نهر الذّهب في تاريخ حلب - ج ٣

كامل البالي الحلبي [ الغزي ]

نهر الذّهب في تاريخ حلب - ج ٣

المؤلف:

كامل البالي الحلبي [ الغزي ]


المحقق: الدكتور شوقي شعث ومحمود فاخوري
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
المطبعة: مطبعة الصباح
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٤٠

يحتاجون إليه من البضائع ، إذ كثيرا ما كان يوجد في حلب مثلا بضاعة تزيد عن حاجة أهلها فيسرفون في إتلافها لأنها تباع عندهم بأبخس ثمن ، وتكون في عينتاب مفقودة أو قليلة جدا والحاجة إليها شديدة ولا يمكن للفقير هناك أن ينالها لأنها تباع بأغلى الأثمان. ومن جهة أخرى كانت هذه القاعدة مدعاة لخيانة كثيرين من وجهاء المستخدمين من ملكيين وعسكريين ، ومعينة لهم على الاستئثار بأرباح البضائع الوطنية الممنوع شحنها وحرمان التجار الأهليين منها ، وذلك بأن يتفق سرا ضابط مع ملتزم سمن مثلا ، يقدّمه من حلب إلى استانبول على شرط أن يساعده الضابط بالشحن ويشاطره بالربح ، فيرسل الملتزم أضعاف ما هو مفروض عليه إرساله من السمن ، ويكون له في استانبول وكيل يتسلم السمن من إدارة السكة ويقدّم منه القدر المفروض إلى الجهة العسكرية أو إدارة الإعاشة ، ويبيع الباقي منه إلى التجار بأسعار باهظة فيربح منه أرباحا طائلة يقتسمها مع الضابط الذي اتفق معه سرا.

هذه المسألة من جملة المسائل التي أغاظت أهل هذه البلاد ونفرت قلوبهم من الحكومة ؛ لأن غيرهم كان يستأثر بأرباح بضائع بلادهم وهم محرومون منها.

ومن هذا القبيل ما كان يجريه زعماء الاتحاديين في البضائع التي يحضرونها من أوربا أو المملكة العثمانية باسم إدارة الإعاشة ، أو باسم فقراء الأهالي ليبيعوها لهم برأس مالها تخفيفا لآلامهم ، فكانوا بعد أن تصل إليهم يضعون أيديهم عليها ويبيعونها إلى التجّار بأغلى الأثمان.

خلاصة في بيان ماجريات الحرب العالمية :

ذكرنا في هذا الجزء تحت عنوان «أول تحرش بألمانيا» أن ألمانيا أمرت أسطولها الطيار بأن يجتاز حدود بلجيكا إلى الأراضي الفرنسية بمقابلة اجتياز طيارات فرنسة منها إلى حدود الألمان. ونقول هنا : إن جيوش الألمان زحفت بعد ذلك على حدود روسية واستولت منها على بولونيا وأسرت من جيوشها مئات الألوف ، وذلك كله في مدة لا تزيد على ثمانية أشهر.

٥٤١

مهاجمة الألمان بلجيكا وفرنسة :

وفي ذلك الأثناء أيضا هاجمت الجيوش الألمانية بلاد البلجيك واستولت على قسم كبير منها ، ووقفت إزاء جيوش فرنسة وإنكلترة وبلجيكا واستولت على قسم عظيم من بلاد فرنسة ، حتى كادت تقترب من باريس.

طرد الروس عن غاليسا والاستيلاء على وارسوا :

وساقت ألمانيا أيضا جيشا عظيما تحت قيادة ما كينزن القائد الشهير إلى بلاد النمسا لمعاونة جيوشها ـ في جهة غاليسا الغربية والشرقية من المملكة النمسوية ـ على طرد جيوش الروس عنها ؛ لأنهم كانوا استولوا عليها وعلى قسم كبير من جبال الكاربات في أثناء اشتغال جيوش ألمانيا بطردهم عن بلادها. فما مضى سوى ثلاثة أشهر إلا وطردوا الروس عن جبال الكاربات وعن غاليسا من جهتيها واحتلوا مدينة (وارسوا) قاعدة بولونيا واستولوا على غيرها من البلاد الروسية التي يقدر عدد أهلها بثمانية ملايين.

هجوم النمسا وحلفائها على صربيا والجبل الأسود :

ولما أمنت ألمانيا غائلة الروس على حدودها وحدود حليفتها النمسا أمدّت هي وتركيا والنمسا جيوش البلغار وهجموا بفيالقهم الجرّارة على جيوش حكومتي صربيا والجبل الأسود ، فاكتسحوا هاتين المملكتين عن آخرهما بمدة لا تزيد على شهرين. ثم إن هاتين الحكومتين جمعتا شمل جيوشهما وأمدتهما فرنسة وإنكلترة بجنودهما التي كانت انصرفت عن حصار «جناق قلعة» وكانت حكومة اليونان قد استمالتها دول الاتفاق فتركت حيادها وأعلنت الحرب على ألمانيا وحلفائها ، فأمدت أيضا جيوش حكومتي الصرب والجبل الأسود ووقفت تلك الجيوش في حدود بلاد اليونان مما يلي مدينة «مناستر» لدفاع جيوش دول الاتفاق عن اليونان واسترجاع بلاد صربيا والجبل الأسود.

إعلان إيطاليا الحرب على النمسا :

بعد مرور سنة تقريبا من حدوث الحرب العامة أعلنت دولة إيطاليا الحرب على النمسا وهجمت جنودها على البلاد النمسوية من حدود التيرول بغية الوصول إلى مدينة تريستة ،

٥٤٢

فلم تفلح إيطاليا بهذا الهجوم بل فقدت جانبا عظيما من عساكرها ومهماتها الحربية ، وخسرت قسما كبيرا من مقاطعة البندقية لوقوعها تحت استيلاء النمسا والألمان.

إعلان رومانيا الحرب على ألمانيا وحلفائها :

بعد سنتين تقريبا من نشوب الحرب العامة تمكنت دول الاتفاق من جذب دولة رومانيا إلى جانبهم ، فأعلنت الحرب على ألمانيا وحلفائها. وفي برهة ثلاثة أشهر اكتسحت جيوش ألمانيا والنمسا وتركيا وبلغاريا ثلثي مملكتها ، واستولوا على عاصمتها بكرش ثم على مدينة إبرائيل رغما عن مساعدة روسيا لها ، وأصبحت حكومة رومانيا بعد هذا الفشل المدهش محصورة هي وجيوشها في جانب من مقاطعة إبرائيل.

إعلان إمريكا الحرب على ألمانيا :

كان موقف دول الاتفاق يزداد حراجة يوما فيوما. وكما كان النصر حليف الألمان في سائر جبهات الحرب البرية ؛ كذلك كان حليفهم ورفيقهم في البحر أيضا ، لأن سفن دول الاتفاق كانت عرضة لفتك غوّاصات الألمان حتى إنه قدر في آخر أيام الحرب محمول ما غرق منها بواسطة هذه الغواصات بتسعة ملايين طن. وفي أثناء هذه الحرب تصادف في «طوتركان» قسم من أسطول ألمانيا مع قسم من أسطول إنكلترة ، واشتعلت بين الأسطولين نار الحرب فغرق من سفن إنكلترة ما يبلغ محموله مائتين وخمسين ألف طن ، ومن سفن ألمانيا ما يبلغ محموله مائة وعشرين ألف طن ، فكان الفوز في هذه الواقعة البحرية في جانب الألمان أيضا.

ولما وصلت ألمانيا إلى هذا الحد من الغلبة على أخصامها ولم تزعزع قواتها جميع هذه الأمم التي تألبت عليها وتضافرت على قهرها ، خاف سطوتها وشدة بأسها عامة الدول ، وأصبحت كل دولة منهن توجس الخيفة على نفسها من غائلة هذه الدولة. وإذ ذاك هتف هاتف الإنسانية في روع جماهير إمريكا بأن تعير التفاتها إلى وقف تيار هذه الحرب الطاحنة وإطفاء نيرانها المتأججة ، وتخليص عالم البشرية من شرّها وشؤمها وإعادة السلم والسلام إلى ربوعهما. فاقترح رئيس جمهورية إمريكا الموسيو ويلسن على الدولة المتحاربة وقف حركة رحى الحرب الدائرة بينهم ، والركون إلى الهدنة مدة معلومة ، تحت شروط أعلنها

٥٤٣

وصرح بها للفريقين المتحاربين. فرفضت دولة ألمانيا قبول هذا الاقتراح لأن كثيرا من الشروط المقررة فيه مما يجحف بحقوقها ويوجب تمزيق جامعتها. وكان الرئيس ويلسون مستاء من ألمانيا لما بلغه عنها أنها تنزع إلى حرب إمريكا كما أسلفنا بيانه في الفصل الذي عقدناه تحت عنوان «سبب دخول دولة إمريكا إلى هذه الحرب» من هذا الجزء.

وحينئذ أعلن الرئيس ويلسون الحرب على ألمانيا فجند مئات الألوف من الجنود الأميركية ، وساقهم إلى الجبهة الغربية في البلاد الفرنسية فانضموا إلى جيوش دول الاتفاق الواقفين في صفوف الحرب تجاه صفوف الألمان ، وكانت الحرب بين الفريقين مدة شهرين سجالا ، وكانت جيوش ألمانيا من جهة ثانية تحارب أعداءها الآخرين الروس المعدودة جيوشها بالملايين المنبثّين في الجهة الشرقية كالجراد المنتشر كثرة وتهافتا على الموت. والقائد الألماني هندنبورغ داهية الحرب ينفث في تلك الجيوش كل يوم من سموم خدعه الحربية ما يهلك منهم مئات الألوف قتلا وأسرا وإحراقا وغرقا حتى كاد الفناء يعمّهم.

الهرج والمرج في روسيا :

ولما وصلت الحالة في روسيا إلى هذا الحد قامت أحزاب الاشتراكيين الروسيين على ملكهم الإمبراطور نيقولا فقبضوا عليه وأزالوه عن عرشه ، وقتلوه مع أسرته رميا بالرصاص كما يرمي القانص فريسته ، ثم أحرقوهم وذرّوا رمادهم في الهواء زاعمين أنه هو الذي جرّ على روسيا هذه الحرب الطاحنة فأباد خضراءها وأضاع شرفها وحطّها من حالق مجدها ، وأنزلها من شامخ عزّها ، وجعلها عرضة للفاتحين بعد أن كان يقال في حقها : ما أفلح فاتح في روسيا قط. وإن روسيا هي إحدى الدولتين التي ستملك الأرض بأسرها. ولما قامت الأحزاب المذكورة على الوجه الذي بينّاه وقع الهرج والمرج في الممالك الروسية وتضعضعت جيوشها ، واختلفت كلمة شعوبها المركّبة من عناصر مختلفة وأمم في طباعها متنافرة غير مؤتلفة ، فانقسموا على بعضهم وافترقوا إلى خمس عشرة حكومة ، كل منها ينادي بانفصاله عن روسيا واستقلاله بنفسه ، وضربوا الصفح عن محاربة الألمان لأنهم لم يبق لهم على حربهم حول ولا قوة ، وتصامّوا عن تحريض دول الاتفاق إياهم على الثبات أمام عدوهم والدفاع عن بلادهم.

ثم تمكنت فرقة منهم من العود إلى كفاح الألمان ومناضلتهم غير أن هذه الفرقة لم تلبث

٥٤٤

غير قليل حتى نالها من الوهن والانكسار ما ألزمها الرجوع القهقرى والانسحاب إلى الوراء تاركة من أسراها في أيدي الألمان مئات الألوف ، ومن قتلاها بسيوف سطوتهم عشرات الصفوف ، ومن الأسلحة والمهمات والذخائر ما يتجاوز عدّه الحدّ الموصوف. واستولى الألمان في هذه الواقعة على بلدان كثيرة من المملكة الروسية التي من جملتها مدينة «ريفا» وإذ ذاك طلبت روسيا من ألمانيا المتاركة والشروع في مذاكرات الصلح ، فأجابتها ألمانيا إلى ما طلبت وشرعت الحكومتان تتذاكران بالصلح ، وكانت قطعة «أوكرانيا» قد تصالحت مع الألمان بعد أن انفصلت عن روسيا واستقلت بنفسها ، وعدد سكانها نحو من أربعين مليونا ، فلم ترض حكومة روسيا المركزية بهذا الصلح واستأنفت الحرب مع الألمان مدة عشرين يوما استولت في خلالها الجيوش الألمانية على كثير من بلاد الروس حتى كادت عاصمتهم «بطرس برج» تقع في قبضة استيلائهم ، وقد تمزقت جيوش روسيا شذر مذر ، وانبثّت جنود الألمان في أنحاء مملكتها وأرجائها وجميع بلدانها الكائنة على ضفاف البحر الأسود ، وأخذت ألمانيا مقاطعة أو كرانيا المستقلة تحت حمايتها.

وحينئذ أقرّت روسيا بعجزها عن مقاومة الألمانيين واضطرت أن تعقد معهم صلحا غير شريف بحقها ، لأنها رضيت بأن تترك لألمانيا والنمسا مقاطعة بولونيا التي عدد سكانها ١٨ مليونا ، ومدينة ريفا وما جاورها من البلدان التي تضم إليها ثمانية ملايين ، ومقاطعة بسارابيا والقريم ، البالغ مجموع سكانهما سبعة ملايين ، وأن ينسحب الروس عن أراضي تركيا التي احتلوها في هذه الحرب ويتنازلوا لها عن الباطوم والقرص وأردهان ، وتستقل إيالة أذربايجان في القفقاس البالغ عدد سكانها نحوا من أربعة ملايين ، وتستقل أيضا قفقاسيا الشمالية البالغ عدد نفوسها سبعة ملايين ، وتستقل أمّة الكرج على ضفاف البحر الأسود ويبلغ عددهم أربعة ملايين ، وأمة الأرمن في «أريوان» (١) وهم مليون ، وأن تترك روسيا أسطولها في البحر الأسود تحت سيطرة الألمان إلى نتيجة الحرب.

تفاقم الحرب في الجبهة الغربية :

ثم إن الحرب بين ألمانيا وأخصامها في الجبهة الغربية الفرنسية قد تفاقم أمرها واشتد خطبها ؛ لأن ألمانياقد أضافت إلى صفوفها الواقعة تجاه أخصامها في الجبهة الغربية قوة جديدة

__________________

(١) يقال لها اليوم : يريفان.

٥٤٥

سحبتها من صفوفها التي كانت واقفة أمام الروس في الجبهة الشرقية. كما أن أخصامها ـ كل من إنكلترة وفرانسة وإمريكا والبلجيك والبرتكيز وغيرهم من الدول ـ قد أجمعوا أمرهم ونظموا شؤونهم وصمموا على أن يجعلوا هذا الهجوم هو آخر مسرح من مسارح هذه الحرب التي هي حرب حياة أو ممات. فاشتد الخطب على الفريقين وكانت جيوش ألمانيا تدافع مرة وتهاجم أخرى ، وكان تقدمهم في أول الأمر أكثر من تأخرهم ثم في أخريات الحرب انعكس معهم الحال وصار تأخرهم أكثر من تقدمهم.

وبينما هم على هذه الحالة إذ فاجأتهم الأخبار بانكسار بلغاريا أمام الجيوش التي أشرنا إليها قريبا في فصل هجوم النمسا وحلفائها على صربيا والجبل الأسود ، وأن بلغاريا قد انسحبت عن جميع أراضي صربيا والجبل الأسود واستولى أعداؤها على كثير من بلادها ، وأنها قد استسلمت إليهم وأذعنت لجميع مطاليبهم ، وأنهم قد اشترطوا عليها أن تكون جيوشها تحت إمرتهم ، وأن حكومة النمسا قامت عليها شعوبها ينادون بالصلح ووقف الحرب لأن الجوع كاد يهلكهم ، وأن الطريق بين استانبول وبرلين قد انقطعت ولم يبق في الإمكان وصول مدد إلى تركيا من حليفتيها ألمانيا والنمسا ، وأن أمنهما من البلغار انقلب إلى الخوف ، لأن دول الاتفاق يجعلون بلغاريا على قصد استانبول من جهة الروملّلي ، وأن تركيا قد يئست من النجاح في جهة الحجاز وفلسطين والشام والعراق ، لضياع هذه البلاد من يدها وتوالي الانكسار على جنودها ، وتعويلهم على الانهزام أو الالتجاء إلى الجيوش الإنكليزية العربية. وكان سلطان الجوع قد استولى على شعوب ألمانيا فأباد من أطفالهم وفقرائهم الملايين واضطرهم إلى القيام على ملكهم ومناداتهم بإبطال الحرب وإعادة السلم.

توالت على ألمانيا هذه النوائب من جهة وتألب عليها أعداؤها من جهة أخرى فلم يبق لها سوى الإذعان والرضاء بما اقترحه ويلسن رئيس جمهورية إمريكا على المتحاربين وهو تقرير الهدنة بينهم على شرط انسحاب جيوش ألمانيا عما احتلته من أراضي فرانسة وبلجيكا ، وتسليمها قسما كبيرا من أسطولها البحري والهوائي إلى أعدائها ، وغير ذلك من الشروط التي لم يقصد منها سوى توطيد الأمن من غائلة الألمان وقوة بطشهم ، على أن يكون تقرير الصلح فيما بين المتحاربين ـ بعد انقضاء مدة الهدنة ـ مبنيا على عدة شروط : منها حرية البحار ، وحرية جميع ما فيها من المضايق التي منها مضايق جناق قلعة ، وأن تكون

٥٤٦

الأمم الضعيفة في مستعمرات الدول هي الحاكمة على مقدراتها. إلى غير ذلك من الشروط. فرضيت ألمانيا بهذه الشروط وأخلت قسما كبيرا من أراضي أعدائها فرانسة وبلجيكا ، ووقفت الحرب وبوشر بمذاكرات الصلح وجميع العالم ينظر إلى ما تأتي به الأيام والليالي.

٥٤٧

رجعا إلى تتمة حوادث

سنة ١٣٣٧ في حلب

تجديد جسر الحاج :

وفي يوم السبت ١٩ صفر من هذه السنة باشرت الحكومة الجديدة تجديد جسر الحاج في ظاهر حارة الكلاسة بحلب. وهو أول بناء شرعت به الحكومة الجديدة وكانت عساكر الألمان خربته حين انسحابها من حلب.

تمثيل رواية باللغة الأرمنية :

وفي الليلة الثامنة والعشرين من هذا الشهر مثل على أحد المسارح رواية مبتكرة باللغة الأرمنية ، موضوعها تمثيل ما قاسته الأمة الأرمنية والأمة العربية من زعماء الاتحاديين الأتراك من الظلم والتعدي ، وأن هاتين الأمتين مشتركتان في مصابهما وتوجعهما على بعضهما ، وأن كل أمة منهما كانت تعطف على من كان يوجد في بلادها من الأمة الأخرى من المبعدين والمنفيين ، وأن كلا منهما قد اغتبط بدولة العرب ونال بواسطتها الفرج بعد الشدة.

احتلال أنطاكية :

وفي هذا اليوم ـ أو الذي قبله ـ احتل الجيش العربي مدينة أنطاكية واستتب فيها الأمن وساد السكون. وكان أهلها قبل ذلك في قلق واضطراب لا مزيد عليهما.

صدور جريدة «حلب» :

وفي شهر ربيع الأول من هذه السنة أمر شكري باشا الأيوبي ـ الحاكم العسكري بولاية حلب ـ بإصدار جريدة رسمية في حلب عنوانها «حلب» فصدر أول عدد منها يوم الاثنين ٦ ربيع الأول ، وهي عربية العبارة ذات صحيفتين ، ولم تزل تصدر حتى الآن.

٥٤٨

قدوم الشريف ناصر إلى حلب :

وفي هذا الشهر قدم إلى حلب الشريف ناصر القائد العام للجيوش الشمالية وبعد يوم من قدومه سافر ومعه الشريف مطر إلى الباب لتهدئة الأمور وإزاحة القلق والاضطراب اللذين حدثا هناك إثر انحلال حكومة الأتراك. فأتم مهمته وعاد ثاني يوم إلى حلب.

الأتراك المرخص لهم بالبقاء في حلب :

وفيه رخص الحاكم العسكري بحلب بقاء الأتراك المولودين في حلب والمتزوجين بنساء عربيات ومن كان تاجرا أو صاحب ملك في حلب ، وأن من لا علاقة له في حلب يجب عليه أن يسافر منها والحكومة تساعده على سفره.

قدوم الجنرال اللنبي إلى حلب :

غروب يوم الثلاثاء ٧ ربيع الأول من هذه السنة (١٣٣٧) وصل إلى حلب الجنرال إدمون اللنبي ، القائد العام للجيوش الإنكليزية العربية الفرنسية في فلسطين وسوريا ، فاستقبله في محطة الشام الشريف ناصر وكيل القائد العام للجيوش الشمالية ، وشكري باشا الأيوبي الحاكم العسكري وغيرهما من أمراء العسكرية. وفي ضحوة يوم الأربعاء أقبل الجنرال اللنبي إلى دار الحكومة سائرا بين صفوف العساكر الإنكليزية ـ الهنود وغيرهم ـ المصطفة على جانبي الطريق الممنوع سلوكه عن الناس ، المفروش بالرمل من أوله إلى آخره ، أي من منزل الجنرال في محلة العزيزية إلى دار الحكومة. وقد نصب له في محلة العزيزية (قوس النصر) ، فلما وصل إليه وقف تحته وتقدم نحوه رئيس بلدية حلب وقدم له مفاتيح مدينة حلب وقرصا من الخبز ومقدارا من الملح. فتناول من القرص لقمة وذاق الملح ثم لمس المفاتيح ورفع يده بالسلام.

وسار نحو دار الحكومة وقد وقف له بساحتها الجنود العربية وضباطها وتلامذة المكاتب والمدارس ورجال الشرطة والدرك وجوق الموسيقى العربية. ولما وصل إلى دار الحكومة ، واستقر في مجلسه المعدّ له ، أقبل عليه علماء البلدة والرؤساء الروحيون والأعيان والوجهاء والموظفون ، فأدّوه حق السلام وهو يشكرهم ويظهر الاغتباط بمعرفته إياهم ، ويتمنى لهم الرفاهية والسعادة ثم نهض من مجلسه ووقف على رأس درج السراي وفاه بخطاب باللغة

٥٤٩

الإنكليزية ، يتلوه عبارات متقطعة ، ويسكت تلو كل عبارة برهة يتلو معناها باللغة العربية ترجمانه الخاص الأستاذ أمين بك غريب. وإليك مؤدى خطبته :

«يا رجال حلب! إني أزور مدينتكم القديمة التاريخية بصفتي قائدا عاما للجيوش المتحالفة التي تؤلف الحملة المصرية ، وصاحب السلطة الإدارية المطلقة على الأراضي التي هي تحت إمرتي.

وإنني بسرور عظيم أقبل أدلة الترحاب الرمزية المقدمة لي من رئيس البلدية ، كما أن تأثيري (١) كان عميقا من الحماسة والإخلاص اللذين استقبلني بهما رؤساؤكم الأفاضل الوطنيون ، من دينيين وأهليين وإداريين.

ولا يقل ذلك عن إعجابي بالغيرة وإخلاص النية اللّتين يظهرهما رؤساء الإدارة والبلدية في محاولتهم حل المسائل المعقدة والعسيرة التي واجهتهم.

وإنني أنتدب كل فرد منكم ـ وجميعكم على السواء ـ لبذل كل ما فيكم من نشاط وقوة حتى تشيدوا من جديد ذلك العمران والتمدن الذي ساد على هذه النواحي في زمان أجدادكم واضمحل بأيدي المستبدين الغرباء عنكم.

وأنا ما دمت مسئولا عن الإدارة ، أتوقع منكم تنفيذ الأوامر التي تقضي عليّ الظروف بإصدارها بنفس الرضى والانقياد الذي أظهرتموه في السابق ، حتى إذا قررت الدولة ـ التي أنا باسمها أحكم ـ تشكّل بناء العالم الجديد الذي سيعيش البشر فيه ، ليكون كل وطني حلبي متهيئا لتمثيل دوره في عمل الإعمار العظيم القائم أمامكم.

يا رجال حلب! أتمنى لكم عموما النجاح والسعادة». اه.

ثم نزل الجنرال من الدرج ، يشيّعه الشريف الناصر وشكري باشا. وبعد أن طاف على الجنود العربية ركب سيارته. ودعيت لمرافقته وقدمت لي سيارة ركبتها مع حضرة المستشرق البريطاني الكولونل السير مارك سايكس ، وحضرة الأديب أمين بك غريب الترجمان العربي الخاص بالجنرال اللنبي. وقال لي أمين بك إن حضرة الجنرال يريد زيارة ما في حلب من الأماكن القديمة التاريخية ، فسر بنا إليها حسبما تريد.

__________________

(١) كذا ، وهو يريد «تأثري».

٥٥٠

فأخذته إلى قلعة حلب ثم إلى الجامع الكبير. ولما أراد الدخول إلى قبليّة الجامع أبى أن يدخل إليها بجرموقه (١) مع أنه نظيف ممسوح ، فقدّم له حذاء كبير ضم فيه قدميه ودخل القبليّة. ولما رأى المقام الشريف سألني بواسطة الترجمان بقوله : مقام من هذا؟فقلت له : هذا مقام يحيى بن زكريا. فقال : من هو يحيى؟ فقلت له : هو يوحنا المعمدان ابن خالة السيد المسيح. فطأطأ رأسه وأبدى ابتسامة استحسان. ثم أخذته إلى المدرسة الحلوية ، فدخل القبليّة وسألني عن تاريخ بنائها وعن بانيها ، فأجبته عن ذلك. ثم أريته المحراب الخشبي الذي في إيوانها فأعجبه حسنه جدا ، إلا أنه اعترض على متولّي المدرسة لأنه لمعه بدهان السّندروس (٢) ، وأمره بأن يمسح الدهان عنه ويبقيه على حالته القديمة الأثرية.

ثم أخذته إلى دار الجانبلاط ، فسرّ بمشاهدة إيوانها سرورا زائدا ، وأريته قطعة حجر من سلسبيل ، مدفون بعضها في الأرض ، فيها من بدائع الصنعة ما يشهد للماضين بإتقان النقوش ومهارة الهندسة المعمارية ، فانحنى لاستخراج تلك الحجرة من الأرض فساعده بعض الحاضرين فاستخرجت وأخبرته أن بعض الأثريين الغربيين طلب شراء هذه الحجرة من أهل الدار ودفع لهم ثمنها مئة ذهب عثماني فلم يبيعوها. فقال الجنرال اللنبي لمن كان حاضرا من أهل الدار : إياكم وأن تبيعوها لأحد ، وإذا بلغني أنكم بعتموها لأحد فإني أغرمكم مبلغا كبيرا.

ثم خرجنا من الدار وركبنا سيارتنا ، فقال الترجمان : يقول حضرة الجنرال : يريد أن تسير بنا من طريق السوق لأنه يحب أن يرى أسواق الشرق المسقوفة. فسرت بهم من السّويقة وسوق الصابون وسوق الفرّايين (٣) إلى أن خرجنا إلى فضاء تحت القلعة ، وهناك أردت النزول من السيارة والتوجه إلى منزلي لأن مهمتي قد انتهت ، فقال لي أمين بك :لا يجوز لك مفارقته إلا بعد الوصول معه إلى منزله. فبقيت سائرا معه حتى وصلنا إلى

__________________

(١) الجرموق في اللغة : ما يلبس فوق الحذاء وقاية له. والظاهر أن المؤلف يريد به الحذاء نفسه.

(٢) نوع من الصمغ ، وله استعمالات شتى. وسبق ذكره في الكلام على «حريق أسواق حلب» سنة ١٢٨٤ ه‍ / ١٢٨٧ رومية.

(٣) في الأصل «الفراين» فصوبناها بياءين كما جاءت في كتاب سوفاجيه من حلب ص ١٥٥ وموسوعة الأسدي ٣ / ٣٠١.

٥٥١

منزله في محلة العزيزية ، وحينئذ نزلت من السيارة وودعته وأمر سائق السيارة أن يوصلني إلى منزلي ، وأظهر لي سروره وشكرني على الاعتناء بشأنه.

ثم في مساء ذلك اليوم تناول طعام العشاء في دار الإمارة ، وفي أثناء الطعام تبودلت الخطب الودية. وما زال في دار الإمارة إلى أن أزف وقت الرحيل فسار مع الحضور إلى محطة بغداد حيث شيع ـ كما استقبل ـ بالتكريم والاحترام.

قدوم حاكم سوريا العسكري إلى حلب :

مساء يوم الخميس ١٥ ربيع الأول من هذه السنة (١٣٣٧) قدم إلى حلب رضا باشا الركابي ، الحاكم العام في سوريا ، وذلك للإشراف على سير الأعمال وإتمام تأسيس إدارتي المالية والقضائية وإصلاح ما يلزم إصلاحه من الشؤون.

قدوم رضا باشا الصلح :

يوم الأحد ١٨ منه قدم إلى حلب رضا باشا الصلح واليا على حلب ، وقد بقي شكري باشا الأيوبي حاكما عسكريا. وفي يوم الاثنين ٢٠ منه أقام نادي العرب ضيافة (جاي) لرضا باشا والي حلب ، حضرها أمراء العسكرية وموظفو الحكومة ووجهاء البلدة. وقد ألقيت فيها الخطب الحماسية وأنشدت القصائد الوطنية ، وكانت حفلة باهرة.

مأدبة :

وفي ٢٧ منه أدب رضا باشا الركابي في نزل البارون مأدبة حافلة ، حضرها قادة الحلفاء وكبار رجالهم ، والجنرال الإنكليزي مارك أندرو ، والمستشرق البريطاني السير مارك سايكس ، والمستشار الفرنسي الموسيو جورج بيلو ، وغيرهم من كبار موظفي الإنكليز والعرب. وفي أثناء الكلام تبودلت الخطب باللغتين العربية والإنكليزية ، وأثنى الجنرال مارك أندرو على شهامة العرب وقال : إنهم هم الذين فتحوا حلب لأنهم دخلوا إليها قبلهم بيوم.

رجوع الجنرال اللنبي إلى حلب :

يوم الأحد ٣ ربيع الثاني عاد إلى حلب الجنرال اللنبي ، ثم شخص إلى آذنة وعاد إلى حلب.

٥٥٢

سفر رضا باشا الركابي :

وفي يوم الثلاثاء ٥ منه سافر رضا باشا الركابي إلى دمشق ، فودّع بكمال الاحترام.

استيلاء العرب على المدينة المنورة :

في يوم الخميس ١٤ ربيع الثاني تواردت الأخبار من المدينة المنورة بأن عرب ملك الحجاز استولوا عليها من الأتراك يوم الأربعاء ١٣ منه.

حادثة الأرمن المعروفة باسم (فتنة ٢٨ شباط سنة ١٩١٩)

أسباب هذه الحادثة :

لا ننكر أن في أمة الأرمن رجالا ونساء متحلّين بحلية العقل ، والنظر البعيد إلى العواقب ، وحسن المعاملة والأمانة والاستقامة والاعتراف بالجميل والمكافأة عليه ، غير أننا مع هذا لا نحجم عن القول بأنه يوجد في دهماء هذه الأمة زمرة طائشة قد خيم الجهل على عقولهم ، فانحرفوا عن الجادة المثلى ولم ينظروا إلى ما يعقب انحرافهم من الضرر وسوء المغبة بأمتهم التي فيها من الرجال من يستحق كل مدح وثناء.

وصفوة القول أن الأمة الأرمنية قد غلب خيارها على أمرهم فجرّ جهّالها عليهم البلاء دون أن يستحقوه. ومن هذا القبيل ما جنوه عليهم من البلاء في هذه الحادثة التي لم يكن لها من سبب سوى أمور نقمها الحلبيون على الأرمن ، صدرت من تلك الطائفة الطائشة فأثارت في الحلبيين موجدتهم عليهم ، وعكست فيهم اعتقادهم وملأت صدورهم غيظا منهم ، وأغلت في أفئدتهم مراجل الحقد والضغينة عليهم ، وكان من أمرهم في ذلك اليوم ما كان.

وإليك نبذة في ذكر بعض ما فعلته هذه الفئة الطائشة من الأمور التي أساءت بالأرمن اعتقاد الحلبيين واضطرتهم إلى الجرأة عليهم. وبيان ذلك أن الأمة العربية عامة ـ والحلبيين خاصة ـ كانوا ينظرون إلى أمة الأرمن بعين الشفقة والحنوّ ، وينكرون على زعماء الأكراد ما كانوا يعاملون به الأرمن من التعدي ؛ بل كانوا ينكرون على السلطان عبد الحميد ما نكب به الأرمن من المذابح ولا يرون له مبررا في الضغط عليهم. ولهذا

٥٥٣

لم ينقل عن أحد من الأمة العربية أنه غمس يده في دم أرمني في تلك المذابح الفظيعة ، وقوفا عند حدود الشريعة المحمدية التي تتكفل للذميّ بصون ماله وعرضه ودمه. ولعل الأمة العربية لو كانت مشتركة مع الشعب التركي في تلك المذابح لما عدمت من السلطان عبد الحميد حسن المكافأة.

ثم في سنة ١٣٣٣ كان جلاء الأرمن عن أوطانهم ، كما أشرنا إلى ذلك في حوادث السنة المذكورة من هذا الجزء. وبعد أن وصلت تلك الجاليات إلى حلب على آخر رمق من حياتها ؛ كان العرب عامة ـ والحلبيون خاصة ـ يعطفون على ضعفائهم ويمدّون إليهم يد الإحسان والمواساة ، عكس ما كان يضمره لهم جمال باشا من الأذى والويلات ، ورغما عما كان يقاسيه الحلبيون في تلك الأيام العصيبة من جهد البلاء والضغط العسكري. وكان عقلاء الأرمن وأدباؤهم يعترفون للعرب بتلك الأيادي ويشكرونهم عليها ، حتى إن شبيبة الأرمن مثّلت الرواية التي سبق ذكرها في حوادث هذه السنة.

وبينما كانت الأمة العربية تؤمل من الأمة الأرمنية حسن المكافأة على ما أسدتها (١) إليها من البر والإحسان ؛ إذ انعكست الآية بعد وقوع الهدنة وصارت الأخبار المكدّرة تطرق كل يوم مسامع الحلبيين عما يجريه جهال الأرمن مع أبناء العرب من الأمور التي تبعث على إيجاد الضغينة وإسعار نار الحقد في صدورهم على أمة الأرمن. وإليك بيان بعض تلك الأمور وهي :

(١) تعرّض زمرة من الأرمن ـ المستخدمين في محطة أذنة من قبل الفرنسيين ـ إلى التجار العرب المسافرين على القطار إلى استانبول والقافلين منها إلى أوطانهم ، فكانت تلك الزمرة تعامل التاجر العربي بكل غلظة وخشونة ، وربما أزعجته بالسبّ والضرب ، وإذا كان قدوم القطار في الليل فربما كانت تفتش ثيابه وتسلب نقوده.

أما الجنود العربية التي كانت تمرّ من أذنة قافلة إلى أوطانها فقد كانوا يقاسون من هؤلاء المستخدمين كل إهانة ويرون منهم كل قساوة ، يعاملونهم بالشتم والضرب ، وكثير منهم من كان يناله من أيديهم جراحة في وجهه وتهشم في أعضائه. فيأتون إلى حلب على أسوأ حالة.

__________________

(١) الصواب : «ما أسدته».

٥٥٤

(٢) كان الحلبيون يسمعون بما كان يجريه متطوعة الأرمن في الجيش الفرنسي في بيروت من الخيلاء والعجرفة ، وأنهم أطلقوا بنادقهم على بعض الوطنيين فقتلوهم ، وأنهم تمردوا على الجيش الفرنسي في إسكندرونة حتى اضطرت القيادة إلى أن تنقلهم إلى أذنة.

(٣) تظاهر غوغاء الأرمن في حلب بمظاهر العظمة والكبرياء ومقابلتهم الحلبيين بغير الوجه الذي كانوا يقابلونهم به في الأمس ، يقابلونهم بوجه عليه سيماء التّيه والسخط ، ويخاطبونهم بألفاظ خشنة لم يألفوا سماعها منهم قبل ذلك.

لم كان هذا الانقلاب من هذه الزمرة مع الحلبيين؟ وما هو الحامل لها عليه؟

كان سببه بصيص ضوء أبصرته من لفتة شملتهم من عناية الإنكليز بشأنهم ، فعظمت نفوس الطائشين منهم وطفقوا يسيئون التصرف مع الحلبيين ، ويقلبون لهم ظهر المجن في معاملاتهم. ولم يقفوا عند هذا الحدّ بل صار الكثير منهم جواسيس للإنكليز ينقلون إليهم عن الحلبيين أخبارا ملفقة لا ظل لها في الحقيقة.

(٤) تعدّي جماعة من تلك الزمرة على الباعة ؛ بتكليفهم صرف الورقة المصرية بالنقود المعدنية على معدّل قيمتها المحررة بها ، مع أن قيمتها التجارية دون ذلك بكثير. فكان الباعة يخسرون أموالهم ولا يقدرون على الامتناع عن صرف الورقة على هذا المعدل خشية من عقوبة القانون.

(٥) كان فريق من تلك الزمرة يختلقون كل يوم الحيل والخدع في اختلاس أموال التجار الحلبيين ، حتى شاع عنهم هذا الأمر وصار الحلبيون يتحدثون به في مجتمعاتهم ومجالسهم : من ذلك أن أرمنيا عرض على تاجر حلبي نموذجا من دبس الطماطم ، وأخبره أنه يوجد عنده منه سبع صفحات (١). فرغب الحلبي بشرائها وطلب من الأرمني إحضارها فأحضرها إليه وقد فتح في كل صفيحة دائرة في زاويتها ليطلع المشتري على ما في ضمنها من الدبس. ولما غمس التاجر إصبعه بالدبس من هذه الفتحة وذاقه تبين له أنه دبس جيد. فاشترى الصفحات كلها بثمن مثلها ، ودفع قيمتها إلى الأرمني ، فأخذ القيمة وانصرف.

__________________

(١) كذا وردت عند المؤلف ، وتكررت بالصورة نفسها عدة مرات ، مع أنه استعمل مفردها : «الصفيحة» وكان الوجه أن يقول في جمعها : «صفيحات» أو «صفائح».

٥٥٥

ولما فتح التاجر إحدى الصفحات وجدها ممتلئة بمطبوخ القرع الشتوي الملون بالمغرة (١) ، ورأى في الفتحة التي ذاق منها الدبس ماسورة من الصفيح ممتلئة من الدبس الجيد قد سدّ أسفلها الذي يلى أسفل التنكة وفتح أعلاها الذي ذاق منه الدبس ، ثم فتح بقية الصفحات فرآها كلها مثل الصفيحة الأولى ، فساءه ما رأى وعلى الفور أخذ بالبحث على الأرمني واستقصاء أثره فلم يظفر به. وأخيرا علم أنه سافر من حلب على أثر تدبيره هذه الحيلة.

ومن ذلك أيضا أن أرمنيا اشترى من تاجر حلبي صفيحة سمن ، وطلب من التاجر أن يحمّلها إلى خادمه ويتبعه بها إلى بيته ليدفع له ثمنها. فحملها الخادم ولما وصل إلى بيت الأرمني تناول الصفيحة من الخادم ودخل داره ليأتي بثمن السمنة ، فوقف الخادم ينتظره فلم يخرج إليه. ولما طال عليه أمد الانتظار طرق باب الدار وسأل عن الأرمني فقيل له : إن لهذه الدار بابين ، وهي ليست بدار بل هي مكان يأوي إليه فقراء الأرمن وحجّاجهم ، وإن الأرمني الذي أخذ السمن دخل من أحد البابين وخرج من الباب الآخر ، وإنه لم يكن من سكنة ذلك المكان ، ولا هو معروف عند أهله.

تكررت هذه الحيل من أفراد هذه الزمرة مع التجار الحلبيين على أنحاء شتى وضروب مختلفة ، وشاعت أخبارها بين الحلبيين فحقدوا على الأرمن وحلّ في قلوبهم الضغينة عليهم ، بدل ما كانت تجنّه من الرأفة فيهم.

(٦) كان عند الحلبيين عدد كبير من بنات الأرمن وأطفالهم ، آووهم في أوائل قدوم جالياتهم إلى حلب ، وقد التقطوهم من الأزقة والأماكن المهجورة وأزالوا الشقاء عنهم واعتنوا بتربيتهم عنايتهم بأولادهم. والبعض منهم اتخذوا من فتياتهم البالغات زوجات شرعيات واستولدوهنّ عدة أولاد. ولما دخل الإنكليز إلى حلب اهتمت جمعية الصليب الأحمر بجمع أطفال الأرمن وبناتهم من بيوت الحلبيين. ونحن لا نلوم الطائفة الأرمنية على استرداد أولادهم وأطفالهم إلى أحضانهم ، لأن هذا مما توجيه القومية عليهم ، إنما نلومهم على استعمال العنف وترك الرفق في سبيل البلوغ إلى هذا الغرض ، فقد كان أقارب الأطفال والبنات يقصدون بيت الحلبي للتفتيش على أولادهم ، ويدخلون عليه دخول مهاجم على ذي جريمة ، ويأخذون الولد أو البنت قسرا ويعاملون مربّيها أو زوجها بكل عنف وقساوة

__________________

(١) المغرة : مسحوق أحمر يصبغ به.

٥٥٦

هم في غناء عنهما. وربما كانوا يسوقونه إلى السجن بمساعدة الشرطة الموكول إليهم التفتيش على أولاد الأرمن من قبل جمعية الصليب الأحمر ، وكانوا لا يصغون إلى الممتنعة عن متابعتهم من النساء المتزوجات ، بل ربما قابلوها على امتناعها بالسب والضرب وأخذوها إلى منتدياتهم وأكرهوها على مفارقة زوجها وأولادها منه.

ومن غريب ما وقع في هذا الباب قضية امرأة أرمنية متزوجة بشاب مسلم ، حضر إليها أخوها وزوجها الأرمنيان وأرادا أخذها إليهما ، فلم يمتنع زوجها المسلم عن تسليمها إليهما وجعل الخيار لها في ذلك. أما هي فقد امتنعت عن تسليم نفسها أشد امتناع ، فأخذاها بالقوة والعنف وسعيا بزجّ زوجها في السجن ، وأخذا المرأة إلى قلّاية (١) الكنيسة ، ووضعاها في غرفة عالية لها نافذة على الطريق ، وقد وضعا معها لحراستها راهبتين أرمنيتين كلّفتاها العود إلى زوجها الأرمني ومنّيتاها بكل مرغوب ، وذكرتا لها كل ما يوجب نفرتها من زوجها المسلم. فلم تلتفت إلى كلامهما. وقدّمتا لها طعاما فلم تذقه ، وكان معها طفلة صغيرة ولدتها من زوجها المسلم قبل بضعة أيام ولما جنّ عليها الليل ورأت الراهبتين الموكلتين بحراستها قد غفتا عمدت إلى الطفلة وشدّتها على صدرها بنطاقها وعضّت على ياقتها بأسنانها ، وجاءت إلى النافذة وألقت نفسها منها إلى الأرض ، فوقعت عليها سالمة لم يلحقها ضرر في جسمها سوى ورم ظهر في ساقيها بعد بضعة أيام.

وكان زوجها المسلم قد أطلق من السجن وعاد إلى بيته. وبينما كان راقدا على فراشه نحو منتصف الليل إذ بالباب يطرق فأسرع لفتحه ورأى زوجته قد عادت إلى بيته. وفي الغد جاءت الشرطة إليه وأودعته السجن وأخذت زوجته إلى المخفر الذي حضر إليه ضباط الإنكليز وبعض كهنة الأرمن وسألوا المرأة عن كيفية هربها وقالوا لها : أما كان هربك بواسطة زوجك المسلم ، حيث أحضر لك سلّما نزلت عليه إلى الأرض؟ فأخبرتهم بكيفية هربها على ما هي عليه ، وقالت لهم : كيف يمكن لزوجي أن يحضر سلّما لي؟ والقلاية في حارة المسيحيين لا يمكن أن يطرقها في الليل أحد من المسلمين ، وكيف يترك الحراس رجلا يحمل سلّما في الليل ولا يشتبهون به ولا يقبضون عليه؟ خصوصا وزوجي ساكن في محلة بعيدة لا يصل إلى محلة القلاية إلا بعد أن يمر على عدة محلات في كل منها حارس.

__________________

(١) القلاية : غرفة عالية أشبه بالصومعة ، تخصص للأسقف أو الناسك عادة.

٥٥٧

ثم إن الشرطة حاولت إعادة المرأة إلى القلاية فامتنعت وقالت لهم : إذا أكرهتموني على الرجوع إليها فإني أنتحر نفسي (١). ولما رأوا إصرارها على الامتناع من متابعة زوجها الأرمني أحضروا زوجها المسلم من الحبس وسلموه إياها وأخذوا منه كفيلا على أن يسلمها إليهم متى أرادوا أخذها منه. فعادت هي وزوجها المسلم إلى بيتهما ، وهي لم تزل عنده حتى الآن في غبطة من العيش ، قد ولدت له عدة أولاد ، والنساء يثنين على أخلاقها الثناء العاطر.

ومن هذا القبيل أيضا قضية غلام في السادسة من عمره مولود من أبوين مسلمين حلبيين ، ادّعاه رجل أرمني أنه ولده فأخذته جمعية الصليب من يد أبيه المسلم قسرا وسلّمته إلى الرجل الأرمني الذي ادّعاه. فشقّ هذا الأمر على أبوي الغلام وأسرته. ورغما عن شهادة القابلة التي ولّدته وعن الجمّ الغفير من جيران أهل الغلام المسلمين والمسيحيين بأن هذا الغلام هو ابن الرجل المسلم الحلبي ؛ لم ترجعه الجمعية إليه. وحينئذ تقدم إلى الوالي جماعة من جيران والد الغلام وأخبروه بأنه مولود من أبوين مسلمين حلبيين ، وأنهم يطلبون من الوالي التبصر بهذه القضية. فجمع الوالي في بهو منزله رجالا من الأرمن والحلبيين المسلمين متشابهين بالملامح والهيئات ، بينهم أبو الولد الحقيقي والأرمني الذي ادّعاه ، وأدخل الولد إلى البهو بغتة فما كان منه إلا أن عدا نحو والده الحقيقي والتفّ به وعانقه ، وطفقت دموع والده تنحدر على خديه ، وبكى بعض الحاضرين متأثرا من هذا المنظر الغريب. وإذ ذاك قنع ضباط الإنكليز الحاضرون أن الولد هو ولد الحلبي ، خصوصا حينما رأوا في ملامحه شبها قويا بملامح أبيه ، فأذنوا له بأخذه فأخذه وانصرف.

كيف كانت هذه الفتنة؟

قبل حدوث الفتنة بأيام اشترى أحد الحلبيين المسلمين من أرمني بقرة ؛ ظهر لها بعد شرائها صاحب ادّعى أنها بقرته وقد سرقت من إصطبله. وبعد أن برهن دعواه بما لا يحتمل الإنكار لم يسع مشتري البقرة غير الإذعان لدعوى صاحبها فسلّمه البقرة. ثم أخذ يبحث عن الأرمني الذي اشتراها منه ليرجع عليه بثمنها فلم يظفر به.

__________________

(١) لا حاجة إلى ذكر كلمة «نفسي» ، لأن الفعل «انتحر» لازم ، ومعناه : قتل نفسه.

٥٥٨

ولما كانت ضحوة يوم الجمعة ٢٨ جمادى الأولى سنة ١٣٣٧ و ٢٨ شباط سنة ١٩١٩ م كان الحلبي يتجول في سوق الجمعة ـ وهو سوق عام ينعقد في كل يوم جمعة ، في فضاء واسع يعرف بفضاء تحت القلعة ، يباع فيه من جميع السلع والبضائع ، ويحضره ألوف من الناس ، ومن جملة فروعه فسحة واسعة تباع فيها الخيل والبغال والحمير والبقر ـ وبينما كان مشتري البقرة يتصفح وجوه الناس للبحث عن غريمه الأرمني ، إذ وقع نظره عليه فأسرع نحوه وطلب منه ثمن البقرة. وكان الواجب على الأرمني أن يتلطف بذلك الرجل ويستمهله وفاء ثمن البقرة ويدفع الشرّ بالتي هي أحسن ؛ غير أن نفسه لم تطاوعه على التساهل مع صاحب الحق ، بل طفق يعربد وينكر القضية بتمامها ويفوه بكلام يشقّ على العامة سماعه.

فاشتد النزاع بين الرجلين وعلت أصواتهما في ذلك الجمع العظيم الذي لا يقلّ عن عشرة آلاف إنسان ، ما بين مسلم ومسيحي ويهودي ، وقد هرعت العامة إلى محل المشاجرة ووقفوا ينظرون إلى ما يؤول إليه أمرها. ثم انتقل الحال بين الرجلين من الكلام إلى الملاكمة واللّطام ، وقد أخذا بتلابيب بعضهما ، وانبرى لكل واحد منهما نصراء من قومه يدافعون عنه ويعينونه على خصمه ـ وقد علمت مما تقدم كيف كان توغر صدور الحلبيين وحنقهم على الأمة الأرمنية للقضايا التي أسلفنا بيانها ـ فلما شاهد هذا الجمع النزاع القائم بين هذين الرجلين وعلموا أن المعتدي منهما هو الأرمني ، وأن الأرمن قد التفوا حوله ينصرونه على خصمه ، هاجت الأحقاد في صدورهم وتقدموا يدفعون الأرمني عن الحلبي. فاشتدت الضوضاء وعلا الصراخ وهاج هذا الجمع العظيم وماج ، وانقضّت العامة على الأرمن يضربونهم بالعصي والسكاكين ووزنات الحديد (١) وأعمدة الخشب. فما مضى غير دقائق إلا وجثث بضع (٢) وثلاثين أرمنيا مطروحة على الأرض ، وقد اتصل الصوت ببعض الجهات القريبة من محلات الأرمن فقام بعض الدعّار يهجمون على بيوتهم ويسلبون ما فيها من الأثاث ويقتلون من يعارضهم من أهلها. وكان مجموع ما قتل في هذه الفتنة العمياء مسلم واحد ـ كان مارا في الطريق فرماه أرمني من داخل داره برصاصة فقتله ـ

__________________

(١) أي القطع الحديدية المستعملة في وزن الأشياء ، كالرطل ، ونصف الرطل ، والأوقية ...

(٢) الصواب : «بضعة» لأنها تعامل معاملة الأعداد ٣ ـ ٩ في التذكير والتأنيث.

٥٥٩

واثنان وخمسون (١) أرمنيا بينهم امرأة واحدة.

ثم إن الشرطة تفرقت في أنحاء البلدة وأطفأت نار هذه الفتنة ، وألقت القبض على بعض الثائرين. فسكنت الأمور وعادت مياه السلام إلى مجاريها. وفي أثناء قيام الفتنة فتح كثير من المسلمين أبواب منازلهم لجيرانهم الأرمن يحمونهم من الثوار ويدفعون عنهم الهلاك والبوار.

ذيول هذه الحادثة الكارثة :

وفي مساء هذا اليوم ـ أي ليلة السبت ٢٩ جمادى الأولى ـ اعتقلت السلطة الإنكليزية بضعة عشر رجلا من وجهاء حلب وأعيانها وذوي الشخصيات البارزة منهم ، وجمعتهم في دار واحدة غرفها ذات أثاث ورياش ، مرخّصة لهم أن يجلسوا مع بعضهم ويستحضروا من منازلهم ما يشتهونه من الأطعمة وغيرها. غير أنها أقامت على أبواب الغرفة حجّابا من الهنود لا يتركون أحدا منهم خارجها ، وكان غرض السلطة من اعتقال هؤلاء الجماعة أن تحقق ـ في أثناء اعتقالهم ـ أسباب هذه الحادثة لتعلم هل لأحد من وجهاء البلدة دخل في إيجاد هذه الفتنة؟ وبعد أن أبقتهم معتقلين نحو شهر تبين لها أن ليس لأحد منهم يد في إيجادها ؛ وإنما كان سببها أمرا فجائيا لم يكن مدبّرا من قبل ، فأطلق سراحهم.

اجتماع مهمّ يتعلق بهذه الحادثة :

وفي نهار السبت ٢٩ جمادى الأولى ـ أي ثاني يوم من وقوع الحادثة ـ جمع في قاعة الولاية عدد كبير من أعيان البلدة ووجهائها غير المعتقلين ، أمر بجمعهم الحاكم العسكري العام وحضر القائد الإنكليزي الكبير «هودسون» ومعه عدد من الضباط الإنكليز والأركان الحربية ، والمستر «براين» ضابط الارتباط الإنكليزي ، وجودت بك حاكم القضاء العسكري. فقام القائد «هودسون» وألقى على الحاضرين خطابا وصّاهم فيه بأن يفهموا سائر طبقات الشعب وجوب ترك المظاهرات ، وإطاعة القانون. وقال : إن الأمير فيصل يجتهد في مؤتمر الصلح بالحصول على استقلال الأمة العربية ، وإن الاعتداء على الأرمن وإقامة

__________________

(١) في العبارة ترخصّ ، والصواب : «... مجموع من قتل ... مسلما واحدا ... واثنين وخمسين».

٥٦٠