الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٥

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٨

ـ عند الله ثلاثا وثلاثين سنة حتى طلبته اليهود وادعت أنها عذبته ودفنته في الأرض حيا وادعى بعضهم أنهم قتلوه وصلبوه وما كان الله ليجعل لهم عليه سلطانا وإنما شبه لهم وما قدروا على عذابه ودفنه ولا على قتله وصلبه لقوله عز وجل (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) فلم يقدروا على قتله وصلبه لأنهم لو قدروا على ذلك لكان تكذيبا لقوله ولكن رفعه الله بعد أن توفاه فلما أراد أن يرفعه أوحى إليه أن يستودع نور الله وحكمته وعلم كتابه به شمعون ابن حمون الصفا خليفته على المؤمنين ففعل ذلك.

وفيه عن الرضا (ع) قد قام عيسى (ع) بالحجة وهو ابن ثلاث سنين ، وفيه ٢٥٧ عنه (ع) قال: إن الله احتج بعيسى (ع) وهو ابن سنتين.

وفي بحار الأنوار ١٤ : ٢٥٦ عن الكافي الحسين بن محمد عن الخيراني عن أبيه قال كنت واقفا بين يدي أبي الحسن (ع) بخراسان فقال له قائل : يا سيدي إن كان كون فإلى من؟ قال : إلى أبي جعفر ابني ، فكأن القائل استصغر سن أبي جعفر عليهما السلام فقال أبو الحسن (ع) : إن الله تبارك وتعالى بعث عيسى بن مريم عليهما السلام رسولا نبيا صاحب شريعة مبتدأة في أصغر من السن الذي فيه أبو جعفر.

أقول : لا يدل «أصغر» هنا على أنه منذ مهده ، فلعله كان منذ سبع أو ثمان قبل التسع التي كان عليها أبو جعفر (ع) وكما في البحار ١٤ : ٢٥٥ عن الكافي عن يزيد الكناسي قال : سألت أبا جعفر (ع) كان عيسى بن مريم عليهما السلام حين تكلم في المهد حجة الله على أهل زمانه؟ فقال : كان يومئذ نبيا حجة الله غير مرسل أما تسمع لقوله حين قال : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ)؟ قلت : فكان يومئذ حجة الله على زكريا (ع) في تلك الحال وهو في المهد؟ فقال : كان عيسى في تلك الحال آية للناس ورحمة الله من الله لمريم عليها السلام حين تكلم فعبّر عنها وكان نبيا حجة على من سمع كلامه في تلك الحال ، ثم صمت فلم يتكلم حتى مضت له سنتان وكان زكريا الحجة لله عز وجل على الناس بعد صمت عيسى (ع) بسنتين ثم مات زكريا (ع) فورثه ابنه يحيى الكتاب والحكمة وهو صبي صغير أما تسمع لقوله عز وجل : (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) ، فلما بلغ عيسى سبع سنين تكلم بالنبوة والرسالة حين أوحى إليه فكان عيسى الحجة على يحيى وعلى الناس أجمعين وليس تبقى الأرض يا أبا خالد يوما واحدا بغير حجة على الناس منذ خلق الله آدم (ع) وأسكنه الأرض.

١٤١

فلو أنه كان يكلم الناس رساليا بينهما كما فيهما لكان صحيح العبارة عنه «ويكلم الناس طول عمره ـ او ـ منذ مهده إلى صعوده» ولكنه (فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً) كما يقال مرجعنا مرجع للتقليد في ايران وفي باكستان ، حيث لا يعني أنه كذلك مرجع في البلاد الفاصلة بينهما فان حق تعبيره ـ إذا ـ في ايران الى باكستان.

فقد كان تكليمه الناس (فِي الْمَهْدِ) بشارة تمهيدية لرسالته كهلا ، وذودا عن ميلاده وصمة الرجس ، فهو يحمل خارقة حالية في أصل تكليمه وهو وليد سويعات ، وأخرى استقبالية حيث يكلمهم رساليا «كهلا».

كما وأن تكليمه «كهلا» وهو في نفسه خارقة ، تحقيقا لكلامه في المهد ، نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء.

ونرى كهلا يحض فقط السنّي الثلاث لرسالته الظاهرة؟ وهي ثابتة منذ بعثه الى ابتعاث محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)!.

إن تكليمه «كهلا» ينقسم إلى التكليم الرسالي منذ بعثه الى صعوده جاهرا ظاهرا ، وتكليمه برسالته منذ صعوده حتى مبعث الرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ثم وتكلمه بغير الرسالة الفعلية حين ينزل ويصلي خلف الإمام المهدي (عليه السلام) ، فإنه منذ الرسالة المحمدية أصبح من أمته (صلى الله عليه وآله وسلم) دون عزل عاضل قاحل ، وإنما هو انعزال فعلي بشأن الائتمام بمن هو أفضل منه ، على عصمته وقداسته الرسالية السامية ، حيث العصمة لا تختص بالرسول والإمام معه أو بعده ، فقد حمل العصمة الثالثة بعد الأولى وهي نفسها إلا الرسالة.

ولئن رفع المسيح (عليه السلام) وله ثلاث وثلاثون سنة والكهل ما اجتمع قوته وكمل شبابه مأخوذا من اكتهل النبات إذا قوي ، ففي غالب الظن

١٤٢

أنه بدأ بالدعوة الرسالية منذ العشرين ، إلّا إذا دل دليل قاطع على أكثر منه ، وقد يروى عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ان سني دعوته الرسالية بشخصه كانت ثلاث وثلاثين سنة ، إذا فقد يكون صعوده في ثلاث وخمسين من عمره الشريف ، ورسالته منذ كهولته كما تلمحناها من «وكهلا» ويدل عليه الإنجيل (١).

وترى ما هو دور (وَمِنَ الصَّالِحِينَ) هنا ، بعد (وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) هناك؟

قد تعني (مِنَ الصَّالِحِينَ) الصلوح لتلك الرسالة العظمى والنبوة العليا ، دون مطلق الصلاح الشامل لمطلق الوجهاء والمقربين.

ذلك ـ وكما يلتمسه سليمان النبي (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) (٢٧ : ١٩) وأفضل منه ابراهيم من قبل (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) (٢٦ : ٨٣) ـ (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) (٢٩ : ٢٧).

__________________

(١) في إنجيل يوحنا ١ : ١٩ : ٢٧ : وهذه شهادة يوحنا حين أرسل اليهود من أورشليم كهنة ولاويين ليسألوه من أنت؟ فاعترف ولم ينكر وأقر إني لست أنا المسيح فسألوه إذا ماذا؟ إيليا أنت؟ فقال : لست أنا ، النبي أنت؟ فأجاب لا ، فقالوا من أنت لنعطي جوابا للذين أرسلونا ماذا تقول عن نفسك؟ قال : أنا صوت صارخ في البرية ، قوّموا طريق الرب كما قال أشعياء النبي وكان المرسلون من الفريسيين فسألوه وقالوا له ما بالك تعمد إن كنت لست المسيح ولا إيليا ولا النبي أجابهم يوحنا قائلا : أنا أعمد بماء ولكن وسطكم قائم الذي لستم تعرفونه هو الذي يأتي بعدي الذي صار قدامي الذي لست بمستحق أن أحل سيور حذائه».

أقول : فقد كان المسيح قائما بينهم وهم لا يعرفونه بالرسالة الفعلية وكيف يقوم بينهم وهو في المهد صبيا.

١٤٣

هذا ـ وقد تعني (مِنَ الصَّالِحِينَ) فيما عنت تحليق الصلاح على كل كيانه ، كعبارة ناطقة عن كل نبوة الصلاح وحلقاته بعد ما ذكر قسم منها عظيم ، فهو إذا تعميم بعد تخصيص.

(قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ٤٧.

«قالت» محتارة من بشارة الولادة «رب» الذي ربيتني تكوينيا لا أنتج ولدا إلا بأسبابه المقررة عندك ، وتشريعيا إذ طهرتني عن كل سوء وفحشاء ف «أنى» بالإمكان عاديا (أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) لا حلا ولا ـ عوذا بك ـ حراما : (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) (١٩ : ٢٠).

(قالَ كَذلِكِ) البعيد في حساب الخلق ، العظيم الكريم في تكريم من يشاء (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) بمشيئة طليقة دونما رادع أو مانع (إِذا قَضى أَمْراً) ليكون أيا كان ، فليس يحتاج إلى تقدمات هو مقرّرها ومقدّرها في متعوّد التكوين (فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ) وهو قول الإرادة الربانية ولا مخاطب له إلا التكوين دون الكائن به فانه من تكوين الكائن (كُنْ فَيَكُونُ) دونما نظرة لآمر آخر او أمر آخر.

(وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) ٤٨.

علّ «الكتاب» هنا ـ وهو جنسه ـ كل كتابات السماء النازلة قبله ، وذلك من شروطات كل رسالة لاحقة أن يعلّم رسولها سابقتها بسابغتها ، حيث الرسالات ككل هي سلسلة موصولة بعضها ببعض ، صادرة عن مصدر واحد ، واردة إلى امة واحدة ، مهما اختلفت شكليات وطقوس ظاهرية فيها.

و «الحكمة» هنا بعد الكتاب ، هي تحكيم عرى الوحدة بين كتابات السماء في خلد الرسول ، كما هو بأحرى تحكيم الإنجيل عن أي إنفلات في لفظه

١٤٤

او معناه ، استفسارا لبعضه ببعض ، واستيحاء فيما يحتاج الى تفسيره من الله.

وذلك بعد تحكيم فطرته وعقليته وكل إدراكاته وإحساساته بالعصمة البشرية والإلهية تحكيما عن كل انفراط وانحطاط ليكون حكيما في حمل رسالة السماء والدعوة الرسالية الى الله.

ثم «التورية والإنجيل» هما أهم مصاديق «الكتاب» قبل القرآن ، وأتمها رباطا بالرسالة العيسوية ، حيث التوراة تحمل شريعة الناموس التي لم تبدل في الإنجيل إلّا نذرا.

ومما يلمح له إفراد «التورية والإنجيل» وحدة كلّ منهما ، دون كثرة مختلقة ولا سيما في الإنجيل.

(وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ٤٩.

أتراه فقط (رَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) دون كافة المكلفين؟ وكما يروى (١) وولاية العزم في رسالة يحملها المسيح تقتضي طليق الرسالة والدعوة دون اختصاص!.

إنه (رَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) كمبدء الدعوة ومنطلقها كما كانت لموسى وابراهيم ونوح (عليهم السلام) ، وكذلك هذا النبي (صلى الله عليه وآله

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٣٤٣ في كتاب كمال الدين وتمام النعمة بإسناده إلى محمد بن الفضل عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليهما السلام حديث طويل يقول فيه : ثم إن الله عز وجل أرسل عيسى (ع) إلى بني إسرائيل خاصة فكانت نبوته ببيت المقدس.

١٤٥

وسلم) الذي بدأت رسالته في العرب ثم الى الناس كافة.

وهذه طبيعة الحال لكل داعية ان يتبنى في البداية كتلة خاصة هم اقرب اليه وأحوج الى الدعوة ام وأحرى لحملها الى سائر المدعوين ، وقد بلغت عامة الرسالة العيسوية لحد (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) (٤ : ١٥٩) وهي كالرسالة الموسوية : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (٢٨ : ٤٣).

ذلك! مع تصاريح عدة في آيات ان الرسولين أرسلا إلى بني إسرائيل كأم الدعوة في قراها توحيدا وتوطيدا لعراها : (وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً) (٢٨ : ٥٩).

ثم وطبيعة الحال في رسالة ناسخة لما قبلها وإن في حكم واحد ، أن تشمل كافة المكلفين ، ذودا عن اي ترجيح بلا مرجح ، وتوحيدا للشرعة الحاكمة على العالمين في كل دور من أدوار الشرايع الخمس (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) (٤٢ : ١٣) إذا فكيف بالإمكان تفرق شرعة الله في دور واحد وبإذن الله : (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) (١١ : ١١٩) وحاكمية اكثر من شرعة واحدة في دور واحد هي حاكمية الاختلاف القاصد وهو خلاف الرحمة.

واما واقع اتباع شرائع عدة في طائل الزمن الرسالي ، فليس الا من واقع التخلف عن شرعة الله ما لم يأذن به الله ، حيث أمرنا (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ)!.

«ورسولا ... أني» وذلك هو القالة الثانية بعد دعوى الرسالة (أَنِّي قَدْ

١٤٦

جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ) ربانية على ما أدعيه من رسالة ، آية قاطعة قاصعة أنني رسول من الله ، فليست ـ إذا ـ إلّا خارقة ربانية لا يستطيع عليها أحد إلا الله : (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ) كوسيط في تحقيق تخليق الآية الرسالية و (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ) (٣٥ : ٣) فنسبة الخالقية إلى المسيح (عليه السلام) ليست إلّا بوساطة فيها والخالق هو الله ، كما الوالد والد أصالة وقد يعبر عنه بالخالق وسيطا لخلق الله (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) (٤٠ : ٦٢).

(أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ) فهنا أذنان تكوينيان : خلقا كهيئة الطير وهي الهيئة الجسدانية للطير بالأجزاء الحيوانية عظما ولحما وعروقا ودما وريشا ، ثم نفخا فيه تكوينا لروح الطير : (... وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي ...) (٥ : ١١٠) ف «بإذني .... بإذني» تحلقان على كلا الخلقين : خلق جسم الطير ثم خلق روحها.

إذا فلا دور للمسيح هنا في «اخلق» إلا اختلاق صورة طينية من الطير ، قد يفوقه فيه عمال التماثيل ، وأما تحوّل الهيئة الطينية هيئة جسدانية للطير ، ثم نفخ الروح فيها فتكون طيرا ، أما هما فليسا إلّا بإذن الله.

ودور المسيح هنا ، الممتاز عمن سواه ، أنه يحمل آية ربانية دالة على رسالته ، أن الله يأذن لما صنعه أن يكون كهيئة الطير ، ويأذن بما نفخ فيها أن تكون طيرا ، تدليلا على اختصاصه بالله ، وما هو هنا إلّا رسالة الله.

فلا دور للمسيح في خلق كشريك لله ، أو مخوّل من عند الله ، وعوذا بالله! فإنما يحمل آية ربانية على اختصاصه بكرامة الرسالة ، دون أن يحيط علما أو قدرة بآية الله ، وإلا لم تكن آية خاصة بالله ، ليعرف من خلالها رسالة الله.

١٤٧

وهكذا تكون كافة الآيات الرسالية لكافة رسل الله بأسرها في حصرها بالله ، دون تدخّل لهم فيها مستقلين فمستغلين ، ولا مخوّلين ، ولا شركاء لله في آيات الله ، فإنما هم رسل الله فيما يأتون به من آية رسولية أو رسالية ، ليس لهم من الأمر شيء تكوينا ولا تشريعا ، فانما هم حملة شرعة الله بعصمة ربانية تعصمهم عن الخطإ في البلاغ بأبعاده تحملا للوحي وإبلاغا وتطبيقا شخصيا وجماعيا.

ذلك! وكذلك الثلاثة الأخرى بأضرابها من آيات رسولية او رسالية : (وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ) وهو المولود مطموس العين ، أو أعم منه ومن الضرير بعد كونه بصيرا «والأبرص» الأبيض الجلد بعضا ، وهو داء معروف يصيب الجلد (وَأُحْيِ الْمَوْتى) وكل ذلك كما الطير في بعدية (بِإِذْنِ اللهِ) لا سواه : (وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي) (٥ : ١١٠) كذلك (وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) بإنبائي ، آيات اربع تتجاوب في كونها آية للرسالة العيسوية (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

هذه خطوة أولى لهذه الرسالة السامية تثبت نفسها ، ومن ثم كتصديق لها وبيان لمادتها الأصيلة :

(وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) ٥٠.

فتصديق ما بين يديه من التوراة تصديق لرسالة الإنجيل فإن رسالات السماء تتجاوب في جذورها مهما اختلفت في بعض شواكلها ، إلا أن رسالة الإنجيل هي هي رسالة التوراة اللهم إلا في تحليل بعض المحرمات الابتلائية او العقابية : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ..) (٤ : ١٦٠) ومن هذه الطيبات : ـ (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ

١٤٨

الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ) (٦ : ١٤٦).

ومنها : (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) (٧ : ١٦٣).

فقد تكفي في ولاية العزم بعض الاختلاف بين أحكام الشرعتين نسخا او تكميلا ، توسيعا او تضييقا ، وشريعة الإنجيل تابعة لشريعة التوراة إلا في تحليل البعض مما حرم في التوراة.

لذلك ترى رسل الجن يعتبرون شرعة القرآن بعد التوراة دون ذكر للإنجيل : (قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى ...) (٤٦ : ٢٩).

فإنما الدعوة الرسالية المسيحية تركز على التصليحات الخلقية في الجو اليهودي القاسي ، وتخليص التوراة عما تدخّل فيها من تحريفات وتجديفات ، رفعا لأعلام شريعة الناموس (١).

ذلك ـ وقد يصدقه الإنجيل نقلا عن المسيح (عليه السلام) : «لا تظنوا

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٣٤٤ في تفسير العياشي عن محمد الحلبي عن أبي عبد الله (ع) قال : كان بين داود وعيسى بن مريم أربعمأة سنة وكان شريعة عيسى (ع) أنه بعث بالتوحيد والإخلاص وبما أوصى به نوح وإبراهيم وموسى وأنزل عليه الإنجيل وأخذ عليه الميثاق الذي أخذ على النبيين وشرع له في الكتاب إقام الصلاة مع الدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتحريم الحرام وتحليل الحلال وأنزل عليه في الإنجيل مواعظ وأمثال وحدود ليس فيها قصاص ولا أحكام حدود ولا فرض مواريث وأنزل عليه تخفيف ما كان نزل على موسى في التوراة وهو قول الله في الذي قال عيسى ابن مريم لبني إسرائيلى (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) وأمر عيسى من معه ممن اتبعه المؤمنين أن يؤمنوا بشريعة التوراة والإنجيل.

١٤٩

أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء. ما جئت لأنقض بل لأكمل. فمن نقض إحدى هذه الوصايا الصغرى وعلّم الناس هكذا يدعى أصغر في ملكوت السماوات. وأما من عمل وعلم فهذا يدعى عظيما في ملكوت السماوات» (متى ٥ : ١٧ ـ ١٩) (١).

فالإنجيل تكملة وإحياء لروح التوراة ، ولروح الدين المطموسة في قلوب بني إسرائيل.

فالتوراة هي قاعدة الإنجيل ، حيث تحمل الشرعة التي يقوم عليها نظام المجتمع ولم يعدل فيها الإنجيل إلا القليل ، فإنما هو نفخة إحياء وتجديد لروح الدين ، وتهذيب وتليين للضمير القاسي الإسرائيلي.

ثم (وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) تعني الآية الرسالية وعديدها ومديدها كوحيدها لأنها تتجه إلى جهة واحدة مهما توحدت أو كثرت.

فلما اكتملت الادلة الرسولية والرسالية وتبين القصد من هذه الرسالة ، إذا (فَاتَّقُوا اللهَ) عن خلافي «وأطيعون» فيما أدعوا اليه :

(إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) ٥١.

ذلك هو أول الأحكام العقائدية المسيحية وكما في (مرقس ١٢ : ٢٩) : «أول الأحكام أن نعرف أن إلهنا واحد» و «ان الحياة الابدية معرفة الله بالوحدانية وان المسيح رسوله» (يوحنا ١٧ : ٣).

ذلك! فالهرطقات الدخيلة الكنسية الانجيلية في انه «ابن الله» (متى ٣ : ١٧) و «أول مواليده» (رعب ١ : ٩) وانه «هو الله والكلمة»

__________________

(١). وقد يشير هنا السيد المسيح (ع) بمن هدّم بناية شريعة الناموس وهو بولص ومعناه الصغير.

١٥٠

(يوحنا ١ : ١) «الأزلي» (وعب ٩ : ١٤) ومثل يهوه : «الله» (متى ٢٣ : ٣٤ ولوقا ١١ : ٤٩) وما أشبه ، هذه الخرافات المتخلفة عن شرعة الله هي من الدخائل الشركية المتسربة المترسبة في الأناجيل! أم مؤوّلة ، فقد تعني الكلمة التي هو الله كلمة القدرة الذاتية ، والتي عند الله كلمة القدرة الفعلية ومن مظاهرها السيد المسيح وسائر الخليقة.

(فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) ٥٢.

لقد (أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ) بقالاته الرسالية الخمس وأهمها خامستها : (وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) ولم يكن الكفر فقط من اليهود الناكرين لرسالته ، المتهمين إياه أنه وليد السفاح ، بل وممن صدقه ولكنه غالى فيه أنه ابن الله أو الله ، فقد هلك فيه اثنان محب غال ومبغض قال ، معركة مصيرية صاخبة لا بد من علاجها الصارم ، ليس يقوم به وحده فليطلب أنصارا إلى الله ، ف : (قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ)؟

(أَنْصارِي إِلَى اللهِ) لا «أنصاري مع الله» خلاف ما قد يهرف بما لا يعرف من مداليل الكلام توجيها ل (إِلَى الْمَرافِقِ) في آية الوضوء لتكون «مع المرافق» تحويلا عليلا لدلالته المزعومة على غاية الغسل في اليدين وهي تعني غاية المغسول «اغسلوا أيديكم» الكائنة (إِلَى الْمَرافِقِ).

أجل (أَنْصارِي إِلَى اللهِ) إذ لا معية في نصرة الله أن يستنصر المسيح كتلة مع الله ، شركاء ثلاث فيما يريده الله! ولا معنى للمعية هنا فان الله غاية في مسرح التوحيد وليس سبيلا.

فإنما تعني (أَنْصارِي إِلَى اللهِ) هنا ما تعنيه في الصف : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ

١٥١

وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) (١٤) أن يتناصروا في سبيل الله والحفاظ على دين الله ، لا أن يشاركوا الله في النصرة الى الله (١).

إن نصرة الله لا تعني إلّا نصرة دين الله ، وأما النصرة مع الله فقد تكون إشراكا بالله (وَ (٢) ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) (٢٩ : ٢٢) (وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً) (٤ : ٤٥).

وانما سميت النصارى نصارى لأنهم ـ في ذلك المسرح الحاسم ـ أصبحوا أنصار المسيح إلى الله فهم ـ إذا ـ أنصار الله بنفس المعنى لا أنهم أنصاره مع الله!.

ف (أَنْصارُ اللهِ) هم أنصار الى الله وفي الله ، وليسوا أنصار المسيح أمن سواه مع الله ، وتقدير «مع» غير وارد في الاضافة بتاتا ، فانما المقدر فيه بين «من ـ الى ـ في» والأوسط هو المعني هنا كما تطلبه المسيح (عليه السلام) مهما صحت «في».

وكما تعني (أَنْصارُ اللهِ) أنصارا الى الله ، كذلك تعنيه (آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) فهل انهم بعد أنصار مع الله ، ايمانا مع الله بالله؟ فبمن يؤمن الله والمسيح والأنصار؟!

ف (أَنْصارِي إِلَى اللهِ) و (أَنْصارُ اللهِ) و (آمَنَّا بِاللهِ) تعبيرات ثلاث عما تطلبه المسيح (عليه السلام) منهم في هذه المعركة الصاخبة.

فلقد كانت ضرورة رسولية ورسالية ذلك الاستنصار في بزوغ الدعوة

__________________

(١). راجع تفسير آية الفرقان (٢٨ : ٣١٩ ـ ٣٢١.

١٥٢

حيث ابتليت بإحساس الكفر وهو ظهوره ، وهذه هي قضية كل دعوة أنها إذا بزغت عارضته النكران والمعارضة ، فلا بد للداعية أن يستخلص من الجموع كتلة مؤمنة صامدة ليمضي معهم قدما في دعوته ، فلا تذهب هملا وسدى منذ بدايته ، وكما فعله رسول الهدى (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في بيعة العقبة والرضوان ، تركيزا للطاقات وتجميعا للقوات لاستقامة امر الدعوة.

(رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) ٥٣.

وتلك هي غاية الايمان بالرسول ان يكونوا معه أنصارا الى الله ، ايمانا بالله إسلاما لله وايمانا بما انزل الله وبرسول الله ، وقد يكون ذلك الايمان الصامد ايحاء لهم من الله اضافة الى ايمانهم سلفا بالله : (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ) (٥ : ١١١) مما يدل على قمة الإيمان والإسلام بالوحي ، فهم ـ إذا ـ أصبحوا رسلا مع المسيح تحت ظله ، ولا تجد تنديدا بهم في الذكر الحكيم إلّا تبجيلا وتجليلا بمثلث الوحي والإيمان والإسلام.

وترى (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) تعني شهادة الأعمال يوم يقوم الأشهاد ، علّه هو مهما عنت معه سواه ، فكما المسيح شاهد من الشهود يوم يقوم الأشهاد (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) هناك ومنهم السيد المسيح إذ نحن معه أنصار الى الله.

وقد تعني ـ مع ما عنت ـ الشهادة على تبليغ الرسالة بعد ما شهدوا على حقيقتها ، فهذه معية مثلثة بمثلث الشهادات ، بفارق ان العبارة عن الأخريين «من الشاهدين» وتختص «مع» بالأولى.

وقد تعني رابعة هي الشهادة على التوحيد في الشاهدين (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ) طلبا ان يكتبهم مع اولي العلم : النبيين ، في تلك الشهادة الغالية.

١٥٣

وخامسة هي شهود الله ببصيرة القلب وحقيقة اليقين وكما يروى عن رسول الهدى (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : اعبد ربك كأنك تراه فان لم تكن تراه فانه يراك.

وسادسة هي شهود العراقيل ، وتحمّلها في سبيل الدعوة ، أماهيه من شهادات لابقة لائقة بمن هو من أنصار الله.

(وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) ٥٤.

«ومكروا» هؤلاء الذين كفروا وأحس عيسى منهم الكفر ، دون الحواريين ـ وعوذا بالله ـ إذ هم حقا آمنوا بالله كما وصدقهم الله ، فانما الماكرون هم الكافرون من اليهود حيث اشتروه بثمن بخمس دراهم معدودة وسلموه ـ فيما زعموه ـ الى الصليب ، وكما يندّد بهم في الآية التالية (وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) ويعظم موقف الحواريين (وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ...).

لقد اغتالته اليهود ليقتلوه ويصلبوه بمكر مكروه (وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) : (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً. وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) (٤ : ١٥٩).

وتراهم كيف مكروا؟ وليس القتل والصلب مكرا إلا تخفيا واغتيالا!؟.

(وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) في القدر المعلوم مما تعنيه تبين (وَمَكَرَ اللهُ) أنه ألقي صورة المسيح على ما كره فصلب بديلا عنه ورفعه الله ، فليس الرفع الجاهر مكرا ، انما هو بعد إلقاء صورة المسيح على ما كره ورفعه خفية ف «شبه لهم»

١٥٤

ان المصلوب هو المسيح بما مكروا «ما لهم به من علم الاتباع الظن ..»! واما كيف مكروا؟ (وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) تلمح انهم دلوا عليه حيلة وغيلة.

والمكر في أصله سعي بالفساد في خفية ومداجاة ، وهو هو في الماكرين الضالين من الخلق ، وهو المقابلة بعملية خافية عدلا وجزاء وفاقا من الله إصلاحا لما أفسد الماكرون.

وقد يروى ان المسيح مع تلاميذه كانوا في غرفة منعزلة عن بأس اليهود المتربصين به دائرة السوء فدلهم واحد منهم او من اليهود وهو «يهودا أسخر يوطي» (١) على مكانه فالقى الله شبهه عليه فصلب بديلا عنه ، ورواية الصلب المفصلة عائدة الى آية النساء ، وعندها قول فصل حول تلك المحاولة الماكرة وما مكرهم الله ذودا عن ساحة المسيح (عليه السلام).

هنا «شبه لهم» دون «عليهم» لئلا يخيل إلينا انه مجرد شبهتهم في قتله او

__________________

(١) اتفقت النصارى على أن يهوذا الأسخر يوطي هو الذي دل على يسوع المسيح (ع) وكان رجلا عاميا من بلدة «خريوت» في أرض يهوذا ، تبع المسيح وصار من خواص أتباعه وحوارييه الاثنى عشر ومن الغريب أنه كان يشبه المسيح في خلقه كما نقل (جورج سايل) الإنكليزي في ترجمته للقرآن فيما علقه على سورة آل عمران ، نقل وعزى هذا القول إلى (السيرنثيين والكربوكراتيين) من أقدم فرق النصارى الذين أنكروا صلب المسيح وصرّحوا بأن الذي صلب هو يهوذا الذي كان يشبهه شبها تاما.

أقول : في كون يهوذا من الحواريين وأنه كان يشبه المسيح (ع) نظر ، حيث ان الحواريين ممدوحون في القرآن وموحى إليهم في الإيمان بالمسيح فهم رسل المسيح من قبل الله لا يتطرق إليهم أي فسوق فضلا عن تلك الخيانة الكبرى.

ثم «شبه لهم» صريحة في حدوث تلك الشبهة ، فتنافى كونه شبيهه خلقا.

فالظاهر أنه كان من اليهود الذين دخلوا بين المؤمنين غير الحواريين ، فمكر مكره ومكر الله والله خير الماكرين.

١٥٥

صلبه ، بل و «شبه» غير المسيح كالمسيح «لهم» هؤلاء الذين أرادوا قتله ، واما الحواريون فقد بشرهم المسيح ان الله رافعه اليه وان «ايدي اليهود لم تمسه» : «فأرسل الفريسيون ورؤساء الكهنة خداما ليمسكوه. فقال لهم يسوع انا معكم زمانا يسيرا بعد ثم امضي الى الذي أرسلني ستطلبونني ولا تجدونني وحيث أكون انا لا تقدرون أنتم ان تأتوا» (يوحنا ٧ : ٣٢ ـ ٣٤).

وفرية المكر على بعض حواري المسيح (عليه السلام) تدفعها صيانة الحواريين حسب القرآن ، وأن ضمير الجمع في «مكروا» راجع الى «الذين كفروا» مهما تقدم واحد منهم لتحقيق مكرهم أن دلهم على مكانه مكرا بما اشتروه منه بثمن بخس دراهم معدودة ليحققوا مكر القتل والصلب بحقه او وان يهوذا كان حسب الظاهر من حوارييه منافقا في مظهره فدل على مكانه.

(إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) ٥٥.

(وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ إِذْ قالَ اللهُ) فالمكران هما متقارنان ، وتوفّيه (عليه السلام) ورفعه هما من تتمة مكر الله حيث «شبه لهم» أولا ورفعه أخيرا فنجاه من بأسهم وبؤسهم.

وترى (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) تعني توفي الموت؟ وهو حسب اللغة ومصطلح القرآن أعم من الموت! فهو لغويا الأخذ وافيا ، سواء كان توفيا يحلق على الإنسان إماتة : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) (٣٢ : ١١) حيث يأخذ الأرواح والأجساد في قبضة الصيانة فلا تضل عنه مهما ضلت عمن سواه ، ام إنامة : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) (٣٩ : ٤٢) حيث تضم النوم الى خضمّ التوفي وهو أخذ الروح الانسانية عن البدن والروح

١٥٦

الحيوانية باقية بقية للحياة ، وهما يتشاركان في أخذ الروح الانسانية عن البدن كاملة.

ذلك ، ومن التوفي أخذ الإنسان بكلا جزئيه عن مسرح الحياة الارضية الى حياةسماوية دون إماتة موتا ام نوما وهذا هو المستفاد من جماع الآيات بحق المسيح (عليه السلام) ، فليس التوفي هو الإماتة بعينها مهما كانت منها حيث يتوفى الموت : (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ) (٤ : ١٥) والموت لا يميت وانما يأخذ الإنسان وافيا طليقا كما يأخذه النوم نسبيا غير طليق ، وثالث يأخذه وافيا دون إماتة ولا إنامة.

فهنا (وَرافِعُكَ إِلَيَّ) تعني مسرح الأمن عن بأس الكفار «ومطهرك» أمن عن لعنة الصلب المختلقة بينهم ، وقد يكفي رفعه الى سماءه تطهيرا له عن بأسه في بعدي الصلب ، قتلا ولعنا ... صحيح ان الله ليس له مكان حتى تعني (رافِعُكَ إِلَيَّ) مكانا لله ، ولكنه قد يعني مكانا عليا كما تعنيه في إدريس (عليه السلام) : (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) (١٩ : ٥٧) وكما تعنيه ـ ايضا ـ آيات الرجوع الى الله ، والحياة عند الله (بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) والرحمة لدى الله ، إذا ف (رافِعُكَ إِلَيَّ) رفع له الى مكان الأمن ومكانة الرحمة غير الخليطة بأية زحمة وكما وصفت (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى. وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى).

ذلك ، وتزيده وضوحا آية النساء : (... وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً. بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ ... وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) (١٥٩).

فلأن أهل الكتاب حتى المسيحيين منهم لم يؤمنوا به حتى الآن فهو ـ إذا ـ حي إلى الآن وسوف يؤمنون به زمن القائم المهدي (عليه السلام) لما يرونه

١٥٧

يصلي وراءه (عليه السلام) ، وكما «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لليهود إن عيسى لم يمت وانه راجع إليكم قبل يوم القيامة» (١).

ثم التحول من مسرح الحياة الأرضية لا يخرج عن خمس تحولات : قتلا ـ صلبا ـ موتا ـ نوما ـ وانتقالا الى حياة فوق الارضية في جنة من الكواكب (٢) قد

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ٣٦ قال الحسن قال رسول الله (ص) لليهود ...

وفي نور الثقلين ١ : ٥٧١ شهر بن حوشب يسأله الحجاج يا شهر! آية في كتاب الله قد أعيتني ، قال: أيها الأمير أية آية هي؟ فقال قوله : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) والله إني لأمّر باليهودي والنصراني فتضرب عنقه ثم أرمقه بعيني فما أراه يحرك شفتيه حتى يخمد فقلت أصلح الله الأمير ليس على ما تأولت قال : كيف هو؟ قلت : إن عيسى ينزل قبل يوم القيامة إلى الدنيا فلا يبقى أهل ملة يهودي ولا غيره إلّا آمن به قبل موته ويصلي خلف المهدي (ع) قال : ويحك أنى لك هذا ومن أين جئت به؟ فقلت : حدثني به محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام ، فقال : جئت والله بها من عين صافية.

(٢) البحار ١٤ : ٣٣٥ ـ لي : بإسناده عن حبيب بن عمر قال : لما توفي أمير المؤمنين (ع) قام الحسن خطيبا فقال : أيها الناس في هذه الليلة رفع عيسى بن مريم عليهما السلام.

وفيه ٣٣٦ عن حمران بن أعين عن أبي جعفر عليهما السلام قال : إن عيسى وعد أصحابه ليلة رفعه الله إليه فاجتمعوا إليه عند المساء وهم إثنا عشر رجلا فأدخلهم بيتا ثم خرج عليهم من عين في زاوية البيت وهو ينفض رأسه من الماء فقال : إن الله أوحى إلي أنه رافعي إليه الساعة ومطهري من اليهود ...

وفيه ٣٣٧ بسند عن جعفر عن آبائه عن النبي (ص) قال : لما اجتمعت اليهود على عيسى (ع) ليقتلوه بزعمهم أتاه جبرئيل (ع) فغشاه بجناحه وطمح عيسى ببصره فإذا هو بكتاب في جناح جبرئيل :

«اللهم إني أدعوك باسمك الواحد الأعز وأدعوك اللهم باسمك الصمد وأدعوك اللهم باسمك العظيم الوتر وأدعوك اللهم باسمك الكبير المتعال الذي ثبت أركانك كلها أن تكشف عني ما أصبحت وأمسيت فيه» فلما دعا به عيسى (ع) أوحى الله تعالى إلى جبرئيل : ارفعه عندي ثم قال رسول الله (ص) يا بني عبد المطلب سلوا ربكم بهؤلاء الكلمات فو الذي نفسي بيده ما دعا بهن عبد ـ

١٥٨

تكون هي جنة آدم وقد رفع إليها المسيح (عليه السلام).

والأولان منفيان بآية النساء : (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ) وكلّ من النوم والموت له صيغته الخاصة ، فلا يعني رفعه اليه ـ كما هنا وفي آية النساء ـ إلّا رفعه عن ذلك المسرح النكد البائس ، تطهيرا لساحته عن مكر الذين كفروا ، وذودا عن سماحته لعنة الصلب ، المزعومة لدى الكنسيين البولسيين ، فقد توفاه الله أخذا وافيا سليما عن بأسهم ثم رفعه اليه استمرارا لتوفيه.

فليس رفعه اليه تعالى ـ فقط ـ رفعا معنويا إذ كان رفيعا في معناه ومغزاه ، كما لا يعني رفعه عن الحياة ، بل هو رفع عن الحياة الأرضية الى حياة سماوية سامية عاشها أبوانا الأولان سويعات ، ويعيشها السيد المسيح (عليه السلام) قرونا طائلة حتى ينزل الى الأرض زمن المهدي (عليه السلام). تلك هي الميزة العيسوية ، ومن ثم للذين اتبعوه :

(وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) الفوقية هنا الى يوم القيامة قد لا تشمل نفس القيامة فهي ـ إذا ـ فوقية تناسب الحياة الدنيا تشريعيا وتكوينيا ، والأول يحلق على كافة الكرامات والاختصاصات في حقل الأحكام الشرعية ، والثاني قد يعني تفوقا بالحجة ، ثم تفوقا زمنيا إن قاموا بشروط النصرة الربانية.

و (الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ) هم المؤمنون به كما آمن الحواريون ، فهم ـ إذا ـ

__________________

ـ بإخلاص دينه إلّا اهتزله العرش وإلّا قال الله لملائكته : اشهدوا أني استجبت له بهن وأعطيته سؤله في عاجل دنياه وآجل آخرته ثم قال لأصحابه : سلوا بها ولا تستبطئوا الإجابة.

وفيه ٣٣٨ عن أبي عبد الله (ع) قال : رفع عيسى بن مريم عليهما السلام بمدرعة صوف من غزل مريم ومن نسج مريم ومن خياطة مريم عليها السلام فلما انتهى إلى السماء نودي : يا عيسى ألق عنك زينة الدنيا.

١٥٩

المسيحيون الحقيقيون المتبعون للسيد المسيح عقيديا وخلقيا وعمليا على مختلف درجاتهم ، ما دامت رسالته وشرعته محكمة ، ولمّا جاء رسول الهدى (صلى الله عليه وآله وسلم) فهم المسلمون منهم ومن سواهم ، حيث الايمان بشرعة القرآن هو من قضايا الايمان بشرعة الإنجيل ، وكما يروى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله : إنها لن تبرح عصابة من امتي يقاتلون على الحق ظاهرين على الناس حتى يأتي امر الله وهم على ذلك ثم قرأ هذه الآية(١).

ذلك وقد تعني هذه الفوقية ـ بما عنت ـ فوقية المسيحيين الملتزمين على الكافرين بالمسيح ، مهما لم يسلموا ، شرط إلا يعاندوا من آمن به المسيح (عليه السلام) وهو محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

ولقد نرى تفوق المسيحيين على اليهود قبل الإسلام وبعده حتى الآن ، مهما اختلقت دويلة العصابات الصهيونية منذ زمن قريب ، فانها من عملاء الاستعمار المسيحي.

والنقطة الرئيسية في ذلك التفوق الموعود توفية أجور المؤمنين والعذاب الشديد للكافرين منذ الدنيا الى يوم الدين كما تبين الآيتان التاليتان ، المفرّعتان هذه التوفية على ذلك التفوق ، بما انه من أهم درجاته وأعظم مكرماته.

فهذه فوقية روحية مضمونة للذين آمنوا وخلافها على الذين كفروا على طول خط الحياة في الأولى والأخرى ، وقد تجاوبها الفوقية الزمنية إن قاموا بشرائط الايمان كملا ولم يتركوها هملا وكما قال الله (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ). حيث المخاطبون هم المعنيون بآيات

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ٣٧ ـ أخرج ابن عساكر عن معاوية بن أبي سفيان قال سمعت رسول الله (ص) يقول: ...

١٦٠