الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٥

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٨

إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ. ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) (٣٥ : ٣٠).

واصطفاء آدم ونوح دون آل آدم وآل نوح ـ وبعدهما آل ابراهيم وآل عمران ـ مما يلمح باختصاصه بهما دون آلهما ، إذا فلا نبي من آل آدم ونوح ام لا مصطفى منهما ، وهناك شيث وهابيل وإدريس؟.

قد يعني الاصطفاء قمته في كل دور رسالي ، فآدم نفسه هو المصطفى في الدور الاول الرسالي ككل ثم النبيون بينه وبين نوح كادريس لم يكونوا من آله مهما كانوا من ذريته.

ولكن إدريس من آله كما محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من آل ابراهيم ، وعدم ذكر إدريس شخصيا ولا ضمنيا في آل آدم لا يدل على خساسة شأنه وله خصاصة النبوة السامية أعلى من آدم (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا).

وعلّ عدم ذكره كما لم يذكر محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وسائر النبيين لان المقام مقام ذكر آل عمران عرضا عريضا لقصة مريم وعيسى (عليهما السلام) ، ولذلك طوي عن ذكر إسحاق ويعقوب وموسى (عليهم السلام).

كما وان الآل لا يذكر لشخص واحد ، فآل آدم ليس ليعني خصوص إدريس ام آدم وإدريس ، ولم يأهل لذلك الاصطفاء غير إدريس من ذرية آدم (عليهم السلام).

اجل ـ ولأن وراثة النبوة المصطفاة ليست من وراثة الدم ، إنما هي وراثة

١٠١

العقيدة مهما حلت في وراثة الدم (ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ) في الوراثتين واهمهما الثانية.

ونوح هو المصطفى في الدور الاوّل من ولاية العزم ، ولم يرسل احد من ولده الخصوص.

ثم الآل لغويا كما يعني أخصّاء الشخص ، كذلك شخصه اعتبارا بكونه عمادا لأخصائه ، ف «آل كل شيء شخصه» و «الخشب الذي يعمد عليه الخيمة» و «آل الجبل أطرافه».

إذا ف (آلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ) هما شخص ابراهيم وعمران عمودين لخيمة الأخصاء ، وقد جاء بجمع المعنى في الذكر الحكيم كال ياسين ـ آل موسى ـ آل هارون ـ آل يعقوب ـ آل لوط وآل فرعون ، عناية إلى الخيمة بعمودها ، دون الخيمة بلا عمود ، ولا العمود بلا خيمة.

ثم ولا يختص الآل : الإخصاء ، بالاخصاء في النسب ، فعلي (عليه السلام) هو من آل محمد وأفضلهم وليس في النسب ، وسائر ولد الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) سوى الصديقة الطاهرة هم من آله بواسطتها (١) و «آل فرعون» ـ ولم يكن له ولد ـ هو من صارم الدليل على عدم

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٣٢٩ في كتاب كمال الدين وتمام النعمة بإسناده إلى محمد بن الفضيل عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر (ع) حديث طويل يقول فيه : فلما قضى محمد (ص) نبوته واستكمل أيامه أوحى الله عز وجل إليه أن يا محمد قد قضيت نبوتك واستكملت أيامك فاجعل العلم الذي عندك والإيمان والاسم الأكبر وميراث العلم وآثار علم النبوة عند علي بن أبي طالب (ع) فإنه لم أقطع العلم والإيمان والاسم الأكبر وميراث العلم وآثار علم النبوة من العقب من ذريتك كما لم أقطعها من بيوتات الأنبياء الذين كانوا بينك وبيني وبين أبيك آدم وذلك قوله عز وجل (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ. ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).

١٠٢

اختصاص الآل باخصاء النسل.

وهنا «آل ابراهيم» قد يشمل كافة الأنبياء وسائر المعصومين الابراهيميين ، حيث الكل كانوا من نسل ابراهيم منذ إسماعيل وإسحاق والى خاتم النبيين وعترته المعصومين ، ولا يعنى اختصاص «آل عمران» بعد «آل ابراهيم» إلّا سردا طويلا للعمرانيين : مريم والمسيح (عليهما السلام).

ولقد اختص آل محمد (عليهم السلام) من بين آل ابراهيم بذكر خاص في أخلص دعاءه وأخصه : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ ... رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ ...) (٣ : ١٢٩).

ثم اصطفاء آدم (عليه السلام) من براهين رسالته كما (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ) و (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) تساندان منزلته الرسالية.

وهل يشمل «آل عمران» آلين لعمرانين ، عمران أبي موسى وعمران أبي مريم؟ قد لا يعني إلا الثاني ، إذ لم يأت في القرآن ـ ولا مرة يتيمة ـ ذكر من أبي موسى ، ثم وبينه وبين أبي مريم (١٨٠٠) سنة ، ولا تصح عناية الجنس من عمران ، الخاص بهما ، حيث العبارة الصالحة له «آل عمرانين» والا لشمل آل كل عمران في العالمين.

هذا ـ ولا سيما ان الآية التالية تخص آل عمران أبي مريم : (إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ ..) فلا دور ـ إذا ـ لآل عمران أبي موسى هنا ، على انه لم يرسل احد من ولد موسى ولا آله إلا هارون (عليه السلام).

ذلك! فلم يكن لذكر محمد وآله (عليهم السلام) هنا دور خاص مهما كانوا هم المدار في كل الأدوار ، فلا موقع ـ إذا ـ لمختلق الأحاديث القائلة ان «آل محمد» أسقطت عن الآية (١) ام ابدل عنها ب «آل فرعون» (٢) وانما

__________________

(١) في المجمع وفي قرائة أهل البيت «وآل محمد على العالمين» وقالوا أيضا : إن آل إبراهيم هم آل ـ

١٠٣

الصحيح هو نص الآية وعلى غرارها وقرارها رواية ثالثة (١) هي المصدّقة لموافقة القرآن.

__________________

ـ محمد الذين هم أهله ، أقول : القالة الثانية تصدق تأويل الأولى أنها تعني التأويل ، دون تحريف النقص في لفظ الآية.

وفي نور الثقلين ١ : ٣٣١ عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله (ع) قال قلت له : ما الحجة في كتاب الله أن آل محمد هم أهل بيته؟ قال : قول الله تبارك وتعالى : إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران وآل محمد ـ هكذا نزلت ـ على العالمين ... أقول : قد يعني نزول التأويل دون التنزيل.

والقمي عن الباقر (ع) فأسقطوا آل محمد من الكتاب.

وفي تفسير البرهان ١ : ٢٧٩ عن أيوب قال سمعني أبو عبد الله (ع) وأنا أقرء (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ) فقال لي : وآل محمد كانت فمحوها وتركوا آل إبراهيم وآل عمران.

وفيه عن تفسير الثعلبي رفعه إلى أبي وائل قال قرأت في مصحف ابن مسعود «.. وآل محمد على العالمين».

(٢) في تفسير البرهان ١ : ٢٧٨ عن هشام بن سالم قال سألت أبا عبد الله (ع) عن قول الله : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ) فقال : هو آل إبراهيم وآل محمد على العالمين فوضعوا اسما مكان اسم.

(١) المصدر في أمالي الصدوق بإسناده إلى أبي عبد الله (ع) قال قال محمد بن أشعث بن قيس الكندي للحسين (ع) يا حسين بن فاطمة أية حرمة لك من رسول الله (ص) ليست لغيرك؟ فتلا الحسين (ع) هذه الآية إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين. ذرية بعضها من بعض .. قال : «والله إن محمدا لمن آل إبراهيم والعترة الهادية لمن آل محمد ...».

وفي تفسير البرهان ١ : ٢٧٧ بسند متصل عن ابان بن الصلت قال : حضر الرضا (ع) مجلس المأمون وقد اجتمع إليه في مجلسه جماعة من أهل العراق وخراسان ... قال المأمون هل فضل العترة على سائر الأمة؟ فقال أبو الحسن (ع) إن الله عز وجل أبان فضل العترة على سائر الناس في محكم كتابه فقال المأمون وأين ذلك من كتاب الله؟ فقال الرضا (ع) في قوله عز وجل (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ. ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ) ، قال : يعني أن العترة

١٠٤

وقد تؤول الأولى بإسقاط التأويل ، ان جماعة من المحرفين الكلم عن مواضعه اسقطوا تأويل آل ابراهيم عن آل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهم أفضل آله.

وكذلك الثانية انهم فضلوا آل عمران على آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنهم المذكورون هنا دونهم.

والاصطفاء على العالمين درجات أدناها عالمي زمان المصطفى كما في آدم وأوسطها عالمي دور رسالته كما لنوح وابراهيم وموسى وعيسى (عليهم السلام) ، وأعلاها عالمي كل زمان كما في محمد المصطفى وآله المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين.

ذلك ـ ولأن «العالمين» الطليقة تشمل كل الكائنات العاقلة في الطول التاريخي والعرض الجغرافي ، فالاصطفاء المحمدي الطليق يحلق عليهم كلهم ، كما ان الاصطفاء الخاص بعالمي زمن آدم ونوح وآل ابراهيم وآل عمران يشمل مثلث الإنس والجن ومن لا نعرفهم تماما.

(إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٣٥).

في «عمران» معاكسة النقل بين القرآن ـ حيث يعنيه أبا مريم ـ وبين التوراة إذ تعنيه أبا موسى : عمرام بمعنى قوم الله ـ ابو موسى

__________________

ـ داخلون في آل إبراهيم لأن رسول الله (ص) من ولد إبراهيم وهو دعوة إبراهيم ، وفيه عن الحجة (ع) لما يقوم الاستدلال بالآية كماهيه ومثله رواه العياشي عن سدير عن أبي جعفر عليهما السلام.

هذا ـ ومجموع الأحاديث الموافقة لنص الآية الآية أحدى عشر حديثا ، وفي أربعة إضافة آل محمد وفي واحد تبديل آل محمد بآل إبراهيم ، والأولى هي المصدقة ولو كانت أقل عددا ويرد إلّا ما خالف الآية حيث الأصل هو القرآن المتواتر الموجود.

١٠٥

(الخروج ٦ : ١٨ ـ ٢٠) وتبديل الميم بالواو وهو من قضايا التعريب.

ولقد حمل هذا جماعة من المبشرين الكنسيين الى تزييف عمران القرآن انه اخطأ (١٨٠٠) سنة! وما اجهلهم إذ زعموا اختصاص «عمران» في تأريخ الإنسان بابي موسى ، فلا يحق لأبي مريم او سواه ان يسمى عمران ، لا لشيء إلّا أن عمرام التوراة هو ابو موسى.

(قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً) إذ زعمت ان ما في بطنها ذكر يصح تحرره لخدمة بيت الله دون خروج عنه وعلها وعدت بذكر (١) او علّها نذرته هكذا ان كان ذكرا لكي يرزقها الله إياه ، والظاهر هو الاول لمكان الإطلاق وتؤيده الرواية.

ومما يعنيه ذلك التحرر المنذور هو التحرر عن حقوق الأم المعيشية ، ثم التحرر عن كل عملية سوى خدمة بيت الله ، مما يدل على ان للام على ولدها حقّ يجوز التنازل عنه لحق أولى بنذر وسواه.

ولان الأب او الجد هما الاولى بالولد ـ مهما كان للام عليه حق ـ فقضية التحرر المطلق هنا انها كانت منفردة في هذه الولاية لفقد الأب والجد ، ام كانت هي مأذونة من قبل الولي الأولى في نذرها لمطلق التحرر ، ام لا يشترط في نذر الام اذن الأب مهما اشترط عدم منعه ولكنه لا يجوز له منعها عما يحل ولا سيما ذلك الحل الطيب لبيت الله.

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٣٣٤ عن الكافي عن أبي عبد الله (ع) قال : إن الله أوحى إلى عمران إني واهب لك ذكرا سويا مباركا يبرئ الأكمه الأبرص ويحيي الموتى بإذن الله وجاعله رسولا إلى بني إسرائيل فحدث عمران امرأته حنّة بذلك وهي أم مريم فلما حملت كان حملها عند نفسها غلام فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى وليس الذكر كالأنثى ولا تكون البنت رسولا يقول الله (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) فلما وهب الله لمريم عيسى كان هو الذي بشر به عمران ووعده إياه ، فإذا قلنا في الرجل منا شيئا فكان في ولده أم ولد ولده فلا تنكروا ذلك.

١٠٦

فعلى اية حال انها نذرت هكذا مما يدل على صحة ونفاذ هكذا نذر بحق الولد شرط الحفاظ على حق الولي الاولى ـ ان كان ـ وكذلك صالح الولد ولا أصلح له من خدمة الله.

(فَتَقَبَّلْ مِنِّي) ذلك النذر ، تقبلا لتحرره لك (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ) الدعاء «العليم» بصلاحيات وحاجات العباد.

اجل «محررا» وما ادراك ما ذلك التحرر؟ انه خروج عن رقية الناس إلى رقية إله الناس فهو ـ إذا ـ تحرر عما سوى الله «والمحرر للمسجد لا يخرج منه أبدا» (١).

والنذر لغويا هو الخوف كما الإنذار هو الإخافة ، إذا فهو الخوف من الله إمّا شكرا لله أن توجب على نفسك امرا لله محبوبا لدى الله استزادة في العبودية كما فعلته امرأة عمران دونما شرط على الله ، ومثلها مريم (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً) (١٩ : ٢٦) حيث لم تشترطا على الله امرا في نذرهما لله وتوافقه صحاح عدة (٢) والموثق المخالف غير موثق او مأول (٣).

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٣٣٢ عن أبي جعفر عليهما السلام قال : إن امرأة عمران نذرت ما في بطنها محررا قال : والمحرر ..

(٢) كما في الصحيح «من جعل لله عليه أن لا يفعل محرما سماه فركبه فليعتق رقبة أو ليصم شهرين متتابعين أو ليطعم ستين مسكينا» (التهذيب ٢ : ٣٣٦) وفي صحيح الحلبي عن الصادق (ع) إن قلت : لله علي فكفارة يمين (الكافي ٧ : ٤٥٦) وفي ثالث «ليس من شيء هو الله طاعة يجعله الرجل عليه إلا ينبغي له أن يفي به» (التهذيب ٢ : ٣٣٥) وفي رابع «وما جعلته لله تعالى فق به» (الكافي ٧ : ٤٥٨). وخامس هو موثق الساباطي عن أبي عبد الله (ع) عن أبيه (ع) في رجل جعل لله على نفسه عتق رقبة فأعتق أشل أو أعرج؟ قال : إذا كان ممن يباع أجزء عنه إلّا أن يكون سماه فعليه ما اشترط(التهذيب ٢ : ٣٣٥).

(٣) وهو موثق إسحاق بن عمار قال قلت لأبي عبد الله (ع) : إني جعلت على نفسي لله شكرا ركعتين ـ

١٠٧

ام توجبه على نفسك شرط ان يستجيبك الله فيما تخاف من إقبال محظور أو إدبار محبور وأنت لا تستطع بحولك وقوتك ان تحصل على بغيتك فيها ، حيث الوصول الى المغزى والحصول عليها قد لا يكتفى فيه بصرف الدعاء ، فلا بد من تقريب قربان الى الله وهو كل محبور لدى الله مندوبا او مفروضا ، وهذا هو مسرح النذر وشبهه من عهد او يمين.

ثم ولا نذر إلّا لله كما هنا وفي مريم ، ونية القربة هي لزام كون النذر لله ، فإذا نذر لغير الله ، ام نذر لله دون نية القربة الى الله ، فلا نذر ـ إذا ـ ولا يفرض عليك امرا.

ومما يشرط في النذر مشروطا وغير مشروط إمكانية متعّلقه واقعيا وشرعيا ،

__________________

ـ أصليهما في السفر والحضر فأصليهما في السفر بالنهار؟ فقال : نعم ، ثم قال : إني لأكره الإيجاب أن يوجب الرجل على نفسه ، فقلت إني لم أجعلهما عليّ إنما جعلت ذلك على نفسي أصليهما شكرا لله ولم أوجبهما على نفسي أفأدعهما إذا شئت؟ قال : نعم (الكافي ٧ : ٤٥٥ والتهذيب ٢ : ٣٣٣) أقول : على «إني لأكره» لأن متعلق النذر كان حرجا ، ولكن المتعلق المحرج لا يصح نذره.

وأما موثق سماعة سألته عن رجل جعل عليه إيمانا أن يمشي إلى الكعبة أو صدقة أو نذرا أو هديا إن هو كلم أباه أو أمه أو أخاه أو زارهم أو قطع قرابة أو مأثما يقيم عليه أو أمرا لا يصلح له فعله؟ فقال : لا يمين في معصية الله إنما اليمين الواجبة التي ينبغي لصاحبها أن يفي بها ما جعل لله عليه في الشكر إن هو عافاه الله من مرضه أو عافاه من أمر يخافه أو رد عليه ما له أو رده من سفره أو رزقه رزقا فقال : لله علي كذا وكذا شكرا ، فهذا الواجب على صاحبه وينبغي له أن يفي به (التهذيب ٢ : ٣٣٥ والإستبصار ٤ : ٤٦) أقول : إنه في مقام بيان بطلان هذه التعهدات في معصية الله ، وأخيرا مثال فيما يصح فيه التعهد كاليمين المنوي هو كذا وكذا ، وحتى أذاب كان صريحا في بطلان النذر غير المشروط لكان معارضا للآية والصحاح المتعددة الماضية ، كما وأن «في الشكر» يعم الشرط وسواه وإن مثل بالشرط أقول : والمصداق المتيقن المعلوم من «لله علي» هو النذر ، مهما شمل البعض منها اليمين والعهد أيضا.

١٠٨

وكونه راجحا في شرعة الله دونما حرج في تحقيقه ، فغير الراجح لا يحق لله ، والمحرج ليس من دين الله ف (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) فضلا عن غير المقدور او المحظور فانه هزء بالله او مهانة لله أن تقدم له ما نهى عنه تحذيرا أو تنزيها ، بل وما هو عوان بين الراجح والمرجوح.

والنذر في فعل الراجح او الواجب او ترك المرجوح المحرم يعم المشروط وسواه ، والنتيجة اصل الوجوب او ضعفه او اصل الحرمة او ضعفها ، وخلفيته في تخلّفه دنيويا هي الكفارة وأخرويا هي العقاب ان لم يثب ويكفر. وكافة الشروط في النذر غير المشروط هي مشروطة في المشروط ، إلّا رجاحة المتوقّع ، فإنما يكفيه السماح الشرعي إباحة أم دونها.

فالفارق بين المتعلّق والمتوقع في الشروط إنما هو شرط الرجاحة في الأوّل دون الثاني إذ لا نذر إلا في طاعة الله ، ثم الامكانية مشتركة بينهما ، ولكن القدرة غير المحرجة خاصة بالمتعلق دون المتوقّع ، حيث المتوقع خارج عن قدرتك مقدورا لله غير مستحيل كونيا ولا شرعيا ، ولكن المتعلق شرطه كونه ميسورا عندك دون حرج واقعيا وشرعيا.

فتوقع المحظور من الله ، كما المستحيل على الله حكمة أم سواها ، هو توقع محظور.

كما المتعلّق غير المقدور واقعيا او المحرج او غير الراجح شرعيا هو محظور او غير مشكور ، حيث النذر في الأساس يتبني الخوف من الله كما في غير المشروط ، او الخوف مما ترجوه ولا تسطع عليه ، والكل مشروط بعدم الحظر واقعيا ولا شرعيا ، مهما اختص متعلق النذر بالراجح الميسور ، والمتوقع يكتفى فيه بعدم الحظر.

فكما لا نذر الا الله ، كذلك لا نذر فيما ليس راجحا في شرعة الله مهما

١٠٩

كان المتوقع ـ كما في المشروط ـ لا يشترط فيه إلّا عدم الحظر واقعيا وشرعيا.

فإذا نذر راجحا او واجبا في متوقع محظور فهو محظور لا ينعقد ، كما وإذا نذر مرجوحا في متوقع محبور لم ينعقد ، او نذر فعلا محرجا فعلّه فيما دون حرجه ينعقد وفي غيره غير منعقد ، وشرط الصحة في النذر المشروط عدم تحقق شرطه قبله ، فإذا لا مورد لشرطه وكما في الصحيح (١).

والصيغة السائغة الصائغة للنذر هي «لله علي» لا سواها ك «علي» إذ لا نذر إلّا لله ، وأما أن يعاهد نفسه على أمر دون ان يعاهد الله عليه فلا نذر ، سواء أكان في نذر مشروط او غير مشروط (٢) ولا «على نذر» ولا «لله علي نذر» (٣) فان النذر ليس موردا للنذر.

__________________

(١) وهو صحيح ابن مسلم عن أحدهما عليهما السلام سألته عن رجل وقع على جارية له فارتفع حيضها وخاف أن تكون قد حملت فجعل لله عتق رقبة وصوما وصدقة إن هي حاضت وقد كانت الجارية طمثت قبل يوم أو يومين وهو لا يعلم؟ قال : ليس عليه شيء(الوسائل ب ٥ من كتاب النذر ح ٢) ومثله خبر جميل بن صالح (المصدر ح ١).

(٢) كما في صحيح منصور بن حازم عن أبي عبد الله (ع) قال : إذا قال الرجل علي المشي إلى بيت الله وهو محرم بحجة أو علي هذي كذا وكذا فليس بشيء حتى يقول : لله على المشي إلى بيته أو يقول : لله علي أن أحرم بحجة أو يقول : لله علي هذي كذا وكذا إن لم يفعل كذا وكذا(الكافي ٧ : ٤٥٧ والتهذيب ٢ : ٣٣٢) أقول والحديث مصرح بكلا النذرين مشروط وغير مشروط.

هذا وأما خبر إسحاق بن عمار عن أبي إبراهيم (ع) قلت له رجل كانت عليه حجة الله سلام فأراد أن يحج فقيل له تزوج ثم حج ، فقال : إن تزوجت قبل أن أحج فغلامي حر فتزوج قبل أن يحج فقال : أعتق غلامه ، فقلت لم يرد بعتقه وجه الله ، فقال : إنه لا نذر إلّا في طاعة الله والحج أحق من التزويج وأوجب عليه من التزويج قلت : فإن الحج تطوع؟ قال : وإن كان تطوعا فهي طاعة لله عز وجل فقد أعتق غلامه (الكافي ٧ : ٤٥٥ والتهذيب ٢ : ٣٣٣).

أقول : ليس هذا العتق لكونه متعلقا للنذر ولم يكن هناك نذر ، إنما هو عتق مشروط وقد تحقق شرطه كان يقول : إذا جاء زيد فغلامي حر ، فلا رباط للحديث بباب النذر.

(٣) كما في صحيح أبي الصباح الكناني سألت أبا عبد الله (ع) عن رجل قال : علي نذر؟ قال : ليس ـ

١١٠

وكما يشترط في النذر أيا كان ألّا يحلل حراما او يحرم واجبا ، كذلك ألا يفوّت حقا مفروضا كحق الزوج لزوجه وحق الوالدين للولد وحق الولد لهما ، فان لكلّ حقا على الآخر ليس ليفوّته نذر مهما كان في راجح ام واجب هو أدنى من واجب الحق الحاضر في شرعة الله ، فلا نذر ـ إذا ـ لزوجة إلّا بإذن الزوج إلا فيما لا يفوّت له حقا عليها ام هي سفيهة فإذا فوّت عليه حقا ام هي سفيهة لم ينعقد نذرها إلّا باذنه ، وينعقد فيما سواها ، والصحيح المخالف مأوّل أو غير صحيح (١).

وجملة القول في النذر ان يكون متعلقة محبورا مقدورا دون الحرج ، ومترقبة في مشروطه مسموحا غير مستحيل على الله عقليا او في الحكمة.

وفي الحق إن النذر ولا سيما المشروط منه داخل في حقل الدعاء ، بل وهو أدعى الدعاء ، حيث تفرض على نفسك ما يرضاه الله حتى يستجيبك الله ما تتقاضاه.

وليس النذر تشريعا ، فإنما هو سماح من الله ان تفرض على نفسك

__________________

ـ النذر حتى يسمى لله شيئا صياما أو صدقة أو هديا أو حجا(الكافي ٧ : ٤٥٥ والتهذيب ٢ : ٣٣٣).

وفي خبر أبي بصير قال : سألت أبا عبد الله (ع) عن الرجل يقول : على نذر قال : ليس بشيء حتى يسمي النذر ويقول : عليّ صوم لله أو يتصدق أو يهدي هديا وإن قال الرجل أن أهدي هذا الطعام فليس هذا بشيء إنما تهدي البدن (المصدر).

(١) وهو صحيح التهذيب ٢ : ٣٢٠ «ليس للمرأة مع زوجها أمر في عتق ولا صدقة ولا تدبير ولا هبة ولا نذر في مالها إلا بإذن زوجها إلا في حج أو زكاة أو بر والديها أو صلة قرابتها».

أقول : علّه يعني المرأة السفيهة حيث إن تصرفاتها المالية منوطة بإذن وليها زوجا أو أبا أو غيرهما ، وأما الحج والزكاة وبر الوالدين وصلة القرابة ، فهي منذورة وغير منذورة ليست بحاجة إلى إذن حيث لا يضر فيها السفه ، ولا سيما المفروض منها.

١١١

راجحا مهما كان مفروضا وتحرم على نفسك مرجوحا مهما كان محرما مرفوضا ، فهو من العناوين الثانوية من نوع ثان محدد من قبل الله موضوعا وحكما وشروطا ، كما العناوين الثانوية من النوع الاول مقررة من قبل الشرع كالاكراه والاضطرار اللذين هما موضوعان للسماح في قسم من المحرمات.

فلا نذر في معصية الله (١) كما لا نذر في مباح فعلا او تركا ولا في فعل مرجوح او ترك مندوب ، اللهم إلّا بعنوان ثان يجعلها راجحا.

وكذلك لا نذر في تفويت حق او إفراط أو تفريط في حق ، أو إسراف أو تبذير.

وترى ان نذر الوالدين على الولد منّجز بحق الولد كأنه هو الذي نذر؟ ام لا ينجّز إلا على الناذر أن يحقق نذره في ولده وعليه القبول قضية وجوب طاعة الوالدين اللهم إلا في أمر محرج ام مرجوح فضلا عن المحظور ، وإذا خالف الولد فهو عاص ولا شيء على الوالدين حيث حققا الواجب عليهما ، ثم ومخالفة الولد في النذر المحظور واجبة إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

وهنا نعرف مدى عمران قلب امرأة عمران ، حيث تتجه الى ربها بكامل الايمان بأعز ما تملكه تحريرا لغريرة عينها لله كما وهي محررة في طاعة الله ، تحررا عن كل عبودية لكل أحد ، وعن كل اتجاه إلى أي شيء وأي أحد وأية قيمة سوى الله ، فقد حررتها بنذرها عن كل تقيّد جماعي بأية مسئولية حتى تتخلى لخدمة الله في بيت الله (٢).

__________________

(١) كما في صحيح الكتاني عن أبي عبد الله (ع) ليس من شيء هو طاعة لله يجعله الرجل عليه إلّا ينبغي له أن يفي به وليس من رجل جعل لله عليه شيئا في معصيته تعالى إلّا ينبغي له أن يتركه إلى طاعة الله (التهذيب ٢ : ٣٣٥ ونوادر أحمد بن عيسى ٥٨ واللفظ له).

(٢) نور الثقلين ١ : ٣٣١ في كتاب علل الشرايع بسند متصل عن إسماعيل الجعفي قال قلت لأبي جعفر عليهما السلام : أن المغيرة يزعم أن الحائض تقضي الصلاة كما تقضي الصوم فقال : ما له لا ـ

١١٢

فالتوحيد الحق في مثلث : العقيدة والنية والعملية ، هو الصورة المثلى للتحرر المطلق ، إنه يتمثل هنا في نذر التحرر لقرة العين وفلذة الكبد : الولد ـ ولمّا يولد ـ مما يشي بعمق الإيمان وخلوص العمران لقلب امرأة عمران.

ولقد كانت تنتظر لذلك التحرر المنظور المنذور ولدا ذكرا هو المحور في نذرها ، والنذر للمعابد لم يكن معروفا إلّا للذكران ليخدموا الهيكل وينقطعوا للعبادة والتبتل ، ولكن ها هي تجدها أنثى وليس الذكر كالأنثى :

(فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) (٣٦).

لقد تتحسر امرأة عمران على ما كان من خيبة رجائها ومعاكسة تقديرها ، وتحزنت إلى ربها إذ كانت ترجو ذكرا تهبه محررا لبيت الله وتقفه على خدمته ، ولكن الوليدة أنثى والبنات لا يصلحن لذلك التحرر الطليق ، للزوم مقامهن عند أزواجهن في زواجهن ، ولزوم الخروج عن بيت الله حالة الحيض والطلق على اية حال.

فهنا (.. قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى) ليست اخبارا (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) بل هو تحسّر أنها لا تصلح لذلك التحرر لأنها أنثى ، فقد تناجي ربها كمعتذرة عن تحرّرها او كئيبة لأنها أنثى ، راجية ان تقبلها ربها على أنوثتها كما تقبلّها ، مشفقة من ألّا يقبل نذرها.

__________________

ـ وفقه الله إن امرأة عمران قالت : رب إني نذرت لك ما في بطني محررا ، والمحرر لا يخرج منه أبدا فلما وضعت مريم قالت رب إني وضعتها أنثى وليس الذكر كالأنثى فلما وضعتها أدخلتها المسجد فلما بلغت مبلغ النساء أخرجت من المسجد ، أنى كانت تجد أياما تقضيها وهي عليها أن تكون الدهر في المسجد.

١١٣

هنا (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) كجملة معترضة ، هي ذود عن ساحة الرب ان يعلّم ، على ذود عن ساحتها ان تعلّمه ، وبيان انها قائلة قولها متحسرة في ذلك العرض.

وترى (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى) هي من قولها ، والعكس أحرى لأنها وضعتها أنثى فليقل «وليست الأنثى كالذكر»!

ام هي من قول الله ، والجملة المعترضة بحاجة الى برهان لأنها خلاف المتعود من سرد الجمل.

قد تكون هي من قول الله اشعارا في هذه الاذاعة القرآنية ان الذكر المطلوب هنا ليس كالأنثى الموهوبة ، بل هي أعلى منه وأولى ، إذ تحمل اضافة الى ما تطلبته من التحرر ، فانها تتقبل محررة في نفسها ، ووالدة لعيساها وهما من آيات الله الكبرى ، وليست «وليست الأنثى كالذكر» لتفيد ذلك المعنى.

ثم هي من قولها على هامش قول الله ، عناية الى غير معناها : ان الذكر ليس معذورا كما الأنثى ، حيث الأنثى لا تصلح لما يصلح له الذكر ولا سيما في حقل التحرر هكذا ، لأجل ما يلحقها من الحيض والنفاس ، وما يلزمها من الصيانة عن التبرج للناس ، فإذا خالطت الرجال افتتنوا بها واستضروا بمكانها كما تفتتن هي بهم ، حيث النساء أوهن عقودا ، وأضعف عقلية وصمودا ووساوس الشيطان إليهن أسرع ، فأهواءه إليهن أهرع.

ثم العكس يفيد نفس المعنى ولكن في الأصل رجاحات ليست فيه :

١ (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى) اختصار عن قالتين مختلفتي المعنى : قول الله وقولها ، وليس العكس ليعني ـ فيما يعني ـ قول الله.

٢ حسن التعبير في وزن الكلام يقتضي تقديم الذكر على الأنثى.

٣ حسن المعنى في تقدم الأفضل على الفضيل.

١١٤

٤ يتقدم الذكر لتقدمه في عناية النذر فيذكر ـ إذا ـ تحسرا على فقده.

وإنها تتحسر عن فقد الذكر انه ليس كالأنثى ، فلا يتهم في خلوة البيت كما تتهم ، وهو أقوى من الأنثى ، وهو خلو من اعذار الأنثى ، وهو يصلح للنبوة وما أشبهها دون الأنثى ، و (إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى) فهل من علاج أن تقوم الأنثى مقام الذكر وتفي بما يفي؟! فمما تقوي رجاءها في تحقق بغيتها (وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ) : المرتفعة الغالبة ـ تتغلب على عراقيل الأنوثة ونقائصها وضعفها وما سواها ، وترتفع عن كل نقائص الانوثة والرجولة بجنب الله.

ثم (وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ) لا هي فحسب بل (وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) مما يلمح صراحا انها ألهمت بمستقبل ذريتها ، وعلّ (لَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى) كقول الرب ألهمت إليها بعد قالتها نفس القول أم عنده.

(فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) (٣٧).

التقبل هو قبول على تكلف ، وإذ لا تكلف في قبول ربنا فقد يعني هنا منتوج كل تكلف في القبول ، وهو من ربنا يحلق على كل الفضائل والفواضل في القبول ، فلا رد فيه ولا افول ، بل هو قبول على مدار حياة مريم البتول سلام الله عليها.

فانه تقبّل في قبول نذرها ان تنوب الذكر ، وتقبّل في جعلها كالذكر ، ثم حسن زيادة حسنى على قبولها أن جعلها وابنها آية للعالمين.

وهنا نستوحي من تقبلها منعها عن الزواج ، ام وطهارتها عن الدماء ، فلتبق كالذكور وفوقهم إذ لم تحتج لرزقها الى خروج حيث ضمنه ربها.

هنا تقبّل رباني لمريم سلام الله عليها في مربعة الجهات هي :

١١٥

١ (إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً) (فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ) محررة لله لخدمة بيت الله.

٢ (وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ) (فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ) ان تكون مريم : مرتفعة ـ في اللغة السريانية ـ غالبة متغلبة على كل رجس ونقص ونجس في أنوثة وعبودية ، وقد تعني تسميتها مريم تفألا من أمها علّها تربو على أقرانها وعلى الذكر الذي كانت ترجوه أمها تطبيقا لنذرها ، ثم لتحقيق هذا المغزى تعيذها بالله وذريتها من الشيطان الرجيم ، تعيذها ان ينالها نقص في سبيلها كما ينال النساء في خدمة البيت ، او ان يصيبها ما تمس عفافها في خلطها بعبّاد البيت ، او أن يعترضها ضعف في خدمتها ، او تلحقها تهمة في اختلاطها بالرجال.

٣ (وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ) «فتقبلها» معاذة بالله ، فهو يعيذها من الشيطان الرجيم.

٤ «وذريتها» عيسى (عليه السلام) وهو الأصل في ذلك المسرح حيث يحتل القمة الرسالية والمرتبة الرابعة من ولاية العزم بين النبيين (عليهم السلام).

فذلك قبول حسن في مربع الدعاء والاستدعاء ، أحسن مما إذا كان ذكرا.

فرغم ان الذكر ليس كالأنثى في قالتها ، (لَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى) في قول الله ، حيث فاقت كل ذكر في تاريخ الرسالات اللهم إلا اولياء العزم ولا سيما محمدا (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

«فتقبلها ..» ثم (وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) منذ ولادتها حتى حملها ووضعها وإلى موتها ، فقد كانت تترعرع على رقابة الله الخاصة وعينه الحامية لتقبلها محررة مريم معاذة بربها وذريتها من الشيطان الرجيم ، عصمة ربانية في كل أبعادها إلا الوحي الرسالي.

١١٦

ولماذا (نَباتاً حَسَناً) بالإنبات ، دون تربية حسنة؟.

علّه للإشارة الى تحليق المراقبة الربانية لها منذ انعقاد نطفتها وتكاملها جنينا وولادتها والى موتها ، فانها كلها من الإنبات (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً).

فالسلالة من ماء مهين هي الصفوة المختارة من المني ، ثم المواد الكيماوية الكامنة في ماء الرجل والمرأة هي صفوة العناصر الكيماوية المنتزعة من الدم ، الذي هو ايضا بدوره صفوة ما نتناوله من مشرب ومأكل ، وكل لاحق نابت من سابقه حتى السلالة النطفة ، ثم العلقة والمضغة والعظام واللحم ، كلّ نابت من سابقه.

وإخراجنا من الأرض نباتا له دور عام يعم سائر النسل الانساني ، وآخر خاص يخص الأصفياء المخلصين.

فقد يعني (وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) كل هذه المراحل ، ولكي تصلح للاصطفاء على نساء العالمين وتلد المسيح (عليه السلام) ، فقد جمع في الإنبات نباتا حسنا إلى طهارة الوالدين وطهارتها حين بلغت ، الطهارة الربانية المحلّقة على كل مراحل إنباتها على طول الخط.

ومن إنباتها النبات الحسن : (وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا) كفالة النبات الحسن والتربية اللائقة الرسالية ، فقد جعل الله باقتراعهم كفالتها لزكريا ـ زوج خالتها ـ أمينا مؤمّنا عليها ، مؤمنا بشأنها ، وكان رئيس الهيكل اليهودي من ذرية هارون الذين انتقلت إليهم سدانة الهيكل ، فنشأت مباركة مجدودة ، يهيئ لها الله من رزقه فيضا متواصلا.

أترى تلك الكفالة كانت ذات بعدين أولهما خصوص الوحي بشأن كفالته إياها ، وثانيهما الاقتراع تأييدا وتأكيدا لذلك الاختصاص؟ النص ساكت عن

١١٧

بعدين اثنين ، وعلّ «كفلها» تعني كفالته إياها بوحي الاقتراع ، سكوتا عما سكت عنه النص وذودا عن ساحة القديسين اختصامهم في كفالتها بعد وحيها لزكريا.

هنا فاعل «كفلها» هو الله وزكريا المفعول الأوّل ومريم هي الثاني ، حيث الكفل متعد بنفسه ، فرغم ان الولد في كفالة الأبوين عرفا وشرعا ، ولكن مريم النابتة نباتا حسنا بحاجة الى كفالة عاصمة معصومة لم يكن يحملها هناك إلّا زكريا ، مهما تخرج بالقرعة الشرعية من بين القديسين المتنازعين بشأنها.

و «المحراب» كأصل هو محل الحرب فان عبادة الرحمن محاربة الشيطان ، ولان العبادة الخالصة بحاجة الى الانسراح عما سوى الله ، فالمحراب الحرب. هو ايضا من الحريب : السليب ، يعني عن اشغال الدنيا ، وهو المقدم في كل مسرح (يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ) فالمحراب معنويا هو محل الانسراح عما سوى الله لاخلاص عبادة الله بحرب الشيطان ، وهو مكانيا المقصورة في مقدم المعبد لها باب يصعد اليه بسلّم ذي درجات قليلة ، ويكون من فيه محجوبا عمن في المعبد ، و «كلما دخل» مما يلمح بهذه الخصوصية لمحرابها ، وكما يصرح به (إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) حيث المعبد المكشوف لا يتصور فيه التسوّر.

والكفالة ـ ككل ـ هي من المواضيع الشرعية ، سواء في التربية والحفاظ بدنيا او معنويا ام ماليا اماهيه مما تصح فيه الكفالة.

وأصلها من الكفل : المركب ، في ركب الحياة كبعض او ككل ، وقد تكفها زكريا في مسير الحياة كفيلا ضامنا عادلا معصوما في مسيره الى مصيره (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً) و «رزقا» يعني ، رزقا معيشيا إلى رزق معنوي لتكون متحررة عمن يرزقها سوى الله مهما كانت للكفالة

١١٨

الرسالية دورها الفعال على عين الله ورعايته.

اجل «رزقا» جليلا لا يعرف مصدره ولذلك نكّر ، واحتار زكريا من ذلك الرزق المكرور دونما انقطاع ف (قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا) اي زمان ومن أيّ والسبل المألوفة له ـ وانا الوسيط الوحيد فيها بظاهر الحال ـ منقطعة عن قمة المحراب ، حيث لا يسمح لأحد غيري ان يدخله ، ف (أَنَّى لَكِ هذا)؟.

(قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) بتقطع الأسباب المتعودة ، وكما تحررت عنها في ذلك التحرر (إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) نحاسبه نحن في حياتنا المتعودة ، او يحاسبه الله ، مهما كان رزقه بغير حساب بميزان وحساب.

ويا لها من خنوع وخشوع امام العطية الربانية ، احتفاظا بالسر الذي بينها وبينه ، والتواضع في التحدث عن ذلك الرزق السرّ ، دون اية مباهاة وتنفج وتبهّج.

هنا لا نخوض في مواصفة ذلك الرزق ونوعيته ، ولكننا نعلم حسب النص انه (مِنْ عِنْدِ اللهِ) عندية خاصة مباركة طيبة ، مختلفة عن سائر الرزق المؤتلفة ، فليكن من الجنة أم خلق الساعة.

فلا يرد نقد الجمعية الرسولية الامريكية على ذلك الرزق بان «الجنة ليست محل أكل وشرب بل هي محل التقديس والتسبيح وكل تنعماتها روحية» (١).

أولا ان (مِنْ عِنْدِ اللهِ) لا تخص الجنة إلا بتأويل ان الله ساكن الجنة فالرزق من عنده ليس إلا من الجنة.

__________________

(١) كتاب الهداية للجمعية الرسولية الأمريكن ٢ : ٣٦.

١١٩

ثانيا ان الجنة حسب القرآن والعهدين فيها تنعمات مادية اضافة الى الروحية.

ثالثا ان هذه الجنة علّها جنة آدم والتي صعد إليها المسيح وهي من جنان الدنيا.

ورابعا ان الرزق من عند الله يعني هنا من غير السبل المتعودة وكما «ان الله سخر الغربان لإيليا فكانت تأتيه بلحم صباحا ومساء» (امل ١٧ : ٤ و ٦).

كما و «هيأ له الكعكعة (نوع من الخبز) وكوز الماء فنبهه الملاك للأكل والشرب حتى سار بقوة تلك الأكلة أربعين يوما» (امل ١٩ : ٥ ـ ٩).

وإذا هم يستغربون رزق الطاهرة من عند الله حلالا طيبا ، فكيف يستقربون شرب المسيح جديدا من نتاج الكرمة ـ الخمر ـ في ملكوت الله (متى ٢٦ : ٢٩ ومرقس ١٤ : ٢٥ ولوقا ٢٢ : ١٨) او مما يأكل منه التلاميذ على مائدة المسيح في ملكوته (لوقا ٢٢ : ٣٠) هذه مريم الطاهرة العذراء تجد عندها رزقا من عند الله ، وهي منقطعة عن عباد الله ، ثم انظر الى فاطمة الزهراء مولاة العذراء ، حيث تجد عندها رزقا وتتمثل لأبيها (صلى الله عليه وآله وسلم) بقول الله عن العذراء با أبت (هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) (١).

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ٢٠ ـ أخرج أبو يعلى عن جابر أن رسول الله (ص) أقام أياما لم يطعم طعاما حتى شق ذلك عليه فطاف في منازل أزواجه فلم يجد عند واحدة منهن شيئا فأتى فاطمة فقال : يا بنية هل عندك شيء آكله فإني جائع؟ فقالت : لا والله ، فلما خرج من عندها بعثت إليها جارة برغيفين وقطعة لحم فأخذته منها فوضعته في جفنة لها وقالت والله لأوثرن بهذا رسول الله (ص) على نفسي ومن عندي وكانوا جميعا محتاجين إلى شبعة طعام فبعثت حسنا أو حسينا إلى رسول الله (ص) فرجع إليها فقالت له : بأبي وأمي قد أتى الله بشيء قد خبأته لك فقال هلمي يا بنية بالجفنة فكشفت ـ

١٢٠