الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٥

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٨

(وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) ٧٥.

مثال ماثل بين أيدينا لغايتي الأمانة والخيانة الكتابية ، فمنهم (مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) كالذين ائتمنوا كتاب الله فأدوه إلى اهل الله بكل البشائر المودوعة فيه لأهليه (وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) بخلا عن أداء أمانته على قلتها (إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً) تقوم على أمانة البشارة وسواها بحجة كتابية لا حول عنها ، و «ذلك» البعيد البعيد «بأنهم» الخونة لا كلهم (قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) وهم غير الكتابين أنفسهم ، سلبا لسبيل القيادة الروحية وسواها وسائر الحقوق عن بني إسماعيل الأميين كأنها محصورة في الكتابيين أنفسهم محسورة عمن سواهم! (وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) دونما تقوى في طغواهم (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) الحق وانهم كاذبون في نكرانه : (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً) (٤ : ٥٣) تعني ـ فيما تعنيه ـ الملك الروحي ، فكأن لهم نصيبا من ذلك الملك يملكونه فيختصون به أنفسهم ولا يؤتون سائر الناس منه نقيرا!.

وقد يعني المثال الأول قسما من النصارى والثاني اليهود ف (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ. وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) (٥ : ٨٢).

وقد تعني «ليس علينا في الأميين سبيل» كل حق هو لهم ، فلا علينا ان نؤدي حقهم مهما كانت امانة ، فلما نزلت قال النبي (صلى الله عليه وآله

٢٠١

وسلم) : كذب اعداء الله ما من شيء كان في الجاهلية إلّا وهو تحت قدمي هاتين إلا الأمانة فانها مؤداة الى البر والفاجر» (١).

واما كيف خص الله تعالى أهل الكتاب بتلك الخاصة وفي غيرهم ـ كما هم ـ الخائن والأمين والثقة والضنين؟.

لأنه لا يعني ـ فقط ـ أمانة المال ، بل والأصل هو الممثل له : امانة الوحي المخصوص بأهل الكتاب ، ولكيلا يغتر المسلمون بأنهم اهل الكتاب فيأمنوهم على ما ينقلونه لهم من وحي الكتاب.

ثم ولا نحسبهم على سواء في خيانة الأمانة ، فلا تمنعنا المشاقة لهم من أن نشهد أن فيهم الثقة وان كانت الظنة غالبا عليهم ، وان فيهم الأمين وان كانت الخيانة أشبه بطرائقهم.

ولقد سموا المسلمين أميين زعما منهم ألّا كتاب لهم حيث يحصرونه بالعهدين.

ولقد كان بين اليهود وبين أقوام من العرب بيوع وقروض فلما أسلموا قالوا : ليس علينا ان نقضيكم أموالكم لأنكم قد انتقلتم عن دينكم واستبدلتم بمعتقدكم ، حيلة تسلب أموالهم ومطال ديونهم ، فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله : كذب اعداء الله ...

ومن قيلة اليهود الغيلة ان غيرنا عبيد لنا يحل لنا أكل أموالهم وهتك اعراضهم و (لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) مهما أكلنا من أموالهم وظلمناهم في سائر حقوقهم.

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ٤٤ ـ أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال لما نزلت هذه الآية قال النبي (ص) : ...

٢٠٢

إذا ف (لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) تعني كل سبيل روحي او زمني او مالي أم اي حق ، فنحن اصحاب الحق المطلق ، وهم ليس لهم علينا أي حق ، وكما يلوح كل ذلك من طيّات الآيات التي تحكي عن مزاعمهم التفوقية على كل الأمم ، لحد يحسبونهم حيوانا خلقهم الله بصورة الإنسان لكي يصلحوا لخدماتهم!.

هنا (وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) تلمح انهم ينسبون هذه الفوقية العنصرية الى الله وهم يعلمون كذبهم فيه.

وذلك من أخطر الخطر على الانسانية ، ان تحصر حقوقها ـ الفطرية والعقلية والشرعية اماهيه ـ قبيلا واحدا من عامة الناس هم بنو إسرائيل أمّن هم ، لا لحق إلا دعوى مكرورة على ألسن وأقلام سامّة تكدّر جو الحياة على من سواهم.

فرغم أن الانسانية أمانة ربانية لهم وعليهم ككل ، هم يختصون فضائلها وفواضلها بكل حقوقها بأنفسهم ، احتلالا قاحلا جاهلا لشرف الإنسانية وميّزاتها.

ولقد برزت هذه الأنانية الحمقاء بين اليهود كأصل على مدار الزمن ، ومن ثم بين سائر الاختصاصيين من المستعمرين المستثمرين المستحمرين المستبدين المستكبرين المستضعفين المستخفين ، أصحاب الأبواب السبع الجهنمية على مدار التاريخ الإنساني.

والقرآن يجرف هذه الخرافات الزور الغرور بكلمة واحدة : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) ثم وليست الكرامة عند الله مما يحمل التقي على الطغوى ، فانما هي تقوىّ امام الله وامام عباد الله وحتى بالنسبة للحيوانات والنباتات.

٢٠٣

كلا والف كلا! ليست هذه الأنانية مسموحة في اية فطرة او عقلية انسانية فضلا عن شرعة الله.

(بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) ٧٦.

(بَلى مَنْ أَوْفى) من هود او نصارى او مسلمين (مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ) عهد الله ، الذي عاهد عليه الله فطريا وشرعيا ، وعهده نفسه ، والذي عاهد الله عليه ام عاهد عباد الله ام عاهدوه عليه وتقبله بحق «واتقى» الله في عهوده كلها (فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) سواء حملوا اسم الإسلام او سواه ولقد عهد الله على عباده (أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ).

فليست كرامة الحب الربانية بذلك المبتذل الفوضى حتى ينالها كل مدع زورا وغرورا دونما تقوى ، بكل قيلة وادعاء وويلة في طغوى الحياة ، ان (لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) ـ (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) و (تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

وهنا نعرف ان الوفاء بالعهد له صلة وثيقة بتقوى الله ، فلا يتغير في التعامل مع عدو او صديق ، إذ ليس الوفاء بالعهد مسألة مصلحة ، انما هو تعامل مع الله.

أجل ليس هو المصلحة ، ولا عرف المجموعة ، ولا قضية ظروف ، بل قضية واقع الخلق الصالحة الإسلامية السليمة ، اللهم إلا في عهود متخلفة فإنها في الأصل باطلة في ميزان الله فضلا عن الوفاء بها.

(إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) ٧٧.

٢٠٤

هنا الرباط بين عهد الله وايمانهم ، انهم قد يشترون بالعهد وبأيمانهم ليصدّقوا ، على ان لكل وزرا.

(يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ) في مربعه ولا سيما الذي عاهدهم الله عليه من وحي الكتاب بشارة وسواها (وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ) ولكنهم اشتروا به ثمنا قليلا.

(وَأَيْمانِهِمْ) على الوفاء بعهد الله ، يشترون بهما (ثَمَناً قَلِيلاً) وكل ثمن بعهد الله قليل في كل قليل وجليل : (قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ) (٤ : ٧٧) من حظوة الرئاسة وزخرفات مالية أماهيه ، فان عهد الله لا يساوى او يسامى بأي ثمن.

ولماذا «يشترون» وهم يشرون عهد الله ، لأن المشتري يهمه الثمن المشترى ، فلذلك لا يهمه قليله وجليله ، وهؤلاء الأنكاد وصلوا في هتكهم لحرمات الله الى تقديم كل حظوة فانية في هذه الدانية عليها.

لذلك «أولئك» البعاد البعاد (لا خَلاقَ لَهُمْ) ولا نصيب «في الآخرة» «فمن لم يكن له نصيب في الآخرة فبأي شيء يدخل الجنة؟» (١) حيث شروا بعهد الله هذا الأركس الأدنى فهم ـ إذا ـ إنما تهمهم هذه الأدنى دون الأخرى و (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ. أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١١ : ١٦) و «اللهم إلا من تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى» فأولئك لهم خلاق.

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٣٥٦ بسند متصل عن أبي جعفر عليهما السلام حديث طويل يقول فيه : وأنزل في العهد (إِنَّ الَّذِينَ ...) فمن ...

٢٠٥

ذلك! وهؤلاء الذين يشترون بعهد الله ثمنا قليلا هم أنحس من أولاء وأنكى إذ باعوا بالدين الدنيا.

ف (لا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) كلام عطف ونظر لطف ورحمة (١) اللهم إلّا (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) و (فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) كما (وَلا يُزَكِّيهِمْ) بتوبة او شفاعة او تكفير سيئات بحسنات إذ حبطت اعمالهم التي كانوا يرونها صالحة ، (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) ـ (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).

وهذه السلبيات الأربع من حظوة الآخرة لهؤلاء الأنكاد هي ـ بطبيعة الحال ـ ايجابيات للمتقين ، فلهم في الآخرة خلاق كما سعوا لها ويكلمهم الله عطفا وينظر إليهم لطفا ويزكيهم بمختلف التزكيات ، ولهم ثواب عظيم.

هنا «عهد الله» معني في كل حقوله ، وكذلك «أيمانهم» لله ام لعباد الله ، وكما العهد الفاجر يخلف العذاب كذلك اليمين الفاجرة ، مهما اختلفت المراحل في كلّ منهما وفاء ونقضا.

وقد رويت عن رسول الهدى (صلّى الله عليه وآله وسلّم) روايات عدة بشأن اليمين الفاجرة الشائنة منها قوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : «من حلف على يمين هو فيها فاجر ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقى الله وهو عليه غضبان ...» (٢) فضلا عن اقتطاع حق من الله في زعمه فأغضب واشجى!.

__________________

(١) المصدر في كتاب التوحيد حديث طويل عن أمير المؤمنين (ع) يقول فيه ـ وقد سأله رجل عما اشتبه عليه من الآيات ، وأما قوله (وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) يخبر أنه لا يصيبهم بخير وقد تقول العرب والله ما ينظر إلينا فلان وإنما يعنون بذلك أنه لا يصيبنا منه بخير فذلك النظر هاهنا من الله تبارك وتعالى إلى خلقه فنظره إليهم رحمة لهم.

(٢) الدر المنثور ٢ : ٤٤ ـ أخرج جماعة عن ابن مسعود قال قال رسول الله (ص) : ... فقال ـ

٢٠٦

اجل و «ان اليمين الغموس» (١) اهتضام لحق الناس واهتدام لكرامة الله.

(وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ

__________________

ـ الأشعث بن قيس فيّ والله كان ذلك كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني فقدمته إلى النبي (ص) فقال لي رسول الله (ص) ألك بينة؟ قلت : لا فقال لليهودي احلف فقلت يا رسول الله إذن يحلف فيذهب مالي فأنزل الله (إِنَّ الَّذِينَ ...) ، وفيه أخرج ابن جرير عن ابن جريح أن الأشعث بن قيس اختصم هو ورجل إلى رسول الله (ص) في أرض كانت في يده لذلك الرجل أخذها في الجاهلية فقال رسول الله (ص) أقم بينتك قال الرجل ليس يشهد لي أحد على الأشعث قال فلك يمينه فقال الأشعث نحلف فأنزل الله (إِنَّ الَّذِينَ ...) فنكل الأشعث وقال : إني أشهد الله وأشهدكم أن خصمي صادق فرد إليه أرضه وزاده من أرض نفسه زيادة كثيرة ، وفيه أخرج ابن حبان والطبراني والحاكم وصححه عن الحرث بن البرصاء سمعت رسول الله (ص) في الحج بين الجمرتين وهو يقول : من اقتطع مال أخيه بيمين فاجرة فليتبوأ مقعدة من النار ليبلغ شاهدكم غائبكم مرتين أو ثلاثا ، وفيه أخرج البزار عن عبد الرحمن بن عوف أن النبي (ص) قال : اليمين الفاجرة تذهب المال ، وفيه أخرج البيهقي عن أبي هريرة قال قال رسول الله (ص) ليس مما عصى الله به هو أعجل عقابا من البغي وما من شيء أطيع الله فيه أسرع ثوابا من الصلة واليمين الفاجرة تدع الديار بلاقع.

وفيه أخرج الحرث ابن أبي أسامة والحاكم وصححه عن كعب بن مالك سمعت رسول الله (ص) يقول: من اقتطع مال امرئ مسلم بيمين كاذبة كانت نكتة سوداء في قلبه لا يغيرها شيء إلى يوم القيامة ، وفيه أخرج الطبراني والحاكم وصححه عن جابر بن عتيك قال قال رسول الله (ص) من اقتطع مال مسلم بيمينه حرم الله عليه الجنة وأوجب له النار فقيل يا رسول الله (ص) وإن شيئا يسيرا؟ قال : وإن كان سواكا ، وفيه أخرج عبد الرزاق عن أبي سويد سمعت رسول الله (ص) يقول : إن اليمين الفاجرة تعقم الرحم وتقل العدد وتدع الديار بلاقع.

(١) نور الثقلين ١ : ٣٥٥ في عيون الأخبار عن الرضا (ع) حديث طويل في تعداد الكبائر وبيانها من كتاب الله وفيه يقول الصادق (ع) : واليمين الغموس لأن الله تعالى يقول : (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ ..).

٢٠٧

مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) ٧٨.

اللّي هو عطف الشيء ورده عن الاستقامة إلى الإعوجاج ، ولواه به عطفه بما سواه ليحسب مما سواه.

طرف آخر من مكائد البعض من اهل الكتاب هو تحريفه بألسنتهم إقحاما لما ليس من الكتاب في الكتاب ام تحريفا بزيادة او نقيصة في آي الكتاب او إعرابه ، وليّ الألسنة بكتاب يشملهما ولا سيما الثاني خلطا بما ليس منه فيه بنفس العبارة الكتابية لغة وجملة ولحنا وكما في (راعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ) «لتحسبوه» أنتم المسلمين غير العارفين بلغة الكتاب «من الكتاب» ويقولون (هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ) فيها يلوون «من الكتاب» (وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) كذبهم ، وذلك ايضا (بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) فلكي يصدوا كل سبيل للحجة على أنفسهم يستحلون الفرية على الله حيث الغاية ـ بزعمهم ـ تبرّر الوسيلة.

كما ولهم ليّ في كتب الكتاب وثالث في تفسير الكتاب تحريفا عن جهات أشراعه ، ورابع في تخلفهم عمليا عن الكتاب ، قواعد اربع يتبنّون عليها عرش السلطة الروحية الكتابية!.

واللّي الأول يعم ما حرفوه من الكتاب كتبا وسواه ، ومثلث الكتاب يعني كتاب الوحي توراة وإنجيلا ، ولأن الملوي باللسان لتحسبوه من الكتاب قد يكون من عند الله في وحي السنة فقد نفى كونه من عند الله ، تكذيبا ثانيا لما يلوون ، وثالث يؤكدها ويسمهم بسمة الكذب على أية حال (وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ).

وذلك اللّي والاشتراء والخيانة في أمانة الوحي وسواه من تجديفات ـ هي

٢٠٨

بطبيعة الحال ـ من رجال الدين ، والعلماء العملاء لتشويه سمعة الدين.

فآفة رجال الدين وعاهتهم على الدين والدينين حين يفسدون هي ان يصبحوا أداة لتشوية الدين باسم الدين ، ليّا بالكتاب ضدّه وبألسنة ضدها.

هؤلاء الذين يحترفون الدين فيهرفون فيما يحرّفون ضد الدين تلبية لأهوائهم وأهواء آخرين ممن يستفيدون من أموالهم ومالهم من رغبات وشهوات ، فيحملون نصوصا من الكتاب ويلهثون بها وراء تلك الأهواء الجهنمية ، ليّا لأعناق هذه النصوص لتوافق أهوائهم السائدة المايدة ، فإنهم ـ لكي تتحقق أهوائهم من وراء الكتاب ـ يبذلون جهودا لاهثة باحثة عن كل تمحّل وكل تصيّد لأدنى ملابسة لفظية أماهيه ، ليلبسوها من أهوائهم ما يبغون.

والله يحذر المسلمين من هذا المزلق الوبيء الذي انتهى بانتزاع أمانة القيادة الروحية من بين إسرائيل.

ولقد نرى ليّا وبيئا في الآيات الانجيلية المؤولة الى ثالوثهم وان المسيح ابن الله ، وهم فاضحون فيما يفتعلون (١).

__________________

(١) يصرح الإنجيل في ثمانين موضعا أن المسيح (ع) عبد الله ورسوله كما يقول : إن الحياة الأبدية معرفة الله بالوحدانية وأن المسيح رسوله (يوحنا ١٧ : ٣) و «أول الأحكام أن نعرف أن إلهنا واحد» (مرقس ١٢ : ٢٩) وهو يتحاشي عن أن يخاطب بالرب كما يندد ببطرس لما قال له : حاشاك يا رب ، فالتفت إليه وقال اذهب عني يا شيطان أنت معثرة لي لأنك لا تهتم بما لله ولكن بما للناس (متى ١٦ : ٢٢ ـ ٢٣) ويعتبر أيضا من يظنه إلها أو ابنه من المجانين : «.. فلما عرفوه أخذوا يصرخون : مرحبا بك يا إلهنا وأخذوا يسجدون له كما يسجدون لله فتنفس الصعداء وقال : انصرفوا عني أيها المجانين لأني أخشى أن تفتح الأرض فاها وتبتلعني وإياكم لكلامكم الممقوت ، لذلك ارتاع الشعب وطفقوا يبكون» (برنابا ٩٢ : ١٩ ـ ٢٠).

وحقا انه لا يوجد في الأناجيل ما يدل صراحا على النبوة والألوهية والثالوث المسيحية اللهم إلّا اختلاقات ليّا بألسنتهم وطعنا في الدين.

٢٠٩

ـ فمثل «أنا والآب واحد» (لوقا ١٠ : ٣٠) من المتشابهات التي تفسرها محكمات كالتي سلفت فالوحدة هنا توحد العبد مع ربه في الدعوة إليه ، فلو دعا إلى نفسه لم يكن معه واحدا.

وكذلك : «في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله. هذا كان في البدء عند الله. كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان. فيه كانت الحياة والحياة كانت نور الناس. والنور يضيء في الظلمة والظلمة لم تدركه» (يوحنا : ٥).

فإن لم تكن هذه الحاقية ليست لتعني الكلمة فيها المسيح بل هي كلمة «كن» التكوينية التي كانت عند الله فإنها القدرة الفعلية ، ثم كان الكلمة الله من حيث القدرة الذاتية وهي من صفات الذات.

فللقدرة كما العلم واجهتان ذاتيتان هما من صفات الله التي هي عين الذات ، فعليتهما عند الله لأنهما من صفات الفعل.

ثم لا نجد في الإنجيل ما يوهم التثليث إلّا كلمة الآب والابن والآب تعني الخالق والابن هو ابن الإنسان كما في ثمانين موضعا.

وأما في الرسالة الأولى ليوحنا ٥ : ٦ ـ ٨ : ١١ : هذا هو الذي أتى بماء ودم المسيح. لا بالماء فقط بل بالماء والدم. والروح هو الذي يشهد لأن الروح هو الحق. فإن الذين يشهدون (في السماء) هم ثلاثة (الأب والكلمة والروح القدس وهؤلاء الثلاثة هم واحد. والذين يشهدون في الأرض هم ثلاثة) الروح والماء والدم والثلاثة هم واحد!

فما بين الهلالين منها : الآب .. ـ إلى ـ هم ثلاثة ـ مما كتبت أيديهم كذبا وزورا ولا توجد في أقدم النسخ وكما لا تصرح به الترجمة العربية من الأصل اليوناني المطبوعة في المطبعة الأمريكية في بيروت ١٩٠٦ وهي مدار النقل عندنا في كتبنا الثلاثة : عقائدنا ـ المقارنات ـ رسول الإسلام في الكتب السماوية ـ فالتنبيه الموجود في أوّل هذه النسخة : والهلالان () يدلان على أن الكلمات التي بينهما ليس لها وجود في أقدم النسخ وأصحها هذا التنبيه دليل أن التثليث المذكور فيه مقحم وكما يقول به كبار المحققين من علماء الإنجيل مثل كريسباج وشولز وهورن المفسر الشهير الإنجيلي ، رغم تعصبه في الحفاظ على الأناجيل حيث يقول : هذه الجملة ـ يعني ما بين القوسين ـ الحاقية يجب حذفها عن الإنجيل ، وتبعه جامعوا تفسير هنيري وإسكات وآدم كلارك ، ثم إكستائن وهو من أعلم علماء التثليث ومرجعهم لا ينقل هذه العبارة في رسالاته العشر التي كتبها حول هذه الرسالة ـ

٢١٠

من ذلك لي «الآب» وهو لغة يونانية بمعنى الخالق ، الى «الأب» مع الحفاظ على مده في اصل الكتاب ، يلوون ألسنتهم بالآب أبا لتحسبوه من الكتاب نصا على ابوة الله للمسيح (عليه السلام) وليس الأب من الكتاب وإنما هو الآب فالابن معه ام سواه هو ابن الإنسان ، فقوله (عليه السلام) لمريم المجدلية : امضي الى اخوتي وقولي لهم : إني صاعد الى آبي الذي هو آبوكم وإلهي الذي هو إلهكم (يوحنا : ٢٠) لا يعني من «الأب» إلّا الخالق مهما اسقطوا مدها ام أثبتوها وكما يؤيّده ثانيا «إلهي وإلهكم».

ذلك! وكما يلوون ألسنتهم ب «بريكليطوس» التي تعني غاية الحمد : أحمد ومحمد ـ فيلفظونها «باراكليطوس» : المسلي ، ليحرفوها عن محمد النبي الى المسلي الروح القدس ، و «بريكليطوس» هي المسجلة في الأناجيل قبل الإسلام

__________________

ـ الإنجيلية ، رغم أنه ممن أسس أساس التثليث ، فلم تكن ـ إذا ـ هذه العبارة في الإنجيل حتى القرن الرابع زمن إكستائن وإلّا لكانت من أوضح أدلته على التثليث! وقد تكلف في مناظرته مع فرقة إيرين المنكرين للتثليث في الآية (٨) فكتب أن المعني من الماء هو الأب والدم هو الابن والروح هو الروح القدس!.

فلو كانت عبارة التثليث : الآب والكلمة والروح القدس ـ موجودة في زمنه وأن في نسخة مجهولة ساقطة لكان يتثبت بها ولم يسقط في هوة هذا التأويل البارد.

وممن يصرح بذلك الإلحاق الدكتور فندر الألماني مؤلف ميزان الحق في رده ـ بزعمه ـ على الإسلام ، ويكتب المفسر الشهير هورن ١٢ صفحة في التفتيش عن هذه الجملة وقد لخصها جامعوا تفسير هنري والإسكات كالتالي : الأدلة المثبتة لكونها الحاقية ما يلي :

(١) لا توجد هذه العبارة في النسخ اليونانية قبل القرن ١٦ فهي ـ إذا ـ ملحقة في هذا القرن.

(٢) لا توجد في المطبوعات الأولى ثم نراها بعدها.

٣ ـ لا توجد في شيء من التراجم إلّا اللاتينية قليلا.

٤ ـ لم يستدل بها أحد من القدماء والمؤرخين الكنسيين.

٥ ـ زعماء بروتستانت الروحيون بين مسقط لهذه العبارة ومبق لها بضميمة علامة الريب والتزييف ض.

٢١١

ثم حرفت الى «باراكليطوس» بعد الإسلام.

ومن ليّهم في تراجم الكتاب إسقاط «مقرب» في بشارة سفر التثنية بنبي اسماعيلي حيث تقول : «نابىء آقيم لاهم مقرب إحيحم كموشه ..» : نبيّ أقيم لهم من أقرباء أخيهم كموسى ثم نرى سائر التراجم كالمتفقة على إسقاط «مقرب» حيث تقول «من وسط بني إسرائيل من إخوتهم مثلك ـ من إخوتك مثلي» ترجمة مرتجفة مريبة رغم وحدة الأصل في «مقرب» تنحية لهذه البشارة عن النبي الإسماعيلي الذي بعث من أقرباء أخيهم ، ف «أخيهم» هو بنو عيص كما في «تث ٢٨ : ٨) وأمر القوم وقل لهم إنكم لحد إخوانكم بني عيص» وأقرباء بني عيص هم بنوا إسماعيل ، فإن عيص نفسه كان صهرا لإسماعيل (١).

ومن ليّهم ترجمة «بمئد مئد شنيم عاسار نسيئيم يولد ..» : بمحمد واثنى عشر اماما يلدهم ـ حيث ترجموها ب «الكثير جدا واثنى عشر رئيسا» (٢).

هذه وأشباهها كما تجد قسما منها في كتابنا «رسول الإسلام في الكتب السماوية».

(ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) ٧٩.

لقد نزلت هذه الآية في خضم الحوار مع نصارى نجران حين سئل : «أتريد يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى بن مريم ، فقال رجل من

__________________

(١) راجع كتابنا (رسول الإسلام في الكتب السماوية) ٣٣ ـ ٣٩.

(٢) المصدر ٤٠ ـ ٤٣.

٢١٢

اهل نجران نصراني : أو ذاك تريده هنا يا محمد فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : معاذ الله ان نعبد غير الله او تأمر بعبادة غيره ما بذلك بعثني ولا بذلك امرني» (١).

وكما قال له رجل «يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك؟ قال : لا ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله فانه لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله فأنزل الله هذه الآية (٢) ، وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : لا ترفعوني فوق حقي فان الله تعالى اتخذني عبدا قبل ان يتخذني نبيا» (٣).

وهنا «ما كان» تنفي عن اعماق الزمان بمثلثه الدعوة المعاكسة لتوحيد الله لرسل الله وأنبياءه ، أن يرتقوا زورا وغرورا عن الرسالة الإلهية الى الإلهية نفسها ، نفيا في استحالة ذات بعدين ، ان يبعث الله من يحاده في ألوهيته ، وأن يتبدل المألوه إلها.

وليست «لبشر» هنا تختص النفي ببشر ، وانما لأن المدّعى ألوهيته هنا بشر ، وان البشر ـ وهو في أحسن تقويم ـ إذا لم يصلح له ان يكون معبودا من

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ٤٦ ـ أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال قال أبو رافع القرظي حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله (ص) ودعاهم إلى الإسلام : أتريد ...

(٢) المصدر أخرج عبد بن حميد عن الحسن قال بلغني أن رجلا قال يا رسول الله (ص) : ..

(٣) نور الثقلين ١ : ٣٥٧ في عيون الأخبار في حديث سلسلة الذهب قال المأمون يا أبا الحسن (ع) بلغني أن قوما يغلون فيكم ويتجاوزون فيكم الحد فقال الرضا (ع) حدثني أبي ـ إلى ـ قال قال رسول الله (ص) : ... قال الله تعالى (ما كانَ لِبَشَرٍ ...) وقال علي (ع) يهلك في اثنان ولا ذنب لي مفرط ومبغض مفرط وأنا لبراء إلى الله تعالى ممن يغلو فينا فرفعنا فوق حدنا كبراءة عيسى بن مريم عليهما السلام من النصارى.

٢١٣

دون الله فبأحرى من دونه من سائر الخلق ، ثم الآية التالية لها تنفي بوجه عام الألوهية عما سوى الله.

وهنا (أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ ... ثُمَّ يَقُولَ) دون «ان آتاه الله ثم قال» مما يؤكد الاستحالة في بعديها ، ان ليس الله يبعث من يتخلف هكذا عن رسالة ، (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) (٦٩ : ٤٥) وليست تتبدل الرسالة الى المرسل نفسه.

و «الكتاب» هنا هو كتاب الوحي «والحكم» هو الحكم الرسالي بالكتاب ، فقد أوتي المرسل إليهم الكتاب ولم يؤتوا الحكم الرسالي بالكتاب ، ومن ثم «النبوة» هي الرفعة بين المرسلين بالكتاب ، فهي المرحلة القمة الرسالية مهما كانت درجات.

ولقد بلغت دركة الدعاية الثالوثية لحد يستجوب الله فيها المسيح (عليه السلام) البريء فيجيب : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ... ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ.) (٥ : ١١٧) و (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً ...) (٤ : ١٧٢).

ان المعرفة البسيطة بالله تمنع العارف عن دعوى الألوهية ، فضلا عمن يؤتى الكتاب والحكمة والنبوة ، فإنها تحكّم عرى العبودية ، إذ ليست واردة إلا مورد العبودية القمة.

(ما كانَ ... ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ) (كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) : منتسبين الى الرب بمعرفة غالية وعبودية عالية كما نحن المرسلين ، نحن ب (الْكِتابَ وَالْحُكْمَ

٢١٤

وَالنُّبُوَّةَ) ثم أنتم (بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) فعلم الكتاب الرسالي وتعليمه يجعلكم ربانيين بعيدين عن الدعاوي الخاوية الشركية.

فالربانيون هم القادة الروحيون ، الحاملون لدعوات الرسل بين المرسل إليهم ، وهم هنا «الناس» المعنيون ببازغ الدعوة ومنطلقها ، حيث يتربون في حجر الوحي الرسالي ، معرفيا وعمليا ثم يربّون الناس كما تربوا.

(وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) ٨٠.

«يأمركم» منصوب عطفا على (أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ) : ما كان لبشر ... «ولا ان يأمركم» ذلك البشر ، «أيأمركم» النبي (بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) او «يأمركم» الله بالكفر بتلك الرسالة المضادة (بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).

فكلما تبلغ النبوة ذروة عليا يبلغ النبي الى عبودية أسمى ، ولئن استحق المسيح (عليه السلام) ان يدعو لنفسه لكرامته على الله ، فليبلغ إمامه وامام المرسلين : محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الى الامامة على الله!.

(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) ٨١.

آية غرة ترفع من شأن خاتم النبيين (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الى أعلى القمم التي لا تساوى او تسامى حيث تحمّله ـ وهو آخر النبيين ـ المجيء إليهم كلهم برسالته القدسية.

هنا زوايا أربع لذلك الميثاق ، آخذه وهو الله ، والمأخوذ منهم وهم النبيون فلا ذكر لأممهم حتى يكونوا هم المعنيين ، والمأخوذ له : (رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما

٢١٥

مَعَكُمْ) واصل الميثاق : (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) وفي اخرى ميثاق آخر غليظ على النبيين ومعهم خاتمهم : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً) (٣٣ : ٨) فالميثاقان إذا مختلفان كل ينصبّ في مصبّ غير الآخر.

صحيح ان (مِيثاقَ النَّبِيِّينَ) ادبيا كما يتحمل كونه من اضافة المصدر الى المفعول كما ذكرناه كذلك اضافة الى الفاعل ليكون ذلك الميثاق للنبيين على أممهم ، ولكنه معنويا هنا لا يناسب إلّا الأول لمكان (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) حيث المخاطبون فيهما هم النبيون إذ لا خبر هنا عن أممهم ، فقد أخذ الله الميثاق من النبيين عليهم لرسول جاءهم بعدهم مصدق لما معهم.

فذلك ـ إذا ـ ميثاق رسالي لصالح الرسالة الأخيرة المحمدية إيمانا به سلفا ونصرة له ولمّا يولد ويبعث في ظاهر حاله.

وترى «إذ» تعني زمنا واحدا جمع فيه النبيون لمجمع واحد لأخذ ذلك الميثاق منهم عليهم؟ قد يجوز فيما لا نحيط به علما (١) لكن المفهوم لدينا المعلوم عندنا أن زمن ذلك الميثاق موزع على زمن النبيين كلّ لحده.

ثم وذلك الزمن الموزّع لذلك الميثاق هو (لَما آتَيْتُكُمْ ...) ميثاقا عشيرا لإتيانهم كتابا وحكمة.

وقد يحتمل أن «إذ» تعني زمن خلق كلّ من النبيين أن فطرهم الله على

__________________

(١) البحار ١٥ : ٢٢ ـ ٣٦ السرائر عن أبي الحسن الأول (ع) يقول : خلق الله الأنبياء والأوصياء يوم الجمعة وهو اليوم الذي أخذ الله ميثاقهم ، وقال : خلقنا نحن وشيعتنا من طينة مخزونة لا يشذ عنا شاذ إلى يوم القيامة.

٢١٦

ذلك الميثاق ، ولكن «النبيين» موضوعا لأخذ الميثاق يبعد ميثاق الفطرة المأخوذ منذ خلقهم لا منذ نبواتهم ، ثم (أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي) يبعده ثانيا حيث الفطري رساليا أم خلقيا لا يتخلف.

وقد يقال إن مصير الإقرار هنا هو مصير الإقرار بالتوحيد في آية الذر حيث تعني ميثاق الفطرة على التوحيد ، ثم (مِيثاقَ النَّبِيِّينَ) غير صريحة ان ذلك الميثاق أخذ عليهم منذ النبوة ، فقد يجوز انه مأخوذ عليهم منذ خلقهم.

ولكن تلك الفطرة الخاصة بالنبيين لا يعبر عنها بأخذ الميثاق ، لكنه لا بأس بكونه ضمن المعني من أخذ الميثاق عليهم حين نبواتهم تأكيدا لما أخذ عليهم حين خلقهم.

إذا فكما الله فطر الناس على توحيده منذ خلقهم ، كذلك فطر النبيين على الايمان بمحمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ونصرته.

أم تعني «إذ» مربع الزمان ، قبل خلقهم في أرواحهم حيث كانوا أنوارا روحية ، وعند خلقهم وقبل نبواتهم وعندها ، ميثاق وثيق رفيق عريق مأخوذ عليهم في هذه المواطن الأربع!.

أترى (ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ) تعني كل رسول يتلو نبيا منهم ، فهم ـ إذا ـ كل الرسل ، أخذ الميثاق على كل نبي سبقه أن يؤمن به وينصره؟.

و «رسول» بإفراده أمام جمعية النبيين لا يناسب جمعية الرسل! ثم وكيف يؤخذ ميثاق الايمان من كل نبي لكلّ رسول والنبوة أعلى محتدا من الرسالة ، إلا ان يكون الرسول مرسلا الى النبيين فهم كأمته مهما كانوا قبله ، ومن ثم ليس قضية الرسالة ان يأتي كل رسول تلو سابقة ، بل وكذلك النبيون اللهم إلّا أولي العزم منهم.

٢١٧

ثم التعبير الواضح الفاصح عن تتالي الرسل «ثم جاء كلا منكم رسول مصدق له» دون (ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ) بل «فجاء» دون «ثم» حيث الرسل كانوا تترى دون فصل ، كل هذه وأشباهها مما تبعد جمعية الأبدال في «رسول» بل وتحيلها.

هنا مادة الميثاق (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) هي منقطع النظير عن كل بشير ونذير ، إلا من يكون رسولا الى الرسل وإماما في جموع النبيين.

نجد (آمَنَ مَعَهُ) (فَآمَنَ لَهُ) من نبي لنبي ، ثم ولا نجد (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ) إلا هنا (ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ) وبذلك التأكد الأكيد.

صحيح ان على كل رسول سابق تصديق اللاحق ، وعلى كل لاحق تصديق السابق ، واما الايمان به فلا يصح إلّا لمن هو إمام النبيين ورسول إلى المرسلين كما هنا.

وهنا «النبيين» جمعا محلى باللام تعني مستغرق النبوات ، فلا تعني بعضا دون بعض ، ولا كل الرسل إلا بطريقة أولى ، فانما «النبيين» وهم أولو النّبوة والرفعة بين المرسلين ومن نبوتهم (لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ) (١) وليس كل رسول يأتيه كتاب مهما أتته حكمة ، فكما أن أولي العزم من الرسل خمسة ، كذلك النبيون منهم وهم اصحاب كتب الوحي ليسوا إلا قسما من المرسلين ، فهم الأخصاء المتميزون بين المرسلين.

وهنا (ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ) لها دور العناية بختم الرسالة الإلهية ـ العظمى ـ

__________________

(١) اللام في «لما» للتأكيد و «ما» بمعنى الذي وصلته «آتَيْتُكُمْ ..» والجملة ظرف تحمل الحكمة الحكيمة ل «لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ ..» وقد يحتمل أن اللام للقسم توطئة لبيان حكمة مادة الميثاق ، واللام في «لتؤمنن» جواب القسم.

٢١٨

وانها موجهة الى النبيين سلفا كما وجهت الى أمة الإسلام الأخيرة خلفا.

وفي «رسول» هنا رغم نبوته العليا ، عناية خاصة الى رسالته الروحية الواسعة إلى كافة النبيين قبله ، والرسول الى النبيين هو ـ بطبيعة الحال ـ يفوقهم رسالة ونبوة.

ف «جاءكم نبي» لا تعني رسالته إليهم ، وانما مجيء نبي قد يعني التزاور بينهم ولكن (جاءَكُمْ رَسُولٌ) هو مجيئه بالرسالة الإلهية إليهم.

فموقف الرسالة هو حمل الوحي ببلاغ الدعوة الرسالية كما هنا الى النبيين وفي غيرها الى سائر الأمم الرساليين.

وموقف النبوة هو بيان محتد الرسول النبي في نفسه او بين المرسلين.

و (جاءَكُمْ رَسُولٌ) تضم الموقفين ، أصالة في رسالته إليهم ، ولمحة بمحتد هذه الرسالة السامية انها الى النبيين ، فهو فائق على كافة الرسالات والنبوات.

ونرى القرآن يعبر ب «الرسول ـ الرسل» في موقف البلاغ الى المرسل إليهم ، وقد يعبر ب «النبي ـ النبيين» في موقفهم الذاتي شخصيا ام بين المرسلين.

والرسالة قد تكون الى مرسل إليهم عاديين فرسالة عادية ، ام والى رسل غير نبيين فأنبى وأعلى ، أم والى نبيين غير اولي العزم وهي الرسالة العليا مختصة باولي العزم من الرسل ، ام والى اولي العزم وهي فوق العليا وهي التي تعنيها (ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ).

ف «جاءكم نبي» تثبت فقط نبوته مهما كانت فوق رسالة ، ولكنها لا تثبت رسالة إليهم ، وهي تثبت إمامته الرسالية على النبيين أجمعين.

٢١٩

فالروح الرسالية المحمدية محلقة على كل الأرواح الرسالية قبل خلقها في الجسد ، وهي محلقة عليها بعد خلقها في الجسد وبعثها لرسالتها الختمية.

ومن ميزات هذه الرسالة الى النبيين واجب الايمان به ونصرته كشرط أصيل لإيتائهم كتبهم ، وكما منها رسالته لبلاغ الدين ككل مهما اختلفت شرائعهم مع بعض البعض ومع شريعته ، ومنها زرق الروح البلاغي استقامة لهم كما أمر ، وتضحية في الدعوة كما له وعلى أضواءه القدسية.

و (مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ) تعني تصديق رسالاتهم بكتاباتهم ، فلولا تصديقه لما معهم لما صدقت رسالاتهم ، كما ان (ثُمَّ جاءَكُمْ) دليل خاتمية الرسالية العليا ، وآية (خاتَمَ النَّبِيِّينَ) دليل خاتمية النبوة له ، فهو ـ إذا ـ خاتم النبيين والمرسلين على الإطلاق.

وإن خاتميته هي لزام نبوته الرسالية ، فنكرانها ـ إذا ـ نكران لرسالته.

ترى ومتى «جاءكم» هذا الرسول الأخير وهو الجاني بعد ما مضوا وقضوا برسالاتهم.

«جاءكم» هنا تطوي الطول التاريخي الرسالي وعرضه الجغرافي ، تعاضيا عن فواصل الزمان والمكان ، بيانا لمحتد الرسالة الاخيرة انها لا تحض الأمة الأخيرة ، بل وتشمل بروحيتها العالية كافة النبيين ، ولأنهم بكتبهم وحكمهم تقدمات لقرآن محمد ومحمد القرآن حيث يهيمنان على النبيين بكتاباتهم ، «اما علمت ان الله تبارك وتعالى بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو روح إلى الأنبياء (عليه السلام) وهم أرواح قبل خلق الخلق ...»(١) مهما

__________________

(١) البحار ١٥ : ١٤ ح ١٧ بسند متصل عن المفضل قال قال لي أبو عبد الله (ع) يا مفضل أما علمت ... بألفي عام؟ قلت : بلى ، قال : أما علمت أنه دعاهم إلى توحيد الله وطاعته واتباع ـ

٢٢٠