نهر الذّهب في تاريخ حلب - ج ٣

كامل البالي الحلبي [ الغزي ]

نهر الذّهب في تاريخ حلب - ج ٣

المؤلف:

كامل البالي الحلبي [ الغزي ]


المحقق: الدكتور شوقي شعث ومحمود فاخوري
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
المطبعة: مطبعة الصباح
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٤٠

والتظاهر بسبّ الصحابة ، وأنكر ذلك إنكارا شديدا وساعده على ذلك جماعة من أهل السنة بحلب. وعظم هذا الأمر على الإسماعيلية وأهل التشييع وضاقت صدورهم به. اه وقد تقدم في هذا كلام في أيام سيف الدولة الحمداني.

وفي هذه السنة أيضا كان الغلاء العام من خراسان إلى العراق ، إلى الشام ، إلى بلاد المغرب.

سنة ٥٤٤ حصر نور الدين قلعة حارم وغير ذلك :

فيها حصر نور الدين حصن حارم ، فجمع البرنس صاحب أنطاكية الفرنج وسار إلى نور الدين فاقتتلوا وانتصر نور الدين وقتل البرنس وانهزم الفرنج وكثر فيهم القتل. وملك بعد البرنس ولده بيمند وهو طفل وتزوجت أمه بآخر تسمّى البرنس. ثم إن نور الدين غزاهم ثانية فقتل منهم كثيرا وأسر ، وكان فيمن أسر : البرنس الثاني زوج أم بيمند. وفيها زلزلت الأرض زلزالا شديدا.

سنة ٥٤٥ استيلاء نور الدين على أفامية :

فيها سار نور الدين إلى أفامية وحصر قلعتها وملكها من الفرنج ، وكان الفرنج قد اجتمعوا وساروا لنور الدين ليرحّلوه عنها فملكها قبل وصولهم.

سنة ٥٤٦ انهزام نور الدين وأسر حامل سلاحه ثم أسر جوسلين وغير ذلك :

فيها عزم نور الدين على قصد بلاد جوسلين أحد فرسان الفرنج ودهاتهم ، فجمع جوسلين جموعا كثيرة وسار نحو نور الدين فهزمه وقتل وأسر من عسكره جمعا كثيرا ، وكان من جملة الأسراء السلاح دار ومعه سلاح نور الدين. فأرسله جوسلين إلى مسعود ابن قلج أرسلان صاحب قونيه وأقسراي وقال : هذا سلاح زوج ابنتك ، وسآتيك بما هو أعظم منه.

فعظم ذلك على نور الدين وهجر الملاذّ وفكر في أمر جوسلين وجمع التركمان وبذل لهم الوعود إن ظفروا به. فاتفق أن جوسلين طلع للصيد فكبسه التركمان وأمسكوه ، فبذل لهم مالا فأجابوه إلى إطلاقه. فبلغ ذلك نور الدين وأرسل عسكرا كبسوا التركمان الذين

٨١

عندهم جوسلين وأحضروه إلى حلب. ولما أسر جوسلين حبسه نور الدين في قلعة حلب وسار لفتح بلاده وقلاعه فملكها ، وهي : تل باشر وعين تاب ودلوك وعزاز وتل خالد وقورس والراوندان وبرج الرصاص وحصن الباره وكفر سود وكفر لاثا ومرعش ونهر الجوز وغير ذلك. وفي هذه السنة حضر مجير الدين مع خواصه إلى حلب ـ وهو صاحب دمشق ـ ودخل على نور الدين وبذل له الطاعة فأكرمه نور الدين غاية الإكرام وأقامه نائبا عنه في دمشق ، فرجع إليها مجير الدين فرحا مسرورا.

سنة ٥٤٧ انكسار الفرنج عند دلوك :

فيها احتشد من الفرنج جيش كثيف وقصدوا نور الدين وهو ببلاد جوسلين ليمنعوه عن ملكها ، فالتقوا به عند دلوك (١) وجرى بينه وبينهم قتال عنيف انتهى بانهزامهم ، وقتل وأسر منهم عدد عظيم ، وعاد نور الدين إلى دلوك فملكها.

سنة ٥٤٩ ملك نور الدين دمشق وغيرها :

فيها كاتب نور الدين أهل دمشق واستمالهم بقصد أن يملكها خوفا عليها من الفرنج ، لأنهم تغلبوا بتلك الناحية وأطلقوا من دمشق من أرادوا إطلاقه من النصارى. فسار نور الدين إلى دمشق وحاصرها ففتحت له من الباب الشرقي ، وملكها وحصر مجير الدين صاحبها في قلعتها وبذل له اقطاعا ، من جملته مدينة حمص ، فسلم مجير الدين القلعة وسار إلى حمص فصرفه نور الدين عنها بمسكنة. وفيها ملك نور الدين قلعة تل باشر من الفرنج.

سنة ٥٥١ حصار نور الدين حارم ومصالحته الفرنج على نصف أعمالها :

في هذه السنة حاصر نور الدين قلعة حارم وضيّق عليها. فاجتمع الفرنج وساروا نحو نور الدين ، فكتب إليهم بطريق الحصن يعرّفهم بقوة المسلمين ويقول لهم : إن لقيتموهم هزموكم وأخذوا حارم وغيرها ، وإن حفظتم أنفسكم منهم قدرنا على الامتناع (٢). ففعل الفرنج ما أشار به عليهم وراسلوا نور الدين في الصلح ، واستقر الأمر بينهم على مناصفة ولاية حارم بين الإفرنج وبين نور الدين.

__________________

(١) بليدة من نواحي حلب ، حصلت فيها وقائع مع الروم والفرنجة.

(٢) في الأصل : «الإمتاع» فصوّبناها.

٨٢

خبر الزلزال وغيره :

وفي سنة ٥٥٢ في تاسع عشر صفر وافت زلزلة عظيمة ، وتلاها عدة زلازل أثرت في حلب تأثيرا أزعج أهلها ، وهدمت عدة حصون من حمص وحماة وكفر طاب وأفامية. ولم يسلم من عطب هذه الزلازل في البلاد الشامية إلا النادر. وكان معظم هذه الزلازل بحماة ثم بحلب ، وكان يتبع الزلزلة صيحات مختلفة كالرعود القاصفة ، وقد هلك بها كثير من الخلق حتى حكي أن بعض المعلمين بحماة فارق المكتب لمهمّ فجاءت الزلزلة فأخربت الدور وسقط المكتب على الصبيان جميعهم. قال المعلم : فلم يأت أحد يسأل عن صبيّ كان في المكتب. وجملة من هلك في إحدى هذه الزلازل عشرة آلاف نسمة. وهلك أكثر بني منقذ تحت الردم بشيزر ، وهم حكامها. فسار إليها نور الدين وملكها وفيها اهتم نور الدين بعمارة القلاع والأسوار التي هدمتها الزلزلة وأغار على الفرنج ليشغلهم عن قصد البلاد.

سنة ٥٥٤ مرض نور الدين وغير ذلك من الحوادث :

في هذه السنة مرض نور الدين مرضا شديدا أرجف بموته (١) بقلعة حلب. فجمع أخوه أمير ميران بن زنكي جمعا وحصر قلعة حلب. وكان شيركوه بحمص ، وهو من أكبر أمراء نور الدين ، فسار إلى دمشق ليستولي عليها وبها أخوه نجم الدين أيوب ، فأنكر أيوب عليه ذلك وحسّن له الرجوع إلى حلب وقال له : إن كان نور الدين حيا خدمته وإن كان قد مات فأنا في دمشق ، فافعل ما تريد. فعاد شيركوه إلى حلب مجدّا وجلس نور الدين في شبّاك يراه الناس ، فلما رأوه تفرقوا عن أخيه أمير ميران واستقامت الأحوال.

أخبار الحوادث من سنة ٥٥٥ إلى نهاية سنة ٥٥٨ :

في سنة ٥٥٥ قصد «ربنلد» ملك إيطاليا البلاد التي استولى عليها نور الدين من جوسلين ، ونهب فيها من يقطنها الأرمن والسريان ، وعاد إلى أنطاكية. وقبل وصوله إليها خرج إليه مجد الدين نائب حلب وأخذه أسيرا وقيده وأحضره إلى حلب. وفي سنة ٥٥٨ كان نور الدين نازلا في البقيعة تحت حصن الأكراد ، فكبس عسكره الفرنج وهجموا

__________________

(١) الإرجاف : الشائعة المثيرة للقلق والخوف ، وفعله : أرجف.

٨٣

على خيمته فركب نور الدين مسرعا وساق [فرسه](١) ورجله في السنجة (٢) ، فنزل كردي وقطعها ، وقتل الكردي ونجا نور الدين فأحسن إلى مخلّفيه ووقف لهم أوقافا. ثم سار نور الدين إلى بحيرة حمص ونزل عليها وتلاحق به من سلم من المسلمين.

سنة ٥٥٩ أخذ قلعة حارم :

فيها أخذ نور الدين قلعة حازم من الإفرنج وقتل وأسر منهم كثيرا. وكان من جملة الأسرى البرنس صاحب أنطاكية ، والقومص صاحب طرابلس. وفيها سار نور الدين إلى بانياس وأخذها من الفرنج وكانت بأيديهم من سنة ٥٤٣ وفي سنة ٥٦٢ عصى غازي بن حسان صاحب منبج على نور الدين ، فسير إليه عسكرا أخذوها منه وأقطعها نور الدين قطب الدين نيال بن حسان ، أخا غازي المذكور ، فبقي فيها إل أن أخذها منه صلاح الدين يوسف بن أيوب سنة ٥٧٢.

وفي سنة ٥٦٣ أقام نور الدين بقلعة الرها مدة ثم عاد منها إلى حلب وضربت خيمته في رأس الميدان الأخضر وكان مولعا بضرب الكرة وربما دخل الظلام فلعب بها بالشموع. وكان صلاح الدين الأيوبي يركب بكرة كل يوم لخدمة نور الدين في لعب الكرة لأن صلاح الدين كان عارفا بآدابها.

وفي سنة ٥٦٥ كانت زلزلة عظيمة خربت بلاد الشام لا سيما حلب ، فقد فعلت بها ما لم تفعله بغيرها ، وبلغ الرعب بمن نجا من أهلها كل مبلغ فكانوا لا يقدرون على أن يأتوا إلى بيوتهم السالمة خوفا من الزلزلة ، فإنها عاودتهم غير مرة ، ولا أن يقيموا بظاهر حلب خوفا من الفرنج. ثم إن نور الدين قام بعمارة القلاع والأسوار من غير حلب ، وبعده جاء إلى حلب وباشر عمارتها بنفسه وكان يقف على البنائين بشخصه حتى أحكم عمارتها. وأما الفرنج فإن الزلزلة أثرت في بلادهم أشد تأثيرا من بلاد الإسلام فاجتهدوا في تعميرها واشتغل كل من المسلمين والفرنج بعمارة بلاده عن صاحبه.

__________________

(١) زدنا هذه الكلمة بين مربعين ليستقيم المعنى.

(٢) كذا. وفي الكامل لابن الأثير ج ١١ : «الشبحة»! والهاء في «رجله» تعود على الفرس الذي ركبه نور الدين عجلا. وكانت رجل الفرس مقيدة بحبل ، فلما قطعه الكردي انطلق الفرس ونجا نور الدين بنفسه.

٨٤

اتخاذ حمام الزاجل :

وفي سنة ٥٦٧ أمر نور الدين باتخاذ الحمام الهوادي (١) التي تحمل البطائق وتطير بها إلى أوكارها. وكان سبب ذلك اتساع بلاده التي تستوعب ما بين النوبة إلى حد همذان ولا يتخللها سوى بلاد الفرنج ، فربما نازلوا بعض الثغور ولا يصل خبرهم إلى نور الدين إلا وقد بلغوا الغرض. فحينئذ أمر بتعليم الحمام ورتّب لها ولمعلميها أرزاقا وافية ، فوجد بها راحة كبيرة فإن الأخبار صارت تصل إليه بوقتها لأنه كان في كل ثغر رجال مرتبون ومعهم من حمام المدينة التي تجاورهم ، فإذا رأوا أو سمعوا أمرا كتبوه لوقته وعلقوه على الطائر وسرّحوه إلى المدينة التي هو منها في ساعته فتنقل الرقعة منه إلى آخر ، من البلد الذي يجاورهم في الجهة التي فيها نور الدين ، وهكذا إلى أن تصل الأخبار. فانحفظت الثغور بذلك حتى إن طائفة من الفرنج نازلوا ثغرا لنور الدين فأتاه الخبر ليومه ، فكتب إلى العساكر المجاورة لذلك الثغر فكبسوا العدو وظفروا به والفرنج آمنون لذلك ، لبعد نور الدين عنهم. وهذه الطيور وصفها بعضهم بقوله : «الطيور ملائكة الملوك» يشير إلى أنها تنزل على الملوك من جو الهواء نزول الملائكة من السماء مع فرط ما فيها من الأمانة.

قلت : ولا أدري متى بطل استخدام الحمام من بلادنا ، غير أن جاك سواري دي بورسلون ذكر في الصحيفة ١٠١٨ ه‍ من الجزء الأول من كتابه القاموس التجاري العام ـ في أثناء الكلام على تجارة حلب ـ أن من جملة ما امتاز به تجار حلب استخدامهم الحمام بنقل الأخبار إليهم من إسكندرونة. قال : وهي حمام يعانون تربيتها وتعليمها في بيوت مخصوصة من حلب وينقلونها إلى إسكندرونة بالأقفاص ، فإذا حدث لديهم في إسكندرونة خبر مهمّ كتبوه في بطاقة وعلقوها في رقاب الحمام وسرّحوها نحو حلب ، فتأتيها طلبا لفراخها في برهة ثلاث ساعات. اه. (وكان طبع قاموسه المذكور سنة ١٧٢٣ م ، وهي سنة ١١٣٦ هجرية).

وفي سنة ٥٦٨ فتح نو ر الدين مرعش وأخذ بهسنا. وفي سنة ٥٦٩ توفي الملك العادل

__________________

(١) الحمام الهوادي ، ويقال أيضا : الحمام الهادي : هو حمام الزاجل نفسه ، الذي يرسل إلى مسافات بعيدة بالرسائل. و «حمام الزاجل» على الإضافة ، لأن الزاجل هو الرجل الذي يرسل الحمام الهادي على بعد. ومن الخطأ الشائع. قولهم : الحمام الزاجل.

٨٥

نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي ، صاحب الشام وديار الجزيرة وغيرها ، وجلس مكانه على سرير الملك ابنه الملك الصالح إسماعيل ، وكان لم يبلغ الحلم فتولى تربيته الأمير شمس الدين محمد بن المقدم.

٨٦

ملك صلاح الدين يوسف بن أيوب دمشق وغيرها

في سلخ ربيع الأول سنة ٥٧٠ ملك صلاح الدين بن أيوب مدينة دمشق وحمص وحماة. وسببه أن شمس الدين بن الداية المقيم بحلب أرسل لسعد الدين كمشتكين دزدار (١) قلعة الموصل من قبل المرحوم نور الدين إلى الملك الصالح يستدعيه من دمشق إلى حلب لإخماد الفتن التي قامت في حلب بين الشيعة وأهل السنة ، وليكون مقامه في حلب. فسار الملك الصالح مع سعد الدين المذكور إلى حلب. ولما استقر بها قبض على شمس الدين ابن الداية الذي طلبه ، وقبض على إخوته وعلى رئيس الشيعة ابن الخشاب وإخوته. واستبد سعد الدين كمشتكين بتدبير الملك الصالح فخافه أتابكه الأمير شمس الدين محمد بن المقدم وبقية الأمراء في دمشق وكاتبوا صلاح الدين بن أيوب صاحب مصر ليملّكوه دمشق ، فأقبل إليهم على الفور وسلّموه إياها دون أدنى مشقة.

ولما سمع من في حلب أن دمشق صارت لصلاح الدين خافوا منه وأرسلوا يهددونه فلم يأبه بتهديدهم ونادى بعسكره بالاستعداد لقصد الشام الأسفل ، ورحل متوجها إلى حمص فتسلمها ثم إلى حماة فأطاعه صاحبها جرديك ، والتمس منه أن يكون واسطة صلح بينه وبين أهل حلب ، فأجابه صلاح الدين إلى ذلك فجدّ جرديك إلى حلب واجتمع بالملك الصالح والأمراء وأشار عليهم بصلح السلطان صلاح الدين ، فاتهموه بالمخامرة معه (٢) ، وحبسه سعد الدين كمشتكين مدبر الملك مع أولاد الداية المقدم ذكرهم ، فبلغ الخبر السلطان وهو بحماة فرحل من وقته وسار إلى حلب ونزل على أنف جبل الجوشن فوق مشهد الدكّة (٣) ثالث جمادى الآخرة ، وامتدت عساكره من الخناقية إلى السعدي ، فخاف الحلبيون أن يسلموه البلد كما فعل أهل دمشق فأمر الملك الصالح أن ينادى باجتماع

__________________

(١) الدّزدار : محافظ القلعة أو حارسها. وقد أخذ الأتراك هذه الكلمة عن الفرس.

(٢) يريد : الاتفاق معه سرا.

(٣) سبق التعريف به قبل عدة صفحات.

٨٧

الناس إلى ميدان باب العراق ، فاجتمعوا حتى غص الميدان بالناس ، فوقف الملك الصالح في رأس الميدان من الشمال وقال لهم : يا أهل حلب أنا ربيبكم ونزيلكم واللّاجئ إليكم ، كبيركم عندي بمنزلة أبي ، وشابّكم كأخي ، وصغيركم كولدي.

وخنقته العبرة وعلا (١) نشيجه. فافتتن الناس وماجوا ورموا عمائمهم وضجوا بالبكاء والعويل ، وقالوا : نحن عبيدك وعبيد أبيك ، نقاتل بين يديك ونبذل أموالنا وأنفسنا لك. وأقبلوا على الدعاء والترحم على أبيه. وكان الشيعة منهم اشترطوا على الملك الصالح أن يعيد إليهم شرقيّة الجامع يصلّون فيها على قاعدتهم القديمة ، وأن يجهر «بحيّ على خير العمل» والأذان (٢) ، والتذكير في الأسواق وقدّام الجنائز بأسماء الائمة الاثني عشر ، وأن يصلوا على أمواتهم خمس تكبيرات ، وأن يكون عقود الأنكحة إلى الشريف الطاهر أبي المكارم حمزة بن زهرة الحسيني ، وأن تكون العصبية مرتفعة والناموس (٣) وازعا لمن أراد الفتنة. وأشياء كثيرة اقترحوها مما كان أبطله نور الدين رحمه الله فأجابهم الملك الصالح إلى جميع ما طلبوا.

وأما السلطان صلاح الدين فإنه أرسل إلى حلب رسولا يعرّض بالصلح ، فامتنع كمشتكين فاشتد السلطان حينئذ في قتال البلد. فتفاوض الملك الصالح وجماعته في إعمال الحيلة فقر رأيهم على أن يراسلوا سنانا صاحب الحشيشة ـ ويقال لهم الإسماعيلية والباطنية ـ في أن يدس إلى السلطان من يغتاله ، ووعدوه على ذلك بأموال جمّة وعدّة من القرى. فجاء نفر من الإسماعيلية إلى جبل الجوشن واختلطوا بالعسكر ، فعرفهم أحد من كان مجاورهم في بلادهم ، فوثبوا عليه وقتلوه في موضعه ، وجاء قوم للدفاع عنه فجرحوا بعضهم وقتلوا البعض. وبدر من الإسماعيلية أحدهم وبيده سكينة مشهورة ليقصد السلطان ويوقع به ، فلما وصل إلى باب الخيمة اعترضه طغريل أمير جاندار فقتله ، وطلب الباقون فقتلوا بعد أن قتلوا جماعة. فلما يئس (٤) الحلبيون من مرادهم في السلطان كاتبوا قمص الإفرنجي ـ صاحب طرابلس ـ وضمنوا له أشياء كثيرة متى رحل السلطان عن

__________________

(١) في الأصل : «وعلي» فصوبناها كما ترى.

(٢) كذا ، ولعل الصواب : في الأذان.

(٣) مرتفعة : أي منعدمة ، لا وجود لها. والناموس : الشريعة.

(٤) في الأصل : «يأس» والصواب ما أثبت.

٨٨

حلب ، فأغار «قمص» على حمص وألجأ السلطان صلاح الدين أن يسير إليه فنكص «القومص» راجعا إلى بلاده. وتم الغرض من رحيل السلطان عن حلب.

ملك صلاح الدين بزاعة وعزاز ثم منازلته حلب :

في سنة ٥٧١ ملك صلاح الدين بزاعة ، ثم نازل عزاز. وفي ليلة الأحد حادي عشر ذي القعدة وثب عليه من الإسماعيلية أحدهم في زي جندي من جند صلاح الدين ، وضرب الإسماعيلي رأس السلطان بسكينة صدّتها صفائح الحديد المدفونة في رأسه لكنها لفحت خده فخدشته. فقوي قلب السلطان وحاش رأس الإسماعيلي (١) وجذبه إليه ووقع عليه وركبه ، وأدركه سيف الدين بازكوح فأخذ حشاشة الإسماعيلي وبضعه. وجاء آخر فاعترضه أحد الأمراء وجرح الإسماعيلي ـ ومات بعد أيام ـ ثم جاء آخر فعانقه الأمير علي بن أبي الفوارس وضمه من تحت إبطيه وبقيت يد الإسماعيلي من وراء ويد الأمير من ورائه ، لا يتمكن من الضرب. فنادى الأمير : اقتلوني معه فقد قتلني وأذهب قوتي. فطعنه ناصر الدين بن شيركوه بسيفه ، وخرج آخر من الخيمة منهزما فثار عليه أهل السوق فقتلوه.

وبعد هذه النازلة رجع السلطان إلى خيمته خائفا مذعورا والدم يسيل من خدّه وأخذ بالتحرز من ذلك اليوم. ثم بعد أن تسلم السلطان قلعة عزاز بالأمان رحل عنها ونازل حلب في منتصف ذي الحجة وحصرها ، وبها الملك الصالح الذي كان حالف السلطان صلاح الدين في السنة قبلها ثم نكث عن محالفته وحالف صاحب الموصل. فسار صلاح الدين لفتح بلاده ونازل حلب وبقي محاصرها إلى تمام السنة ، ثم طلبوا منه الصلح فأجاب وأخرجوا إليه بنتا صغيرة لنور الدين فأكرمها وأعطاها شيئا كثيرا وقال لها : ما تريدين؟ فقالت : أريد عزاز. وكانوا علّموها ذلك ، فسلّمها إليهم ، واستقر الصلح ورحل السلطان صلاح الدين عن حلب في عاشر المحرم سنة ٥٧٢.

وفي سنة ٥٧٣ قبض الملك الصالح على سعد الدين كمشتكين أحد أمرائه لاستبداده بالأمور ، وكانت حارم له فطلبها منه الملك الصالح فأبى فعذبه عذابا أليما حتى مات ولم يجبه لطلبه. ثم وصل الفرنج إلى حارم وحاصروها أربعة أشهر فأرسل الملك الصالح إليهم

__________________

(١) أي أمسك برأسه.

٨٩

مالا وصرفهم عنها. أما أهلها فلم يزالوا ممتنعين عن الملك الصالح فحاصرهم وتسلّمها منهم.

وفي سنة ٥٧٧ توفي الملك الصالح وكان أوصى بملك حلب إلى ابن عمه عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي ـ صاحب الموصل ـ فسار مسعود المذكور من الموصل إلى حلب وملكها فكاتبه أخوه عماد الدين بن مودود صاحب سنجار في أن يعطيه حلب ويأخذ منه سنجار ، فأجابه وتسلم كل منهما بلد الآخر.

استيلاء السلطان صلاح الدين الأيوبي على حلب :

وفي سنة ٥٧٨ سار السلطان صلاح الدين من مصر إلى الشام وقصد تل باشر وتسلمها ، ثم عينتاب فحاصرها وتسلمها. ثم قصد حلب ونزل في صدر الميدان الأخضر في سادس عشر المحرم سنة ٥٧٩ وسيّر المقاتلة يقاتلون ويباسطون عسكر حلب ببانقوسا وباب الجنان غدوة وعشية ، وكان مع السلطان جيش ضخم. ولما تحقق عماد الدين بن مودود صاحب حلب أن ليس له قبل بالسلطان ـ وكان قد ضجر من اقتراح الأمراء عليه وجبههم إياه ـ أرسل إلى السلطان رسولا وهو حسام الدين طمان يلتمس منه إعادة بلاده عليه ، وهو يسلم حلب إلى السلطان صلاح الدين. فأجاب السلطان إلى ذلك.

وفي يوم السبت ثامن عشر صفر منها نشر سنجق السلطان الأصفر على القلعة وضربت له البشائر. وفي ذلك الوقت باشر عماد الدين نقل أمتعته من القلعة ولم يترك بها شيئا وباع في السوق ما لم يقدر على حمله. وكان السلطان شرط على نفسه أنه ما يريد سوى الحجر ، وأطلق السلطان لعماد الدين بغالا وخيلا وجمالا برسم حمل ما يحتاج إلى حمله.

وفي يوم الأحد تاسع عشر صفر اصطنع عماد الدين للسلطان في الميدان الأخضر دعوة حافلة سرّ منها السلطان سرورا زائدا. وبينما هو في غاية مسرته ولذته إذ أخبره شخص بموت أخيه «بوري» وكان جرح في أثناء محاصرة حلب. فلما علم السلطان بموته ـ وهو مسرور في الدعوة المذكورة ـ وجد عليه في قلبه (١) ولم يظهر الأسف والحزن وأمر بتجهيزه سرا لئلا يتكدر المدعوون ، ودفن في مقام إبراهيم بظاهر حلب. ثم حمله إلى دمشق

__________________

(١) أي حزن وتأسف في نفسه ، دون أن يظهر ذلك.

٩٠

ودفنه بها. وبعد أن انقضت تعزية الناس للسلطان بأخيه خلع على الناس وفرّق في وجوه الحلبيين الأموال ، وقدم لعماد الدين عشرين بقجة صفر ، فيها مائة ثوب من العنّابي والأطلس والمعتّق والممرّس ، وغير ذلك ، وعشرة جلود قندس (١) ، وخمس خلع خاص برسمه ورسم ولده ، ومائة قنباز ومائة كمّة ، وحجرتين عربيتين بأداتهما ، وبغلتين مسروجتين ، وعشرة أكاديش (٢) ، وخمس قطر بغال ، وثلاث قطر جمال عربيات وقطار بخت (٣).

ولما فرغ السلطان من الهدية قدم الطعام فأكل عماد الدين ونهض للركوب ، وخرج السلطان معه إلى قرب بابلّى وودعه. وسار عماد الدين لبلاده ورجع السلطان وصعد القلعة من باب الجبل ، وسمع منه وهو يصعدها قوله تعالى : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ) إلى آخر الآية. وقال : ولله ما سررت بفتح مدينة كسروري بهذه ، وقد تبينت الآن أني أملك البلاد ، وعلمت أن ملكي قد استقر وثبت. ثم صار إلى المقام وصلى ركعتين ثم عاد إلى المخيم في الميدان وأطلق المكوس والضرائب ، وسامح بأموال عظيمة وجلس للهناء بفتح حلب ، فهنأه جماعة من الشعراء بعدة قصائد ذكرها العماد صاحب كتاب الروضتين.

ومن عجيب الاتفاقات أن محيي الدين بن الزكي قاضي دمشق مدح السلطان بقصيدة منها قوله :

وفتحكم حلبا بالسيف في صفر

مبشّر بفتوح القدس في رجب

فكان الأمر كما ذكر ، فإن السلطان فتحت له القدس في رجب سنة ٥٨٣.

فتح حارم وغير ذلك من الحوادث :

ثم إن السلطان طلب حارم من صاحبها سرخك ـ الذي كان ولاه الملك الصالح ـ فامتنع عليه وكاتب سرخك الفرنج ، ففطن أهل حارم بذلك ووثبوا عليه وأمسكوه وسلّموا

__________________

(١) القندس : حيوان مائي. له ذنب قوي مفلطح ، وغشاء بين أصابع رجليه يستعين به على السباحة.

(٢) الأكاديش : نوع من الخيول غير العربية ، والمفرد : إكديش.

(٣) البخت : الإبل الخراسانية.

٩١

حارم إلى صلاح الدين ، فتسلمها وقرر أمرها وأمر حلب وبلادها ، وأقطع «عزاز» سليمان بن جندر أحد الأمراء ، وجعل في حلب ولده الملك الظاهر. وسار عنها في غرة ربيع الأول من السنة المذكورة. وبعد مضي ستة أشهر طلب الملك العادل ـ وهو أخو السلطان صلاح الدين ـ أن يوليه على حلب فولاه عليها واستدعى ولده الملك الظاهر إلى دمشق فخرج من حلب في غاية الأسف عليها ، فقد كان أحبها حبا شديدا ووافقه ماؤها وهواؤها. وكان خروجه منها واستلام عمّه لها في رمضان منها. وفي سنة ٥٨٢ أخذ السلطان حلب من أخيه الملك العادل وأقطعه عنها حرّان والرّها وأعاد ابنه الملك الظاهر إليها.

استيلاء صلاح الدين على بيت المقدس وأخذه من حلب منبرا

للمسجد الأقصى:

وفي سنة ٥٨٣ في رجب فتح بيت المقدس على يد السلطان صلاح الدين ، فدخلها ورتب أمورها وأعاد جامعها إلى ما كان عليه ، ثم أمر أن يكتب إلى حلب بإحضار منبر كان هيّأه لبيت المقدس الملك العادل نور الدين محمود زنكي ، اشتغله له نجار بحلب يعرف بالأختريني ، من قرية أخترين ، لا نظير له في البراعة والصنعة. فأحضر المنبر المذكور وجعل في الجامع الأقصى.

استيلاء الملك الظاهر على سرمينية من الفرنج واستيلاء أبيه على دربساك :

وفي سنة ٥٨٤ أرسل السلطان ولده الملك الظاهر صاحب حلب إلى سرمينية فحصرها وضايقها وملكها من الفرنج ، واستنزل أهلها على قطيعة قررها عليهم ، وهدم الحصن وعفّى أثره ، وأطلق جما غفيرا من أسرى المسلمين الذين كانوا بهذا الحصن وما جاوره من الحصون.

وفيها سار السلطان صلاح الدين فنزل على جسر الحديد بالقرب من أنطاكية فأقام عليه أياما حتى تلاحق به من تأخر من العسكر ثم سار إلى دربساك وحاصرها ثم تسلمها بالأمان على شرط أن يخرج منها أهلها بثيابهم فقط. ثم سار إلى بغراس وتسلمها على شرط دربساك. ثم أرسل بيمند صاحب أنطاكية الفرنجي يطلب منه الصلح بشرط أن يطلق كل

٩٢

أسير مسلم عنده ، فأجابه السلطان لذلك وتهادنوا ثمانية أشهر.

وفي ثالث شعبان منها دخل السلطان حلب وسار منها إلى دمشق وجعل طريقه على قبر عمر بن عبد العزيز ليزوره. وفي سنة ٥٨٧ قتل يحيى السّهرورديّ الفيلسوف بقلعة حلب على ما يذكر في ترجمته.

٩٣

وفاة صلاح الدين وولايات البلاد بعده

وما كان من الحوادث إلى سنة ٦٠٠

وفي سنة ٥٨٩ توفي السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب بدمشق ـ على ما يذكر بترجمته ـ وترك سبعة عشر ولدا ذكرا وبنتا واحدة. وكان أكبر أولاده صاحب دمشق الملك الأفضل نور الدين علي ، وكان الملك العزيز عثمان صاحب مصر أصغر منه ، والملك الظاهر صاحب حلب أصغر منهما.

فاستقر بحلب ـ بعد وفاة السلطان صلاح الدين ـ ولده الملك الظاهر غياث الدين غازي. وبحماة وسلمية والمعرة ومنبج وقلعة نجم : الملك المنصور ناصر الدين محمد بن الملك المظفر تقي الدين. وبحمص والرحبة وتدمر : شيركوه بن محمد بن شيركوه بن شاذي. وبشيزر : سابق الدين عثمان بن الداية. وبصهيون وحصن برزيه : أبو قبيس وناصر الدين بن كورس بن خمار دكين. وبتل باشر : بدر الدين دلارم بن بهاء الدين ياروق. وببعرين وكفر طاب وأفامية : عز الدين إبراهيم بن شمس الدين.

وفي سنة ٥٩٦ كان الملك الأفضل والملك الظاهر محاصرين دمشق ، وفيها الملك العادل ابن أيوب. ثم وقع بين الأفضل والظاهر وحشة أفضت إلى انصرافهما عن دمشق ، وتوجه كل واحد منهما إلى مقرّه. وبعد أن انصرفا خرج الملك العادل في أثر الملك الأفضل ووقع بينهما مصافّ ، انكسر فيه الملك الأفضل وأخذ منه الملك العادل مصر صلحا على أن يعوضه عنها ميّافارقين وغيرها. ولما استقر الملك العادل بالملك كاتبه ابن أخيه الملك الظاهر صاحب حلب وصالحه وخطب له بحلب وبلادها ، وضرب السكّة باسمه. واشترط الملك العادل على الظاهر أن يكون خمسمائة فارس من خيار عسكر حلب في خدمة الملك العادل كلما خرج إلى البيكار. والتزم الظاهر بذلك.

وفي سنة ٥٩٧ كان الملك الظاهر مجدّا في تحصين حلب خوفا من عمه الملك العادل.

٩٤

وفيها توفي عز الدين إبراهيم بن محمد وصارت بلاده بعده ـ وهي منبج وقلعة نجم وأفامية وكفر طاب ـ لأخيه شمس الدين عبد الملك. فسار إليه الملك الظاهر وملك منه منبج ، وعصى عليه شمس الدين بالقلعة فحصره الملك الظاهر واستنزله بالأمان واعتقله وملك منه القلعة. ثم سار الملك الظاهر إلى قلعة نجم فملكها ، وبها نائب شمس الدين المذكور. ثم أرسل الملك الظاهر إلى الملك المنصور صاحب حماة يبذل له منبج وقلعة نجم على أن يصير معه على عمه الملك العادل صاحب مصر ، فاعتذر إليه صاحب حماة بيمين في عنقه للملك العادل على أن يواليه. فلما أيس منه سار إلى المعرة وأقطع بلادها واستولى على كفر طاب ، وكانت لشمس الدين المتقدم ذكره.

ثم سار إلى أفامية وبها قراقوش نائب شمس الدين أيضا فلم يتيسر له تملكها ، فرحل عنها وتوجه إلى حماة وحاصرها في اليوم السابع والعشرين من شعبان هذه السنة وبقي عليها إلى أيام من رمضان ، وجرى بينه وبين الملك المنصور قتال شديد وجرح الملك الظاهر بسهم أصابه في ساقه ، ثم صالح الظاهر المنصور على ثلاثين ألف دينار صوريّة ورحل عنها إلى دمشق وبها الملك المعظم بن الملك العادل فنازلها الظاهر وأخوه الملك الأفضل ، وانضم إليهما عدة من أمراء الصالحية. واتفق الملكان الظاهر والأفضل على أنهما إذا فتحا دمشق يتسلمها الملك الأفضل ، ثم يسيران معا إلى مصر ويأخذانها من الملك العادل ويتسلمها الملك الأفضل ، وحينئذ يتسلم دمشق الملك الظاهر. ولما قرب على الملكين افتتاح دمشق حسد الملك الظاهر أخاه الأفضل على ملكها ، ووقعت الوحشة بينهما وتفرق عسكرهما وأبطلا القتال وراسلا الملك العادل وصالحاه ، ورحل كل منهما إلى مستقرّه وفيها كان بالجزيرة والشام والسواحل زلزلة عظيمة هدمت عدة مدن.

وفي سنة ٥٩٨ خرب الملك الظاهر قلعة منبج خوفا من انتزاعها منه ، وأقطع منبج عماد الدين أحمد بن سيف الدين علي بن محمد بن أحمد المشطوب. وفيها أرسل قراقوش نائب شمس الدين بأفامية إلى الظاهر بتسليم أفامية بشرط أن يعطى شمس الدين اقطاعا يرضاه. فأقطعه الملك الظاهر الراوندان وكفر طاب ومفردة المعرة ، وهو عشرون ضيعة معينة من بلاد المعرة ، وتسلم أفامية. ثم عصى شمس الدين بالراوندان فسار إليه الظاهر وأخضعه.

٩٥

وفيها سار الملك العادل من دمشق ووصل إلى حماة ونزل على تل صفرون. وبلغ الظاهر وصوله إلى حماة بقصد حلب ومحاصرتها فاستعد للحصار وراسله وتم الصلح بينهما على أن يأخذ من الظاهر أماكن معلومة وتدفع لمن اختار الملك العادل.

وفي سنة ٥٩٩ أخرج الملك العادل من مصر الملك المنصور محمد بن الملك العزيز إلى الشام فسار بوالدته وإخوته وأقام بحلب عند الملك الظاهر.

قصد ابن لاوون الأرمني أنطاكية وغير ذلك

وفي سنة ٦٠٠ نازل ابن لاوون ملك الأرمن أنطاكية فتحرك الظاهر ووصل إلى حارم ، فارتد ابن لاوون على عقبه. وفيها كانت زلزلة عظيمة عمّت مصر والشام والجزيرة وبلاد الروم وصقلية وقبرس والعراق وغيرها ، وخرّبت سور مدينة صور.

وفي سنة ٦٠٢ كثر فساد ابن ليون الأرمني صاحب الدروب في ولاية حلب ، فنهب وخرب وأسر وسبى ، فسار إليه الظاهر بجموع كثيرة وحصل بينهم عدة وقعات كانت عاقبتها وخيمة على عسكر المسلمين. ثم جدّ الظاهر في قتاله فهرب منه وتحصن بمساكنه من الجبال.

مجيء الملك الأشرف إلى حلب

وفي سنة ٦٠٥ وصل إلى حلب الملك الأشرف موسى أخو الظاهر ـ وكان راجعا من دمشق إلى بلاده ـ فتلقاه الملك الظاهر بالترحاب وأنزله بالقلعة وبالغ في إكرامه وقام بجميع لوازمه ولوازم عسكره أتم قيام. وكان يحمل إليه في كل يوم خلعة كاملة وهي غلالة وقباء وسراويل وكمّة وفروة وسيف وحصان ومنطقة ومنديل وسكّين ودلكش ، وخمس خلع لأصحابه. وأقام على ذلك خمسة وعشرين يوما ، وقدم له تقدمة وهي مائة ألف درهم ومائة بقجة مع مائة مملوك ، منها عشر بقج ، في كل واحدة منها ثلاثة أثواب أطلس وثوبان خطاي ، وعلى كل بقجة جلد قندس كبير. ومنها عشر في كل واحدة خمسة أثواب عنّابي بغدادي وموصلي ، وعليها عشرة جلود قندس صغار. ومنها عشرون في كل واحدة خمس قطع مرسوسي وديبقي ، ومنها أربعون في كل واحدة خمسة أقبية وخمس كمام. وحمل إليه خمسة حصن عربية بعدّتها وعشرين إكديشا ، وأربعة قطر بغال وخمس بغلات فائقات

٩٦

بالسروج واللّجم ، وقطارين من الجمالين. وخلع على أصحابه مائة وخمسين خلعة ، وقاد أكثرهم بغلات وأكاديش. ثم سار الملك الأشرف إلى بلاده الشرقية. وفيها أمر الظاهر بإجراء القناة على ما تقدم بيانه في الكلام على القناة.

وفي سنة ٦٠٦ نقض الظاهر الصلح مع الملك العادل. وفي سنة ٦٠٨ أرسل الظاهر القاضي بهاء الدين بن شداد إلى الملك العادل يستعطفه ويخطب بنته ضيفة خاتون ، فتزوجها الملك الظاهر وزالت الإحن بين الملكين. وفي سنة ٦٠٩ في المحرّم عقد الظاهر على ضيفة خاتون ، وكان المهر خمسين ألف دينار ، وتوجهت من دمشق إلى حلب ، واحتفل الظاهر لملتقاها وقدم لها أشياء كثيرة نفيسة. وفي سنة ٦١٠ ولد للظاهر من ضيفة خاتون ولده الملك العزيز غياث الدين محمد. وفي سنة ٦١٣ توفي الملك الظاهر. ولما اشتد به مرضه عهد بالملك بعده إلى ولده الصغير الذي ولد له من ضيفة خاتون بنت الملك العادل ، وكان عمر الولد إذ ذاك ثلاثة أعوام ، فجعل أتابكه ومربيه خادما روميا اسمه طغريل الطواشي ، ولقبه شهاب الدين ، وهو من خيار عباد الله ، أحسن السيرة بعد وفاة الظاهر وعدل في الأحكام وأزال المكوس والضرائب التي كانت مرتبة في أيام الظاهر.

وفي سنة ٦١٥ قصد عز الدين كيكاوس بن كيخسرو ـ صاحب بلاد الروم ـ ولاية حلب. وسبب ذلك أنه كان بحلب رجلان يسعيان بالناس إلى الملك الظاهر فلما مات الظاهر أبعدهما طغريل ، وكسد سوقهما وخشيا على نفسيهما من الناس فقصدا كيكاوس المذكور وزيّنا له قصد حلب. فعزم على ذلك وأشار عليه بعض أصحابه أن يصحب معه أحدا من بيت أيوب لأن أهل البلاد تحبهم فيسهل عليه مقصده ، فصحب معه الملك الأفضل وسارا معا متفقين على أن ما يفتحانه من بلاد حلب يكون للملك الأفضل وما يفتحانه من بلاد الجزيرة يكون لكيكاوس. ولما وصلا إلى قلعة تل باشر وفتحاها أخذها كيكاوس لنفسه خلاف ما اتفقا عليه ، فاشمأز الملك الأفضل وقال : هذا أول الغدر. ثم فترت همته وتوانى عن المسير معه.

أما شهاب الدين طغريل فإنه لما بلغه تحرك كيكاوس المذكور كتب إلى الملك الأشرف ابن صلاح الدين ـ وكان صاحب الجزيرة ـ يستدعيه ليدين له بالطاعة ويخطب باسمه ويجعل السكة باسمه ويأخذ ما اختاره من أعمال حلب. فأجابه إلى ذلك وسار بعسكره

٩٧

لقتال كيكاوس ، فلقي عسكر كيكاوس عند منبج واشتد القتال بينهم وانهزم عسكر كيكاوس وشتّت شملهم. وسار الملك الأشرف إلى قلعة تل باشر واستردها وأرسلت عساكر كيكاوس إلى حلب أسرى ودقّت البشائر. وفي سنة ٦١٦ كان الملك الأشرف بظاهر حلب يدبر أمرها ويرتب جنودها وإقطاعاتها.

وفي سنة ٦١٩ فوض طغريل مدير المملكة الحلبية أمر الشّغر وبكاس إلى الملك الصالح أحمد بن الملك الظاهر بن صلاح الدين ، فسار الملك الصالح إليهما وملكهما وأضاف إليه الرّوج والمعرة ومصرين. وفي هذه السنة استفاض بحلب نبأ عظيم جدير أن يعدّ من الأقاصيص الخرافية ، حكاه ياقوت في كتابه معجم البلدان في الكلام على كلّز. خلاصته : أن أهل تلك الناحية شاهدوا هناك تنّينا (١) عظيما كالمنارة أسود اللون ، ينساب على الأرض والنار تخرج من فيه ودبره ، فأحرق عدة مزارع ونحو أربعمائة شجرة لوز وزيتون وبيوت وخرّكاهات (٢) للتركمان. ومرّ كذلك نحو عشرة فراسخ ثم ظهرت سحابة رفعته حتى غاب عن العيون وقد لفّ بذنبه كلبا ينبح.

قلت : لعل التنين هشيم (٣) ممتد على مسافة طويلة اشتعل ورآه الناس على بعد فحسبوه تنّينا ، فإن اشتعال الكلأ اليابس كثير الوقوع ، فقد حدث في سنة ١٢٩٨ وأنا في مدينة «ويران شهر» اشتعال هشيم في صحراء الخابور استمر عدة أيام.

وفي سنة ٦٢٠ وصل الملك الأشرف من مصر ومعه خلعة وسنجق سلطاني من أخيه الملك الكامل لابن أخيه الملك العزيز بن الملك الظاهر صاحب حلب ، وعمره يومئذ عشر سنين. فخلع على الملك العزيز وأركبه في الدست. وفيها اتفق كبراء الدولة الحلبية مع الملك الأشرف على تخريب قلعة اللاذقية فأرسلوا عسكرا هدمها. وفي سنة ٦٢٤ انتزع طغريل الشّغر وبكاس من الملك الصالح وعوّضه عنهما عينتاب والرواندان. وفيها ظفر جمع من التركمان بأطراف أعمال حلب بفارس مشهور من الفرنج الداويّة بأنطاكية فقتلوه فعلم الداويّة بذلك فساروا وكبسوا التركمان وقتلوا منهم وأسروا وغنموا من أموالهم. فبلغ ذلك

__________________

(١) التنّين : حية مائية أسطورية عظيمة تبتلع دوابّ البحر وتخرج إلى الشاطئ تفترس الناس.

(٢) مفردها خرّكاه ، وهي الخيمة الكبيرة. والكلمة من الدخيل.

(٣) الهشيم : الحشيش اليابس.

٩٨

طغريل فراسل الفرنج وتهددهم بقصد بلادهم. واتفق أن عسكر حلب قتلوا فارسين كبيرين من الداوية أيضا فأذعنوا بالصلح وردوا إلى التركمان كثيرا من أموالهم وحريمهم وأسراهم.

وفي سنة ٦٢٦ أشخص الملك العزيز صاحب حلب إلى الملك الكامل ـ وكان بدمشق ـ يخطب بنته فاطمة خاتون التي هي من الست السوداء أم ولده أبي بكر العادل ابن الكامل. وفي سنة ٦٢٧ ولد الملك الناصر يوسف بن الملك العزيز صاحب حلب. وفي سنة ٦٢٨ قلّت الأمطار بديار الجزيرة والشام ولا سيما حلب وأعمالها ، فإنها كانت قليلة جدا ، وغلت الأسعار بالبلاد وكان أشدها غلاء حلب ، فأخرج طغريل كثيرا وتصدّق بصدقات دارّة ، وساس البلاد سياسة حسنة بحيث لم يظهر للغلاء أثر. وفيها قصد الفرنج الذين هم بالشام مدينة جبلة من المدن المضافة إلى حلب ودخلوها وأخذوا منها غنيمة وأسرى ، فسيّر إليهم طغريل عسكرا استردها منهم وفك الأسرى.

وفي سنة ٦٢٩ استقل الملك العزيز بن الملك الظاهر بملك حلب. وفيها وصلت زوجة الملك العزيز بنت الملك الكامل وكان يوم دخولها إلى حلب يوما مشهودا. وفي سنة ٦٣٠ أخذ الملك العزيز شيزر ، تسلّمها من شهاب الدين يوسف بن سابق الدين ، وقد هنأه بها يحيى الخالد القيسراني بقوله :

يا ملكا عمّ أهل الأرض نائله

وخص إحسانه الداني مع القاصي

لما رأت شيزر آيات نصرك في

أرجائها ألقت العاصي إلى العاصي

وفي سنة ٦٣١ توفي شهاب الدين طغريل الطواشي أتابك حلب. وفي سنة ٦٣٢ توفي الملك الظاهر داود صاحب البيرة ابن السلطان صلاح الدين ، وملك البيرة ابن أخيه الملك العزيز صاحب حلب. وفي سنة ٦٣٤ خرج الملك العزيز إلى حارم للصيد ورمى البندق واغتسل بماء بارد ، فحمّ ودخل حلب وتوفي في ربيع الأول من هذه السنة وكان عمره ثلاثا وعشرين سنة وشهورا ، وكان حسن السيرة في الرعية وتقرر في الملك بعده ولده الملك الناصر يوسف وعمره نحو سبع سنين ، وقام بتدبيره وبتدبير الدولة شمس الدين لؤلؤ الأرمني ، وعز الدين عمر بن مجلي ، وجمال الدولة إقبال الخاتوني. والمرجع في الأمور إلى والدة الملك العزيز ضيفة خاتون بنت الملك العادل.

وفيها توجه عسكر حلب مع الملك المعظم توران شاه عم الملك العزيز فحاصروا

٩٩

بغراس ، وكان قد عمرها الفرنج الداويّة بعد ما فتحها صلاح الدين وخربها ، وقد أشرف العسكر على أخذها ثم رحلوا عنها بسبب الهدنة مع صاحب أنطاكية. ثم إن الفرنج أغاروا على ربض دربساك وهي حينئذ لصاحب حلب ، فوقع بهم الحلبيون وولّى الفرنج منهزمين وكثر فيهم القتل والأسر ، وعاد عسكر حلب بالأسرى ورؤوس الفرنج. وكانت هذه الوقعة من أجل الوقائع.

وفي سنة ٦٣٥ توفي الملك الكامل صاحب مصر ولما سمع الحلبيون بوفاته اتفقوا على أخذ المعرة وحماة من الملك المظفر صاحب حماة ، وهو جد أبي الفداء المشهور صاحب التاريخ والجغرافية. وسبب ذلك أن الملك المظفر كان وافق الملك الكامل على قصد حلب فمشى عسكر حلب إلى المعرة وانتزعوها من يد الملك المظفر وحاصروا قلعتها ثم ساروا إلى حماة وحاصروها وبها الملك المظفر ونهب العسكر الحلبي بلاد حماة ، واستمر الحصار على حماة حتى خرجت هذه السنة. وفيها عقد لسلطان الروم غياث الدين كيخسرو بن كيقباذ بن كيخسرو على غازية خاتون بنت الملك العزيز صاحب حلب سابقا وهي صغيرة حينئذ. ثم عقد للملك الناصر يوسف بن الملك العزيز على أخت كيخسرو وهي ملكه خاتون بنت كيقباذ ، وخطب لغياث الدين بحلب. وفي سنة ٦٣٦ كتبت ضيفة خاتون صاحبة حلب بنت الملك العادل إلى عسكر حلب أن يرحلوا عن محاصرة حماة ، فرحلوا عنها وكان قد طال حصارهم لها ولحقهم الضجر واستمرت المعرة في أيدي الحلبيين.

وفي سنة ٦٣٨ نزل الملك الحافظ أرسلان شاه بن الملك العادل عن قلعة جعبر وبالس وسلّمها إلى أخته ضيفة خاتون صاحبة حلب وعوّضته عنها «عزاز» وبلادا معها تساوي ما نزل عنه. وسبب ذلك أن الملك الحافظ أصابه فالج فخشي على نفسه من تغلب أولاده فاقترب من حلب كيلا يمكنهم التعرض إليه.

١٠٠