الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٥

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٨

هنا زكريا المكفل مريم لما يرى هذه الكرامة الربانية لها ، تتحرك عنده الرغبة في ذرية طيبة ، حكمة عالية مرغوبة فيها لامتداد الرسالة في نسله.

(هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ).(٣٨)

انه لم تكن حتى الآن لزكريا ذرية ، وطبيعة الحال في الدعاء انها عند انقطاع الرجاء ، وانقطاع الأسباب المتعودة لحصول المدعو له ، ف (هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ) الذي ربيتني بالتربية الرسالية وهي خارقة العادة (هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) كخارقة أخرى.

و «من لدنك» استيهاب من رحمته اللدنية الخاصة ، ليست كالعادة

__________________

ـ عن الجفنة فإذا هي مملوأة خبزا ولحما فلما نظرت إليها بهتت وعرفت أنها بركة من الله فحمدت الله تعالى وقدمته إلى النبي (ص) فلما رآه حمد الله وقال : من أين لك هذا يا بنية؟ قالت يا أبت هو من عند الله ...

وفي نور الثقلين ١ : ٣٣٣ عن تفسير العياشي عن سيف بن نجم عن أبي جعفر عليهما السلام قال أن فاطمة ضمنت لعلي عليهما السلام عمل البيت والعجين والخبز وقم البيت (كنسه) وضمن لها علي (ع) ما كان خلف الباب نقل الحطب وأن يجيء بالطعام فقال لها يوما يا فاطمة هل عندك شيء؟ قالت لا والذي عظم حقك ما كان عندنا منذ ثلاث إلّا شيء نقريك به قال : أفلا أخبرتني؟ قالت كان رسول الله (ص) نهاني أن أسألك شيئا فقال : لا تسألي ابن عمك شيئا إن جاءك بشيء عفوا وإلّا فلا تسأليه ، قال فخرج (ع) فلقى رجلا فاستقرض منه دينارا ثم أقبل به وقد أمسى فلقى مقداد بن الأسود فقال للمقداد : ما أخرجك في هذه الساعة؟ قال : الجوع ، والذي عظم حقك يا أمير المؤمنين (ع) قال : قلت لأبي جعفر عليهما السلام : ورسول الله (ص) حيّ؟ قال : ورسول الله (ص) حي ، قال : فهو أخرجني وقد استقرضت دينارا وسأوثرك به فدفعه إليه فأقبل فوجد رسول الله (ص) جالسا وفاطمة تصلي وبين يديها شيء مغطى فلما فرغت أحضر ذلك الشيء فإذا جفنة من خبز ولحم ، قال : يا فاطمة أنى لك هذا.

١٢١

بأسبابها العادية (إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ) فهو ـ إذا ـ تطلّب لخرق الأسباب المألوفة في الإيلاد.

فقد حمل زكريا «هنالك» مظهرا من مظاهر طلاقة المشيئة الإلهية ، الطليقة عن المألوف ، رغم ما نحسبه قانونا لا يتخلف فنشك ـ إذا ـ في كل حادث خارج عن نطاق هذا القانون المزعوم!.

فها هو زكريا الشيخ الكبير وزوجه ـ العاقران ـ اللذان لم يلدا في صباهما ، هنالك تجيش في قلبه الرغبة في ذرية طيبة هبة من عند الله ، وحق له وهو يرى بين يديه مريم العذراء الصالحة الرعناء : (وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ. فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ) (٢١ : ٩٠) ـ (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا ، إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا ، قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً ... وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا. يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) (١٩ : ٦).

(فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) (٣٩).

«هنا» نادته الملائكة وفي مريم (يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى ...) (٧) ولا منافاة بينهما فان الملائكة هم وسطاء في ذلك البلاغ المبين.

والتبشير هنا يحمل مواصفات اربع ليحيى :

١ (مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) هي المسيح عيسى بن مريم ، فانه كلمة قالها من قبل(١) وكلمة دالة على الله تكوينيا حيث ولد دون أب ، وكلمة رسولية

__________________

(١) كما في الأصل العبراني (تث ٣٣ : ١ ـ ٢) وزئت هبّراخاه أشر برخ موشه إيش ها الوهيم إت ـ

١٢٢

حيث تدل على الله بربانية اعماله وفعاله وقاله ، وكلمة رسالية تكلم بها المرسل إليهم ، مربع الكلمات يحملها المسيح (عليه السلام) ولم يحملها كلها سائر الخلق أجمعين ، فقد ولد دون أب ولادة منقطعة النظير في تاريخ الإنسان ، وآدم لم يكن وليدا حتى يكون هو الاول في تلك الولادة ، فانما خلق من تراب.

وليس كونه كلمة آية خارقة للعادة من حيث الولادة ، ليفضله على سائر الرسل ، إذ إنها آية أقوى من سائر الآيات المبصرة لأن بني إسرائيل هم أغوى من سائر الأمم ، ثم آية القرآن هي أقوى الآيات الرسولية والرسالية على الإطلاق لأنها تحلق على كافة المكلفين منذ بزوغها الى يوم الدين.

٢ «وسيدا» : عظيما في الحقل الروحي علما وتقى ، يمتاز عن كثير من رجالات العلم والتقوى ، الرساليين و «سيدا» في كل حقول السيادة الصالحة.

فالتصديق بكلمة من الله ، والسيادة اللّائقة للقيادة ، والحصر عن كل الشهوات ، كل هذه من الشروطات الأصيلة للنبوّة حيث تجمع القيادتين : الروحية والزمنية.

٣ «وحصورا» مبالغة الحصر ، وهو الحصر عن الشهوات محرمة ومرجوحة ، دون الراجحة في شرعة الله كالنكاح ، خلاف ما يهرف بشأنه

__________________

ـ بني يسرائيل لفني موتو (١) ويومر يهواه مسّيني باو زارح مسّعير لامو هو فيع مهر فاران وآتاه مرببت قدش مى مينواش دات لامو ـ

«وهذه بركة باركها موسى رجل الله بني إسرائيل عند موته (١) وقال : الله من سيناء جاء تجلى من ساعير ، تلعلع من جبل فاران وورد مع آلاف المقدسين من يمينه ظهرت الشريعة النارية».

أقول : وفي دعا السمات : «وبمجدك الذي ظهر على طور سيناء فكلمت به عبدك ورسولك موسى بن عمران وبطلعتك في ساعير وظهورك في جبل فاران بربوات المقدسين وجنود الملائكة الصافين وخشوع الملائكة المسبحين».

١٢٣

تبجيلا له وتخجيلا لكل هؤلاء الذين تزوجوا من نبيين وسواهم من الصالحين ، لا! وانما «حصورا» نفسه عن الشهوات واللهوات المرجوحات ، وحصورا كل وجهه بكل وجوهه إلى الله ، فهو حصور في «لا إله» ثم حصور في (إِلَّا اللهُ) حسرا عما سوى الله وحصرا في الله.

والحديث الخبيث المفتري على الرسول الطاهر الأمين (صلى الله عليه وآله وسلم) ، المحلق للذنب على الكل إلا يحيى (عليه السلام) لأن ذكره مثل هدبة الثوب (١) مضروب عرض الحائط حيث يمس من كرامة الخالق للعورات والشهوات المحلّلة ، ومن كرامة الصالحين الناكحين حلّا!.

اجل! وقد تعني «حصورا» فيه فيما تعنيه ، تركه ـ كما المسيح (عليه السلام) ـ للزواج على شبقه ، ترجيحا لتقدم الدعوة الرسالية على تحقيق الشهوة المحلّلة ، إذ لم تكن ظروفه لتسمح له بالجمع بين الزواج وتحقيق الرسالة ، معاكسا لمحمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حيث اقتضت ظروفه

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ٢٢ ـ أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عساكر عن عمرو بن العاصي عن النبي (ص) قال : ما من عبد يلقى الله إلّا ذا ذنب إلّا يحيي بن زكريا فإن الله يقول : وسيدا وحصورا ، قال كان ذكره مثل هدبة الثوب وأشار بأنملته.

أقول : ولا يرجى من ابن العاصي إلّا هكذا اختلاق معادي على رسول الهدى (ص).

واختلاق آخر حفاظا على «حصور» له إيجابا وعلى غيره سلبا ، أخرجه الطبراني عن أبي أمامة قال قال رسول الله (ص) أربعة لعنوا في الدنيا والآخرة وامنت الملائكة رجل جعله الله ذكرا فأنث نفسه وتشبه بالنساء وامرأة جعلها الله أنثى فتذكرت وتشبهت بالرجال والذي يضل الأعمى ورجل حصور ولم يجعل الله حصورا إلّا يحيي بن زكريا ، أقول : ذكره حصورا في الذكر الحكيم دليل أنه من كمالاته الممتازة فنفيه إذا نقص وعوذا بالله من هذه الجهالة المزدوجة!.

وفي نور الثقلين ١ : ٣٣٥ عن المجمع «وحصورا» لا يأتي النساء وهو المروي عن أبي عبد الله (ع).

١٢٤

الرسالية زواجا وأكثر من الأربع المسموح للأمة تحقيقا حقيقا لكرامة الرسالة بضم عوائل كثيرة الى خضمّه.

إذا ف «حصورا» المحلق على كل داعية الى الله تختلف ظروفه وطقوسه في البعض من مصاديقه ، فكما النكاح راجح ام واجب أحيانا ، كذلك هو مرجوح او محرم أحيانا أخرى ، والحصور هو الذي يتابع صالح الدعوة وفقا لظروفها المواتية المناسبة.

٤ (وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) وترى هناك أنبياء غير صالحين حتى يوصف هنا «نبيا» ب (مِنَ الصَّالِحِينَ)؟

كلّا ، حيث يعني «نبيا» رفيع الدرجة ، ولأن رفعة الدرجة درجات هنا يقيد ب (مِنَ الصَّالِحِينَ) يعني المرسلين ، حيث المرسلون درجات والنبيون منهم أرفع شأنا وأنبى مكانة ويحيى منهم ، كما و (مِنَ الصَّالِحِينَ) آباء وأمهات منذ آدم الى زكريا.

فلقد استجيبت الدعوة الحانية ، المنطلقة من القلب الطاهر الحاني ، الذي علق رجاءه بسميع الدعاء ، وهو يملك الإجابة كيف يشاء حيث يشاء ، استجيبت في «يحيى» الذي (لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) ـ (مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) اسمه المسيح عيسى بن مريم «وسيدا» كريما «وحصورا» يحصر نفسه عن الشهوات ويملك زمام نزعات من الانفلات ، «ونبيا» رفيع المنزلة (مِنَ الصَّالِحِينَ) الرساليين.

ذلك! ولكننا نسمعه كأنه يستغرب ما استقربه الله ، استغرابا عن عقره وزوجه لا عن رحمة الله :

(قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) (٤٠).

١٢٥

ولكن «أنى» سؤال عن زمن تحقيق البشارة ، وليس استفهام انكار واستبعاد عنها ، فلم يقل «كيف ـ او ـ اين» وانما «أنّى» ـ ولكي لا تتأخر اكثر مما تأخرت يعرض حاله (وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ) وحال زوجه (وَامْرَأَتِي عاقِرٌ) فأجيب من فوره بتأكيد البشارة «قال كذلك» البعيد البعيد عن حساب الناس ، العظيم العظيم عند الله (اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) دون رادع ولا مانع ، فانما امره إذا أراد شيئا ان يقول له كن فيكون ... فلا ينسب إلى اي عاقل فضلا عن نبي ان يستبعد من رحمة الله ما رجاه ودعاه ولقد كانت «أنى» في موقعها ـ حين يرى ان البشارة واقعة موقعها ـ إذ يبتهج بجدارته لها فوزا بحظوتها ، حاصلا على مزيتها ، فتطلب زمن تحققها ، عالما انه يورق الهشيم ويستنتج العقيم.

وهذه طبيعة الحال لمن بشر بما يتمناه ، وهي غريبة عن حاله على رجاءه أن يولد له فرط السرور عند اوّل ما يهجم على سمعه ما تقاضاه ، استئنافا في المعرفة وزيادة في الاستبانة ، ولا اقل من استعلام زمن الهبة المبشرة.

اجل و (قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) (١٩ : ٨) عرضا لحاله البعيدة عن هذه الرحمة الغالية ، بعد ان دعا ربه (هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ) وهو الرحمة اللدنية الخاصة ، البعيدة عن المألوف تكوينا وتشريعا ، وهذه شيمة كريمة من الصالحين في دعاءهم عرضا لفقرهم وغناه ، واستعراضا لسلب اهليتهم في أنفسهم رجاء رحمة الله.

فما اقبحه تأويلا عليلا قيلة القائل : ان الله لما بشره بالولد ـ وكان عنده ان العاقر لا تلد ـ والعقيم لا تنسل ـ اعترضه الشيطان حين نادته الملائكة ان ما سمعه انما هو منه لا منهم ، فشك فيما بشر.

وذلك جهل عظيم من قائلة وقلة بصيرة بمنازل الوحي ، فإنهم تجل

١٢٦

أقدارهم عن تلاعب الشيطان بهم ، وان تخلط النداءان عليهم.

فإذا كانت الملائكة هي التي بشرته كما قال الله ، وقد جرت عادته الرسالية باستماع كلامها ، وألف مهابطها ، وثلج صدره بما تؤديه عن ربها ، فأي عاذرة له ـ إذا ـ في ان يعترضه الريب او يختلجه الشك.

ولو كان مرتابا في بشارته فكيف ينادي ربه فيها (رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ ...)؟!.

(قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) (٤١).

هنا (ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) وفي مريم (ثَلاثَ لَيالٍ) تتجاوبان في مجموع الثلاث الليالي والأنهار.

والآية المطلوبة هنا ليست آية لأصل البشارة كأنه شاك فيها ، وانما في زمنها حتى يحضّر نفسه في حالة خاصة وهالة من عبادة راصّة لاستقبال تلك البشارة والتفصيل الى سورة مريم (عليها السلام) حيث نفصل فيما فصل الله ونجمل فيما أجمله الله.

(وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) (٤٢).

هنا تشافه الملائكة مريم الطاهرة المصطفاة وحيا دون رسالة تحمل شرعة رسالية ، فلم تصيح به مرسلة من الله كالرسل ، وكما (أَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ) وحيان هما تقدمتان لوحيين رساليين موسوي وعيسوي (عليهما السلام) ، كما والمؤمنون المستقيمون (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ. نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي

١٢٧

الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ) (٤١ : ٣٠ ـ ٣١).

و «اصطفاك» الأولى دون متعلق ، قد تعني غير الثانية فانها (عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) دونها ، إذ لا تصح «وطهرك على نساء العالمين» حتى تقبل العطف.

وهذه العناية المختلفة هي طبيعة الحال في تكرار ، ولا سيما بوسيط غير المكرر «وطهرك» فلتكن الاولى اصطفاء غير التطهير المتوسط وغير الاصطفاء الثاني ، فقد تعني اصطفاءها على ذكر تطلبته أمها محررا ، كما اصطفاها على كل ذكر لا ينجب ولدا دون أنثى وهي أنجبت دون ذكر ، كما واصطفاها من ذرية الأنبياء المصطفين المرسلين (١) والى سائر الميزات الأنثوية ، ولكنها على قمتها بحاجة الى طهارة قمة تذود عنها مستلزمات تحررها لخدمة البيت خلطا بالرجال على أية حال ، فلذلك :

«وطهرك» طهارة مطلقة تناسب الاصطفاء سببا ونتيجة و «طهرها من ان يكون في ولادتها من آبائها وأمهاتها سفاح» (٢) ومن أن تأتي سفاحا ... ومن ثم الاصطفاء الثاني : (وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) اصطفاء يحلق على كل صفوة سامية ، ومن ذلك اختصاصها في خطاب ربها (يا مَرْيَمُ اقْنُتِي ..) (٣).

أترى أن سعة (نِساءِ الْعالَمِينَ) هي عرض المكان وطول الزمان؟ فهي ـ إذا ـ مفضلة على الصديقة الطاهرة ـ وهي خير نساء العالمين من الأولين والآخرين ـ!.

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٣٣٦ عن تفسير العياشي عن الحكم بن عتيبة قال سألت أبا جعفر عليهما السلام عن قول الله في الكتاب (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ ...) اصطفاها مرتين وإلّا الاصطفاء إنما هو مرة واحدة؟ قال : فقال لي يا حكم إن لهذا تأويلا وتفسيرا فقلت له ففسره لنا أبقاك الله فقال : يعني اصطفاه إياها أولا من ذرية الأنبياء وطهرها من أن يكون في ولادتها من آبائها وأمهاتها سفاحا واصطفاها بهذا القرآن : (يا مَرْيَمُ اقْنُتِي ....).

١٢٨

رجالا ونساء كما شرحنا عند تفسيرها في آية التطهير بقول فصل ، فهي خير العالمين ـ كأبيها وبعلها وبنيها المعصومين ـ رجالا ونساء ، فهي مفضلة على نوح وابراهيم وموسى وعيسى (عليهم السلام) فضلا عن مريم سلام الله عليها.

وما يروى عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ان «أفضل نساء العالمين خديجة وفاطمة ومريم وآسية امرأة فرعون» (١) لا يعني مساماتهن مع بعض ، وانما فضلهن على النساء ، على تفاضلهن فيما بينهن.

ذلك كما وهي سيدة نساء اهل الجنة لا مريم البتول (٢) فهي ـ إذا ـ «أفضلهن عالما» (٣) في الدنيا والآخرة.

ذلك ـ وليس ذكر مريم سلام الله عليها مرات في الذكر الحكيم وتطهيرها واصطفاءها إلّا ذودا عنها وابنها المسيح (عليهما السلام) ملابساتهما من الشبهات التي لم يتورع اليهود والنصارى ان يلصقوها بهما ، وإلا فلا دافع لذكر النساء بأسمائهن في القرآن كما لم يذكرن فيه إلا هي.

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ٢٣ ـ أخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس قال قال رسول الله (ص) أفضل ...

وفيه أخرج ابن مردوية عن أنس قال قال رسول الله (ص) أن الله اصطفى على نساء العالمين أربعة آسية بنت مزاحم ومريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد (ص) ، وأخرج أحمد والترمذي وصححه وابن المنذر وابن حبان والحاكم عن أنس أن رسول الله (ص) قال : حسبك من نساء العالمين ....

(٢) المصدر أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن فاطمة رضي الله عنها قالت قال لي رسول الله (ص) : أنت سيدة نساء أهل الجنة لا مريم البتول.

(٣) المصدر أخرج ابن عساكر من طريق مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس عن النبي (ص) قال : أربع نسوة سادات عالمهن مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد (ص) وأفضلهن عالما فاطمة.

١٢٩

أم ان القدر المعلوم من «العالمين» عالمي زمانها الحاضر ، ام والغابر الى حواء ، واما المستقبل فلا ، فلأن الاصطفاء ماض ف «العالمين» إذا ماضون ، فلا يعني إلّا ماضيه في الماضين دون الآتين إلى يوم الدين ، فالشمول لمن يأتي بحاجة الى دليل وليس فليس.

صحيح ان العالمين في (رَبِّ الْعالَمِينَ) يعمهم كلهم ولكنه بقرينة الرب المحلق ربوبيته على كلهم ، واما الخلق فقضية محدوديته هي محدودية العالمين إلا بدليل.

واما الصديقة الطاهرة فهي حسب النص «خير نساء العالمين من الأولين والآخرين»(١).

وحتى لو دل دليل على اصطفاء مريم على كل نساء العالمين ـ ولن ـ فآية التطهير ترفع دور فاطمة في العصمة الى القمة المحمدية الفائقة على كل العالمين

__________________

(١) مجمع البيان : أي على نساء عالمي زمانك لأن فاطمة بنت رسول الله (ص) سيدة نساء العالمين وهو قول أبي جعفر عليهما السلام ، وفي نور الثقلين عن أمالي الصدوق بإسناده إلى النبي (ص) أنه قال أيما امرأة صلت في اليوم والليلة خمس صلوات وصامت شهر رمضان وحجت بيت الله الحرام وزكت مالها وأطاعت زوجها ووالت عليا دخلت الجنة بشفاعة ابنتي فاطمة عليها السلام وإنها لسيدة نساء العالمين ، فقيل يا رسول الله هي سيدة عالمي زمانها؟ فقال (ص) ذاك مريم ابنة عمران وأما ابنتي فاطمة فهي سيدة نساء العالمين من الأوّلين والآخرين وإنها لتقوم في محرابها فيسلم عليها سبعون ألف ملك من الملائكة المقربين وينادونها بما نادت به الملائكة مريم فيقولون يا فاطمة إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين.

أقول : وهذا النص متواتر من طريق الفريقين تواترا معنويا أنها أفضل من نساء العالمين من الأوّلين والآخرين دونما استثناء وأنها سيدة نساء أهل الجنة (راجع ملحقات احقاق الحق (١٠ : ٦٩ ـ ٩٦) وسيدة نساء هذه الأمة (١٠٣ : ١١٥) تجد مئات الأحاديث من طرق إخواننا حيث تعني أفضليتها المطلقة على نساء العالمين في الدنيا والآخرة.

١٣٠

ومكثت بالبيت تعبد ربها متحررة للخدمة ، مخلصة في القيام بالسدانة حتى صارت مضرب الأمثال ، لان ربها (أَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا ...).

تقبلها ربها محررة للبيت ولا يحق لخادمة البيت ، والمنذور لتلك الخدمة ، المقبولة عند ربها ، لا يحق لها خدمة أخرى ، لزوج وسواه ، فلا تفكر ـ إذا ـ في زواج وسواه ما استلزم الخروج عن البيت ، او خدمته داخل البيت ، ولا تعرضها فكرة الخروج لأية حاجة إذ كانت مكفولة الرب في كل حاجياتها محررة بالبيت.

إذا ففكرة الزواج او اختيار خطيب لها نائية عن خلدها ، بعيدة عن تحررها ، لأنها تنافي ونذر أمها وتقبل ربها بقبول حسن.

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) (٤٣).

«ذلك» الذي أنبأناك من القصص (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ) ومنها الاقتراع بشأن من يكفل مريم (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) وذلك بوحي من الله الى زكريا بشأن هذه الكفالة المختصم فيها بين القديسين (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ).

فقد كان هناك اختصام بشأن تلك الكفالة الكافلة لصالح مريم سلام الله عليها ، فلأن القرعة لكل امر مشكل ، أمروا بذلك الاقتراع حسما للموقف بما يشاء الله فيه ، وعلّه دون وحي خاص بكفالة زكريا رعاية لذلك الجمع القديس.

لقد كانت كفالتها فريضة بارزة لموقفها الخاص في تحررها ، فمن يكفلها إذا بين هؤلاء المختصمين بشأنها وهم كلهم صالحون؟ لا سبيل صالحة لتلك

١٣١

ولأن فاطمة سلام الله عليها لم تذكر بأي سوء حتى في ألسنة أعدائها فلا موجب لذكرها اللهم إلا في جماع الطهارة والعصمة العليا مع أبيها وبعلها وبنيها كما في آية التطهير.

(يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) (٤٣).

ذلك التخصص في خطابها بمثلث القنوت والسجود والركوع لربها ، هو صورة لمّاعة من اصطفاءها على نساء عالمي زمانها وقبلها ، حيث لم تخاطب من قبلها كآسية وسواها بذلك الخطاب الحنون ، فهو خطاب رسالي مهما لم تكن هي من الرسل ، تدليلا على القمة البالغة فيها مبلغ الرسل ، فتخاطب كما يخاطبون ويوحى إليها كما يوحى إليهم اللهم إلا وحي الرسالة.

(اقْنُتِي لِرَبِّكِ) في مطلق الطاعة والعبادة ، ثم في خاصتها التي هي عمود الدين ، المذكورة بأسمى سماتها في جموع المصلين (وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ).

فكما السجود والركوع هما معنيان بعناية الصلاة ، كذلك الإتيان بهما في جماعة لمكان «مع» الشاملة لكليهما ، وليس جمعهما إلا في الصلاة ، فقد تأتي هذه الآية في عداد آيات فرض الجماعة في فرض الصلاة ، ك (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) و (لا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) وهي سبيل المسجد مكانا لزاما للصلاة.

فليكن القنوت للرب ، والمتمثل كأفضله في الصلاة ، ليكن في جماعة القانتين ، كشعيرة عظيمة جاهرة ليل نهار أمام الناظرين ، فان (مَعَ الرَّاكِعِينَ) تعم مثلث القنوت والسجود والركوع.

فلقد نمت مريم وترعرت وشبت واشتد ساعدها وعمر قلبها بتقواها

١٣٢

النمام الذي كان في أصحابه بالقرعة بتعليم الله سبحانه إياه «وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج اسمها خرج بها» واقترع (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بين اهل الصفة لتخرج إلى من يبعثهم الى غزوة ذات السلاسل واقترع (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في غنائم حنين ليخرج سهم عيينة والأقرع ، «واقترع علي (عليه السلام) في الولد الذي كان بين ثلاثة» وكذلك القرعة لتعيين الشاة الموطوئة التي دخلت بين الغنم وليست بمعلومة (١).

وحين يقترع النبيون في المشاكل وهم اصحاب الوحي فأحرى بنا ان نقترع استنانا بسنتهم كما أمضاها الله تعالى.

وفي ناصية الاقتراعات الرسالية ما اقترع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ف كان إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه (٢).

كما «فاقرع (صلى الله عليه وآله وسلم) بينهم والحق الولد الذي اصابته ـ صارت عليه القرعة» (٣).

«فاقرع بينهم فضمن الذي أصابته القرعة ثلثي الدية» (٤).

__________________

(١) سفينة البحار ٢ : ٤٢٥ عن الصادق (ع) وقد رواها كلها عن الأئمة المعصومين عليهم السلام وقد وردت زهاء ثلاثين حديثا في مختلف الأبواب في وسائل الشيعة كلها تقول ما معناه «القرعة لكل أمر مشكل».

(٢) المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي ٥ : ٣٦٧ ، أخرجه بألفاظ عدة باتحاد المعنى عن : خ هبة ١٥ ـ جهاد ٦٤ ـ شهادات ١٥ ، ٣٠ ـ مغازي ٣٤ ، ٥٥ ـ تفسير سورة ٣٤ ، ٦ ـ نكاح ٩٧ ـ م ففضائل الصحابة ٨٨ ، توبة ٥٦ ، نكاح ٣٨ ، جه نكاح ٤٧ ، أحكام ٢٠ ، دى جهاد ٣٨ ، نكاح ٢٦ ، حم ٦ ، ١١٤ ، ١٩٧ ، ٢٦٩.

(٣) المصدر د طلاق ٣٢ ، ن نكاح ٥٠ ، جه أحكام ٢٠.

(٤) المصدر حم ٤ ، ٣٧٣ ، وفيه : إن قوما اختلفوا في الأذان فأقرع بينهم سعد.

١٣٣

المصلحة الروحية القمة إلّا الاقتراع وهو هنا كان بأقلام الوحي حيث كانوا يكتبون بها ، وما أنسبها بالنسبة لمن يكفل بالوحي ، والدة لصاحب الوحي العظيم المسيح (عليه السلام).

ولم يكن اختصام هؤلاء الكرام عدائيا كاللئام ، وانما سباقا إلى رحمة الله وهم رفاق في الله وكما اختصم الملأ الأعلى (ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ) (٣٨ : ٦٩) كما واهل الجنة (يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ) (٥٢ : ٢٣).

ولقد جرى في ذلك المجرى قلم زكريا في الماء على خلاف المجرى خرقا للعادة ، تبيينا انه هو المخصوص هنا بكرامة الكفالة على كرامتهم جميعا فقضي الأمر كما أراد الله.

وترى ما هي حدود القرعة حكميا وموضوعيا في شرعة الله؟.

حين نرى ان الله تعالى يرضى هنا بالاقتراع ولم يشكل عليه حكم ولا موضوع ، وإنما رعاية لجمع القديسين ، فبأحرى لنا الاقتراع حين يشكل لنا أمر في موضوع وقد انقطعت كافة السبل والبراهين لتعيين الموضوع.

لا أقول اننا نستنبط الحكم بالقرعة ، حيث الأحكام العامة مبينة في الكتاب والسنة ، فانما ذلك هو الموضوع المبين حكمه ، المجهول مصداقه ، كواجب الكفالة لمريم (عليها السلام) ، ثم المصداق يتبين بالقرعة والله عالم بالحكم والموضوع ، ولكن المصلحة تقتضي تعيين الموضوع بالقرعة حسما للاختصام ، وتجنبا عن اي ترجيح بلا مرجح ظاهر.

إذا فالاختصام ـ صالحا وسواه ـ هو المورد الصالح للاقتراع إصلاحا للموقف وإيلافا للمختصمين ، فأي قضية أعدل من القرعة إذا فوض الأمر الى الله تعالى لقوله (فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) وكما استعلم موسى (عليه السلام)

١٣٤

(إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦) قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩) وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠) إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ

١٣٥

فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٥١) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٥٢) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٥٣) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٥٤) إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٥٥) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٥٦) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٥٧) ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ) (٥٨)

١٣٦

(إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) (٤٥).

هنا قالات ملائكية لمريم سلام الله عليها بما أوحى الله ، تحمل البشارة بالمسيح (عليه السلام) مولدا ورسالة عالية بآيات لها ، قرا لعينها وقرارا لقلبها ، وتخفيفا عن وطئتها بحملها ووضعها دون بعل ، (يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ).

لقد تهدّرت الأيام وتهدلت ، ففي يوم مّا وهي في محرابها اضطربت نفسها فجأة وداخلتها رهبة لم تعهدها من ذي قبل إذ تظهر أمامها ملاك الرب يبشرونها بوليد لها وجيه في الدارين ، ولا وجه لوجيه وغير وجيه من عذراء لم يمسسها بشر ولم تك بغيا!.

في سائر القرآن آيات ثلاث تواصف المسيح بن مريم (عليهما السلام) ب «كلمة» ثانيتها : (أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) (٣ : ٣٩) وثالثتها : (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) (٤ : ١٧١) فما ذا تعني كلمة الله بحقه (عليه السلام) ولم يوصف اي نبي ولا خاتم النبيين ب «كلمة»؟.

الكلمة لغويا هي ما تدل على معنى ، شاملة للألفاظ الموضوعة على معانيها ، والموضوعات الدالة على واضعيها ، والأفعال الدالة على فاعليها وكيانهم فيها ، أماذا من دلالات في دالات وضعية ام ذاتية ام قصدية أماهيه.

لذلك سميت ذوات محمد والمحمديين صلوات الله عليهم أجمعين اسماء هي هي الكلمات (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ) كما تقدمت في البقرة.

١٣٧

ذلك ـ إلّا ان اختصاص المسيح (عليه السلام) بوصف الكلمة يزيد على تلك الدلالة الأسمائية بما يخصصه بالكلمة.

فهو نتيجة كلمة «كن» و (اسْمُهُ الْمَسِيحُ) وان كان كل مولود يكون عند قوله تعالى : «كن» فإن كل مولود سواه إنما يكون ب «كن» على طريق العلوق من الرجال ، ووسيط اللقاح المتعود من الرجال ، وليس كذلك المسيح (عليه السلام) فليختص بخاصة «كلمة» لخاصة «كن» الخارقة في بعد ثان بحقه.

فهو الكلمة الملقاة الى مريم : (وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) فالروح هو روحه وعلّ الكلمة ـ إذا ـ هو جسمه : النطفة الرجولية الملقاة إليها دون وسيط رجل ، ألقيت من المجرى التناسلي بدفع عبر عنه هنا بالإلقاء وفي غيرها بالنفخ ، وهما مشتركان في معنى الدفع.

وقد تعني كلمة المسيح ـ فيما عنت ـ كرور ذكره في منزلات كتب السماء المتقدمة لميلاده ورسالته ، فلما خلقه الله قال : هذه كلمتي المتقدمة ، فقد كانت البشارة ـ التي هي كلمة ـ ابتداء معرفته بواقعه ، والمطرقة بين يدي مورده.

وكذلك كلمته التشريعية ـ إضافة إلى تكوينية ـ الدالة عليه ، الهادية اليه.

ومهما شاركت المسيح سائر الكلمات تكوينية وتشريعية ، لم يكن ليشاركه في «كن» الخارقة ولادة دون أب ، اللهم إلّا آدم (عليه السلام) ولكنه ـ مع ذلك ـ لا يستحق كرامة هذه «الكلمة» لعدم ولادته هكذا وإنما خلق من تراب ولعدم جمعه سائر معاني الكلمة ، إلا في بعضها عدّة وعدّة ضئيلة.

ومهما يكن من شيء فكلمة اسمه المسيح تصدق كأصدقه على تكوينه

١٣٨

الخارج عن المألوف ، وقد ألقيت الى مريم لقاحا رجوليا دونما رجل!. (وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ).

«وجيها» عند الله ، وعند المخصوصين بالله والمقربين إلى الله (وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) وهم أفضل الوجهاء عند الله ، وهم السابقون كل الخلق في معرفة الله وعبادته : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) (٥٥ : ١١).

والمقربون هم الذين قربهم الله إليه بما تقربوا إليه سعيا لأعلى قممه ، فأتم الله تقربهم إليه بما قربهم ، فعصمهم من كل زلة وضلة.

أجل (إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ) ليس من صلب رجل وإنما بنفخ منه (اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) وقد تعني تذكير «كلمة» هنا واقع ذكورة المسمّى ، وأنها لا تعني ـ فقط ـ كلمة لفظية ، بل وتكوينية هي واقع تكوينه المنقطع النظير.

وذلك من غرائب القرآن وبدايعه وعجائبه ، حيث يذكّر الكلمة في الضمير الراجع إليها رجعا الى معناها ، فلو قال «اسمها المسيح» لألبس اللفظ إذ لم يتقدم هنا ذكر المسيح (عليه السلام) ما يؤمن الالتباس.

ثم نراها مؤنثة الضمير فيما أمن الالتباس (وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) حيث تقدمت هناك أسماء المسيح وتعريفاته التي تؤمن الإلباس.

او يقال تأنيث الضمير الراجع الى «كلمة» مرة وتذكيره أخرى دليل الجواز للصورتين اعتبارا لمجاز التأنيث.

أو أن المعنيين معنيّان ، جمعا لأدب اللفظ إلى ادب المعنى ، وذلك من ميّزات القرآن العظيم ، أن يجمع ميزات الألفاظ الى ميزات المعاني.

١٣٩

ثم (الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) هو أجمع اسم وأشمله له (عليه السلام) ، وقد جاء المسيح إحدى عشر مرة ، وعيسى بن مريم خمسة وعشرون مرة في القرآن كله ، مما يدل على ان عيسى بن مريم هو اسمه الأصيل ، وعلّ المسيح لقب له يصفه.

(وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ)

ففي المهد لما أشارت إليه (قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ...).

«وكهلا» وهو منذ ثلاثة وثلاثين من سني عمره الشريف او العشرين حيث ابتدأ واقع نبوته ودعوته ، وهو بين مهده وكهله لم يكلم الناس رساليا ، وإنما في المهد رسوليا ذودا عن ساحته وأمه وكما كان يبشّر به بلسان يحيى (عليه السلام).

فنبوته ـ وهي بعد رسالته ـ ابتدأت منذ كهولته ، مهما كان نبيا ينبأ بالوحي غير الرسالي بين المرحلتين ، كما كان محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل بعثته (١).

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٣٤٦ في كتاب كمال الدين وتمام النعمة بإسناده إلى محمد بن إسماعيل القرشي عمن حدثه عن إسماعيل بن أبي رافع عن أبيه قال قال رسول الله (ص) : إن جبرئيل نزل علي بكتاب فيه خبر ملوك الأرض وخبر من بعث قبلي من الأنبياء والرسل ـ إلى أن قال ـ : لما ملك أشج بن أشجان وكان يسمى الكيس وقد كان ملك مأتي وستا وستين سنة ففي سنة إحدى وخمسين من ملكه بعث الله عز وجل عيسى بن مريم (ع) واستودعه النور والعلم والحكمة وجميع علوم الأنبياء قبله وزاده الإنجيل وبعثه إلى بيت المقدس إلى بني إسرائيل يدعوهم إلى كتابه وحكمته وإلى الإيمان بالله وبرسوله فأبى أكثرهم إلّا طغيانا وكفرا فلما لم يؤمنوا به دعا ربه وعزم عليه فمسخ منهم شياطين ليريهم آية فيعتبروا فلم يزدهم ذلك إلّا طغيانا وكفرا فأتى بيت المقدس فمكث يدعوهم ويرغبهم فيما ـ

١٤٠