الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٥

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٨

ومما تدل عليه آية المباهلة ان أبناء البنت هم أبناء أبيها كما هم آباءهم فان «أبناءنا» لا تعني الا الحسنين.

إذا فكل أبناء الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من فاطمة هم ذريته دون فرق بين المنتسبين بالأب والأم او المنتسبين بأحدهما إليها سلام الله عليها.

ولا دليل لمن يختص سهم السادة بالمنتسبين إليها بآباءهم الا الشعر والحديث الجاهليين فليضربا عرض الحائط فان «ادعوهم لآبائهم» انما هي للأدعياء ، فهل ان الحسنين ـ كذلك ـ من الأدعياء؟.

(إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٢) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ) ٦٣.

«القصص» ككل هو اتباع الأثر تحسسا عما فيه أثر لتبني الحياة الحسنى ، وهكذا يقص القرآن القصص الحق الذي لا مرية فيه ، رفضا للقصص الباطل الذي ملأ الأجواء المضللة.

«ان هذا» الذي قص من قصة الحوار بين الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ونصارى نجران (لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ) وهو المختصر المختصر (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ـ (فَإِنْ تَوَلَّوْا) عن ذلك التوحيد الوحيد ، الى توحيد الثالوث ـ بزعمهم ـ الوهيد (فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ) عقيديا ـ ف :

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (٦٤).

الشرائع الكتابية مهما اختلفت في البعض من طقوسها العبادية ليست

١٨١

لتختلف في توحيد المعبود ، فانه الميزة البارزة القمة للشرعة الكتابية عن الإشراك بالله والإلحاد في الله ، فالتزام الكتابي بتوحيد الله حق مشترك لا حول عنه إلّا للمرتد عن كتب الله الداعية إلى توحيد الله ، وانها كلمة جامعة قامعة وقد أتت في كتابات للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يدعو فيها الملوك والشيوخ والزعماء إلى الإسلام وكما نقرؤه في كتابه الى هرقل عظيم الروم (١).

وهذه الدعوة هي القاطعة القاصعة في كل حوار ان يتبنى المحاورون كلمة سواء بينهم ، ولا سواء بين الكتابيين أفضل وأحرى بالبناء من كلمة التوحيد ، وهكذا ندرس من القرآن كيف نحاور معارضينا كحجة أخيرة حين لا تنفع سائر الحجج وكما نراها هنا بين الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والكتابيين.

وكما أن كلمة التوحيد هي كلمة سواء بيننا وبين كافة الموحدين ، كذلك القرآن كلمة سواء بيننا نحن المسلمين ، فنحن المتابعون للقرآن كأصل هو رأس الزاوية في كل الاسلاميات ، نقول للذين اخلدوا الى دراسات غير قرآنية ، تعالوا إلى كلمة القرآن وهي سواء بيننا وبينكم ، أن نتبناه في كافة الأصول والفروع.

ألستم تقولون إن القرآن هو الدليل الاول والمحور الأصيل ، فلما ذا لا

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ٤٠ ـ أخرج عبد الرزاق والبخاري ومسلم والنسائي وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال حدثني أبو سفيان أن هرقل دعا بكتاب رسول الله (ص) فقرأه فإذا فيه «بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم أسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين و (يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً ـ إلى قوله ـ اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) وفيه أخرج الطبراني عن ابن عباس أن كتاب رسول الله (ص) إلى الكفار (تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ ..) وفيه أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن جريح في الآية قال بلغني أن النبي (ص) دعا يهود أهل المدينة إلى ذلك فأبوا عليه فجاهدهم حتى أتوا بالجزية.

١٨٢

نجده أصيلا في دراساتكم الحوزوية ، وإذا أقبل طلاب مظلومون الى ذلك الكتاب المظلوم تتقولون في نواديكم المنكرة انهم ليسوا من طلاب الحوزة الرسميين؟!.

وترى (أَهْلَ الْكِتابِ) ككل كانوا يعبدون غير الله ، والشرعة الكتابية ـ ككل ـ هي شرعة التوحيد وهم كانوا يطعنون في رأي من عبد غير الله تعالى من مشركة الأمم ومؤلهي الصنم؟.

اجل فإن منهم من يعبدون المسيح كما الله حيث اعتقدوا فيه انه الله او ابن الله ، فعبادته ـ إذا ـ هي عبادة الله! : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) (٥ : ١١٦).

ومن ثم فهم عظموا رؤساءهم ورحبوا علماءهم وقلدوهم في التحليل والتحريم والتأخير والتقديم وتقحموا ما قحّموهم من فاسد العقيدة والمذاهب الرديئة ، قلدوهم كأنهم آلهة إلّا الله ، تقليدا طليقا يحلق على ما يناحر العقلية الكتابية ونصوصها : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ ..) (٥ : ٣١).

ذلك وكما نراهم يركعون ويسجدون للصليب ولتمثال المسيح ، بل ولعلمائهم ، سجودا وتكفيرا وتضاءلا وخضوعا بالغا ـ كما لله ـ لكبرائهم وديانيهم واولي التقدم في دينهم ، وكذلك ملاك أمورهم زمنيا او اقتصاديا او ثقافيا ، يطيعونهم حين لا يطيعون الله ، فالربوبيات الواقعية تربويا لا بد وان تنتهي الى ربوبية الله دونما محادة ومشاقة.

ففيما يسئل رسول الهدى (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : ما كنا نعبدهم يا رسول الله! يقول : أما كانوا يحلون لكم ويحرمون فتأخذون بقولهم؟ فقال :

١٨٣

نعم فقال : هو ذاك (١).

فالتوحيد الحق هو جماع التوحيد المحلّق على وحدة الذات وهي مع الصفات والصفات مع بعضها البعض ، ووحدة الخالقية والمعبودية والطاعة وما الى ذلك من شؤون الألوهية والربوبية في وحدات ، فمن نقض واحدة منها فقد نقض كامل التوحيد ، داخلا في الإشراك بالله ما لم ينزل به سلطانا.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) لله في كامل توحيده وأنتم غير مسلمين له.

فالمسلمون لله هم المعتقدون المحققون كامل درجات التوحيد ، خصيصة تميزهم عمن سواهم ، وأهم مراحل التوحيد هي توحيد العبودية والطاعة ، فهو التحرر الطليق عن كل عبودية او طاعة سوى الله ، اللهم إلّا بأمر الله كطاعة رسول الله ، وأما العبودية فكلّا.

في حقول الانظمة الأرضية تتوفر عبادة من دون الله واتخاذ بعض بعضا أربابا من دون الله ، سواء أكان في أرقى الديمقراطيات ام في أحط الدكتاتوريات ، مهما كانت تلك العبوديات في سجود او ركوع ام في طاعات طليقة لغير الله.

ولكن النظام الاسلامي السامي يحرر الإنسان عن كل عبودية وطاعة لمن سوى الله ، حيوية سليمة طليقة في بعد واحد هو الله.

ولقد تركزت الدعوة التوحيدية الموجهة الى اهل الكتاب إلى مثلثة الجهات ، رفضا لثالوث العبوديات.

١ (أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ) في أية مرحلة من مراحل العبودية ، في السيرة

__________________

(١). نور الثقلين ١ : ٣٥٢ وقد روى أنه لما نزلت هذه الآية قال عدي بن حاتم : ...

١٨٤

والصورة ، في قالة وحالة أماهيه.

٢ (وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً) فيما يختص بساحة الربوبية ، في اية دركة من دركات الإشراك بالله قالة وحالة وفعالة ، عبادة وطاعة وتأثيرا في تكوين او تشريع.

٣ (وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) في الربوبية الخاصة بالله ، وسائر الربوبيات المناحرة لربوبية الله.

وفي (بَعْضُنا بَعْضاً) برهانان اثنان أحدهما على بطلان الربوبية في هذا البين لمكان المباعضة ، إذ لا يمتاز بعض عن بعض لمشاركتها في الكيان أيا كان ، وثانيهما على ان الله ليس كمثله شيء فلا مباعضة بين الرب والمربوبين فلذلك يستحق هو الربوبية لا سواه.

فمهما كان لبعض على بعض ـ في المتشاركين ـ فضل ، وليس ليأهل ربوبية على قسيمه ، فانها غنى مطلقة والربوبية فقر مطلق.

فيا له برهانا ما أوضحه على كلمة التوحيد (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) في جميع شؤون الألوهية ، كلمة سواء في العقلية الإنسانية والكتابية ، فالمتولي عنها متول عنهما على سواء.

وقد ينضم ثالوث السلب في «لا إله» كما توحيد الإيجاب في «إلّا الله» ولا تعني ساير كلمات التوحيد وعباراته إلا كلمة الإخلاص هذه (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ).

وخطاب اهل الكتاب ـ ككل ـ بكلمة سواء ، تنديد بهم في كافة الانحرافات والانجرافات عن التوحيد الحق ، هودا كانوا او نصارى ام ومسلمين : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ).

١٨٥

فليست صيغة «الإسلام ـ و ـ المسلمون» مما تصوغ كامل التوحيد ، كما وأن صيغة التهود والتنصر ليست لتصوغ الإشراك بالله ، ف (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) (٤ : ١٢٣).

وليست (كَلِمَةٍ سَواءٍ) ـ فقط ـ لفظة تقال مهما تأولوها بما لا تعنيه كتوحيد التثليث او التثنية أماهيه ، ام كانت اعمالهم واتجاهاتهم تضادها ام لا تتجاوب معها ، فقد تعني كلمة التوحيد بعد قالها حالها واعمالها في كافة مدارجها ، فهي التي يقول الله عنها «كلمة لا إله إلا الله حصني فمن دخل حصني أمن من عذابي».

ويا له حوارا ما أجمله وأنصفه ان يدخل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه والذين معه في جموع اهل الكتاب ل (كَلِمَةٍ سَواءٍ) دون ان يختصهم بمثلث النهي ، لئلا يكون تعريضا عليهم صراحا ، فانما هو ختام للجدال بالتي هي احسن بأنصف النصفة وهو الالتزام بما هو لزام الشرعة الكتابية لأهلها هودا ونصارى ومسلمين.

ثم وأخيرا (فَإِنْ تَوَلَّوْا) عن (كَلِمَةٍ سَواءٍ) ـ (فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) دونكم دون «أنتم كافرون».

وهنا ندرس من ادب الحوار الرسالي لكل داعية أنه ـ ككل ـ استجاشة للفطرة والعقلية الانسانية والوحدوية الكتابية ما يقرب الى الحق ، او ـ لأقل تقدير ـ لا يغرب عنه ، دونما سباب او انتقام في الخصام.

فرغم عدم السواء في كلمة التوحيد بيننا وبينهم واقعيا يوجههم الله إليها مبدئيا كتابيا ، ف (سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) بسند الشرعة الكتابية بعد سناد الفطرة

١٨٦

والعقلية الانسانية فالمتخلف عنها متخلف عن الكلمة السواء مهما كان مسلما او من هود او نصارى.

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٦٥).

لقد حاج أهل الكتاب رسول الهدى (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في إبراهيم كأنه يهودي أو نصراني ، حجة واقعية من الرسالة الإبراهيمية المقبولة لدى الكل ، فتهوده او تنصره قد يقضي على (كَلِمَةٍ سَواءٍ) او يتهافتان.

ولكنهم محجوجون في هذا المسرح قبل كل شيء بأنه (ما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ) فكيف يعقل تهوّده وتنصره (أَفَلا تَعْقِلُونَ) (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ) (٢ : ١٤٠).

ذلك ولقد جرت العادة للمبطلين ان يضموا أنفسهم الى قادة المحقين لكي يبرروا باطلهم كأنه حق ، حينما كلّت كل حججهم عن إثبات الباطل وتزييف الحق.

(ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (٦٦).

المحاجة الحقة الصادقة هي التي تتبنى العلم ، والتي لا تتبناه هي من الباطل ، فلتكن لأهل الكتاب محاجّتان اثنتان حقة وباطلة ، فما هي الأولى؟ والأخيرة ظاهرة من تلك الحوار ، من المحاجة الحقة للنصارى ما احتجوا به لإثبات رسالة السيد المسيح على اليهود وهم ناكروها ، ومنها لليهود عليهم ما احتجوا به لإبطال ألوهية المسيح والتثليث أماذا من حجاجات حقة بينهم أنفسهم.

١٨٧

ومن الباطلة احتجاجها على المسلمين بالتهود والتنصر لإبراهيم الخليل تثبيتا لاختلاقاتهم المعارضة للشرعة الكتابية ، والحجاج الحقة ليست لتثبت الحق في الحجاج الباطلة ، وإنما يقدر كل بقدرة.

(ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (٦٧).

لأن التهوّد والتنصر اختلقا منذ نزول التوراة والإنجيل ، وهما ـ دون ريب ـ أنزلتا بعد إبراهيم (عليه السلام) فمن المستحيل كون ابراهيم يهوديا او نصرانيا حتى يتمسك في صحتهما بشيخ المرسلين.

ولكن يبقى سؤال : كيف يشك أي ذي مسكة أو سفيه أن ابراهيم الذي عاش قبل نزول الكتابين يقرون هو يهودي او نصراني ، حتى يتطلب ذلك النقاش العريض في عديد من آي الذكر الحكيم؟.

والجواب أن كلّا من الهود والنصارى كانوا ـ ولا يزالون ـ يدعون ان الشرعة الإلهية هي شرعة التوراة او الإنجيل ، امتدادا زمنيا خلفيا وأماميا مهما جاء بهما الرسولان ، فليكن ابراهيم ومن قبله ومن بعده إلى يوم القيامة هودا او نصارى : (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) فالنبيون الاوّلون والآخرون والذين معهم هم هود في الأصل او نصارى حتى يستحقوا دخول الجنة.

ومن الامتداد الخلفي المدّعى : (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى ..) (٢ : ١٤٠).

فبناء على هذه الضابطة المدّعاة ابراهيم الخليل (عليه السلام) هو من الهود او النصارى ، وقضية الشرعة التوراتية أو الإنجيلية هذه التي نعتقدها فنحن ـ إذا ـ من أتباع إبراهيم الخليل (عليه السلام).

١٨٨

والقرآن يزيف في آيات عدّة أولا نزول التوراة والإنجيل إلّا من بعد ابراهيم ، ثم وفي أخرى يصرح بعديد الشرايع الإلهية : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) (٥ : ٤٨) (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ) (٢٢ : ٦٧).

وذلك هو الشأن الشائن كل الطائفيّين المتصلبين ، كأن شرعتهم هي شرعة الكل ، فالمتخلف عنها خارج عن شرعة الله ، تنديدا بسائر كتابات الوحي ورسالاته بأممها.

وترى (حَنِيفاً مُسْلِماً) ليس رجوعا الى مثل الدعوى وقد أنزل القرآن من بعده؟.

كلّا ، حيث الإسلام هو التسليم لله في كافة الأدوار الرسالية ، فالنبيون والذين معهم كلهم كانوا مسلمين لله وكما في آيات عدة ، وما اختصاص المسلمين الآخرين باسم الإسلام ، إلا لمقابلته بالذين يكفرون بشرعة القرآن ، وانها لم تحرّف أو تبدّل فحفظ إسلامه سليما كما أنزل دون سائر كتابات الوحي حيث حرفت عن جهات اشراعها اصلية وفرعية.

(وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) تأييد أكيد للمعني من إسلام إبراهيم ، فان قضيته التقسيم إلى مسلم ومشرك ، وكل المسلمين لله في الأدوار الرسالية مسلمون ومن سواهم مشركون او ملحدون.

وهنا تنحل المشكلة في محاجتهم فيما ليس لهم به علم ، إذ كانوا يعلمون نزول التوراة والإنجيل ولكنهم يجهلون ان ليسا هما كتابي الشرعة الإلهية الممدودين خلفيا وأماميا.

هذا ابراهيم ، ثم ومن هو أولى به انتسابا روحيا هو الأولى في كل الحقول الروحية :

١٨٩

(إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) (٦٨).

ليس الأولى بإبراهيم من يدّعون تهوّده وتنصرّه كذبا وزورا ، ولا المنتسبون إليه سببا او نسبا ، انما هم الذين اتبعوه في حنفه وإسلامه (وَهذَا النَّبِيُّ ...).

فلقد اختصت الأولوية هنا بالذين اتبعوه وبهذا النبي الذي هو في الحق متبوعه في محتد الإسلام ، (وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) على طول خط الرسالات دون فارق بين مؤمن ومؤمن إلا بفارق درجات الايمان ، دون سائر الفوارق المختلفة المختلقة ، عنصرية أو اقليمية أو طائفية أماهيه.

ذلك ـ فكذلك إن اولى الناس بمحمد للذين اتبعوه ، لا الذين انتسبوا اليه بسبب او نسب ام عاصروه وصاحبوه ، مهما كان الاولى بالقرابة والطاعة اولى من وليه بالطاعة لأنه مجمع النورين وكما يروى عن علي (عليه السلام) : فنحن مرة اولى بالقرابة وتارة اولى بالطاعة (١).

ويروى عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) «ان ولي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) من أطاع الله ورسوله وان بعدت لحمته وان عدو محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) من عصى الله ورسوله وإن قربت قرابته» (٢) و : إن أولى الناس بالنبي المتقون فكونوا أنتم بسبيل ذلك فانظروا لا يلقاني الناس

__________________

(١) المصدر عن نهج البلاغة من كتاب له (ع) إلى معاوية جوابا وكتاب الله يجمع لنا ما شذ عنا وهو قوله سبحانه (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) وقوله تعالى (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ).

(٢) نور الثقلين ١ : ٣٥٣ عن المجمع قال أمير المؤمنين علي (ع) ان أولى الناس بالأنبياء أعلمهم بما جاءوا به ثم تلى هذه الآية وقال : ...

١٩٠

يحملون الأعمال وتلقوني بالدنيا تحملونها فأصد عنكم بوجهي ثم قرأ هذه الآية (١).

فصاحب الطاعة اولى بالنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من صاحب القرابة ، والجامع بينهما أولى من صاحب الطاعة ، كما وان القريب العاصي أغرب من الغريب العاصي وكما قال الله في نساء النبي : (يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ .. يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً ، وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً).

وانها ضابطة ثابتة على مدار الزمن الرسالي ، أن الأصل في الأولوية إيجابية وسلبية هي الطاعة إيجابية وسلبية ، ثم تزيدها القرابة بدرجاتها درجات أم دركات.

وهذه الصورة الوضائة المشرقة هي ارق صورة للتجمع الانساني لمجمع واحد ، تمييزا له من القطيع ، صورة تسمح بتلك الوحدة العريقة غير الوهيدة دون قيود إلا ما يختاره الإنسان من صالح العقيدة والعملية.

فبامكان الإنسان أيا كان أن يغير عقيدته وعمله من طالح الى صالح او من صالح إلى طالح فيدخل نفسه في صالحين ام طالحين ، وليس بامكانه ان يغير لونه وميلاده ونسبه ، مهما كان يملك ان يغير لغته او شغله او طبقته بصعوبة ، فتبقى الحواجز ـ إذا ـ سارية المفعول لولا عامل الوحدة العقيدية التي يقرب كل غريب ويغرب كل قريب.

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ٤٣ ـ أخرج ابن أبي حاتم عن الحكم بن ميناء أن رسول الله (ص) قال : يا معشر قريش: ...

١٩١

(وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٦٩)).

(وَدَّتْ ... لَوْ) تحيل ذلك الإضلال المرتجى (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) و «لا يضلون» في ودهم هذا (إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) حيث يتضاعف ضلالهم وعذابهم بما ودّوا (وَما يَشْعُرُونَ) أنهم (ما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ).

ذلك وحتى (لَوْ يُضِلُّونَكُمْ) إن لم تقوموا بشرائط الايمان فإضلالهم راجع بالنتيجة إلى أنفسهم حيث يزدادون جزاء وفاقا : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) (٢٩ : ١٣) (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) (١٦ : ٢٥).

ففيما لا يضل منكم بإضلالهم فالحصر حقيقي دون ريب ، إذ ظلت محاولة الإضلال فاشلة إلّا في أنفسهم إذ يزدادون ضلالا ، وفيما يضل البعض ، فليس الراجع الى المضلّل إلّا ضلال إلى ضلال ، والمضلّل إنما ضل بسوء اختياره ، فالحصر نسبيّ والخاسر الأصيل هو المضلّل ف (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) (٤١ : ٤٦) (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) (٣٠ : ٤٤).

ذلك! ولان ذلك الودّ المضلّل ليس عن إيمان بباطلهم وكفر بحقهم وإنما حسدا وليكونوا سواء : (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) (٢ : ١٠٩) (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً) (٤ : ٨٩).

ومن إضلالهم إياهم قولتهم : أنتم تؤمنون بموسى والمسيح كما نحن مؤمنون فما هو برهانكم على رسالة محمد ونحن به كافرون؟ والجواب أننا نؤمن بالمسيح الذي بشر بمحمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لا المسيح الله او ابن الله

١٩٢

او خاتم الرسل الناكر لرسالة خاتم النبيين (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

ومنه ان النسخ قول بالبداء وان الله يجهل ثم يعلم ، والجواب أنه يبين أمد الحكم السابق قضية المصالح الوقتية في الأحكام المتبدلة ، ثم لا نسخ في أصول الدين وجذور الأحكام ...

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) (٧٠).

(أَهْلَ الْكِتابِ) هم كلهم ، و «تكفرون» لا تعني ـ فيما عنت ـ صراح الكفر بالله ، فانما بآيات الله مهما استلزم الكفر بالله.

و (بِآياتِ اللهِ) تعم آيات الربوبية والآيات الرسولية والرسالية ، ومنها هنا آيات البشارات بالرسالة المحمدية (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الموجودة في كتابات العهدين عتيقة وجديدة ، كما ومنها الآيات التي كانوا يحرفونها ، وقضية الأهلية الكتابية تصديق ساير آيات الوحي ثم (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) ها ، أنها آيات الله ، لأنها في كتاباتكم ، ولأنها في هذه الرسالة تشبه سائر الآيات الرسالية وزيادة.

(وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) مشاهد المسلمين بهذه الرسالة ، وإذا خلا بعضكم إلى بعض تصدقون ، (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) انطباق آيات البشارات على هذه الرسالة السامية.

(وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) بهذه الآيات أنها حقة في أنفسكم وفيما بينكم.

(وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) عليها في مشهد المسلمين ، فكل هذه الشهادات هنا معنية حيث المتعلق المحذوف ل «تشهدون» طليق يليق أن يكون كلا من هذه الأربع مهما اختلفت معانيها ، حيث تتوحد في التنديد بذلك الكفر الماكر ، وانه من أنحس الكفر وأتعسه.

١٩٣

إنهم يكفرون بآيات الله ـ مطلعين على البشارات وغير مطلعين ـ لا لنقص في الدليل ولكنه المصلحية والتضليل ، فتقرعهم بينات الآيات بواقع موقفهم المريب المعيب.

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٧١).

ولقد كانوا يلبسون الحق ويغمرونه في غمار الباطل ، الأمر الذي درجوا عليه منذ البداية وحتى اللحظات الحاضرة ، يقدمهم اليهود ويتبعهم النصارى ، و «إنما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع وأحكام تبتدع يخالف فيها كتاب الله ويتولى عليها رجال رجالا فلو أن الحق خلص لم يكن للباطل حجة ولو أن الباطل خلص لم يكن اختلاف ولكن يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث فيمزجان فيجيئان معا فهنالك استحوذ الشيطان على أولياءه ونجى الذين سبقت لهم من الله الحسنى» (١).

فلبس الحق بلباس الباطل ولبس الباطل بلباس الحق شيطنة مدروسة على مدار الزمن الرسالي يصطاد بها السذّج البله الذين لم يعرفوا الباطل والحق حقهما فهم همج رعاع ، أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح ولا يلجأون الى ركن وثيق.

والمهمة الأولى والأخيرة لهؤلاء المناكيد كتمان الحق حتى لا يتّبع ، أن يلبس بالباطل كما يلبس الباطل بالحق ، والحق ضائع في المسرحين.

(لِمَ تَلْبِسُونَ ... وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) لبسكم ، و «تعلمون» الحق والباطل ، وأنتم اهل الكتاب الذي يعرّفكم الحق والباطل فلم تلبسون؟.

__________________

(١) من خطب للإمام علي أمير المؤمنين (ع) برواية الكافي وفي النهج مثلها بتفاوت يسير.

١٩٤

لقد نرى ـ منذ بزوغ الإسلام حتى الآن جموعا من اهل الكتاب ـ ولا سيما المستشرقين والمبشرين الصليبيين ـ يدسون في التراث الإسلامي ككل ، اللهم إلا القرآن المصون عن كل تحريف بما وعد الله ، دسا في الأحاديث والأحداث والتاريخ وعامة التراث وحتى في مختلف التفسير للقرآن لحد تركوه تيها لا يكاد الباحث غير الدقيق يهتدي فيه إلى معالم الحق.

فهناك شخصيات مدسوسة على الأمة الاسلامية ، مغروسة في أصول حقولها ليؤدوا لأعداء الإسلام من خدمات هامة لا يملكها الأعداء الظاهرون.

وفي الحق إنهم هم حملة الفتن الهدامة في أمة الإسلام ، وعلى أعقابهم كتل ساذجة جاهلة او متجاهلة يحسبون هذه الدسائس من صلب الإسلام ، ويتهمون ناكريها بأنهم خارجون عن الدين : أتنكر حديث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أو أنت منكر روايات الائمة من آل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنت أنت وحدك ترد ما اشتهر بين جماهير المسلمين ، وجادت به أقلام المؤلفين؟!.

وليتهم في خضمّ هذه المعارك الصاخبة رجعوا الى عقليتهم الإسلامية ، إلى القرآن الناطق بالحق ، الفرقان بين كل باطل وحق ، وكما أمرهم الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فيما يقول «فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن فانه حبل الله المتين وسببه الأمين ...».

ولو ان القرآن احتل الأوساط العلمية والعقيدية اختل الدس والتجديف في كل حقوله ، ولكنّما المحاولة المستمرة في الوسط الاسلامي ـ وحتى الحوزات العلمية ـ مستمدة من الوسط الكتابي المستعمر المستحمر ، إنها لا تزال تعمل في إبعاد القرآن وتسفيره عن حوزة الامة وحيازتها ، اكتفاء بقراءته وتجويده في عبارته ، وتجاهلا عن حق دراسته وممارسته.

١٩٥

نرى لبسهم الحق بلباس الباطل بمختلف المحاولات المضلّلة من قالات وفعالات ومنها :

(وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (٧٢).

وقد تعني الآية وجوها يتحملها الأدب لفظيا ومعنويا ان :

١ «آمنوا بما انزل على الذين آمنوا» ككل (آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ).

٢ «آمنوا بما انزل وجه النهار» «واكفروا» به «آخره».

٣ «آمنوا بما انزل وجه النهار» «واكفروا» بما انزل عليهم «آخره».

والجمع المعني منها هو الايمان النفاق البارز ببديل الكفر عن الايمان (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).

وهذه المنافقة اللئيمة مما تؤثر بطبيعة الحال في الذين لم يقع الايمان موقعه المكين في قلوبهم ، فحين يرون طائفة من اهل الكتاب يؤمنون يزدادون إيمانا ، وحين يرونهم يكفرون بعد إيمانهم يرجعون.

ولقد خاب سعيهم بما أوضح الله من كامن كيدهم وميدهم ، أن سراع الكفر بعد الإيمان ليس من صادق الإيمان ، ولينتبه المسلمون على طول الخط أنه من مكائد الكتابيين ـ اللئيمة ـ فلا يدخلوا في هوّاتهم بغوّاتهم.

وهذا أمكر طريقه وأنكرها في تضليل البسطاء وضعاف العقول ، حيث يوقعهم في البلابل ، إذ يظنون أن أهل الكتاب اعرف منهم بالبيئة الكتابية ، فإذا ارتدوا بعد إيمانهم لم يكن ذلك الارتداد إلّا بسبب اطلاعهم ـ بعد تطلعهم الصحيح ـ على بطلان هذا الدين!.

١٩٦

ولقد تطرقوا في هذا الكيد اللئيم طرقا شتى تناسب مختلف الحقول وشتى العقول ، فاختلقوا جيشا جرارا بصورة مثقفين فائقين في مختلف العلوم وهم يحملون اسم الإسلام لا لشيء إلا لانحدارهم من سلالة اسلامية ، رغم انهدارهم عن سلالة الإسلام.

فهم قد يدقون على تقدمية الإسلام وأخرى على رجعيتها دعاية ضالة للتفلت عنه ، وإبعادها عن مختلف مجالات الحياة وجلواتها إشفاقا عليها!.

ولا فحسب في ميادين العلوم التجريبية ، بل وفي العلوم الإسلامية نفسها حيث يمحورون القيلات الشتات التي هي ويلات على المسلمين ، تاركين كتاب الله وراءهم ظهريا.

فهؤلاء وأولاء ـ وهم مسلمون! ـ يشاركون ـ جاهلين او متجاهلين ام ومعاندين ـ يشاركون رأس الثالوث الماكر وهم طائفة مستشرقة ومبشرة من اهل الكتاب ، فهم شركاء ثلاث في سالوسهم بثالوثهم تأدية لدور التضليل.

(وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) (٧٣).

(وَلا تُؤْمِنُوا) من خطاب أهل الكتاب بعضهم بعضا (إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) من المسلمين المضللين ومن إخوانكم ـ ككل ـ في الدين ، والايمان له ليس كالايمان به او ايمانه او معه ، انما هو الوثوق والاطمئنان إلى إخوتهم في دينهم ، فأسرّوا إليهم وجاهروهم كما تحبون.

(قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ) لا هدى الهوى التي أنتم تبغونها ، فهدى الله تعالى طليقة عن عنصريات وقوميات وطائفيات أو لغات ، ومن هدى الله طليقة

١٩٧

(أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ) سواكم (مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ) من شرعة الله وسلطانه ، ولا تعني هذه المماثلة إلّا في اصل الوحي والشرعة دون درجاتها.

فإذا (يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ) فآمنوا به ولهم «او» إذا توليتم (يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ) لماذا كفرتم به وأنكرتموه ، ألأن فضل الله بأيديكم؟ (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) لا من تشاءون (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) دونكم أنتم اللئام المتضايقون الأضنّة.

ان الشراسة الاسرائيلية وتصلّبها العنصري كانت ولا تزال تخيّل إليهم أنهم هم الشعب المختار ، اختار الله لهم شرعته إلى يوم الدين ، دونما أية حجة وبينة ، صدا عن سبيل الله وسدا عن فضل الله وهداه إلّا لهم أنفسهم ، فمن سواهم أتباعهم على طول الخط الرسالي ، كلّا! (وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) :

(يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (٧٤).

اختصاصا في الأدوار الرسالية لكل رسالة برسول ، واختصاصا للرسالة الأخيرة بخاتم النبيين وأفضل الخلق أجمعين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).

(أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (٤٣ : ٣٢) (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ) (١٧ : ١٠٠).

ذلك! وليس اهل الكتاب كلهم كفرة ناكرون ماكرون بل هم كما يقول الله :

١٩٨

(وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٦) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٨) ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ

١٩٩

تَدْرُسُونَ (٧٩) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٨٠) وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٨١) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٨٢) أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٣) قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٨٤) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٨٥)

٢٠٠