قال : ومر عيسى بن مريم بصفاح الروحاء وهو يقول : لبيك عبدك ابن أمتك ومر محمد (ص) بصفاح الروحاء يقول لبيك ذا المعارج لبيك.

وفيه ١١٦ روى زرارة في الصحيح عن أبي جعفر (ع) أن سليمان (ع) قد حج البيت في الجن والإنس والطير والرياح وكسى البيت القباطي.

(١) الدر المنثور ٢ : ٥٣ ـ أخرج الأزرقي عن عطاء بن كثير رفعه إلى النبي (ص): المقام ...

(٢) المصدر ـ أخرج الأزرقي والطبراني في الأوسط عن جابر بن عبد الله أن رسول الله (ص) قال : هذا البيت دعامة الإسلام من خرج يؤم هذا البيت من حاج أو معتمر كان مضمونا على الله إن قبضه أن يدخله الجنة وإن رده أن يرده بأجر أو غنيمة.

(٣) كما في الوافي عن الفقيه ٨ : ١٠ قال (ص) الصلاة في مسجدي كألف صلاة إلّا في المسجد الحرام فإنه كألف صلاة في مسجدي.

(٤) الدر المنثور ٢ : ٥٣ ـ أخرج الأزرقى والجندي والبيهقي في الشعب عن ابن عباس قال قال رسول الله (ص) من أدرك شهر رمضان بمكة فصامه كله وقام منه ما تيسر كتب الله له مائة ألف رمضان بغير مكة وكتب له كل يوم حسنة وكل ليلة حسنة وكل يوم عتق رقبة وكل ليلة عتق رقبة وكل يوم حملان فرس في سبيل الله وكل ليلة حملان فرس في سبيل الله وله بكل يوم دعوة مستجابة.

(٥) روضة المتقين ٤ : ١١٦ روى أبو بصير في الموثق عن أبي عبد الله (ع) قال : إن آدم هو الذي بنى ـ

٢٥٩

الخليل الوفيّ ، ووضع الحجر الأسود في مكانه الآن بعد خرابه هذا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويظهر عنده متكئا ظهره على جداره القائم المهدي (عليه السلام) فأم القرى هي العاصمة الإسلامية الكبرى كما كانت لرسول الهدى (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهي على طول خط الرسالات أم القرى لا تساوى ام تسامى.

ولماذا (وُضِعَ لِلنَّاسِ) وهو (مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ) أجمعين ، من الجنة والناس ومن سواهما من المكلفين أجمعين؟.

علّه لأنهم هو المحور الأساس في التكوين والتشريع ، والجنة هم على هامش الناس ثم لا خبر لنا عن سائر العالمين.

(لَلَّذِي بِبَكَّةَ ...)

ولماذا (لَلَّذِي بِبَكَّةَ) دون «الكعبة» وهي أخصر ، او «مكة» وعلّها أظهر؟ علّه إذ قد تسمى غيره «كعبة» مهما أصبحت بعد علما له! وأن «الكعبة» تختص بالمبني عليه تلك البناية ، و (لَلَّذِي بِبَكَّةَ) تشملها قبل البناية وبعدها ، والأولية الزمنية بالنسبة لبيوت العبادة المبنية ليست للكعبة المشرفة ،

__________________

ـ البيت ووضع أساسه وأوّل من كساه الشعر وأوّل من حج إليه ثم كساه تبع بعد آدم الأنطاع ثم كساه إبراهيم الخصف وأوّل من كساه الثياب سليمان بن داود (ع) ، أقول : فالبيت الحرام هو قبل القدس بقرون فإن أوّل من خط بيت المقدس واتخذه مسجدا داود (ع) وبناه سليمان من بعده فشاد بنيانه وفسح أعطانه وجاء في الخبر أنه أصاب بني إسرائيل على عهد داود طاعون أسرع فيهم وذهب بعامتهم فخرج داود بالناس إلى موضع بيت المقدس فدعى الله سبحانه أن يرفع عنهم ذلك الموتان فاستجيب له فاتّخذ ذلك الموضع مسجدا تبركا به وتعظيما له وبدأ ببنائه فنودي قبل أن يستتمه بأوصى إلى سليمان (ع) باستتمامه فعامته من بناء سليمان (حقائق التأويل للسيد الشريف الرضي).

٢٦٠