نهر الذّهب في تاريخ حلب - ج ٣

كامل البالي الحلبي [ الغزي ]

نهر الذّهب في تاريخ حلب - ج ٣

المؤلف:

كامل البالي الحلبي [ الغزي ]


المحقق: الدكتور شوقي شعث ومحمود فاخوري
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
المطبعة: مطبعة الصباح
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٤٠

اشتد هجيره وطاب إبراده ، وكالسيف القاطع لان صفحه وخشن حدّاه ، خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين. فقال صالح : قد وهبتهم لك أيها الشيخ. فقال أبو العلاء بعد ذلك في اللزوميات هذه الأبيات :

تغيّبت عن منزلي برهة

ستير العيوب فقيد الحسد

فلما مضى العمر إلّا الأقلّ

وحمّ لروحي فراق الجسد

بعثت شفيعا إلى صالح

وذاك من القوم رأي فسد

فيسمع منّي سجع الحمام

وأسمع منه زئير الأسد

فلا يعجبنّي هذا النفاق

فكم نفّقت محنة ما كسد

سنة ٤٢٠ قتل صالح وولده الأصغر وولاية ابنه نصر حلب :

في هذه السنة جهز الظاهر صاحب مصر جيشا لقتال صالح صاحب حلب ، وحسان صاحب الرملة. فاقتتلوا على الأردنّ عند طبرية وقتل صالح وولده وحمل رأسهما إلى مصر ، ونجا ابنه نصر فحضر إلى حلب وملكها ولقب شبل الدولة.

وفي هذه السنة خرج الروم من أنطاكية للزحف على حلب ، فحاربهم أهلها وهزموهم.

سنة ٤٢١ خروج ملك الروم من القسطنطينية إلى حلب :

في هذه السنة خرج ملك الروم من القسطنطينية في ثلاثمائة ألف مقاتل ، وقيل في ستمائة ألف ، للزحف على الشام ، معهم ملك البلغار وملك الروس والألمان والخزر والأرمن والبلجيك والفرنج. ولما اقتربوا من حلب لحقهم عطش شديد ووقع الخلف بين أمرائهم وملوكهم ، فرحل الملك وتبعهم شبل الدولة والعرب وأهل السواد حتى الأرمن ، يقتلون وينهبون حتى لم يسلم من أموالهم شيء ، وأسر جماعة من أولاد ملوكهم. وكان اسم ملك الروم أرمانس. وفي ذلك يقول الأمير أبو الفتح بن أبي حصينة المعرّي قصيدة طويلة ، أنشدها شبل الدولة بظاهر قنّسرين ، مطلعها :

ديار الحيّ مقفرة يباب

كأن رسوم دمنتها كتاب

٦١

سنة ٤٢٩ قتل شبل الدولة :

في هذه السنة زحف الدزبري (وهو قائد العلوي صاحب مصر) على حلب فتغلب عليها وقتل شبل الدولة.

سنة ٤٣٣ موت الدزبري واستيلاء أبي علوان على حلب :

فيها مات الذزبري بحلب ، فأسرع إليها أبو علوان ، ثمال بن صالح المرداسي الملقب بمعز الدولة وملكها. وفيها نقل رأس يحيى عليه السلام من بعلبكّ إلى مقام إبراهيم في القلعة.

سنة ٤٤٠ وصول عساكر مصر إلى حلب :

فيها وصلت عساكر مصر إلى حلب في جمع عظيم فخرج إليهم «ثمال» بجموعه وقاتلهم إلى الليل ثم عاد إلى المدينة. ثم في الغد والذي بعده خرج إليهم وقاتلهم فرحلوا عن حلب ولو لا رحيلهم في تلك الليلة لأغرقهم المطر.

سنة ٤٤١ زحف المصريين على حلب :

فيها وصل عسكر من مصر إلى حلب بقيادة «رفق» فهزمهم الحلبيون وأسر رفق ومات عندهم.

سنة ٤٤٩ تنازل ثمال عن حلب إلى المصريين :

فيها تنازل ثمال عن حلب إلى المصريين فسلموها إلى الحسن بن ملهم.

سنة ٤٥٢ و ٤٥٣ و ٤٥٤ :

فيها أساء ابن ملهم السيرة في أهل حلب فكاتبوا محمودا بن صالح المرداسي فحضر وتسلم حلب وسيّر المصريون إليها ناصر الدولة بن حمدان فجرح وأسر ، واستتب ملك حلب وقلعتها لمحمود. وفي سنة ٤٥٣ استولى ثمال على حلب مرة ثانية بمعاونة المصريين.

ثم في سنة ٤٥٤ ملكها منه أخوه عطية فقصده ابن أخيه محمود بن نصر وغلبه عليها فملكها منه. وفيها جاءت برقة وتبعها صيحة سقط لها الناس لوجوههم ، ومات فيها كثير من الطيور بمعرّة.

٦٢

وفي سنة ٤٥٧ أقطعت معرة النعمان للملك هارون بن خان ملك الترك فيما وراء نهر جيحون ، أخذها حربا وخراجا فأقام بها يسيرا ثم انتقل إلى حلب وولى المعرة الأمير فارس الدولة يانس الصالحي. وفي سنة ٤٥٩ كان بالبلاد سوى الروم غلاء عظيم وموت لا سيما في حلب ، فإنه مات فيها في رجب خاصة زهاء أربعة آلاف ، ومات جماعة من ساداتها. وفي سنة ٤٦٠ فتح من الإفرنج حصن أرتاح على يد الملك هارون بن خان ، حاصره خمسة أشهر ، وهو فتح عظيم كانت أعماله بمقدار أعمال الشام من الفرات إلى العاصي ، إلى أفامية إلى باب أنطاكية ، إلى الأثارب. وأحصى قوم المفقودين من الفرنج في هذه السنة إلى رمضانها في الدرب إلى أفامية قتلا وأسرا ، فكانوا ثلاثمائة ألف.

وفي سنة ٤٦١ أخذ ملك الروم حصن منبج وشحنه رجالا وعدّة. ثم وقف على عزاز ساعة ورحل عنها ، وفتك في جماعته الموت والغلاء فرجع خائبا. وفيها جمع قبطان أنطاكية وقسّها المعروف بالبخت جموعا وطلع إلى حصن أسقوبا من قرى المعرة ، حسّن له ذلك قوم من بني ربيع من أهل «الجوزق» ، ففتحوه وقتلوا وأسروا رجاله وواليه نادر التركي. فبلغ الخبر الأمير عز الدولة محمود بن نصر المرداسي وهو يسير في ميدان حلب فسار إليهم ولم يدخل حلب ومعه نحو خمسين ألفا من الترك والعرب ، وأخذه من النصارى وقتل منهم ألفين وسبعمائة نفس. وهذا الحصن عمره حسين بن كامل بن سليمان العمري المرشدي الكلابي ، ومعه جماعة من المعرة وكفر طاب وضياعهما في سنة ٤٥٦ وأكمل عمارته بمدة يسيرة فتعجب الناس لسرعة عمارته.

ثم في سنة ٤٦١ اقترض محمود بن نصر المرداسي من الروم أربعة آلاف دينار ورهن ولده نصرا عليها وعلى هدم الحصن المذكور. فجمع الناس من المعرة وكفر طاب على هدمه وهدموه. فقال بعضهم :

وهدّوا بأيديهم حصنهم

وأعينهم حزنا تدمع

عجبت لسرعة بنيانه

ولكنّ تخريبه أسرع

وفي سنة ٤٦٢ استولى الروم على منبج وقتلوا أهلها ونهبوها ثم رحلوا عنها لجوعهم.

وفي سنة ٤٦٣ قطع محمود بن نصر المرداسي والي حلب خطبة المستنصر العلوي بمصر وخطب للقائم العباسي ، فثار الشيعة في حلب ونهبوا حصر الجامع وقالوا : هذه حصر عليّ ، فليأت أبو بكر بغيرها.

٦٣

وفيها وصل السلطان محمد ألب أرسلان إلى حلب فبذل له محمود بن نصر الطاعة ولم يطأ بساطه ، فلم يرض ألب أرسلان بذلك ، فدخل محمود ووالدته عليه فأحسن إليهما وأقرّ محمودا على حلب وشرط عليه إزالة أفعال الشيعة ، فإن أكثر أهل حلب صاروا شيعة من وقت مجيء الفاطميين إليهم.

وفي سنة ٤٦٧ مات محمود بن نصر المرداسي ، وكان ظالما غاشما يصادر الناس وقد ملك بعده ابنه نصر فمدحه ابن حيّوس بقصيدة منها :

ثمانية لم تفترق مذ جمعتها

فلا افترقت ما افترّ عن ناظر شفر

ومنها :

فجاد ابن نصر لي بألف تصرّمت

وآلى عليهم أن سيخلفها نصر

فأجازه نصر بألف دينار في طبق فضة وقال : لو قال عوض «سيخلفها» : «سيضعفها» لأضعفتها له.

وقد اجتمع الشعراء بباب نصر وامتدحوه وتأخرت صلته عنهم ، وفيهم أبو الحسن أحمد بن محمد بن الزبيدة المعرّي الشاعر ، فنظم أبياتا وسيّرها إلى نصر مطلعها :

على بابك المحروس منّا عصابة

مفاليس فانظر في أمور المفاليس

وقد قنعت منك الجماعة كلّهم

بعشر الذي أعطيته ابن حيّوس

وما بيننا هذا التفاوت كلّه

ولكن سعيد لا يقاس بمنحوس

فأعطاهم مائة دينار وقال : والله لو قالوا : «بمثل الذي أعطيته ابن حيوس» لأعطيتهم مثله.

سنة ٤٦٨ ملك نصر منبج وقتله في حلب :

في يوم عيد الفطر قتل نصر هذا وهو في أحسن زيّ ، وكان الزمان ربيعا واحتفل الناس في الفطر وتجملوا بأفخر ملابسهم ، ودخل ابن حيوس فأنشد نصرا قصيدة منها :

صفت نعمتان خصّتاك وعمّتا ،

حديثهما حتّى القيامة يؤثر

٦٤

فجلس نصر وشرب إلى العصر ، وحمله السّكر على الخروج إلى التركمان في «الحاضر» (١) ، وهم الذين كانوا ملّكوا أباه حلب ، فأراد نصر نهبهم ، وحمل عليهم ، فرماه تركيّ منهم في حلقه فقتله في اليوم المذكور وملك بعده حلب أخوه سابق.

__________________

(١) سبق كلام المؤلف على «الحاضر» في أول كلامه على حوادث حلب أيام الخليفة عمر بن الخطاب.

٦٥

انقراض دولة بني مرداس ، ودخول حلب تحت سلطة

شرف الدولة ، ثم حكم الشريف بها ، ثم دخولها تحت سلطة

الدولة السلجوقية وغير ذلك من الحوادث إلى سنة ٤٩١

وفي سنة ٤٧٢ حصر حلب أبو المكارم شرف الدولة مسلم بن قريش بن بدران المقلد ابن المسيّب ، صاحب الموصل. ودام حصاره لها إلى ابتداء سنة ٤٧٣ وكان الشريف أبو علي الحسن بن هبة الله الحسيني الهاشمي ، مقدّم الأحداث بحلب ، هو رئيس المدينة ، فتمكن وقويت يده وسلّم المدينة إلى أبي المكارم المذكور ، فتسلمها ثم تسلم قلعتها واستنزل منها (سابقا ، ووثّابا) ابني محمود المرداسي. وفيها كان انقراض ملك بني مرداس من حلب.

وفي سنة ٤٧٧ سار سليمان بن قطلمش السلجوقي ، صاحب قونيه وأقسراي وغيرهما ، إلى الشام وملك أنطاكية بمخامرة الحاكم بها من جهة الروم ، وكانت بيدهم من سنة ٣٥٨ فافتتحها سليمان في هذه السنة. ولما سمع شرف الدولة صاحب الموصل وحلب بذلك أرسل إلى سليمان يطلب منه ما كان يحمله إليه أهل أنطاكية ، فقال سليمان : كان ذلك على سبيل الجزية ، ولم يعطه شيئا. ثم اقتتلا في الرابع والعشرين من صفر سنة ٤٧٨ في طرف أعمال أنطاكية فانهزم عسكر شرف الدولة وقتل في المعركة بعد أن قتل بين يديه أربعمائة غلام من أحداث حلب. وعند ها انفرد الشريف أبو علي الحسن بن هبة الله بولاية المدينة وسالم بن مالك العقيلي بقلعتها ، فبنى الشريف قلعته خارج حلب في هذه السنة وسكنها خوفا على نفسه ، ولما قتل شرف الدولة قصد بنو عقيل أخاه إبراهيم بن قريش وهو محبوس فأخرجوه وملكوه.

ثم إن سليمان بن قطلمش أرسل إلى ابن الحتيتي العباسي مقدّم أهل حلب يطلب منه تسليم حلب إليه ، فاستمهله ابن الحتيتي إلى أن يكاتب ملك شاه وأرسل ابن الحتيتي يستدعي تتش السلجوقي صاحب دمشق ، فسار تتش إلى حلب وجرت بينه وبين ابن عمه سليمان

٦٦

ابن قطلمش وقعة انهزم فيها عسكر سليمان بن قطلمش وقتل سليمان نفسه وقيل قتل في المعركة. ومن المصادفة الغريبة أن سليمان هذا لما قتل نفسه لفّه تتش بكساء في صفر هذه السنة وأرسل به إلى ابن الحتيتي ليسلّم إليه حلب ، نظير ما فعل المقتول سليمان المذكور بشرف الدولة في صفر السنة الماضية.

ولما وصلت جثة سليمان إلى ابن الحتيتي أجاب تتش بالمطاولة إلى أن يرسم ملك شاه في أمر حلب. فحاصر تتش حلب وملكها واستجار ابن الحتيتي بالأمير دانق بن أكسك ، وكان من مقدّمي تتش فأجاره. وأما القلعة فكان بها ، منذ قتل مسلم بن قريش ، سالم بن مالك بن بدران ابن عم مسلم المقتول ، فحاصر تتش القلعة سبعة عشر يوما ثم بلغه خبر وصول أخيه ملك شاه فرحل عن حلب.

وأما ملك شاه فإنه أقبل إلى حلب من أصفهان ، لمكاتبة ابن الحتيتي له. وفتح في طريقه حرّان والرّها وكانت بيد الروم ، وسار إلى قلعة جعبر ، واسمها الدوسرية ، وعرفت بجعبر سابق الدين القشيري ، شيخ أعمى طال مكثه في هذه القلعة وكان يقطع الطريق هو وأولاده ويخيف السابلة فأمسكه السلطان ملك شاه وأمسك أولاده وملك منهم القلعة. ثم سار السلطان ملك شاه إلى منبج وملكها وسار إلى حلب وتسلمها وتسلّم قلعتها من سالم بن بدران العقيلي ابن عم شرف الدولة المقتول ، وعوّض السلطان ملك شاه سالما عن قلعة حلب قلعة جعبر. ثم إن السلطان ملك شاه سار عن حلب واستخلف بها قسيم الدولة أقسنقر جد نور الدين زنكي الشهيد.

وفي سنة ٤٨١ سار أقسنقر صاحب حلب بعساكره إلى قلعة شيزر وفيها صاحبها نصر ابن علي بن منقذ وضيّق عليه ونهب الربض ثم صالحه وعاد إلى حلب.

وفي سنة ٤٨٢ عمرت منارة جامع حلب وقام بعملها القاضي أبو الحسن بن الخشّاب ، وكان بحلب بيت نار قديم ثم صار أتون حمّام ، فأخذ ابن الخشاب حجارته وبنى بها المئذنة المذكورة ، فسعى به بعض حساده إلى أقسنقر زاعما أن هذه الحجارة لبيت المال ، فقال ابن الخشاب لأقسنقر : يا مولانا إني عملت بهذه الحجارة معبدا للمسلمين وكتبت عليه اسمك ، فإن رسمت غرّمت ثمنها وكتبت عليها اسمي. فأجابه أقسنقر إلى إتمام مشروعه دون أن يغرّمه شيئا.

٦٧

وفي سنة ٤٨٤ نزل أقسنقر مساعدا تتش صاحب دمشق ـ بأمر أخيه ملك شاه ـ على فتح حمص ، فملك تتش حمص وعرقة وأفامية. وفيها كان بالشام وغيرها زلازل كثيرة ففارق الناس مساكنهم وانهدم بأنطاكية كثير من المساكن وهلك تحتها عالم كثير وخرب من سورها تسعون برجا.

وفي سنة ٤٨٦ و ٤٨٧ طلب تتش السلطنة لنفسه بعد أن توفي أخوه ملك شاه مقتولا في السنة قبلها. واتفق تتش مع أقسنقر صاحب حلب وخطب له باغي سيان صاحب أنطاكية ، وبوزان صاحب الرها ، وفتح ـ ومعه أقسنقر ـ نصيبين عنوة ، وملك الموصل واستولى على ديار بكر وسار إلى أذربيجان وكان ابن أخيه بركياروق بن ملك شاه قد استولى على كثير منها ، فلما علم أقسنقر أن ملك شاه له ولد يصلح للسلطنة تخلى عن تتش ولحق ببركياروق ، فضعف تتش وعاد إلى الشام.

وكان أقسنقر قد جمع في الشام جموعا كثيرة وأمد بركياروق بالأمير كربغا ، فاقتتل مع تتش عند نهر السبعين قريبا من تل السلطان ، فانحاز بعض عساكر أقسنقر إلى تتش وانهزم الباقون ، وثبت أقسنقر فأسر ، فقال له تتش : لو ظفرت بي ما ذا كنت تصنع؟ فقال : كنت أقتلك. فقتله صبرا وسار إلى حلب وملكها وأسر بوزان وقتله ، وأسر كربغا وسجنه بحمص. واستولى على حرّان والرها ثم على البلاد الجزيرية.

ثم استناب على حلب أبا القاسم حسن بن علي الخوارزمي وسار لقتال ابن أخيه بركياروق فالتقيا بالري وقتل تتش في سنة ٤٨٨ فجاء ولده رضوان إلى حلب ولحقه جماعة من قواد أبيه ولحقه أخوه دقاق وكان مع رضوان أخوان صغيران أبو طالب وبهرام وكلهم مع أبي القاسم نائب أبيهم في حلب كالضيوف وهو المستولي على البلد. ثم كبس رضوان أبا القاسم ليلا واحتاط عليه ، ثم طيبّ قلبه فخطب لرضوان بحلب وكان مع رضوان باغي سيان صاحب أنطاكية ، فسار باغي إلى أنطاكية ومعه أبو القاسم الخوارزمي. وأما دقاق أخو رضوان فكاتبه والي قلعة دمشق سرا ليملّكه دمشق فسار إليها وملكها واستقر رضوان في حلب بلا منازع.

وفي سنة ٤٨٩ كان رئيس الأحداث بحلب رجلا يعرف بالمجنّ بركات بن فارس

٦٨

الفوعي ، وكان في مبدأ أمره لصا محتالا. فاستتابه قسيم الدولة وولاه رياسة حلب فوشى بيوسف بن أبق فسلطه عليه فأخذه وقتله. ثم عصى المجنّ على الملك رضوان فحبسه ثم قتله بعد أن عذبه. وفيها اقتتل رضوان مع أخيه دقاق عند قنّسرين وانكسر دقاق وولى مهزوما.

وفي سنة ٤٩٠ خطب رضوان في حلب للمستعلي بأمر الله العلوي المصري أربع جمع ، ثم قطعها وأعاد الخطبة العباسية خوف العاقبة.

٦٩

وصول الفرنج الصليبيين

أنطاكية وغيرها من بلاد حلب

للحروب الصليبية أسباب كثيرة وأخبار طوال يضيق كتابنا هذا عن استقصائها. وإنما نأتي منها هنا على ذكر نبذ يسيرة تتعلق بحلب وبعض أعمالها. فعلى من أحب الاطلاع على تفاصيل أخبار تلك الحروب الطاحنة ـ التي استغرق أمدها نحو مائتي سنة ـ أن يرجع إلى الكتب والأسفار المتداولة المؤلفة فيها خاصة بمختلف اللغات ما بين عربي وأعجمي ، فنقول :

في سنة ٤٩١ وصل الإفرنج الصليبيون إلى أنطاكية وحصروها ، وكان بها باغي سيان ، فظهر له شجاعة عجيبة. ثم هجم الإفرنج على أنطاكية وأخذوها عنوة وقتلوا بها مقتلة عظيمة ، وأجفل عنهم باغي في الليل. ثم في الصباح ندم على الهرب وتذكر أهله والمسلمين في أنطاكية ، وغشي عليه من الأسف حتى عجز عن الركوب ، فمر به أرمني يقطع الخشب فقطع رأسه وحمله إلى الإفرنج بأنطاكية. ولما شاع أخذ أنطاكية سار كربغا صاحب الموصل ومعه عساكره إلى مرج دابق ، وجاء دقاق من دمشق وطغتكين أتابك وجناح الدولة صاحب حمص ، وغيرهم من الأمراء والعرب ، وحصروا أنطاكية وتضايق الفرنج حتى طلبوا من كربغا أن يطلقهم فامتنع.

ثم إن كربغا أساء السيرة فيمن معه وخبثت نياتهم ، وكان اشتد الخناق على الفرنج فخرجوا من أنطاكية واستماتوا في قتال المسلمين ، فهرب المسلمون وقوي الفرنج بما غنموه من القوت والسلاح. وفي سنة ٤٩٢ سار الفرنج الصليبيون إلى المعرة وملكوها وقتلوا فيها زهاء مائة ألف وسلبوا وأقاموا فيها أربعين يوما. وفي ذلك يقول بعض المعرّيين :

معرّة الأذكياء قد حردت

عنّا ، وحقّ المليحة الحرد

في يوم الاثنين كان موعدهم

فما نجا من خميسهم أحد

٧٠

وفي سنة ٤٩٣ كان الغلاء شديدا في حلب وفيها توجه الملك رضوان إلى الفرنج لقتالهم وإخراجهم من بلاد حلب ، فكسر وعاد إلى حلب. وفي سنة ٤٩٤ ملك الفرنج «سروج» من ديار الجزيرة وأكثروا قتلا وأسرا. وفي سنة ٤٩٥ قتل الإسماعيلية فضل الله الزوزني قاضي حلب لأنه كان يندّد بمعتقدهم فأعاد رضوان القضاء إلى أبي غانم. وفيها أغار الفرنج على بلاد حلب الشمالية وعاثوا فيها فسادا وبلغوا «كفر لاثا» فكبسهم بنو عليم وظفروا بهم ، وانجلى الفرنج عن بلاد حلب الغربية.

وفي سنة ٤٩٦ أغار الفرنج على الرقّة وقلعة جعبر وبعض جهات الرها ، فخرج إليهم معين الدولة سقمان وشمس الدولة جكرمش وأوقعا بهم وأجلياهم عن مواقعهم بعد أن فتكا بهم فتكا ذريعا. وفي سنة ٤٩٧ أغار الفرنج على قلعة جعبر فساقوا المواشي وأسروا من وجدوا. وكانت قلعة جعبر والرقة لسالم بن بدران سلمها إليه ملك شاه لما تسلم منه قلعة حلب كما مر. وفي سنة ٤٩٨ تقاتل الملك رضوان صاحب حلب مع الفرنج عند يبرين ، فانهزم المسلمون وقتل منهم وأسر ، وملك الفرنج «أرتاح».

وفي سنة ٤٩٩ ملك الفرنج حصن أفامية. وفي سنة ٥٠٤ ملك الفرنج حصن الأثارب ، على ثلاثة فراسخ من حلب ، وقتلوا فيه ألفي رجل وأسروا الباقي. ثم ملكوا «زردنا» ففعلوا كذلك وقصدوا منبج ومسكنة فوجدوهما خاليتين فعادوا. وصالح رضوان ـ صاحب حلب ـ الفرنج على اثنين وثلاثين ألف دينار يحملها لهم مع خيل وثياب. وبذلت أصحاب البلاد للفرنج الأموال وخافوهم لأنهم لم يبق لهم ممانع عن البلاد ، إذ الملوك السلجوقية مشغولون ببعضهم فصالحهم أهل صور على سبعة آلاف دينار ، وابن منقذ صاحب شيزر على أربعة آلاف ، والكردي ـ صاحب حماة ـ على ألفي دينار.

وفد من حلب إلى بغداد للاستغاثة

بالخليفة وطلب النجدة منه على الصليبيين

ولما اشتد خطب الفرنج بالبلاد الشامية وعظمت شوكتهم سار جماعة من أهل حلب وساداتها إلى بغداد مستنفرين على الفرنج. فلما وردوا بغداد اجتمع معهم خلق كثير من الفقهاء وغيرهم وقصدوا جامع السلطان واستغاثوا ومنعوا الناس من صلاة الجمعة وكسروا المنبر. فوعدهم السلطان محمد بن بركياروق السلجوقي بإنفاذ العساكر للجهاد. فلما

٧١

كانت الجمعة الثانية قصدوا جامع القصر بدار الخلافة ومعهم أهل بغداد فمنعهم صاحب الباب فغلبوه ودخلوا الجامع وكسروا شباك المقصورة والمنبر وبطلت الجمعة أيضا. فأرسل الخليفة إلى السلطان إشارة يأمره بالاهتمام بهذا الفتق ورتقه. فتقدم السلطان إلى من معه بالمسير إلى بلادهم والتجهز للجهاد ، وسيّر ولده مسعودا مع الأمير مودود صاحب الموصل. وانقضت السنة.

وفي سنة ٥٠٥ سارت العساكر التي جهزها السلطان لقتال الصليبيين بالشام. فساروا إلى سنجار وفتحوا عدة حصون وحصروا مدينة الرها. ثم رحلوا عنها ليطمع الفرنج ويعبروا إلى الفرات فيتمكن المسلمون منهم ، فكان هذا خطأ من المسلمين لأن الفرنج لما عبروا الفرات جاؤوا بالميرة والقوت إلى أهل الرها فتقوّوا بعد أن ضعفوا وكاد المسلمون يأخذونهم. ثم إن الفرنج رجعوا إلى الشام وطرقوا أعمال حلب ونهبوا وأفسدوا وأسروا. وسبب ذلك أن رضوان صاحب حلب لما عبر الفرنج إلى الجزيرة قام إلى ما أخذه الفرنج من أعمال حلب فاستعاد بعضه ونهب منهم وقتل ، فلما عادوا قابلوه بعمله.

وأما العساكر السلطانية فإنهم لما سمعوا برجوع الفرنج إلى الشام رحلوا إلى الرها وحصروها فرأوها أمرا محكما قد قويت نفوس أهلها بالذخائر التي تركت عندهم ، فلم يجد المسلمون فيها مطمعا ، فرحلوا عنها وعبروا الفرات فحصروا قلعة تل باشر خمسة وأربعين يوما لم يقدروا عليها ، فوصلوا إلى حلب فأغلق الملك رضوان أبواب البلد في وجوههم ولم يجتمع بهم ، فرحلوا إلى المعرة. ثم خبثت نياتهم وتفرقوا ولم يحصل بهم الغرض.

سنة ٥٠٧ : وفاة رضوان وما جرى بعده

في هذه السنة مات الملك رضوان بن تتش السلجوقي صاحب حلب ، وقام بعده ابنه ألب أرسلان الأخرس وعمره ست عشرة سنة. وكان رضوان غير محمود السيرة قتل أخويه أبا طالب وبهرام ، ولما ملك الأخرس استولى على الأمور لؤلؤ الخادم ولم يكن للأخرس معه إلا اسم السلطنة ، ومعناه للؤلؤ. وسمي أخرس لحبسة (١) في لسانه. وقتل الأخرس

__________________

(١) الحبسة : ثقل في اللسان يتعذّر معه وضوح الكلام.

٧٢

أخويه كما فعل أبوه ، وجرى على قاعدة أبيه في أمر الإسماعيلية وأعطاهم قلعة الشريف ، فقبّح فعله القاضي ابن الخشاب وحمله على كبتهم وردعهم ، فأجابه إلى ذلك وقتل منهم كثيرا في هذه السنة. وكانوا قد كثروا في حلب في أيام أبيه رضوان لأنه كان يستعين بهم لقلّة دينه حتى خافهم ابن بديع رئيس حلب وأعيان أهلها.

وممن قتل الأخرس من الإسماعيلية مقدّمهم أبو طاهر وعدّة جماعة من أصحابه ، وأخذ أموال الباقين وأطلقهم فتفرقوا في البلاد. وفي سنة ٥٠٨ قتل الأخرس بعض غلمانه بقلعة حلب وأقاموا أخاه السلطان شاه بتدبير لؤلؤ الخادم. وفيها كانت زلزلة شديدة بديار الجزيرة والشام وغيرها فخرّبت كثيرا من الرها وحرّان وسميساط ومسكنة وغيرها ، وهلك خلق كثير تحت الردم.

٧٣

انتهاء الدولة السلجوقية بحلب ودخولها تحت سلطة

بني أرتق وحوادثهم فيها ، وهم من فروع الدولة السلجوقية

وفي سنة ٥١١ قتل لؤلؤ الخادم ، وكان قد حكم في دولة سلطان شاه ودولة أخيه الأخرس من قبله كما أراد ، ثم عزم على أن يقتل سلطان شاه كما قتل أخاه من قبله ، ففطن لذلك أصحاب سلطان شاه ورصدوا فرصة يقتلون بها لؤلؤا ، حتى إذا خرج يوما إلى قلعة جعبر ليجتمع بالأمير سالم بن مالك العقيلي قصدوه وصاحوا : أرنب أرنب ، وأوهموا أنهم يتصيدون ورموه بنشّاب فقتل وهو يبول عند قلعة نادر ونهبوا خزانته ثم استعيدت منهم. وولّي أتابكيّة (١) سلطان شاه : شمس الدين الخواجي ياروقطاش ، وبقي شهرا وعزلوه وولّوا أبا المعالي بن المقلمي الدمشقي ثم عزلوه وصادروه. وكانوا خائفين من الفرنج فسلموا البلد إلى نجم الدين إيلغازي أرتق صاحب ماردين. ولما تسلمها لم يجد فيها مالا ولا ذخيرة لأن لؤلؤا الخادم كان قد فرّق الجميع فصادر إيلغازي جماعة من الخدم وصانع الفرنج وهادنهم وسار إلى ماردين وخلّف بحلب ابنه حسام الدين تمرتاش.

وفي سنة ٥١٣ سار الفرنج إلى نواحي حلب وملكوا بزاعة (٢) وغيرها وخربوا بلد حلب ونازلوها ، ولم يكن فيها من الذخائر ما يكفيها شهرا فخافهم أهلها وصانعوهم على أن يقاسموهم أملاكهم حتى الأملاك التي بباب حلب. ثم أرسل أهل حلب رسولا إلى بغداد يستغيثون ويطلبون النجدة فلم يغاثوا. وكان إيلغازي بماردين يجمع العساكر فسار إلى الفرنج والتقى بهم عند تل عفرين في نصف ربيعها الأول فهزمهم (٣) وقتل منهم كثيرا ، وممن قتل سرخال صاحب أنطاكية. وفتح عقيب الوقعة الأثارب وزردنا.

__________________

(١) الأتابكية : منصب في الدولة يسمى صاحبه «الأتابك» وكان يطلق على مدبّر المملكة ، كما أنه لقب عسكري كبير أطلق على أمير أمراء الجيش أيضا.

(٢) بزاعة ـ أو بزاعا ـ قرية تبعد عن بلدة «الباب» أربعة كيلومترات وكانت في القديم قرية عظيمة ، وحصنا منيعا له خندق.

(٣) في الأصل : فهزهم.

٧٤

وفي سنة ٥١٤ سار إيلغازي إلى الفرنج واقتتل معهم عند دانيث البقل ، من بلد سرمين ، وظفر بهم ثم اجتمع إيلغازي وأتابك طغتكين صاحب دمشق وحصروا الفرنج في معرّة قنسرين يوما وليلة ، فضايقهم. ثم أفرج عنهم خوفا أن يستقتلوا ويخرجوا للمسلمين فيظفروا بهم. وكان إيلغازي يخاف من التركمان الذين يحاربون معه لأنهم كانوا يجتمعون للطمع ، فيحضر أحدهم ومعه جراب (١) فيه دقيق وشاة ويعد ساعات الغنيمة ، فإذا طال مقامهم تفرقوا ، ولم يكن مع إيلغازي ما يفرقه فيهم.

وفي سنة ٥١٥ عصى سليمان بن إيلغازي على أبيه بحلب فبغته أبوه ، وسمل عيني من حسّن له العصيان وقطع لسانه ، وهو أمير اسمه ناصر ، وكان التقطه أرتق والد إيلغازي ورباه. وقطع إيلغازي أطراف رجل حموي من بيت قرناص وسمل عينيه لأنه من جملة المزيّنين لولده العصيان. والحموي المذكور كان محسنا إليه إيلغازي ومرئّسه (٢) على حلب ، فجزاه بهذا الجزاء. ثم أراد إيلغازي أن يقتل ولده فمنعته رحمة الوالديّة فأفلته فهرب إلى دمشق. واستناب إيلغازي بحلب سليمان ابن أخيه عبد الجبار الملقب ببدر الدولة. وفي سنة ٥١٥ أغار الفرنج على حصن الأثارب وأسروا وغنموا. وفيها هدمت قلعة الشريف.

وفي سنة ٥١٦ بنيت مدرسة بحلب لأصحاب الشافعي ، وهي مدرسة الزجاجية التي تكلمنا عليها في باب الآثار في الكلام على محلة الجلوم. وفي سنة ٥١٧ أغار الفرنج على حلب وأعمالها وعجز عن مقاومتهم بدر الدولة وسلمهم حصن الأثارب ليكفّوا عن بلاده ويهادنوه. فبعد ذلك استقام أمر الرعية بأعمال حلب وجلبت الأقوات وغيرها. ولما سمع بلك بهرام ـ ابن عم بدر الدولة ـ أن ابن عمه سلم الأثارب للفرنج سار من حرّان ـ وكان قد ملكها ـ إلى جهة حلب ونازلها في ربيع الأول منها وضايقها وأحرق زروعها فسلّمها والقلعة إليه ابن عمه بدر الدولة بالأمان في غرة جمادى الأولى منها.

__________________

(١) الجراب : وعاء من جلد ، يحفظ فيه الزاد وغيره.

(٢) في الأصل : ومرأسه.

٧٥

انتهاء دولة بني أرتق بحلب

ودخولها في حوزة أقسنقر البرسقي صاحب الموصل ،

وحوادث أيامه فيها ، وهو من رجال الدولة السلجوقية

وفي سنة ٥١٨ قبض بهرام الأرتقي على حسان البعلبكي صاحب منبج وملك منه منبج وحصر قلعتها ، فأتاه سهم فقتله ولم يعرف الرامي وتفرق عسكره ، وخلص حسان وعاد إلى منبج. وكان مع بلك بهرام ابن عمه حسام الدين تمرتاش صاحب ماردين ، وهو ابن إيلغازي بن الأرتق ، فحمل تمرتاش بلك بهرام إلى ظاهر حلب وتسلمها واستناب بها وعاد إلى ماردين وفيها اجتمعت الفرنج وانضم إليهم دبيس بن صدقة صاحب الحلّة ، وهو شيعي ، صحبهم أملا أن يستميل لنفسه أهل حلب لتوافقهم بالمذهب. فحاصروا حلب وأخذوا ببناء بيوت لهم بظاهرها فعظم ذلك على أهلها ولم ينجدهم صاحبها تمرتاش لإيثاره الرفاهية وأقاموا يزاحفون حلب ويقطعون الأشجار ويخربون المشاهد وينبشون القبور ويحرقون من فيها بعد أن نبشوا ضريح مشهد الدكّة (١) ولم يجدوا فيه شيئا فأحرقوه وعبثوا بالمصاحف واستخفّوا بها وسخروا من الإسلام وفعلوا غير ذلك من الفظائع التي نجلّ كتابنا عن ذكرها. ولما اشتد الخطب على الحلبيين كاتبوا أقسنقر البرسقي صاحب الموصل فسار إليهم وخام الفرنج (٢) ومن معهم عن حلب لقدوم البرسقي ، وتسلّم حلب وقلعتها. وعلى أثر حادثة هذا الحصار عمد القاضي أبو الحسن بن يحيى بن الخشاب إلى أربع كنائس وصيرها مساجد وهي كنيسة هيلانة والحدادين وموغان والمقدمية. وبه كان انتهاء دولة بني أرتق من حلب.

وفي سنة ٥١٩ أخذ البرسقي كفر طاب من الفرنج ثم سار إلى عزاز فهزمته الفرنج

__________________

(١) هو المعروف بمشهد محسّن ، أو مشهد الطرح ، غربّي حلب ، قرب منطقة الأنصاري وفيه قبر المحسن بن الحسين. انظر كتاب «الآثار الإسلامية والتاريخية في حلب» ٥٦ ـ ٥٨ ، ٦٩.

(٢) أي نكصوا وتراجعوا.

٧٦

وقتل من المسلمين خلق كثير ، فرجع إلى حلب واستناب بها ولده عزّ الدين مسعود (١) ورحل إلى الموصل. وفي سنة ٥٢٠ كان البرسقي يصلي الجمعة بجامع بالموصل إذ وثب عليه بضعة عشر رجلا من الإسماعيلية فقتلوه. وكان البرسقي مملوكا تركيا شجاعا ديّنا حسن السيرة. ولما سمع ابنه مسعود بمقتله في حلب فارقها وسار إلى الموصل واستقر بملكها.

__________________

(١) الصواب أن يقال : مسعودا.

٧٧

دخول حلب في حوزة الدولة الأتابكية

وحوادثها فيها وهي من فروع الدولة السلجوقية

وفي سنة ٥٢٢ في محرمها ملك أتابك عماد الدين زنكي مدينة حلب. وذلك أن البرسقي لما قتل وسار ابنه مسعود إلى الموصل ، استناب بحلب قيماز ثم عزله بقتلغ (١). فلما قدم «قتلغ» من الموصل إلى حلب امتنع قيماز من تسليم حلب إليه وقال له : بيني وبين مسعود علامة لم أرها ، ولا أسلّمك حلب إلا بها. وكانت العلامة بينهما صورة غزال وكان مسعود حسن التصوير. فعاد «قتلغ» لإحضار العلامة من مسعود فوجده قد مات ، فرجع إلى حلب وعرّف الناس ، بموت مسعود ، فسلّم البلد إليه رئيسها فضائل ابن بديع وأطاعه المقدّمون واستنزلوا قيماز من القلعة وأعطوه ألف دينار ، فتسلم القلعة في الرابع والعشرين من جمادى الأولى سنة ٥٢١ وبعد أيام ظهر منه جور وعسف عظيمان ، ومدّ يده إلى الأموال ـ لا سيما التركات ـ وقرّب إليه الأشرار فنفرت منه القلوب.

وكان بالمدينة بدر الدولة سليمان بن عبد الجبار الأرتقي ـ الذي كان صاحبها قديما ـ فأطاعه أهل البلد وأقاموه واليا عليها ليلة الثلاثاء ثاني شوال سنة ٥٢١ وقبضوا على كل من كان بالبلد من أصحاب قتلغ ـ وكان أكثرهم يشربون في البلد صبيحة العيد ـ وزحفوا إلى القلعة فتحصن قتلغ فيها بمن معه ، وحصروه ووصل إلى حلب حسان صاحب منبج ، وحسن صاحب بزاعة لإصلاح الأمر فلم يصلح. وسمع الفرنج بذلك فتقدم جوسلين بعسكره إلى حلب فصونع بمال وانصرف عنها. ثم وصل صاحب أنطاكية في جمع من الفرنج فخندق الحلبيون حول القلعة ومنع عنها الداخل والخارج ، وأشرف الناس على خطر عظيم إلى منتصف ذي الحجة سنة ٥٢١.

__________________

(١) أي عزل «قيماز» وولّى مكانه «قتلغ».

٧٨

وكان عماد الدين زنكي قد ملك الموصل والجزيرة وسيّر إلى حلب الأمير سنقردراز ، والأمير حسن قراقوش ومعه توقيع عماد الدين بالشام ، فأجابه أهل حلب وتقدم عسكر عماد الدين زنكي إلى سليمان وقتلغ بالمسير إلى عماد الدين زنكي فسارا إليه وهو بالموصل فأصلح بينهما ولم يردّ أحدهما إلى حلب. وكان قراقوش في مدة غيابهما كالوالي على حلب. ثم إن عماد الدين زنكي سار إلى حلب وملك في طريقه منبج وبزاعة وطلع أهل حلب لتلقيه واستبشروا بقدومه ودخل حلب ورتب أمورها. ثم قبض على قتلغ وسلمه إلى ابن بديع فكحله فمات. وكان ملك عماد الدين زنكي لحلب وقلعتها في محرم سنة ٥٢٢.

وفي سنة ٥٢٤ جمع عماد الدين زنكي عساكره وسار من الموصل إلى الشام وقصد حصن الأثارب لشدة ضرره على المسلمين ، فإن أهله الفرنج كانوا يقاسمون أهل حلب على جميع أعمالها الغربية ، حتى على رحى بظاهر باب الجنان ، بينها وبين سور حلب عرض الطريق ، والغالب على الظن أنها رحى عربية. فنازل عماد الدين الحصن واجتمع عليه الفرنج ، فارسهم وراجلهم ، فرحل عماد الدين عن الأثارب إلى حيث اجتمع الفرنج والتقى بهم واقتتل معهم أشد قتال ، فانتصر عليهم وانهزم الفرنج وأسر كثيرا من فرسانهم ، وقتل منهم مقتلة عظيمة بقيت منها عظام القتلى على سطح الأرض زمنا طويلا. ثم عاد المسلمون إلى حصن الأثارب وأخذوه عنوة وقتلوا وأسروا كل من فيه وخرب عماد الدين ذلك الحصن من ذلك اليوم.

وفي سنة ٥٣٠ سارت عساكر أسوار ـ نائب عماد الدين زنكي بحلب ـ ومعه عساكر حلب وحماه إلى بلاد الفرنج بنواحي اللاذقية ، وأوقعوا بمن هناك من الفرنج وكسبوا من الجواري والمماليك والأسرى والدوابّ ما ملأ الشام من الغنائم وعادوا سالمين. وفي سنة ٥٣١ نازل عماد الدين حصن بعرين ـ وكان به الإفرنج ـ فضيق عليهم وطلب الفرنج منه الأمان فقرر عليهم تسليم الحصن وخمسين ألف دينار يحملونها إليه ، فرضوا بذلك وأطلقهم وتسلم الحصن والدنانير. وكان عماد الدين مدة إقامته على الحصن المذكور قد استخلص المعرة وكفر طاب من الفرنج ، وحضر أهل المعرة وطلبوا أملاكهم التي كانت لهم قبل أن يأخذ الإفرنج المعرة ، فطلب عماد الدين منهم كتب أملاكهم ، فذكروا أنها عدمت. فكشف في ديوان حلب عن الخراج وردّ كل ملك لصاحبه حسب مفهوم الديوان.

٧٩

وفي سنة ٥٣٢ وصل الروم إلى بزاعة ـ وهي على ستة فراسخ من حلب ـ وحاصروها وملكوها بالأمان ثم غدروا بأهلها وقتلوا منهم وأسروا وسبوا وتنصّر قاضيها. وجملة من تلف بها من أهلها أربعمائة نسمة. ثم رحل الروم إلى حلب ونزلوا على قويق وزحفوا على حلب ، وجرى بين أهلها وبينهم قتال كثير قتل فيه من الروم بطريق كبير ، وعادوا خاسرين وأقاموا ثلاثة أيام ورحلوا إلى الأثارب وملكوها وتركوا فيها سبايا بزاعة ، وتركوا عندهم من الروم من يحفظهم. وسار الروم جميعهم من الأثارب إلى شيزر فخرج أسوار ـ نائب زنكي بحلب ـ بمن معه وأوقع بمن في الأثارب من الروم فقتلهم وفك أسرى بزاعة وسباياها.

وفي سنة ٥٣٣ جاءت زلزلة عظيمة بالشام والعراق وغيرهما من البلاد فخرّبت كثيرا وهلك تحت الردم عالم كثير ، وهدمت الدور والمنازل ، وتوالت بالشام وخرّبت كثيرا من البلاد لا سيما حلب ، فإن أهلها فارقوا بيوتهم وخرجوا إلى الصحراء. ودامت من رابع صفر إلى تاسع عشره. وفي سنة ٥٣٩ فتح أتابك عماد الدين زنكي مدينة الرّها واستردها من الفرنج الصليبيين مع غيرها من البلاد الجزرية ، وكان فتحا عظيما. وفي سنة ٥٤١ قتل عماد الدين زنكي ، قتله جماعة من مماليكه منازلا قلعة جعبر ، ودفن بالرقة. ولما قتل كان ولده نور الدين محمود زنكي حاضرا عنده فأخذ خاتمه من إصبعه وجاء إلى حلب وملكها.

وفيها راسل جوسلين الفرنجيّ ـ صاحب تل باشروما جاورها ـ أهل الرها ، وكلّهم من الأرمن ، بأن يمتنعوا عن المسلمين ويسلموا البلد إليه ، ففعلوا وملك جوسلين البلد دون القلعة. فأسرع نور الدين الرحيل إليه من حلب ، ولما قارب الرها خرج منها جوسلين هاربا ودخلها نور الدين ونهبها وسبى أهلها فلم يبق منهم أحد. وفي سنة ٥٤٢ دخل نور الدين صاحب حلب بلاد الفرنج وفتح منها مدينة أرتاح بالسيف وحصر مابولة وبصرفوت وكفر لاثا. وفي سنة ٥٤٣ كان بين نور الدين وبين الفرنج مصاف بأرض يغرى من العمق ، فانهزم الفرنج وقتل وأسر منهم جماعة كثيرة ، وأرسل نور الدين إلى أخيه سيف الدين غازي صاحب الموصل من الأسرى والغنيمة.

قال في الروضتين في أخبار الدولتين : وفي رجب هذه السنة ورد الخبر من ناحية حلب بأن صاحبها نور الدين أمر بإبطال : «حيّ على خير العمل» في أواخر تأذين الغداة ،

٨٠