نهر الذّهب في تاريخ حلب - ج ٣

كامل البالي الحلبي [ الغزي ]

نهر الذّهب في تاريخ حلب - ج ٣

المؤلف:

كامل البالي الحلبي [ الغزي ]


المحقق: الدكتور شوقي شعث ومحمود فاخوري
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
المطبعة: مطبعة الصباح
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٤٠

حوادث أيام المتّقي وابتداء أمر بني حمدان في حلب :

ولما قتل ابن رائق ، كان أمير الأمراء ، عند المتّقي الخليفة العباسي ، ناصر الدولة بن حمدان ، أخو سيف الدولة ، فقلد ناصر الدولة ديار مضر عليا بن خلف وأنفذ معه عسكرا وكتب إلى يانس المؤنسي أن يعاضده وكان واليا على ديار مضر من قبل ناصر الدولة.

فسارا إلى أحمد بن مقاتل ومزاحم وانتصرا عليهما في وادي بطنان وملكا منهما حلب. ثم إن عليا بن خلف سار إلى الإخشيد وصار وزيرا عنده ، ثم عتا عليه فاعتقله الإخشيد ومات في حبسه. وبقي يانس واليا على حلب سنة ٣٣١ واتفق مع الإخشيد ودعا له على المنابر. وفي هذه السنة في ربيع الآخر منها وصل الروم إلى قرب حلب ونهبوا وخربوا البلاد وسبوا خمسة عشر (١) ألف نسمة.

سنة ٣٣٢ وابتداء أمر بني حمدان في حلب وأعمالها :

وفي هذه السنة تقرر بين «تورون» أحد قواد الخليفة وبين ناصر الدولة بن حمدان أن يكون للأول أعمال البصرة وما إليها ، وللثاني الموصل وأعمال الشام. فاستعمل ناصر الدولة على طريق الفرات وديار مضر ، وجند قنسرين والعواصم وحمص ، أبا بكر محمدا ابن علي بن مقاتل ثم استبدله بابن عمه أبي عبد الله الحسين بن سعيد بن حمدان. فأقبل هذا من الموصل ومرّ في طريقه على الرّقّة ، فمنعه أهلها فقاتلهم وظفر بهم وأحرق بعض البلدة وأسر أميرها محمد بن حبيب البلزمي. ثم سار إلى حلب ، وكان فيها يانس المونسي وأحمد بن العباس الكلابي من قبل الإخشيد ، فهربا إلى حمص. واستولى أبو عبد الله على هذه البلاد وأقام في حلب ووافاه الإخشيد أبو بكر محمد بن طغج فأجفل عنه أبو عبد الله إلى الرّقة لضعفه عن لقائه.

__________________

(١) كذا وردت أولا في متن الكتاب في طبعة المؤلف نفسه ، أي «خمسة عشر» وهو الصواب. لكن المؤلف صححها في جدول إصلاح الغلط ـ في آخر الجزء ـ إلى «خمس عشرة» ولا وجه لهذا التصحيح ، لأن المعدود ـ وهو الألف ـ مذكر. فأبقينا ما هو الصواب.

٤١

حوادث أيام المتّقي بالله

والمستكفي (١) بالله سنة ٣٣٣

ولما وصل أبو عبد الله إلى الرقة وجد فيها الخليفة المتقي بالله فلم يأذن لأبي عبد الله بالدخول إليها ، واستدعى المتّقي الإخشيد ، فأتى إليه وأكرمه ، كما أن الإخشيد برّه ، ووصله ، ثم كتب الخليفة له عهدا على الشام ومصر على أن يكون له ولابنه أبي القاسم أنوجور إلى ثلاثين سنة. وعاد الإخشيد إلى حلب.

استيلاء سيف الدولة على حلب

وفيها (٢) سار الإخشيد إلى مصر ، وولّى حلب أبا الفتح عثمان بن سعيد الكلابي. فحسده إخوته الكلابيون واستدعوا سيف الدولة عليا بن حمدان ليولّوه على حلب. فقدم إليها سيف الدولة برضاء أخيه ناصر الدولة وقد عرف اختلاف الكلابيين وضعف أبي الفتح عن لقائه ، فاستولى على حلب وهو الاستيلاء الأول في هذه السنة ، ولم ير كيدا من الكلابيين ولا من غيرهم. ولما دخل إلى حلب عزل قاضيها ابن ماثل وولّى مكانه ابن الهيثم الرقّي ، وكان ظالما يأخذ تركة من مات إلى سيف الدولة.

غزو سيف الدولة أرض الروم :

فيها غزا سيف الدولة أرض الروم فهتك بلد الصفصاف وعرسوس ، وغنم وعاد.

قصد جيوش الإخشيد حلب واستيلاؤه عليها :

وما كاد سيف الدولة يستقر في حلب بعد عوده من غزو أرض الروم حتى بلغه زحف جيوش الإخشيد على حلب مع قائده وخادمه كافور ويانس المونسي ، فبدرهما سيف الدولة وهما في الرّستن وأوقع بهما وبعساكرهما ، وأسر منهم أربعة آلاف وغنم جميع ما معهما. ثم أطلق الأسرى وتوجه إلى دمشق ، ثم خرج منها إلى الأعراب ، ولما عاد إليها منعه أهلها

__________________

(١) في الأصل : «المتكفي» تحريف وخطأ.

(٢) أي في سنة ٣٣٣ ه‍.

٤٢

فبلغ الإخشيد ذلك فقصده فخام (١) سيف الدولة عن لقائه لقلة عسكره ، لأن أكثرهم استأمن إلى الإخشيد. ثم تواقعا بأرض قنسرين فدارت الدائرة على سيف الدولة وولّى منهزما إلى الرقة ، ودخل الإخشيد حلب وعاث أصحابه في نواحيها وقطعوا أشجارها الكثيرة وبالغوا بإيذاء الناس لميلهم إلى سيف الدولة.

سنة ٣٣٤ عود سيف الدولة إلى حلب وهو الاستيلاء الثاني :

ثم في ربيع الأول من هذه السنة تقرر الصلح بين الأميرين على أن تكون حلب وحمص وأنطاكية لسيف الدولة ، ودمشق للإخشيد ، على أن يدفع عنها إلى سيف الدولة إتاوة سنوية (٢).

استيلاء سيف الدولة على دمشق :

ثم إن سيف الدولة اغتنم فرصة خلوّ دمشق من الحامية ، لانسحاب جيوش كافور وأنوجور منها إلى مصر لكفاح المغربي الذي استولى عليها. فتوجه سيف الدولة إلى دمشق واستولى عليها. ثم تبين فيها لأهلها أمارات الطمع فكاتبوا كافورا فحضر إليهم ومعه أنوجور ابن الإخشيد.

سنة ٣٣٥ حرب سيف الدولة مع كافور :

فتحارب في هذه السنة سيف الدولة في أكسال مع كافور ، فانكسر سيف الدولة وولّى منهزما إلى حمص ، فحشد وعاد إلى مرج عذراء وتواقع فيه مع كافور فانكسر أيضا وانهزم إلى الرقة. ودخل كافور إلى حلب وولّى عليها يانس المونسي.

الفداء بالثغور بين المسلمين والروم :

فيها كان الفداء بين المسلمين والروم على يد عامل سيف الدولة في الثغور ، وكان عدد الأسرى ٢٤٨٠ وفضل للروم على المسلمين ٢٣٠ أسيرا ، فوفّاهم سيف الدولة من ماله.

__________________

(١) خام عن القتال : جبن وتراجع.

(٢) الإتاوة : الجزية ونحوها.

٤٣

سنة ٣٣٦ :

وفي شهر ربيع الآخر من هذه السنة أقبل سيف الدولة إلى حلب وكبس يانس المونسي فانهزم إلى سرمين. فأرسل سيف الدولة إليه من يتعقبه فانهزم وحده إلى أخيه بميّافارقين. ثم تجدد الصلح بين سيف الدولة وابن الإخشيد على الصفة التي كانت بينه وبين الإخشيد دون الإتاوة السنوية. واستقر سيف الدولة بحلب ، وهو الاستيلاء الثالث ، وعمر داره في أرض الحلبة وأجرى إليها الماء من قويق.

وفيها كان الغلاء بالشام وأكلت الحمير والهررة والصبيان ، ومات خلق كثير.

سنة ٣٣٧ غزو سيف الدولة الروم وانكساره وغير ذلك :

فيها غزا سيف الدولة الروم فانكسر ، وأخذ الروم مرعش وأوقعوا بأهل طرسوس. وفيها ملك سيف الدولة حصن برزيه. وفي ذلك يقول أبو الطيب «وفاؤكما كالرّبع أشجاه طاسمه» (١). وفيها استنقذ سيف الدولة أبا وائل تغلب بن داود بن حمدان لما أسره الخارجي الذي نجم في شعبان هذه السنة. وفي ذلك يقول أبو الطيب «إلام طماعية العاذل» (٢).

سنة ٣٣٩ غزو سيف الدولة الروم :

فيها غزا سيف الدولة الروم وأوغل وفتح حصونا كثيرة وسبى وغنم. ثم أخذ الروم عليه المضايق فهلك من كان معه ، ونجا سيف الدولة في عدد يسير.

سنة ٣٤٠ موت يماك التركي :

فيها مات يماك التركي مملوك سيف الدولة وكان مقدم مماليكه ، وكانوا أربعة آلاف مملوك شراء ماله. ورثاه أبو الطيب بقوله «لا يحزن الله الأمير فإنني» (٣).

__________________

(١) تمامه : «بأن تسعدا ، والدمع أشفاه ساجمه».

(٢) شطره الثاني : ولا رأي في الحب للعاقل.

(٣) عجز البيت : «لآخذ من حالاته بنصيب».

٤٤

سنة ٣٤١ قصد الروم مدينة سروج :

فيها قصد الروم مدينة سروج وسبوا وغنموا وخربوا مساجدها وانصرفوا. فتبعهم سيف الدولة وظفر بهم وبنى مرعش. وفي ذلك يقول أبو الطيب «فديناك من ربع وإن زدتنا كربا» (١).

مدّ نهر قويق :

وفي شتاء هذه السنة مدّ نهر قويق حتى أحاط بدار سيف الدولة ، ودورها سبعة آلاف ذراع ، وسماها السيفية. فخرج أبو الطيب من عنده فبلغ الماء إلى صدر فرسه فقال في ذلك الأرجوزة التي مطلعها : «حجّب ذا البحر بحار دونه» (٢).

سنة ٣٤٢ خروج سيف الدولة إلى ديار مضر وإيقاعه بالدمستق ،

وأسره ابنه :

في حاشية من ديوان للمتنبي مخطوط ، محفوظ عندي ، ما صورته : «فيها رحل سيف الدولة من حلب إلى ديار مضر لاضطراب البلاد بها. فنزل حرّان فأخذ رهائن بني عقيل وقشير وعجلان ، وحدث له بها رأي في الغزو فعبر الفرات إلى دلوك ، إلى قنطرة صنجة ، إلى درب القلّة ، فشنّ الغارة على أرض عرقة وملطية ، وعاد ليعبر الفرات من درب موازد فوجد العدو قد ضبطه عليه فرجع ، وتبعه العدو فعطف عليه فقتل كثير من الأرمن. ورجع إلى ملطية وعبر قباقب ، وهو نهر ، حتى ورد المخاض على الفرات تحت حصن يعرف بالمنشار ، فعبر إلى نهر هنريط وسمنين ، ونزل بحصن الران ، ورحل إلى سميساط فورد عليه بها من خبّره أن العدو في بلد المسلمين. فأسرع إلى دلوك وعبرها ، فأدركه راجعا على جيحان فهزمه وأسر قسطنطين بن الدمستق ، وجرح الدمستق في وجهه. وكان الإيقاع به يوم الاثنين لعشر خلون من ربيع الأول. فقال أبو الطيب يصف ما كان في جمادى الآخرة من هذه السنة «لياليّ بعد الظاعنين شكول» (٣).

__________________

(١) تمامه : «فإنك كنت الشرق للشمس والغرباء».

(٢) في الأصل : «بحارا» والتصويب من الديوان. وتمام البيت : «يذمّها الناس ويحمدونه».

(٣) شكول : أي يشبه بعضها بعضا. وعجز البيت : «طوال ، وليل العاشقين طويل».

٤٥

سنة ٣٤٣ سير سيف الدولة إلى الحدث وإيقاعه بجيوش الدّمستق :

وفي الحاشية المذكورة ما صورته :

«في هذه السنة سار سيف الدولة نحو حصن الحدث لبنائها ، وكان أهلها أسلموها بالأمان إلى الدمستق سنة ٣٣٧ فنزلها سيف الدولة يوم الأربعاء لإحدى عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة من سنة ٣٤٣ وبدأ في يومه فخطّ الأساس وحفر أوله بيده ابتغاء ما عند الله تعالى.

فلما كان يوم الجمعة نازله ابن النقاس ، دمستق النصرانية ، في نحو خمسين ألف فارس وراجل من جموع الروم والأرمن والروس والبلغر والصقلب والخزرية. ووقعت المصادمة يوم الاثنين انسلاخ جمادى الآخرة من أول النهار إلى وقت العصر ، وإن سيف الدولة حمل عليه بنفسه في نحو خمسمائة من غلمانه وأصناف رجاله فقصد موكبه وهزمه وظفر به وقتل نحو ثلاثة آلاف رجل من مقاتلته وأسر خلقا من استخلاديّته وأراخيته ، فقتل أكثرهم واستبقى البعض ، وأسر نوذس الأعور بطريق سمنذوا والقنذوا ، وهو صهر الدمستق على ابنته ، وأسر ابن بنت الدمستق ، وأقام على الحدث إلى أن بناها ووضع آخر شرافة منها بيده في يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة خلت من رجب. فقال أبو الطيب في ذلك وأنشده إياها بعد الوقعة بالحدث : «على قدر أهل العزم تأتي العزائم».

أقول : هذه النبذة ساقها العكبري في شرح هذه القصيدة مع تصرف قليل ببعض ألفاظها. وقد غلط ابن الأثير فذكر أسر ابن الدمستق في هذه الواقعة. ولعل الذي أوقعه بهذا الوهم قول المتنبي في هذه القصيدة :

وقد فجعته بابنه وابن صهره

وبالصهر حملات الأمير الغواشم

على أن الفجع بابنه في هذا البيت لا يستلزم حصوله في هذه الوقعة ، إنما هو إخبار عنه في الوقعة الأولى.

وقد غلط بعض المؤرخين في هاتين الوقعتين غلطتين ، إحداهما : توهّمه أنهما وقعة واحدة ، وثانيهما : فهمه من عبارة العكبري أنها أفادت أن ابن الدمستق أسر في هذه الوقعة. مع أن عبارة العكبري لا يستفاد منها أنه أسر ولا قتل في هذه الوقعة كما يظهر ذلك بداهة

٤٦

لمن قرأها. على أن ذكر أسره في قصيدة المتنبي التي أنشدها في الوقعة الأولى صريح حيث يقول :

على قلب قسطنطين منه تعجّب

وإن كان في ساقيه منه كبول (١)

إيقاع سيف الدولة ببني كلاب :

وفيها أحدث بنو كلاب حدثا بنواحي بالس (٢) ، وسار سيف الدولة خلفهم فأدركهم بعد ليال على بعد ١٢٠ ميلا من حلب ، فأوقع بهم ليلا فقتل وملك الحريم وأبقى وأحسن. فقال أبو الطيب «بغيرك راعيا عبث الذئاب (٣)».

سنة ٣٤٤ ورود رسول ملك الروم :

في محرّم هذه السنة ورد على سيف الدولة فرسان طرسوس وأذنة والمصيصة ومعهم رسول ملك الروم في طلب الهدنة والفداء ، فقال أبو الطيب «أراع كذا كلّ الأنام همام»(٤).

خروج سيف الدولة إلى الأعراب وإيقاعه بهم :

في الحاشية المذكورة ما خلاصته :

في هذه السنة تجمعت عامر بن صعصعة وعقيل وقشير والعجلان ، أولاد كعب بن ربيعة بن عامر ، بمروج سلمية وكلاب بن ربيعة ومن ضامّها ، بماء يقال له الزرقاء بين خناصرة وسورية ، وتشاكوا بما لحقهم من سيف الدولة وتضافروا على حربه وكانوا في كثرة من عددهم وعددهم ، وقد زين لهم ذلك قواد من كعب كانوا في عسكر سيف الدولة ، فركضوا على أعماله فقتلوا صاحبه بناحية زعرايا يعرف بالمربوع من بني تغلب

__________________

(١) من قصيدته «ليالىّ بعد الظاعنين شكول». قسطنطين : ابن الدمستق. والكبول : القيود الضخمة ، مفردها : كبل.

(٢) هي اليوم مدينة مسكنة.

(٣) تمام البيت : «وغيرك صارما ثلم الضّراب». الضراب : المضاربة.

(٤) تمام البيت : «وسحّ له رسل الملوك غمام». راع : خوّف ، والاستفهام للتعجب. كذا : أي روعا كهذا الرّوع. سحّ الماء : صبّه. يعني تتابعت رسل الروم إلى سيف الدولة كأنها مطر يصبه الغمام.

٤٧

وقتلوا الصباح بن عمارة والي قنّسرين.

ثم إن سيف الدولة اشتغل عن النهوض إليهم بوفود طرسوس فتمادت أيام مسيره وزاد ذلك في طمع البوادي. ثم قدّم مقدّمة إلى قنّسرين في يوم السبت لليلة خلت من صفر هذه السنة. فأقامت المقدمة أحد عشر يوما أملا أن ترعوي البادية فلم يرتدعوا. فبرز سيف الدولة إلى ضيعة يقال لها الراموسة على ميلين من حلب في يوم الثلاثاء لإحدى عشرة ليلة خلت من صفر ، وسار عنها في يوم الأربعاء فنزل تل ماسح وراح منه فاجتاز بمياه الحيار فطواها وتلقته مشيخة من بني كلاب وغيرهم فطرحوا نفوسهم بين يديه وسألوه قبول تسليمهم إليه.

وقصد سلمية فلما كان سحر يوم الجمعة لأربع عشرة خلت من صفر تجمعت الأعراب ، كعب ومن ضامّها من اليمن ، في عدّتها وعدّتها ، وحبسوا ظعنهم بماء يقال له حيران ، على نحو مرحلة من سلمية ، وبعضهم بماء يقال له القرقلس وراءه. ووافت خيولهم مشرفة على عسكر سيف الدولة من كل ناحية. فركب لهم ووقع الطراد فلم يمض إلا ساعات حتى ركب أكتافهم وولّوا واستحر القتل والأسر بآل المهيا ووجوه عقيل وقوادها ، وأسر خويلد بن عوسجة بن منصور بن المهيا ، وشداد النعمي ، وجه بني نعمة. فأطلق جمعهم منّا عليهم مع عدد كبير وأسروا وأطلقوا ، وقتل من جمعهم نيّفا وخمسين رجلا ، وأخذ منهم نحو مائتي فرس ، ودروع من كان عليها.

ورحل سيف الدولة ضحوة نهار الجمعة متبعا لهم فأسرعوا لترحيل بيوتهم فوافى ماء حيران بعد الظهر فوجد آثار جفلتهم ، وسار إلى ماء القرقلس وأمر بالنزول عليه. ثم عنّ له رأي في اتّباعهم فرحل لوقته إلى ماء الغنثر يوم السبت النصف من صفر ، وتسع بقين من حزيران ، وقدّم خيلا فلحقت ما لهم وحازته ، فنزل على الغنثر قبل نصف الليل وقد امتلأت الأرض من الأغنام والجمال والهوادج والرحال ، وقد تفرقت خيولهم واشتبهت عليهم الطرق ، فوقع أصحابه على عدة منهم فقتلوهم. وسار وقت السحر إلى تدمر فنزل ماء الجباه على سبعة وعشرين ميلا من الغنثر ، وتفرقت خيله في طلب الفلول فساقت الماشية وقتلت عدّة ، وسار سيف الدولة من تدمر نحو السماوة فقتل وأسر وصفح عما ملكه من الحريم ، ثم رجع من السماوة شفقة عليهم من الاستئصال لأن الكثير منهم يموتون عطشا وجوعا. وقد قصد فريق منهم جهة القلمون مما يلي دمشق. ثم عاد سيف الدولة إلى

٤٨

معسكره ومر بطريقه على جماعة من تلك الجموع أسروا وعجزوا عن الهرب فبرّهم وزوّدهم. وأقام بتدمر يومين وبثّ الخيل ليتعرف أخبارهم فظفرت خيوله بمال منقطع وأقوام فصفح عنهم ورحل نحو أركة ثم نحو السخنة ثم نحو عرض والرصافة والرقة فتلقاه أهلها. ثم نحو حلب فوصل إليها يوم الجمعة لست خلون من شهر ربيع الأول من هذه السنة فقال أبو الطيب يمدحه ويذكر ما جرى : «تذكّرت ما بين العذيب وبارق» (١).

مسير سيف الدولة إلى الدّمستق في حصن الحدث :

في جمادى الأولى من هذه السنة نهض سيف الدولة إلى الثغر لما ورد عليه من الدمستق وجيوش النصرانية قد نزلوا على حصن الحدث ونصبوا عليه مكايد ، وقد أنجدهم ملكهم بأصناف العسكر من البلغر والروس والصقلب في عدد وعدد ، فسار سيف الدولة من حلب فلما قرب من الحدث رحل العدو إلى حصن رعبان. وخرج أهل الحدث وأخذوا آلة سلاح العدو وأعدّوه في حصنهم ، وعاد سيف الدولة إلى حلب فقال أبو الطيب «ذي المعالي فليعلون من تعالى» (٢).

أقول : ذكر العكبري أن هذه الحادثة كانت في سنة ٣٤٠ وهو غلط والصواب أنها كانت في هذه السنة وهي سنة ٣٤٤.

سنة ٣٤٥ غزو سيف الدولة الروم :

في الحاشية المذكورة ما خلاصته :

أن سيف الدولة غزا من حلب ومعه أبو الطيب ، وقد أعدّ الآلات لعبور أرسناس ، فاجتاز بحصن الران ثم اجتاز بحيرة سمنين ثم بهنريط. وعبرت الروم والأرمن أرسناس وهو عظيم الجرية والبرد ، فسبح الخيل حتى عبرته خلفهم إلى تل بطريق وهو مدينة لهم ، فغرق جماعته وأحرق تل بطريق وقتل من وجد فيها. وأقام أياما وعقد بها سمريّات (٣) ليعبر السبي

__________________

(١) عجزه : «مجرّ عوالينا ، ومجرى السّوابق». العذيب وبارق : موضعان بظاهر الكوفة. والعوالي : الرماح. والسوابق : الخيل.

(٢) في الأصل : «المعال» بدل «المعالي» خطأ ـ وتمام البيت : «هكذا هكذا وإلّا فلالا».

(٣) كذا في الأصل ، والذي في المعاجم اللغوية : «السّميريّات» وهي ضرب من السفن ، مفردها «سميريّة» بصيغة التصغير.

٤٩

فيها ثم أقفل ، فاعترضه البطريق في الدرب بالجيش ، وارتفع في ذلك الوقت سحاب عظيم وجاء مطر جود (١) ، ووقع القتال تحت المطر ومع البطريق نحو ثلاثة آلاف قوس ، فابتلّت أوتار القسيّ فلم تنفع فانهزم أصحابه. ثم انهزم بعد أن قاتل وأبلى ، وعلقت به الخيل فجعل يحمي نفسه حتى سلم.

واتصل بسيف الدولة خبر يانس ، سبط الدمستق شمشقيق البطريق ، في متابعته الغارة على أطراف ديار بكر وتقديره أنه آمن ببعد سيف الدولة. فسار سيف الدولة في يوم الاثنين لأربع عشرة ليلة خلت من محرّم سنة ٣٤٥ ولما وصل إلى حرّان لقيته وجوه بني نمير لائذين به وسألوه العفو عن كل شيء كان أنكره عليهم ، فأجابهم إلى ذلك وتنكّب طرق الجادة وأخذ على حصن الران إلى حصن الحمة إلى حصن بارقبين ، وجميعها له وفي يده ، ودخل منه غازيا في يوم السبت لأربع بقين منه. وقد كان البطريق ومن تجمع إليه من البطارقة ورد الدرب للغارة على بلد آمد ، فلما أشرف سيف الدولة ولّوا منهزمين ونزل سيف الدولة بشاطئ بحيرة سميساط وخيوله تركض وتأسر وتحرق وتسبي.

ثم سرى في يوم الأحد بغلامين من غلمانه إلى شط أرسناس وسار في أثرهما فنزل ضيعة تعرف بأنحى في لحف (٢) حصن زياد. وعادت سريته غانمة سالمة. وبكّر فسار إلى شط أرسناس فنزل على حصن أشوان بإزاء مدينة يقال لها الأشكونية وهي مسكن البطريق وكان أخذ معه سفنا مخلّعة وأطوافا ، فلما خيّم بشاطئ النهر يوم الاثنين لليلتين بقيتا من المحرم عبر بعض خيوله سابحة إلى ناحية الأشكونية فسبت وغنمت ، وابتدأ بعمل السفن والأطواف ففرغ من عدّة منها في بقية يومه وباكر تعبير (٣) الرجال فيها في يوم الخميس ، فقصد مدينة تل البطريق فأحرقها وانكفأ إلى أخرى يقال لها أسفوان فألحقها بأختها ، وشنّ الغارات في تلك الأطراف ، وبلغ ذلك من الروم مبلغا عظيما وعاد إلى سواده وعسكره ظافرا غانما ، ورحل يوم السبت لثلاث خلون من صفر فقصد بلدا يقال لها هورى فأحرقه وما اجتاز به من بلاد الروم وسبى وقتل.

__________________

(١) أي غزير.

(٢) اللّحف : أصل الحصن والجبل ونحوهما.

(٣) أي جعلهم يعبرون الماء.

٥٠

ورحل في يوم الأحد فنازل حصنا يقال له دارم وفيه مقاتلة للروم من يوم الثلاثاء إلى يوم الخميس حتى قارب فتحه ، فبلغه تجمّع الروم في عددهم ومددهم وأخذهم الدروب وتقديرهم اعتراضه في يوم الجمعة فنزل منزلا ببطن سمنين بعد عبره عقبة هاموته وبكر في يوم السبت لعشر خلون من صفر قافلا إلى الدرب المعروف بدرب باقسايا. فلما توسط وظهرت قوافل أعدائه أنفذ إليهم من ناوشهم فاستظهر عليهم ثم كرّوا وصبروا. وأمر سيف الدولة بضرب خيمة بموضعه وصعد إلى جموعهم وهم عند أنفسهم مستظهرون في مواضعهم فخمل عليهم فولوا ووضع السيف فيهم فقتل فيما قتل أربعة آلاف رجل ، منهم ابن بلنطس البطريق ، وابن فشير فارس النصرانية ، وزروان مرح قلزور وأرجوزان وعدد يطول ذكرهم وغنم الرجال ما يفوق الإحصاء من الدوابّ والبغال والحلي والديباج. وسار طالبا لفلّهم (١) في طبراش وصعوده وهبوطه واحتاج في بعضه إلى الترجل والمشي. وكان انصرافه عن الفل بعد العصر ، وسار نحو آمد فدخلها في آخر نهار يوم الأحد لعشر خلون من صفر سنة ٣٤٥ فأنشده أبو الطيب في آمد قصيدته التي مطلعها «الرأي قبل شجاعة الشجعان» (٢).

سنة ٣٤٧ الزيادة في الأذان :

قال المقريزي في الخطط المصرية : أول من أذّن بالليل : «محمّد وعليّ خير البشر» : الحسين ، المعروف بأمير أشكنبة ، ويقال أسكنبة ، وهو اسم أعجمي معناه الكرش ، وهو ابن علي بن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب. وكان أول تأذينه بذلك في حلب أيام سيف الدولة سنة ٣٤٧ ولم يزل الأذان بحلب يزاد فيه : «حيّ على خير العمل ، ومحمد وعليّ خير البشر» إلى أيام نور الدين محمود زنكي. فلما فتح المدرسة الكبيرة المعروفة بالحلوية استدعى أبا الحسن عليا بن الحسن بن محمد البلخي إليها فجاءه ومعه جماعة من الفقهاء وألقى بها الدروس ، فلما سمع الأذان أمر الفقهاء أن يصعدوا المنارة وقت الأذان ، وقال لهم : مروهم أن يؤذّنوا الأذان الشرعي ، ومن امتنع منهم كبّوه على رأسه. ففعلوا ما أمرهم به وبطلت هذه الزيادة.

__________________

(١) الفلّ : جماعة المهزومين ، والجمع : فلول.

(٢) تمامه : «هو أول وهي المحلّ الثاني».

٥١

قلت : سيأتي ذكر هذا في حوادث سنة ٥٤٣ وذكر ابن الوردي حادثة ابتداء الزيادة في الأذان سنة ٣٦٩ أيام سعد الدولة أبي المعالي شريف بن سيف الدولة ، لا في أيام أبيه ، كما ذكره المقريزي ، فليحرر.

أما زيادة الصلاة والسلام عقيب كل أذان فقد التزمت في حلب سنة ٧٩٢ قال أبو ذر في تاريخه ، في ترجمة الملك الظاهر برقوق الجهاركسي : وفي أيامه سنة ٧٩٢ أحدثوا في حلب السلام على النبي عليه السلام عقيب كل أذان ، ويقال إن ذلك عن أمره ، وكان هذا قد أحدث في العام الأول. ثم قال : وأخبرني والدي أنهم كانوا يصلون على آدم عقيب الأذان ، وسببه أن شخصا زعم أنه رأى في منامه آدم ، فقال له : أنا أبو كم ولا تذكروني ولا تصلّون عليّ. فأخبر بذلك الحاكم فأمر بالصلاة عليه. اه.

سنة ٣٤٨ غزو الروم طرسوس والرّها :

في هذه السنة غزت الروم طرسوس والرّها فقتلوا وسبوا وعادوا سالمين.

سنة ٣٤٩ غزو سيف الدولة الروم :

فيها غزا سيف الدولة الروم فأبلى فيهم وفتح عدة حصون وسبى وأسر وغنم وبلغ خرشنة. ثم إن الروم أخذوا عليه المضايق واستردوا جميع ما معه ووضعوا السيف في أصحابه ، وتخلص هو في ثلاثمائة رجل بعد جهد ومشقة. وفي ذلك يقول المتنبي «غيري بأكثر هذا الناس ينخدع» (١).

الجليد والبرد :

وفيها جاء الجليد والبرد حتى جمد الفرات والقدور على النار ، ويبس الزيتون في المعرة وكفر طاب. وفي سنة ٣٥٠ خرج كمين من الروم على قفل (٢) بين أنطاكية وطرسوس فأخذ الرجال وقتل كثيرا منهم ، وكان معهم صاحب أنطاكية فتخلص منهم.

__________________

(١) عجزه : «إن قاتلوا جبنوا ، أو حدّثوا شجعوا».

(٢) القفل : العائدون إلى وطنهم. وقد تكون بمعنى «القافلة».

٥٢

سنة ٣٥١ استيلاء الروم على عين زربة :

فيها زحف الدمستق بجيوشه الجرارة على مدينة عين زربة ، وتسلّمها من أهلها بعد أن أمّنهم ، ثم غدر بهم فقتل الرجال والنساء والصبيان ومات كثير من أهلها في الطرقات ، ونهب الروم جميع أموالهم واستولوا على أربعة وخمسين حصنا. ثم انصرف الدمستق على أن يعود بعد عيده ، وخلّف جيشه بقيسارية. وكان ابن الزيات صاحب طرسوس خرج في أربعة آلاف طرسوسي ، فقتل الدمستق أكثرهم وقتل أخا ابن الزيات.

فعاد ابن الزيات لطرسوس وكان قطع بها الخطبة لسيف الدولة فأعادها أهل البلد له وراسلوه وعلم ابن الزيات بذلك واشتد عليه هذا الأمر ، فصعد إلى روشن (١) في داره وألقى منه نفسه إلى النهر تحته وغرق. وراسل أهل بغراص الدمستق وبذلوا له مائة ألف درهم فأقرهم وترك معارضتهم.

وفي هذه السنة أعاد سيف الدولة بناء عين زربة. وفيها بعد أن انصرف الدمستق إلى بلاده وقضى صومه وعيده بها ، خرج إلى قيسارية جريدة ولم يعلم به سيف الدولة.

استيلاء الدمستق على حلب :

فتوجه الدمستق إلى حلب وكبسها ، وقد أعجل الأمر سيف الدولة عن الجمع والاحتشاد فخرج إليه بمن معه فقاتله ولم يكن له به قبل لقلة عسكره ، فقتل أكثرهم وقتل جميع أولاد داود بن حمدان ، وانهزم سيف الدولة في نفر يسير ، وظفر الدمستق بدار سيف الدولة المعروفة بالدارين (٢) خارج حلب ، فوجد فيها لسيف الدولة ثلاثمائة بدرة (٣) دراهم ، وأخذ له ألفا وأربعمائة بغل ، وسلاحا لا يحصى ، وخرب الدار وملك الحاضر وحاصر المدينة فقاتله أهلها من ثلمة من السور ثلمها الروم ، فقتل من الروم خلق كثير وفي الليل عمر الحلبيون هذه الثلمة فتأخر الروم إلى جبل الجوشن (٤).

ثم إن رجال الشرطة قصدوا منازل التجار لينهبوها فلحق الناس أموالهم ليمنعوها وخلا

__________________

(١) الرّوشن : الشرفة «البلكون».

(٢) يعرف هذا المكان باسم «ربض الدارين» ، وكان أمام باب أنطاكية ، على نهر قويق.

(٣) البدرة : كيس فيه ألف ، أو عشرة آلاف ، درهم.

(٤) هو الجبل الذي يقوم عليه حيّ الأنصاري (أو سيف الدولة) اليوم.

٥٣

السور منهم ، فاغتنم الروم الفرصة وتسوروا ونزلوا وفتحوا الأبواب ودخلوا البلد بالسيف يقتلون من وجدوا حتى ضجروا وتعبوا. وكان في حلب ألف وأربعمائة أسير رومي ، فخلصوهم وجمعوا السلاح وسبوا بضعة عشر ألف صبي وصبية وأخذوا من الأموال ما قدروا على حمله وأحرقوا المساجد والجامع الأعظم واحترق معه مكتبته التي كانت تشتمل على عشرة آلاف مجلد في فنون شتى. وكانت عدة عسكره في هذه الواقعة مائتي ألف رجل ، منهم ثلاثون ألف مدرّع وثلاثون ألفا للهدم وإصلاح الطرقات وتنحية الثلوج عنها ، وأربعة آلاف بغل تحمل الحسك (١) من الحديد.

ولما دخل الروم البلد قصد الناس القلعة فمن دخلها نجا بنفسه. وأقام الدمستق تسعة أيام وأراد الانصراف عن حلب ، ثم بدا له أن ينزل على القلعة فأنفذ ابن أخت الملك وكان معه ، وبقي الدمستق بعسكره على باب البلد ، فتقدم المذكور ومعه سيفه وترسه وتبعه الروم. ولما قرب من باب القلعة ألقي عليه حجر فسقط ورمي بخشب فقتل ، فأخذه أصحابه وعادوا إلى الدمستق فلما رآه قتيلا قتل جميع من كان معه من أسرى المسلمين وكانوا ألفا ومائتي أسير ، وعاد إلى بلاده ولم يعترض لسواد حلب ، وأمر أهله بالزراعة والعمارة ليعود إليه في العام الثاني.

وفي هذه السنة أسرت الروم أبا فراس الحمداني من منبج ، وكان متقلدا لها.

امتناع أهل حران على عاملها :

وفي سنة ٣٥٢ امتنع أهل حرّان على صاحبها هبة الله بن ناصر الدولة الحمداني ، وكان متقلدا لها ولغيرها من ديار مضر من قبل عمه سيف الدولة ، فعسفهم وظلمهم. وكان هبة الله عند عمه بحلب حين قيامهم على نوابه ، فسار إليهم سيف الدولة وابن أخيه وحصروهم واقتتلوا أكثر من شهرين. ثم لما رأى سيف الدولة شدة الأمر أجابهم إلى ما طلبوا ودخل هبة الله البلد.

__________________

(١) الحسك : حبل فيه شوك من الحديد ، يلقى حول العسكر ، فإذا جاءت خيل العدو نشب الشوك في حوافرها.

٥٤

الإيغال في بلاد الروم :

وفيها دخل أهل طرسوس بلاد الروم غزاة. ودخل أيضا «نجا» غلام سيف الدولة من درب آخر ، فأوغل أهل طرسوس في بلاد الروم حتى دخلوا قونيه وعادوا. وكان سيف الدولة ينتظر الغزاة على رأس درب من تلك الدروب ولم يسر معهم لأنه كان مريضا ولما صحّ خاف هبة الله وهرب إلى حرّان وأشاع أن عمه مات وتحالف مع أهلها على الحرب والسلم ، فأرسل سيف الدولة غلامه «نجا» إلى حرّان وهرب هبة الله إلى الموصل ونزل «نجا» على حرّان وقبض أهلها وصادرهم على ألف ألف درهم وشرط عليهم تأديتها بخمسة أيام بعد الضرب المبرّح بحضرة عيالاتهم وأهليهم ، فباعوا ما يساوي دينارا بدرهم لعدم وجود من يشتري غير أصحاب «نجا». ثم افترق أهل حرّان وبقيت بلا وال وسار «نجا» إلى ميّافارقين حيث كان سيف الدولة.

سنة ٣٥٣ عصيان «نجا» على سيف الدولة :

فيها عصى «نجا» على سيف الدولة بطرا بما صار معه من الأموال التي أخذها من أهل حرّان ، وانضم إليها ما أخذه بعد من أبي الورد المستولي على كثير من أرمينية حينما قصده «نجا» وقتله وأخذ أمواله وقلاعه وبلاده : خلاط ، وملا ذكرد ، وموش. فتمكن بهذه الأموال وأظهر العصيان على مولاه سيف الدولة ، فقصده سيف الدولة ليقاتله على عصيانه فهرب منه واستولى سيف الدولة على بلاده ثم كاتبه يرغبه ويرهبه حتى حضر عنده فأكرمه وأعاده إلى مرتبته. ثم وثب عليه غلمان سيف الدولة لأنه تعرض إلى أحدهم ، فقتلوه وطرحوه في مجرى الماء والأقذار إلى الغد ثم دفن.

سنة ٣٥٤ استيلاء نقفور على المصيصة :

فيها حاصر نقفور ملك الروم المصيصة وفتحها عنوة ، ثم رفع السيف عمن بقي من المسلمين ونقلهم إلى الروم وكانوا مائتي ألف ، ثم أمّن أهلها وكان بها أربعون ألف فارس ، وسار أهلها عنها في البر والبحر ، وجهز معهم من يحميهم إلى أنطاكية ، ولقيهم أهل أنطاكية بالبكاء والنحيب وكان في مقدمة الطرسوسيّين (١) رجل يقرأ : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ

__________________

(١) في الأصل : «الطرسوسين» ، وكذا التي بعد سطرين. فصوّبناها.

٥٥

بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) إلى قوله تعالى : (رَبُّنَا اللهُ) (١).

مخالفة أهل أنطاكية سيف الدولة :

وفيها أطاع أهل أنطاكية أحد مقدّمي الطرسوسيّين وخالفوا سيف الدولة. واسم المقدّم رشيق. فساروا إلى حلب وقاتلهم قرعويه غلام سيف الدولة وحاجبه وعامله بحلب ، وكان سيف الدولة بميّافارقين فأرسل سيف الدولة عسكرا مع خادمه بشارة وقاتلا رشيقا ، فقتل رشيق وهرب أصحابه إلى أنطاكية. ولما عاد سيف الدولة إلى حلب اجتمع على حربه ابن الأهوازي ، رجل كان يضمن الأرحاء (٢) بأنطاكية ، وهو الذي كان أمدّ رشيقا بماله وزين له العصيان على سيف الدولة. وكان مع ابن الأهوازي في هذه الوقعة دزبر الديلمى خليفة رشيق ، فقتل ابن الأهوازي ودزبر ، وقتل من ولاتهما خلق كثير.

وفيها خرج مروان عامل سيف الدولة على السواحل وهو رجل من القرامطة كان استأمن إلى سيف الدولة فأمّنه واستعمله على السواحل ، فلما تمكن قصد حمص وملكها وملك غيرها فسار إليه بدر ، غلام قرعويه ، وواقعه عدة وقعات. واتفق أن بدرا رمى مروان بنشّابة مسمومة وأن بدرا أسره أصحاب مروان ، فخلص مروان من النشابة وقتل بدر. وبعد أيام مات مروان.

سنة ٣٥٥ الفداء بين سيف الدولة وبين الروم :

فيها تم الفداء بين الروم وبين سيف الدولة ، فسار سيف الدولة بالبطارقة الذين هم في أسره إلى الفداء ففدى بهم أبا فراس وغلامه روطاس وجماعة من أكابر الحلبيين. ولما لم يبق معه من الأسرى أحد اشترى الباقين ، كل نفس باثنين وسبعين دينارا ، حتى نفذ (٣) ما معه من المال فاشترى الباقين ورهن عليهم بدنته الجوهر ، المعدومة النظير. ثم لما لم يبق أحد من أسرى المسلمين كاتب نقفور الملك الرومي على الصلح. وهذه من محاسن سيف الدولة.

__________________

(١) سورة الحج : ٣٩ ـ ٤٠.

(٢) جمع الرّحى ، وهي الطاحون.

(٣) كذا في طبعة المؤلف ، والصواب : «نفد» بالدال المهملة. وسيتكرر مثلها.

٥٦

سنة ٣٥٦ وفاة سيف الدولة وبقية حوادث دولته في حلب :

فيها مات سيف الدولة بحلب ونقل إلى ميّافارقين. وهو أول من ملك حلب من بني حمدان ، أخذها من ابن سعيد الكلابي نائب الإخشيد كما تقدم. وملك البلاد بعده ابنه أبو المعالي سعد الدولة شريف. وفي ربيع الآخر سنة ٣٥٧ قتل الحارث أبو فراس الحمداني ابن عم سيف الدولة ، كان مقيما بحمص فجرى بينه وبين أبي المعالي بن سيف الدولة وحشة وطلبه أبو المعالي فانحاز إلى «صدد» من قرى حمص فأرسل أبو المعالي عسكرا مع قرعويه إلى صدد وكبسوه وقتلوه.

وفي سنة ٣٥٨ دخل ملك الروم الشام بلا ممانع ، وسار إلى طرابلس وأحرق حمص وكان أهلها أخلوها. وأقام بالشام شهرين وأتى على الساحل نهبا وتخريبا وملك ثمانية عشر منبرا وعاد بالأسرى والأموال. وفيها استولى قرعويه على حلب وأخرج ابن أستاذه أبا المعالي فأقام عند والدته بميافارقين ثم بحماة. وفي سنة ٣٥٩ ملك الروم أنطاكية بالسيف وقتلوا أهلها وسبوا عشرين ألف صبي وصبية وقصدوا حلب فتحصن قرعويه بالقلعة وملكوا المدينة ، وكان أبو المعالي محاصرا حلب فتباعد عنهم. ثم حصروا القلعة فخرج إليهم جماعة من الحلبيين. وتوسطوا الصلح واستقر الأمر على هدنة مؤبدة على مال يحمله قرعويه إلى الروم وعلى ألّا يمكّن أهل القرى من الجلاء ليبتاع منهم الروم لوازمهم إذا مروا عليهم في الغزوات ، وكان مع حلب حماه وحمص وكفر طاب والمعرة وأفامية وشيزر وما بين ذلك من الحصون والقرايا. وسلّم الحلبيون الرهائن إلى الروم وعاد الروم عن حلب وتسلمها المسلمون.

وفيها صالح قرعويه ابن أستاذه أبا المعالي وخطب له. وكان أبو المعالي بحمص وخطب هو وقرعويه بحلب للمعز العلوي صاحب مصر. وفي سنة ٣٦٢ حدث في بلاد الشام زلزال هدم الحصون من أنطاكية وغيرها وهلك به خلق كثير. وفي سنة ٣٦٦ قوي أمر بكجور بحلب ، وكان استنابه مولاه قرعويه فاستفحل أمره وقبض على مولاه قرعويه وحبسه في القلعة. فكتب أهل حلب إلى أبي المعالي ، وكان مقيما في حماة. فسار إلى حلب وحصر قلعتها أربعة أشهر ثم ترددت الرسل بين أبي المعالي وبكجور ، واستقر الصلح بينهم على أن يكون بكجور أمينا ويوليه أبو المعالي حمص. فاستلم أبو المعالي القلعة وسيّر بكجور إلى حمص كما اتفقا.

٥٧

قلت : هذه الحادثة ذكرها في ذيل المختصر في حوادث سنة ٣٦٥ وفي سنة ٣٧٣ كتب بكجور إلى العزيز بمصر أن يوليه دمشق فأجابه. وتسلمها بكجور وانتقل إليها من حمص.

سنة ٣٧٨ عصيان بكجور وقتله ، ووفاة أبي المعالي :

في هذه السنة عصى بكجور بدمشق ، وأرسل العزيز عسكر العزلة ، فهرب منها ثم أمّنه العزيز. فسار بكجور إلى الرقة واستولى عليها. وفي سنة ٣٨١ سار بكجور من الرقة لقتال أبي المعالي بحلب. فاقتتلا قتالا شديدا وانكسر بكجور وهرب ، ثم أخذ أسيرا في بعض بيوت العرب وأحضروه إلى أبي المعالي فقتله. ثم سار أبو المعالي إلى الرقة وبها أولاد بكجور وأمواله ، فحصرها فاستأمنوا فأمنّهم وحلف ألّا يتعرض إليهم ولا إلى مالهم. فسلّموه الرقة فغدر بهم وأخذ أموالهم وعاد إلى حلب فلحقه فالج في جنبه الأيمن فأحضر الطبيب ومد إليه يده اليسرى ، فقال الطبيب : هات اليمنى ، فقال : ما تركت لي اليمين يمينا. ومات بعد ثلاثة أيام في هذه السنة ، وعهد إلى ولده أبي الفضائل وجعل مولاه لؤلؤا مدبّر أمره.

وفيها استضعف العزيز بالله ـ خليفة الفاطميين في مصر ـ أبا الفضائل وطمع في تملك حلب منه ، فجهز بقيادة منجوتكين جيشا جرارا ، فكتب أبو الفضائل إلى ملك الروم يستعينه على جيش العزيز فأقبل إليه أحد قواده في خمسين ألفا. ولما التقى الجيشان لم يثبت جيش الروم وشدد الجيش المصري الحصار على حلب حتى اضطر أبو الفضائل إلى طلب الصلح من منجوتكين فصالحه على مال دفعه. ولما وصل خبر الصلح إلى الخليفة لم يرضه ذلك وأمر منجوتكين أن يعود إلى حصار حلب فاضطر أبو الفضائل أن يعود إلى الاستنجاد بملك الروم فأقبل إليه بجيش عظيم أجفل منه جيش الخليفة إلى دمشق. ومرّ ملك الروم بحلب فتلقاه أبو الفضائل بالإكرام ثم سار ملك الروم إلى بلاد الشام فهدم وأحرق وسبى.

٣٩٩ وفاة لؤلؤ وخلفه ابنه :

فيها توفي لؤلؤ مدبّر أمر أبي الفضائل ، وخلفه مرتضى الدولة بن لؤلؤ ، وكان ظالما.

٥٨

سنة ٤٠٢ انقراض دولة بني حمدان من حلب :

في هذه السنة أغار صالح بن مرداس في ٥٠٠ فارس على حلب وطالب مرتضى الدولة بجوائز الكلابيين مستضعفين إياه بسبب تسلط حكومة مصر عليه. فاحتال مرتضى الدولة على الكلابيين وأدخلهم إلى حلب وأغلق عليهم أبوابها وقتل منهم نحو ٢٠٠ وأسر ١٢٠ بينهم صالح ، وتزوج «جابرة» امرأة صالح بإكراه أهلها على زواجها. وقيل : بل أكره صالح على طلاقها.

ثم إن صالحا نقب حائط السجن وألقى نفسه من سور القلعة وهرب واجتمعت عليه بنو كلاب ونزلوا على قرية تل حاصد فألف مرتضى الدولة جندا من أهالي حلب ، فيهم اليهود والنصارى وأخلاط من الناس ، ووقعت المصادمة عند تل حاصد فانكسر جيش مرتضى الدولة وأسر وقيده صالح بالقيد الذي كان في رجله ثم افتدى نفسه بمال وعاد إلى حلب.

سنة ٤٠٦ عصيان فتح على مولاه مرتضى الدولة :

فيها عصى فتح على مولاه مرتضى الدولة ، وكاتب الحاكم وأظهر طاعته وخطب باسمه ولقب بمبارك الدولة ، والتجأ مرتضى الدولة إلى الروم في أنطاكية.

٥٩

سنة ٤١٤ استيلاء المرداسيين على حلب

في هذه السنة ضعف أمر الدولة الفاطمية بمصر وطمع عرب البادية بالشام والجزيرة وتحالفوا على اقتسامهما فيما بينهم ، على أن تكون حلب ـ إلى عانة ـ لصالح ، والرملة إلى مصر لحسان بن مفرّج (١) الطائي ، ودمشق وأعمالها إلى سنان بن عليان. فزحف صالح إلى حلب وقاتل عليها ابن ثعبان أو شعبان الكتامي ، والي حلب من قبل المصريين ، فاستولى صالح على حلب.

حوادث الدولة المرداسية في حلب سنة ٤١٥ : دفن قاضي حلب حيّا :

في هذه السنة قبض صالح على قاضي حلب ابن أبي أسامة ، ودفنه حيا في القلعة.

فقال بعضهم في ذلك :

وأد القضاة أشدّ من

وأد البنات عمى وعيّا

أدفنت قاضي المسلمين م

بقلعة الشهباء حيّا؟

سنة ٤١٦ إسناد صالح الوزارة إلى تاذرس النصراني :

فيها استوزر صالح بن مرداس تاذرس النصراني وكان عنده صاحب السيف والقلم.

سنة ٤١٨ خروج صالح إلى المعرة واجتماعه بأبي العلاء :

وفي هذه السنة خرج صالح إلى المعرة للإيقاع بأهلها لأنهم خربوا الماخور. فحضر إليهم صالح واعتقلهم وصادرهم واستدعى أبا العلاء إلى ظاهر المعرة. ومما خاطب به أبو العلاء صالحا قوله : مولانا السيد الأجل أسد الدولة ومقدّمها وناصحها ، كالنهار الماتع

__________________

(١) في الأصل «مفرح» بالحاء ، خطأ. وترجمة حسّان بن مفرج في الأعلام ٢ / ١٩٠.

٦٠