نهر الذّهب في تاريخ حلب - ج ٣

كامل البالي الحلبي [ الغزي ]

نهر الذّهب في تاريخ حلب - ج ٣

المؤلف:

كامل البالي الحلبي [ الغزي ]


المحقق: الدكتور شوقي شعث ومحمود فاخوري
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
المطبعة: مطبعة الصباح
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٤٠

من جهة خراب البلدة ولكنهم ما زالوا خائفين من بعضهم ، وكان أراذل الناس وغوغاؤهم الذين نهبوا السلاح من المستودعات يطلقون هذه الليلة في منازلهم عياراتهم النارية على صفة لا تنقطع ، فكنت تسمع في الدقيقة الواحدة صدى ألوف من الطلقات.

سقوط حلب :

يوم الجمعة عشرين محرّم (١٣٣٧) الموافق ١٢ تشرين الأول سنة ١٩١٨ م ، و ٢٩ أيلول سنة ١٣٣٤ شرقية ، أصبح الناس وعيونهم لم تذق الغمض وهم خائفون وجلون ، والأوباش عادوا إلى ديدنهم الأول من النهب والسلب ، وبعد أن نهبوا المكتب الرشدي العسكري الكائن في شمال مستشفى الغرباء تحت القلعة ، ألقوا في قسمه الشمالي النار فاحترق ولم يبق في البلدة حاكم ولا رادع. وكنا نسمع في كل برهة من الزمن فرقعة ألوف من البنادق فكنا نظن أنها فرقعة بنادق المتحاربين من الجنود التركية والإنكليزية عند قرية الراموسة. ثم تبين أن هذه الفرقعة هي صدى المواد النارية التي تحرقها الجنود التركية والألمانية في المحطات ومستودعات الأعتاد الحربية. وكان بعض الناس يسمع دوي المدافع التي يطلقها جنود الأتراك والإنكليز على بعضهم قرب خانطومان.

قدوم عرب العنزة إلى حلب :

وفي عصر هذا اليوم أقبل على حلب من جهة باب النيرب طائفة من عرب العنزة ـ الذين يرأسهم الشيخ مجحم المهيدي ـ وكان مواليا للحكومة العثمانية ، وفي الأيام الأخيرة أعطته مبلغا وافرا من النقود والسلاح وكلفته القيام بحراسة أطراف البلدة وبعض القرى المجاورة لها وحفظ بعض مدخرات الحبوب الكائنة في القرى كقرية الجبّول وقرية دير حافر وغيرهما. ثم في هذه الأثناء قبضت الحكومة على بعض أشخاص من عشيرة الشيخ مجحم فاغتاظ من هذا العمل إلا أنه كظم غيظه. فلما كان عصر هذا اليوم علم أن عرب الشريف قد اقتربوا من حلب وأن العساكر التركية قد انسحبوا منها إلا قليلا منهم ؛ أمر عشيرته ـ وكانوا زهاء ثلاثين فارسا ـ أن يهجموا على سجون حلب ويفتحوا أبوابها ويطلقوا منها سراح جميع السجناء. ففعلوا ذلك ، وكان بين الجماعة المهاجمين غلام من أنسباء الشيخ مجحم أصابته رصاصة من حارس السجن فوقع قتيلا ، فهجم العربان على

٥٠١

الحارس فهرب منهم إلى سطح دار الحكومة فتبعوه وقبضوا عليه وقطعوه إربا (١) ، ثم ساروا إلى جهة باب الفرج حيث منزل العساكر التركية ، كأنهم أرادوا نهب المنزل واستئصال من فيه من العساكر ، فلم يشعر العرب إلا وقد تجرد إليهم عدد وافر من الجنود التركية ورموهم بالرصاص فقابلهم العربان بالمثل ، وقتل من الطرفين بضعة أشخاص ، ثم تغلب الأتراك على العرب بواسطة ما لديهم من المدافع الرشاشة فولى العرب منهزمين. وقد استوحشت الجنود التركية وظنت أن أهل البلدة يريدون الهجوم عليهم فوقف منهم بضعة أجناد في جهات باب الفرج وصاروا يرشقون برصاصهم كل من رأوه مارا من تلك الجهة فقتلوا بعض المارّة ، وكانت الشمس قد مالت إلى الغروب.

جلاء الوالي والقائد والجنود التركية

عن حلب ودخول عساكر الشريف حسين إليها :

وفي ذلك الوقت سار الوالي مصطفى عبد الخالق بك والقائد العسكري مصطفى كمال باشا إلى جهة محطة بغداد واختبأ في بعض جهاتها. وعلى أثر مسيرهما إلى المحطة ، وقت الغروب ، أقبل على حلب من جهة قارلق عرب الشريف حسين ملك العرب وهم دون مائة عربي ما بين فارس وهجّان ، يرأسهم الشريف مطر نائب الشريف ناصر ، وكيل حضرة الأمير الملكي الشريف فيصل نجل الشريف حسين. وفي ذلك الوقت تحقق الناس أن الشريف قد استولى على حلب وخرجت من يد بني عثمان بعد أن بقيت تحت استيلائهم مدة أربعمائة وخمس عشرة سنة. فسبحان مالك الملك يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء.

ومن الصدف الغريبة أن استيلاء الدولة العثمانية على حلب شبيه باستيلاء الدولة العربية عليها من جهة أن كلتا الدولتين أخذتها صفوا عفوا دون حرب ولا ضرب ، كما أن الناس في جميع هذه البلاد اغتبطوا بهذه الدولة وفرحوا بتخلصهم من بغي قادة الجنود العثمانية وظلمهم ، كذلك كانوا اغتبطوا بقدوم المرحوم السلطان سليم خان عليهم لتخلصهم من ظلم قادة جنود الغوري سلطان الدولة الجركسية.

__________________

(١) لعل المؤلف ساير الاستعمال الدارج على توهم الجمع في لفظ «إرب» الذي يفتحون فيه الراء. والصواب أن يقال : قطّعه إربا إربا أي عضوا عضوا. بتكرار كلمة الإرب وتسكين الراء فيها ، ليس غير.

٥٠٢

عزم المأمورين الراحلين على استصحاب السجلات :

لما عزم الموظفون الأتراك على الرحيل من حلب أراد كل موظف منهم أن يأخذ معه الأوراق والسجلات التي كانت في محل إدارته ، فأوعبها في الجوالق (١) وطلب من يحملها إلى محطة بغداد ، فلم يتيسر له أحد وكان الخوف قد سطا عليه فتركها ومضى إلى حال سبيله. ولو أخذت هذه السجلات لتضرر كثير من أصحاب المصالح خصوصا سجلات الدفتر الخاقاني. على أن كثيرا من سجلات غير هذه الدائرة فقدت بسبب دخول الأوباش إلى دار الحكومة في يوم الجمعة قبل دخول الشريف مطر إليها بقليل من الزمن ، فظفروا بدفاتر جباة الأموال وأتلفوها عن آخرها. وكانوا يأخذون جلودها ويطرحون ما فيها من الورق في الأرض ويبعثرونه بأرجلهم.

هذا ولما وصل الشريف مطر وعربه إلى حلب ليلة السبت الحادية والعشرين من محرّم الجاري نزل في دار الحكومة ، فجلس على بساط فتح له على أرض البهو الذي يؤدي إليه الدرج الكبير ونزل عربه في صحن دار الحكومة ، وحفروا في الأرض نقرا أشعلوا فيها النار لطبخ قهوة البن يسقون منها الواردين على الشريف للسلام وعرض الاحترام. وقد تحقق الناس استيلاء الحكومة الجديدة على حلب إلا أن الخوف مع ذلك استولى على الناس من فتك الأسافل وبقايا الجنود التركية ، وخلت الأزقة من المارّة وبات الناس في قلق وخوف لا مزيد عليه ، نظير ما باتوا عليه في الليلة البارحة أو أشدّ ، وكان ألوف من الأوباش يطلقون عياراتهم النارية من منازلهم تخويفا لمن يتوهمون أنه يهجم عليهم مع أن الخوف في تلك الليلة قد شمل الجميع.

ولما علمت بقايا الجنود التركية أن عرب الشريف قد دخلوا حلب ونزلوا في دار الحكومة مشى منهم نحو خمسين جنديا على دار الحكومة للإيقاع بالعرب ولما وصلوا إلى دار الحكومة هجم عليهم العرب فولوا منهزمين ، ولو ثبتوا قليلا لأفنوا العرب عن آخرهم إلا أنهم خافوا أن يأتيهم من ورائهم كمين من أهل البلد فيقعوا بين نارين فعادوا من حيث أتوا.

__________________

(١) الجوالق ، بفتح الجيم ، والجواليق : مفردها جوالق (بضم الجيم) وهو العدل من صوف أو شعر.

٥٠٣

سفر الوالي والقائد التركيين :

وفي الساعة الثانية من هذه الليلة ركب القطار القائد العسكري العثماني ، ومصطفى عبد الخالق بك الوالي العثماني الأرنوطي الأصل ، وهو شاب صبيح الوجه في سن الخامسة والثلاثين ، ذكيّ حسن التفرس متديّن أمين ذو شفقة ومرحمة ، بذل ما في وسعه من الجد والجهد في ولايته الأولى أيام هذه الحرب في ملاطفة الفقراء وتوفر الأقوات ، فخفّف عنهم آلام الجوع ولم يمت أحد في أيام ولايته جوعا.

ولما ولي حلب في هذه المرة حضر إليها مجردا من عياله ولم يأل جهدا في تلطيف ما نزل بحلب من الشدائد التي من جملتها ظلم الجندية واستبدادهم ، موقنا أن الحلبيين لا غائلة تخشى منهم على الأتراك فآلى على نفسه أن يبقى في حلب إلى آخر ساعة من أيام الحكومة العثمانية ، غير مبال بما عساه أن يناله من الخطر الذي لا يوجد من يدفعه عنه من رجال الدرك والشرطة لتركهم وظائفهم واستيلاء الخوف عليهم.

وقد قصد من بقائه في حلب إلى المدة الأخيرة ردع الأوباش والأسافل عن قيامهم على بقايا المأمورين والأتراك وعلى ضعفاء الأهلين ليسلبوا أموالهم ويعيثوا في أعراضهم. على أنه وإن كان لا يوجد معه من يحامي عنه من رجال الدرك والشرطة إلا أن مجرد علم الأسافل بوجوده يردعهم عن تنفيذ نواياهم الخبيثة ، ولعلمهم أيضا بأن بقايا العساكر العثمانيين لا تتخلى عن تنفيذ أوامره عند اقتضاء الحال.

محاماة الوالي عن حلب تجاه القائد :

وله غرض آخر من بقائه في حلب إلى آخر وقت وهو مراقبة حركات القائد العسكري الذي كان يعتقد أن أهل حلب من أعداء الدولة التركية ، وقد شاع أنه مصمم على ألّا يخرج من حلب حتى يخربها عن آخرها بالألغام وكرات المدافع ، وأن الوالي عبد الخالق ينهاه عن فعله ويؤكد له أن أهل حلب لا يستحقون منه هذا العمل ، فكان القائد لا يقنع بكلامه. وقد قيل إن عبد الخالق بك لما تحقق أن القائد مصمم على تخريب البلدة ـ حين ما (١)

__________________

(١) في الأصل : «حينما» والصواب هنا فصل «ما» عن «حين» لأنها اسم موصول ، لا زائدة وهو ما صححناه. والهاء في «به» تعود على «ما».

٥٠٤

بدأ به من وضع المدافع في أعالي البلدة وصدور أمره للموكّلين بها بأن ينتظروا إشارته بإطلاقها ـ حضر الوالي وقال له : اقتلني قبل أن تنفّذ هذا العزم ، لأن قتلي أهون علّي من أن أرى حلب خرابا.

هكذا شاع عند أهل حلب. والحق يقال : إن تخريب هكذا بلدة يعد من أكبر الفظائع التي تبقى نقطة سوداء في تاريخ العثمانيين إلى الأبد. على أنه غير مستبعد عن أهل البلدة ـ متى بدأ عمل التخريب ببلدتهم وبلغوا حد اليأس من سلامتهم ـ أن يقوموا قيام المستميت ويهجموا ، وهم يعدّون بمئات الألوف ، على كل تركي في حلب جنديا كان أم غير جندي فيبيدوهم عن آخرهم.

سمع حضرة القائد نصيحة الوالي ورقّ لشكواه ورجع عن عزمه ، غير أنه قال له إنه متى علم أن أهل البلدة تداخلوا مع العساكر العربية الإنكليزية وانضموا إليهم فهو يخرب البلدة على رؤوس أهلها في ساعة واحدة. وعليه فإن الوالي قبل سفره بيوم حضر إلى دار الحكومة ودعا إليه جماعة من الأعيان وبلّغهم ما قاله القائد فأجابوه بأن القيام مع العساكر العربية الإنكليزية مما لم يتصوره أحد من أهل حلب.

وقد استفاض بين الناس ما يبديه الوالي في حق أهل حلب من العطف والمحاماة وحسن الإدارة حتى اتصل خبر ذلك بالقائد الإنكليزي وهو في جبهة الحرب أمام الجنود العثمانية قرب قرية الراموسة ، فكتب إلى الوالي ـ حسبما شاع ـ يشكره على ما يبديه من اللطف والإنسانية مع أهل حلب ، ويرجو منه أن يبقى مثابرا على حفظ البلدة إلى آخر ساعة وأن لا يخشى تعرض أحد إليه من الدولة الجديدة بالأسر أو سوء المعاملة.

قلت : إن اشتهار هذا عن الوالي وشيوعه إلى هذه الدرجة يدفع ما قيل عنه إنه لم يقصد من بقائه في حلب إلى آخر وقت من أيام الحكومة العثمانية إلا ليكون جاسوسا بين أهل البلدة وبين القائد العسكري ، وواسطة تهديد وتخويف بين الطرفين لسوء ظنه بأهل حلب وخوفه هو والقائد من قيامهم على من فيها من الأتراك عامة ، فيبيدونهم عن آخرهم انتقاما منهم على ما كان يفعله معهم أشرار الموظفين من الظلم والتعدي ، على حد قول الشاعر :

إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه

وصدّق ما يعتاده من توهّم (١)

__________________

(١) البيت لأبي الطيب المتنبي.

٥٠٥

حتى قيل : إن القائد نفسه لم يقصد من إذاعة عزمه على تخريب البلدة إلا التخويف والتهديد فقط ، وإنه لا يفعل ذلك ولا يقدر على فعله أبدا لحدوث الهدنة في هذه الأيام وصدور الأمر إليه بأن يترك حلب وينسحب عنها بلا ضرر ولا إضرار. والله أعلم بحقيقة الحال.

ما كان في حلب بعد وصول الشريف مطر إليها :

صباح يوم السبت ٢١ محرّم استفاض بين الناس أن الوالي والقائد العسكري التركيين سافرا ليلا ، وأن عامة الألمان من الجنود وغيرهم لم يبق منهم في حلب أحد سوى المرضى والمستخدمين في تمريضهم في المستشفيات الألمانية ، وأن الألمان كان في عزمهم أن ينسفوا بألغامهم كل بناء يخصهم في المحطة وغيرها ، وأن القائد العسكري العثماني هو الذي عارضهم بذلك. وقد نسفوا بعض الجسور على نهر قويق.

هذا ، وإن الناس في صباح اليوم المذكور هرعوا للسلام على الشريف مطر ، وكان الروع ذهب من القلوب وظهرت المارّة في الشوارع وتلاحقت عساكر الشريف ببعضها ، وانضم إليهم العدد الكبير من عشائر البادية المخيمة في صحارى ولاية حلب ، وكانوا يدخلون إليها زمرة بعد زمرة ولا يرون فيها أدنى مقاومة ، ولا حدث بدخولهم أقّل خوف ، وكان النهب من الدعّار قد وقف ، وسكنت الأمور وانتشر لواء الأمان ورفعت الرايات والأعلام العربية على أبواب الأماكن الأميرية ، ولم يقتل من بقايا الجنود التركية وغيرهم سوى بضعة أشخاص اشتبه الأعراب بهم فقتلوهم.

انفجار ألغام :

وفي ظهيرة يوم الأحد ٢٣ محرم سمع بغتة هزيم انفجار مفزع ثلاث مرات متوالية ، اهتزت له المباني وارتعدت الفرائص ، وتحطم كثير من زجاج النوافذ القريبة من تكية الشيخ أبي بكر الوفائي. وبعد برهة تبين أن هذا الانفجار صادر من ألغام كانت مدفونة في مستودع الأعتاد النارية الكائن في شرقي جنوب التكية المذكورة ، وهو مستودع المواد النارية للألمان قرب مستودع الأتراك.

٥٠٦

وصول عساكر الإنكليز إلى حلب :

في عصر هذا اليوم وصلت إلى حلب عساكر الجنود الإنكليزية فرسانا ومشاة وهجّانة ، ومعهم السيارات والعجلات المشحونة بالمهمات الحربية ، وهم إنكليزيون ومصريون وهنود. والمصريون مسلمون ، والهنود مسلمون وبراهمة وصك ، وكان عددهم جميعا لا يزيد على ألف جندي. ويقال إن عددا عظيما من الجنود الإنكليزية لم يدخلوا حلب وإنما توجهوا إلى جهة راجو ونواحي كلّز وعينتاب وغيرهما ليتعقبوا العساكر التركية التي أمّت تلك الجهات.

واقعة قرب قرية بلّليرمون :

وكانت الجنود التركية ـ الذين انسحبوا من جهات الراموسة وقرية الشيخ سعيد ـ قد توجهوا إلى جهة قرية بلّليرمون القريبة إلى حلب ، في شماليها الغربي ، وكمنوا في موضع من تلك الناحية. فلما وصلت إليها الجنود الإنكليزية خرجوا من مكامنهم وأطلقوا عليهم نيرانهم فقتلوا منهم ـ على رواية ـ نحو ثمانمائة جندي ، بينهم ضابط إنكليزي كبير أقيم له هناك نصب تذكاري.

فرقعة ألغام وقذائف :

وفي يوم الاثنين والثلاثاء ٢٣ و ٢٤ محرّم الجاري كنا نسمع من حين إلى آخر دوي انفجارات مزعجة تنفجر في جهة محطتي سكة حديد بغداد والشام في ظاهر حلب ، وهي ألغام دفنها الألمان تحت جسور المحطّتين ولم يتمكنوا من إشعالها ، فكان الإنكليز يظهرونها بواسطة كلاب معهم فيخرجون منها ما يمكنهم إخراجه ويشعلون ما يعجزون عن إخراجه.

وشاع بين الناس أن الألمان دفنوا في قلعة حلب عدة ألغام وأنها عما قريب تنفجر ، فارتاع الناس من ذلك ونزح كثير من سكان المحلات المجاورة للقلعة إلى غيرها اتقاء خطر هذه الألغام. ثم تبين أن هذه الإشاعة إرجاف لا أصل له.

وصول الشريف ناصر إلى حلب وانعقاد مجلس شورى :

الأمير ناصر من الأشراف الحسينية القاطنين في «العوالي» المجاورة للمدينة المنورة.

٥٠٧

وحين قيام حضرة الشريف حسين على الأتراك كان الشريف ناصر وأسرته في جانب الشريف حسين ، فوكله حضرة الأمير الشريف فيصل في التأمّر مكانه على حلب. فوصل إليها يوم الأحد ثاني وعشرين محرّم الجاري ، ونزل ضيفا كريما في منزل أحد وجهاء حلب في محلة الجميلية. وبعد أيام انتقل إلى دار خصوصية هيئت له في محلة العزيزية. وقبل وصوله إلى حلب كان القائم بحراستها وحفظ الأمن فيها جماعة الشريف مطر ، وكانت دار الحكومة والثكنة العسكرية وجميع الأماكن الأميرية خالية من الموظفين.

وبعد وصول الأمير ناصر بيومين أصدر أمره قبل كل شيء بأن يؤلف مجلس شورى ينتخب الدرك والشرطة أولا ، ثم ينتخب موظفين لدوائر الحكومة. فتألف هذا المجلس من اثني عشر عضوا من وجهاء حلب في أيام الدولة التركية ، وقد انتخبوا واحدا منهم رئيسا عليهم ـ وهو حضرة كامل باشا القدسي ـ ثم شرعوا بانتخاب الموظفين فأحسنوا بتعيين بعضهم وأساؤوا في آخرين شبّوا ونشؤوا على ظلم الناس وهضم حقوقهم ، وعدم المبالاة من تضييع منافع الدولة لمنفعتهم والتكاسل عن واجبات وظائفهم واحتقار الناس والتهاون بأقدارهم. ولهذا لم يمض على تعيينهم غير أيام قلائل حتى بدأ الناس يتذمرون منهم ويتشكون من تباطئهم ، ووعودهم لصاحب المصلحة في قضاء مصلحته والكتابة على قصته (١) بقولهم : رح ، وتعال ، وغدا ، نظير ما كانوا يفعلون مع أصحاب الأشغال في أيام الدولة الزائلة إذ كانوا يقولون لهم بدل هذه الكلمات (كت ، كل ، يارن ، أوبركون) (٢). حتى اشتهر في هذه الأيام عن واحد من ذوي الأشغال أنه اشتكى إلى الوالي على بعض المأمورين الجديدين الذين هم من هذا القبيل ، وقال للوالي : (بدّلنا العجميات بالعكال ، وكيت وكال : بروح وتعال) يريد بالعجميات : كسوة الرأس عند الأتراك ، وهي الطرابيش والقلانس المعمولة من فرو الغنم.

يوم الجمعة ٢٧ محرم الجاري حضر الأمير ناصر إلى الجامع الكبير بموكب حافل وصلى فيه صلاة الجمعة ، ودعا الخطيب لملك العرب الشريف حسين بالنصر والظفر. وبعد الفراغ من الصلاة أمر حضرة الشريف ناصر لخدمة الجامع بأربعين ذهبا إنكليزيا.

__________________

(١) القصة هنا : الطلب ، وما يسمى «بالاستدعاء» الذي يشرح فيه صاحب الحاجة قصّته.

(٢) كت : اذهب. كل : تعال ، هلمّ. يارن : غدا. أوبركون : بعد غد. (وهي كلمات تركية).

٥٠٨

نادي العرب وجريدة العرب :

وفي هذا اليوم تحزب حزب من الشبيبة العربية وأتوا مكان نادي جمعية الاتحاد والترقّي المعروف باسم (قلوب) ووضعوا أيديهم عليه وعلى ما فيه من الكتب والأثاث وسمّوه نادي العرب ، وأصدروا صحيفة يومية سموها (العرب).

قدوم شكري باشا الأيوبي إلى حلب في هذه الأيام :

وافى حلب حضرة شكري باشا الأيوبي حاكما عسكريا عليها من قبل الحكومة الجديدة. فصلى الجمعة في الجامع الكبير وخلع على الخطيب عباءة حريرية جميلة وتعيّن سلفه كامل باشا القدسي الحلبي قائدا عاما وحاجبا فخريا لحضرة ملك العرب.

وصول سمو الأمير الكبير الشريف فيصل إلى حلب :

ظهيرة يوم الأحد سادس صفر من هذه السنة وصل سمو الأمير الكبير الشريف فيصل إلى حلب ، وأقبل معه الوفد الذي ذهب قبل أيام لاستقباله إلى حماة. وقد أعدّ لاستقباله على مقربة من حلب موكب حافل ، فنزل سموّه في دار هيئت له من محلة العزيزية وأقبل الناس عليه للسلام ، فكانت أخلاقه المرضيّة والتفاته العالي محلّ إعجاب الجميع. وأول شيء فعله إصدار أمره بحلّ مجلس الشورى لما بلغه عنه من عدم استقامة مسلكه ، وأن يقوم مقامه لجنة تؤلف من وجهاء المستخدمين الملكيين والعدليين.

أخذ الأمير فيصل بيعة الحلبيين

لأبيه الشريف حسين بن علي ملك العرب :

بعد ظهر يوم الثلاثاء من صفر الخير حضر إلى نادي العرب بالموكب الحافل سمو الأمير فيصل ، وكان النادي غاصا بالمدعوين الذي يعدّون بالمئات ، فجلس سمو الأمير على كرسيّ معدّله في غرفة خصوصية من النادي ، وصار يتقدم نحوه المدعوون زمرة بعد زمرة ويبايعونه بالتملك على العرب بالنيابة عن جلالة والده ملك العرب ثم يعودون إلى مقاعدهم. وبعد أن انتهت المبايعة قام سموه من الغرفة التي بايع فيها وأقبل إلى محله المعدّ له من صدر ردهة النادي ، وقام الشعراء والخطباء ينشدون قصائدهم ويتلون خطبهم ـ على النسق

٥٠٩

والترتيب ـ إلى أن انتهوا منها ، فبدأ وهو قاعد يتكلم بما انطوت عليه صحيفة أفكاره من المواضيع العديدة التي يصعب على أعظم رجال الخطابة استيعابها وإيرادها في مثل هذا المحفل العظيم. ولما بدأ بالكلام قام الحاضرون وقوفا ـ إعظاما وإجلالا له ـ فأشار إليهم أن اجلسوا لأن كلامي يستغرق وقتا طويلا لا أريد أن تتكبدوا فيه مشقة الوقوف. فجلسوا وأنصتوا ووقف بعض الكتاب والأدباء وبأيديهم القراطيس والأقلام يكتبون ما يفوه به بالحرف الواحد فقال :

خطبة الأمير فيصل :

«لا شك أنكم أيها السادة ترون منا أعمالا مهمة. إن حلب هي من أقاصي بلاد العرب ، لم يتصل بأهلها ما وقع بيننا وبين الأتراك وما هو سبب قيامنا ضدهم. إن الأتراك كانوا يشيعون أن الأشراف اتفقوا مع الدول الغربية على بيع البلاد لقاء دريهمات أخذوها منهم ، وأخرجوا ضدنا فتاوى ربما اغترّ بها بعض البسطاء وصدّقها. فنقول في ردّ وبطلان ما زعمه الأتراك فيما شيعوه :

إن الدين الإسلامي نشأ بقدرة الله تعالى وانتشر بواسطة محمد النبي العظيم الذي تنسب إليه أسرتنا ، فهل يتصور أحد أن أناسا يرضون بهدم ما بناه لهم جدّهم من المجد والشرف. نحن لم نقم إلا لنصرة الحق وإغاثة المظلوم. ساد الأتراك ٦٠٠ سنة هدموا بخلالها صرح المجد الذي أقامه أجدادنا وأطفؤوا نار العرب ، ولكنها لم تطفأ لأن العرب عاشت قرونا وأجيالا لم يتسنّ لغيرها من الأمم أن تعيش مثلها ، وكانت العرب تنتظر الفرص لتنتهزها حين سنوحها. نحن العرب نمنا ٦٠٠ سنة ولكننا لم نمت. لما أعلن الأتراك النفير العام أتوا بأعمال تتبرأ منها الإنسانية ولا لزوم لعدّها. كانت العرب تطالب الأتراك بحقوقها فاغتنموا الفرصة التي مكنتهم من الانتقام من العرب.

رأى والدي أن دولة الترك ليست تعمل لأجل دين أو عمل عام ينفع البلاد ، ولكنها أعلنت جهادها مع ألمانيا لمجرد الانتقام من العناصر الخاضعة لها مثل العرب. وتبيّن له أن مبادئ الحكومات الغربية المدنية هي مبادئ إنسانية ، مبادئ خير ، مبادئ نصرة الحق. واتفق معهم ـ بعد الاتكال على قوة الله تعالى ـ لعلمه أنهم ينصرون الضعيف

٥١٠

ويساعدون على إعادة حقوق الأمم المحكومة ، وتعاهد معهم على إزاحة حكومة الأتراك واستخلاص ما اغتصبوه منا نحن العرب. باسم العرب حالف والدي الحكومات الغربية وقام معهم ضد تركيا وألمانيا كتفا إلى كنف ، لا كما زعم الأتراك من أن قيامنا كان نتيجة مطامع شخصية.

فأنا باسم كافة العرب أخبر إخواني أهل الشهباء أن للحكومات الغربية ـ خصوصا إنكلترا وفرنسا ـ اليد البيضاء في مساعدتنا وشدّ أزرنا ، ولا تنسى العرب ، ما دامت موجودة على وجه البسيطة ، فضل معاونتهم. نحن اليوم ندعي التحرر والاستقلال ؛ فهذه أقوال ، إذا لم نعمل شيئا لحدّ الآن سوى طرد الأتراك من بلادنا وهذا محتم عليهم لأن القدرة الإلهية تأبى تركهم بدون مجازاة لما أتوه من الفظائع.

بقي علينا وظائف مهمة جدا وهي تأسيس ملك وحكومة نفتخر بهما أمام العالم أجمع. إن الأمم الغربية قد ساعدتنا مادة وستساعدنا معنى ، وإني لأملو (١) عليكم برقية وردت لي منذ ثلاثة أيام تبين لكم إحساسات الدول الغربية نحونا ليفهم جميع أهل الوطن أننا لم نبع البلاد ولن نبيعها أبدا».

وهنا أشار إلى كاتبه بتلاوة البرقية فتلاها ، وهذا نصها :

حمص : سمو سيدي الأمير فيصل. نقدّم لسموكم صورة البلاغ العام الذي تلقيته من المستر (سته رلنغ) الحاوي على تعهدات الحلفاء وخطّتهم في بلادنا. والله يؤيدكم.

٨ تشرين الأول سنة ١٣٣٤ الحاكم العام لسوريا. الركابي.

الصورة : «إن النّوط الذي ترمي إليه فرنسا وبريطانيا العظمى ـ بمواصلتهما في الشرق تلك الحرب التي أثارها الطمع الألماني ـ هو تحرير الشعوب التي طالما ظلمها الترك تحريرا نهائيا ، وتأسيس حكومات ومصالح أهلية تبنى سلطتها على اختيار الأهالي الوطنيين لها اختيارا لا جبرا ، وقيامهم بذلك من تلقاء أنفسهم. وتنفيذا لهذه النيات قد وقع الاتفاق على تشجيع العمل لتأسيس حكومات ومصالح أهلية في سوريا والعراق اللتين

__________________

(١) كذا وردت. يريد : «لأتلو» بمعنى «لأقرأ» وفعله : تلا ، يتلو.

٥١١

أتم الحلفاء تحريرهما ، وفي البلاد التي يواصلون العمل بتحريرها ، وعلى مساعدة هذه الهيئات والاعتراف بها عند تأسيسها فعلا.

والحلفاء بعيدون عن أن يرغموا سكان هذه الجهات على قبول نظام معين من النظامات وإنما همتهم أن يحققوا معاونتهم ومساعدتهم النافعة حركة الحكومات والمصالح التي ينشئها الأهالي لأنفسهم مختارين حركة منتظمة ؛ وأن يقيموا لهم قضاء عادلا واحدا للجميع ، وأن يسهلوا انتشار العلم في البلاد وتقدمها اقتصاديا ، وذلك بتحريك همم الأهالي وتشجيعها ، وأن يزيلوا الخلاف والتفرق الذي طالما استخدمته السياسة التركية.

ذلك ما أخذت الحكومتان الحليفتان على نفسيهما مسئولية القيام به في البلاد المحررة».

ثم أردف الأمير فيصل هذا بقوله : «لا شك أن هذه البرقية من النّبذ التاريخية العظيمة. وإنها تنم عن شواعر عالية وحسيات إنسانية لا يقوم العرب بأداء واجب الشكر عليها إلا بتحقيق أماني هذه الدول ، وهي تشكيل وتنظيم حكومة عادلة قوية تحفظ حقوق جميع أهل البلاد.

إننا اليوم في موقف حرج. الأمم المتمدنة وحلفاؤنا ينظرون إلينا بنظر الإعجاب والتقدير ، وأعداؤنا يرمقوننا بعين الانتقاد. خرج الأتراك من بلادنا ونحن الآن كالطفل الصغير لا حكومة ولا جند ولا معارف ، والسواد الأعظم من الشعب لا يفقهون من الوطنية والحرية ولا ما هو الاستقلال ، حتى ولا ذرّة من كل هذه الأمور. ذلك نتيجة ضغط الأتراك على عقول وأفكار الأمة. فلذا يجب أن نفهم هؤلاء الناس قدر نعمة الاستقلال ، ونسعى ـ إن كنّا أبناء أجدادنا ـ لنشر لواء العلم ؛ لأن الأمم لا تعيش إلا بالعلم والنظام والمساواة وبذلك نحقق آمال حلفائنا.

أنا عربي وليس لي فضل على عربي ولو بمثقال ذرة. إنني أوفيت وجائبي الحربية كما أوفى والدي وجائبه السياسية ، فإنه تحالف وتعاهد مع أمم متمدنة أوفت بعهودها ولا تزال تساعدنا على تشكيل حكومة منتظمة. فعلينا إبراز هذه الأمنية إلى حيّز الوجود بكمال الحزم والعزم لأن البلاد لا يمكنها أن تعيش بحالة فوضى ، أي بلا حكومة. وهذا واجب ذمة الأمة وأهل البلاد ونبرأ إلى الله مما يحصل لهذه البلاد بعد اليوم. أنا ومن معي سيف مسلول بيد العرب يضربون به من يريدون. أحضّ إخواني العرب ـ على اختلاف

٥١٢

مذاهبهم ـ بالتمسك بأهداب الوحدة والاتفاق ونشر العلوم وتشكيل حكومة نبيّض بها وجوهنا لأننا إذا فعلنا كما فعل الأتراك نخرج من البلاد كما خرجوا ، لا سمح الله ، وإن فعلنا ما يقضي به الواجب يسجل التاريخ أعمالنا بمداد الفخر. إنني أقلّ الناس قدرا وأدناهم علما ، لا مزية لي إلا الإخلاص.

إنني أكرر ما قلته في جميع مواقفي بأن العرب هم عرب قبل موسى وعيسى ومحمد.

وإن الديانات تأمر من في الأرض باتّباع الحق والأخوّة. وعليه فمن يسعى لإيقاع شقاق بين المسلم والمسيحي والموسوي فما هو بعربي. إننا عرب قبل كل شيء ، وأنا أقسم لكم بشرفي وشرف عائلتي ، وبكل مقدس ومحترم عندي ، بأنه لا تأخذني في الحق لومة لائم ، ولا أحجم عن مجازاة من يتجرأ على ذلك ، فلا أعتبر الرجل رجلا إلا إذا كان خادما لهذه التربة.

عندنا والحمد لله رجال أكفاء كثيرون ولكنهم مقيمون خارج الديار وفي بلاد الأتراك وسيأتون قريبا إن شاء الله فيصلحون الخلل الموجود هنا ، ولا يجدر أن نتقاعس عن العمل ريثما يأتون فما لم يدرك كله لا يترك جلّه. ويلزم علينا أن نبتدئ بدون أن ننظر للمرء من حيث شرف عائلته وخصوصيته ؛ بل ننظر إلى الرجل الكفؤ ، شريفا كان أو وضيعا ، إذ لا شرف إلا بالعلم. الإنسان يخطئ فإذا أخطأت سامحوني وبيّنوا لي مواطن خطئي.

بما أن أغلب الأفراد يجهلون قدر نعمة الاستقلال ـ كما بينت لكم ـ فلا يبعد أن يحصل في بعض المحلات ما يخلّ بالأمن ، فالحكومة مجبورة على تطبيق معاملاتها على القانون العسكري العرفي مدة الحرب بينما يتم تشكيل حكومة منتظمة. أرجو إخواني أهل البلاد أن ينظروا إلى الحكومة نظر الولد البارّ للوالد الشفوق ويساعدوها جهد طاقتهم ، ويعلموا أن الحكومة مشارفة على أعمال الأفراد والموظفين. إن الحكومة في طورها الجديد بحاجة لإيجاد قوة تحفظ كيانها فكل من يعيث بأوامرها ويخل بمقرراتها يستهدف ليدها القوية. ولأجل حفظ الاستقلال ليس إلا أن أدعو أهل البلاد للاهتمام الزائد لتكوين حكومة ثابتة الأركان منيعة الجانب.

الدرك والشرطة هما قوام البلاد وبدونهما لا تنتظم أحوال الحكومات ، لذلك أطلب من الجميع وخصوصا الشبان أن ينتظموا بهما وأن لا يتأخر أحدهم عن خدمة وطنه وبلاده،

٥١٣

بدون النظر لموقعه العائلي. فإن الشرطة وظيفة شريفة عالية وإن الإنسان يتولى كل عمل في داخليته وبيته ، حتى تجد ربّ البيت يكنس داره بيده ولا يرى بها استخفافا. وستكون القوانين السابقة مرعية الإجراء إلى أن يتم سن القوانين من قبل المجلس الأعلى أي مجلس الأمة. الحكومة الحاضرة تحفظ الأمن والانتظام ريثما تتعين هيئات الحكومة الجديدة. العرب أمم وشعوب مختلفة باختلاف الأقاليم ، فالحلبي ليس كالحجازي ، والشامي ليس كاليماني. ولذا قد قرر والدي أن يجعل البلاد مناطق يطبق عليها قوانين خاصة بنسبة أطوار وأحوال أهلها : فالبلاد الداخلية يكون لها قوانين ملائمة لموقعها ، والبلاد الساحلية أيضا يكون لها قوانين طبق رغائب أهلها.

كان من الواجب علينا أن نبدأ أولا بجمع الهيئة التي تسن هذه القوانين ، ولكن العرب الذين هم في البلاد الخارجية هم أعلم منا بالقوانين الأكثر ملاءمة للبلاد ، ولذلك نرجئ هذا الأمر إلى وقت اجتماع هؤلاء. وفي أقرب وقت يصلون إن شاء لله. بيد أنني استدعيت من الخارج رجالا قديرين على وضع قوانين صالحة ملائمة لروح البلاد وطبائع أهلها ، وسيكون اجتماعهم في دمشق أو في غيرها من البلاد العربية لعقد مؤتمرهم ، وسأنظر بأعجل وقت بشؤون الأوقاف والكنائس وردّ حقوقها المغصوبة من قبل الأتراك ونعطي كلّ ذي حقّ حقّه. وأطلب من أخواني أن يعتبروني كخادم للبلاد. إنكم أعطيتموني البيعة بمنتهى الإخلاص والرضاء فأقابلها بالقسم العظيم أني (١) لا أفتأ عن نصرة الحق وردّ الظلم وكل ما يرفع شأن البلاد.

أرغب إلى الأهالي أن يؤازروني بالعمل في خدمة الجامعة إلى أن يلتئم مجلس الأمة ، فأقول حينئذ هذه بضاعتكم ردّت إليكم. إن حلب خالية من المدارس فأتمنى لها مستقبلا علميا باهرا كما كانت عليه بالتاريخ. وأرجو أخيرا صرف الهمة والفعالية لأمرين مهمّين :(١) حفظ الأمن العام. (٢) ترقية المعارف. فو الله لا يمتاز أحد عندي إلّا بفضله وعرفانه. عند مروري من حماة أثرت همة الأهالي بكلمات وجيزة للعناية بالعلم وافتتاح المدارس ، وبجلسة واحدة تبرع بضعة أشخاص بأربعة آلاف جنيه وأوعد الآخرون بإبلاغهم ١٢ ألف جنيه. وسأستدعي حضرات الأهالي بحفلات خاصة للعناية بهذا المشروع الهام مشروع

__________________

(١) يجوز فتح همزة «أنّ» وكسرها في مثل هذا المقام ، أي إذا وقعت في صدر جواب القسم ، بعد لفظ «القسم» فعلا أو مصدرا.

٥١٤

العلم ، روح البلاد ونفع العباد ، ويمتع الأمة بالحياة الرغيدة. والسلام». اه.

أقول : إن هذا الخطاب قد جمع فأوعى ، وحقيق لمن يورده ارتجالا وبديهة أن يكون في عداد الطراز الأول من الذين أوتوا أكبر نصيب من علو المدارك وصفاء القرائح. على أن العبرة للمعاني لا للألفاظ ؛ إذ هي بمنزلة الروح ، والألفاظ كالأجسام والجسم بروحه لا بشكله ، وإلا استوى الحيوان والجماد.

سفر الأمير فيصل :

ليلة الخميس عاشر صفر سنة ١٣٣٧ ورد على حضرة الشريف الأمير فيصل برقية فحواها أن يشخص على الفور والعجلة إلى مكة المكرمة لمقابلة حضرة الملك والده العالي ، ثم يسافر من مكة إلى باريس ليمثّل والده في مذكرات الصلح العام الذي ينعقد هناك قبل انقضاء مدة الهدنة. وفي صباح يوم الخميس هرع لوداعه العلماء والرؤساء الروحيون والوجهاء والأعيان من كل ملة ، وبارح حلب قاصدا جهة الحجاز المباركة.

وفي هذا اليوم وصل إلى حلب وفود من علية أهل الشام وحمص وحماة لزيارة حضرة الأمير الشريف فيصل وعرض إخلاصهم عليه وتأكيد روابط المحبة والإخاء بين أهل بلادهم وأهل مدينة حلب. وبعد قدوم هذه الوفود بأيام قليلة أدبت لهم بلدية حلب في فندق البارون مأدبة حضرها الجمّ الغفير من الوجهاء والأعيان والشعراء والخطباء فتليت الخطب وأنشدت الأشعار وكانت مأدبة حافلة.

٥١٥

كلمة في بني عثمان

نأتي هنا بنبذة نبين فيها بعض ما كان لسلاطين آل عثمان على العالم الإسلامي من الأيادي البيض التي توجب على كل منصف أن ينظر إليهم بعين التجلّة والاحترام ، ويغضّ الطرف عن بعض هنات كانت تصدر عن بعضهم بمقتضى المحيط الذي وجدوا فيه ، أو بحكم التقاليد والتطور الزمني ، لا بمقتضى عواطفهم التي فطرت على محبة العدل والتمسك بأهداب الشرع والحرص على اتباع أحكامه ، كما يظهر ذلك من تراجم أحوال السلف الصالح منهم.

إن الدولة العثمانية هي الدولة الوحيدة التي بواسطتها لمّ الله شعث العالم الإسلامي ، واستأنف مجده وأعاد عزّه وأطلع في سماء الشرف شمسه بعد أن تشتت شمله وذلّ أهله وكادت تطفأ أنواره وتخسف أقماره. فإن كل من تصفح وجوه التاريخ الإسلامي وأحاط علما بما سطّره من الحوادث والكوائن ـ منذ القرن الخامس إلى أوائل القرن العاشر ـ يتضح له جليا أن العالم الإسلامي قد وصل في آخر هذا الدور إلى الغاية القصوى من التقهقر والانحطاط ، لما توالى عليه في هاتيك الأعصار من النكب والمصائب التي انتابته في الحروب الصليبية ، وغارات المغول والتاتار وغيرهم من الأمم التي كانت تتظاهر بمناوأة الإسلام ، ولما كانت عليه في تلك الأيام حكام المسلمين وملوكهم من الجهل والطيش والتباغض والتنافس مع بعضهم ، وافتراق الكلمة والانهماك بالملذات ، والمسلمون في الشرق والغرب تتخطفهم ذئاب أعدائهم كأنهم غنم ، تخلّى عنها رعاتها في ليلة مطيرة ، إلى أن سطع نجم الدولة العثمانية وعلا صرح مجدها وأرهبت عالم الربع المسكون سطوتها ، فانتعشت روح الإسلام وعاد إلى أحسن ما كان عليه في عهد العباسيين ، وخفقت راية الهلال على أصقاع عظيمة من القارات الثلاث ، ورتع تحت ظل هذه الدولة ـ في بحبوحة الأمان والاطمئنان ـ مائة وعشرون مليونا من النفوس المختلفة العناصر المتعددة الأجناس ، المتعاندة في الديانات والعادات ، شعوب وأمم وأقوام مدنية وبدوية منبثة في تلك الممالك

٥١٦

الصعبة المسالك ، البعيدة الأكناف ، المترامية الأطراف ، التي يستحيل فيها على أعظم حكومة سائسة في تلك الأعصار ـ التي فقدت فيها وسائط النقل وسهولة السفر وآلات الاستخبار ـ أن تبث بين من في هذه المملكة من الشعوب العظيمة روح الوفاق والوئام ، وتجمع بين رضاهم من بعضهم ورضاهم من حكومتهم وانقيادهم إليها طائعين مختارين شاكرين منها حامدين غير ناقمين عليها عملا ، ولا منتقدين لها سياسة ، مجمعين على حسن سلوكها ، متفقين على حبها وولائها.

كان العدد الكبير من الملوك العثمانيين لا يقلّون بمنزلتهم ـ فيما شادوه في العالم الإسلامي من المآثر والمفاخر ـ عن السلطانين المعظّمين المعدودين من أعاظم ملوك الإسلام ، وهما نور الدين محمود بن زنكي ، وأتابكه المرحوم السلطان صلاح الدين يوسف ابن أيوب. بل لو تصفحت وجوه التاريخ واستقصيت أخبار هذين السلطانين العظيمين وأخبار عظماء ملوك بني عثمان ؛ لظهر لك جليا أن هؤلاء الملوك أربوا ـ بفضائلهم وبما فتحوه من الممالك ـ على السلطانين المشار إليهما ، ذلك أن هذين السلطانين كانا واقفين في جهادهما موقف الدفاع والمحاماة عن بيضة الإسلام في القطعة الشامية وبعض جهات إفريقية والجزيرة. أما عظماء سلاطين بني عثمان فإنهم لم يقنعوا من عدوّهم بأن يقفوا له في موقف يدافعونه به عن بلادهم فحسب ، بل دفعتهم هممهم العلية وغيرتهم الدينية إلى أن يطردوه من ديارهم ثم يغزوه في عقر داره ويستولوا على أصل وطنه وقراره ، ويطؤوا بحوافر خيولهم أرضا وديارا لم يطأها أحد قبلهم من خلفاء المسلمين وعظماء سلاطينهم الفاتحين.

قال الأستاذ جرجي زيدان في كتاب «التمدن الإسلامي» منوها بعظمة سلاطين بني عثمان : إنهم فتحوا القسطنطينية التي يئس ملوك المسلمين من فتحها ، وحاربوا أعظم ملوك أوربا وطاردوهم إلى بلاد المجر ، وحاصروا «فينّا» وأخذوا الجزية من ملوك النمسا ، واكتسحوا البحر الأبيض إلى شواطىء إسبانيا ، فارتعدت أوربا خوفا منهم وفتحوا الشرق إلى العراق ، ثم ساروا جنوبا غربيا حتى فتحوا الشام ومصر ، وامتدت ممالكهم في عهد السلطان سليمان من بودابست ـ على ضفاف الطونة ـ إلى أصوان على ضفاف النيل ،

٥١٧

ومن الفرات بالعراق إلى بوغاز جبل طارق ، فاجتمع العالم الإسلامي تحت جناحهم واغتبط بسلطانهم (١). اه.

خفقت رايات أولئك الملوك على معظم سواحل البحر الأبيض وسواحل البحرين الأحمر والأسود ، واستحقوا أن يشاد بذكرهم على سائر منابر الأقطار الإسلامية ويلقّبوا بسلاطين البرّين وخواقين (٢) البحرين ، بل حق لهم أن يلقبوا بسلاطين الأقطار وخواقين البحار ، ذلك اللقب التشريفي الذي لم يستحقه غيرهم من ملوك المسلمين.

تناهي السلاطين العثمانيين بالأبهة والعظمة :

ومما يدل على تناهي الصدر الأول من الملوك العثمانيين في الأبهة والعظمة ما حكاه الأستاذ الفاضل السيد محمد جميل بك بيهم في كتابه «فلسفة التاريخ العثماني» حيث قال ما خلاصته (٣) :

(إن نجاح تركيا الحربي والسياسي رفعها إلى رتبة سامية شخصت إليها الأمم بأعين الهيبة والوقار ، وجعلتها تلقي من عل على سائر الدولة نظرات الاستكبار (٤) ، فقد أجمعت أوربا على تلقيب إمبراطورة (٥) آل عثمان في مراسلاتهم بالسيد الأعظم. على حين أن السلاطين كانوا يكتبون إلى ملك فرنسة : «إليك فرنسوا». ونقل جودت باشا أن السلطان سليمان كان يكتب إلى ملك فرنسة : «إلى فرنسيس ملك ولاية فرنسا» مما يدل على أن السلاطين العثمانيين كانوا يعتبرون الدول المعاصرة من قبيل الإمارات والإقطاعات. على أن تلقيب السلطان سليمان فيما بعد «فرنسوا» المشار إليه بلقب «باديشاه» لم يكن إلا بداعي الصداقة ؛ فإن هذا اللقب لم يمنحه السلاطين [فيما] بعد لعاهل مسيحيّ إلا لقيصر روسيا سنة ١٧٧٤ م / ١١٨٨ ه‍ ، وكانوا يضنّون بهذا اللقب على إمبراطورة (٦) ألمانيا ، ولا

__________________

(١) تصرف الغزي كثيرا في النص. انظر «تاريخ التمدن الإسلامي» ٢ / ٥١٤ ط. بيروت ١٩٦٧ م.

(٢) الخواقين : جمع خاقان ، وهو لقب ملك الترك ، كما يقال كسرى لملك الفرس وهرقل لملك الروم ... إلخ.

(٣) انظر الكتاب المذكور ، ص ٢٩١ ـ ٢٩٤ وقد طبع في بيروت ١٩٢٥ م. ووقع فيما نقله الغزي بعض التحريف والتصحيف فصححنا ذلك بمقابلته على الأصل المنقول عنه.

(٤) في الكتاب الأصلي : «الاستهتار» فبدّلها الغزي.

(٥) في الكتاب الأصلي : «إمبراطرة» وهي جمع إمبراطور.

(٦) في الكتاب الأصلي : «إمبراطرة» وهي جمع إمبراطور.

٥١٨

يعتبرون هؤلاء إلا بمثابة ملوك المجر التابعين للباب العالي ، الذين يؤدون الجزية عن يد وهم صاغرون.

وكانوا يتعالون عن التقييد بالمعاهدات مع العواهل ، ويأنفون ـ إذا وعدوا أحدا منهم بالمساعدة ـ عن أن يدونوا وعدهم ، مكتفين معه بمجرد كلام. وكذلك كانوا يأنفون من نصب سفراء لهم في عواصم الدول الأجنبية ؛ لاعتقادهم أنهم في غنى عن سائر العالم ، وأنه على رجال الممالك الأجنبية المحتاجة إليهم أن يحجّوا إلى القسطنطينية عاصمة الكون.

وكان على سفراء الدول عند الملوك العثمانيين أن يقدموا للسلطان وكبراء حكومته هدايا ثمينة على سبيل الجزية. وكان السفير حين يقابل السلطان يمسكه اثنان من الحرس السلطاني من ذراعيه المكتفين ويتقدمان (١) به حتى إذا دنا من العرش خرّ مقبلا موطئ (٢) قدم السلطان. تلك بعض الأمثلة من أدلة العظمة التي كان عليها العثمانيون في عصرهم الذهبي وتلك الأيام المتداولة بين الناس).

أسباب انقراض الدولة العثمانية :

ذكر العلامة المؤرخ السيد محمد كرد علي ـ في كتابه خطط الشام ـ أسباب انقراض هذه الدولة نقلا عن مؤرخ تركي ، فقال ما خلاصته :

إن لأسباب انقراض هذه الدولة عوامل كثيرة أهمها :

(١) انقطاع البطولة من المسلمين وقيام الأتراك سدا أمام النصرانية ، وبذلك جلبوا عليهم خصومة أوربا المسيحية جمعاء ، فكانت مطارق المسيحيين تتساقط على رؤوس الأتراك مدة قرون.

(٢) إقرار تركيا العناصر المختلفة ـ المنضوية تحت رايتها ـ على ألسنتهم ودياناتهم ، ففتحوا للأجانب سبيل التدخل في شؤون الدولة الداخلية فكانوا سببا لانقراضها.

(٣) تدخل الدين في مصالح الحكومة وعدم قيام بناء الدولة على ما يجب.

__________________

(١) في الأصل «ويتقدما» وجاءت في الكتاب المنقول عنه على الصواب كما صححناها.

(٢) كانت : «موطئي» فصححناها كما جاءت في كتاب جميل بينهم.

٥١٩

(٤) جهل الملوك واستبدادهم وسفاهتهم.

(٥) تربيتهم رجالا من العناصر المختلفة كالعرب والأرمن وتسليمهم أمور الدولة.

(٦) هوس روسيا بالانتقام لمملكة بيزنطية ، واستمرارها على محاربة تركيا لتحقيق هذا الغرض.

ثم قال المؤرخ التركي ما معناه : إن الحكومة العثمانية تذرعت بالمعنويات دون الماديات ، وإنها بدلا من تجمع العنصر التركي تحت علم واحد صرفت جهودها إلى أواسط إفريقية وإلى أوربا ، وأهملت العالم التركي الذي كان يجعلها في حرز منيع من غارات أوربا ويكفيها شرّ عداوتها ، وإنها جعلت للغة العربية والفارسية سبيلا للعبث باللغة التركية فعاث بأهلها الفقر والجهل.

قال الأستاذ السيد محمد كرد علي ، بعد أن أتى على ذكر هذه الأسباب مفصلا : ونحن نقول إن السبب الأعظم لانقراض الدولة العثمانية تغافلها عن تقليد الغرب في الماديات والمعنويات ، فظهر على توالي القرون الفرق بين الخامل والعامل. وإن تركيب الدولة من عناصر مختلفة ـ معظمها غير مسلمين ـ كان من جملة الدواعي في عدم تركيبها تركيبا مزجيا ، خصوصا ومعظم تلك العناصر أرقى من الترك الأصليين عنصرا أو أكثر ذكاء وأعظم تاريخا ، ولا عيش للمتوسط مع الذكي ، وإذا أخضعه لسلطانه بالقوة فإلى حين.

أقول : ليس جميع ما ذكر المؤرخ التركي ـ من أسباب انقراض الدولة العثمانية ـ مما يسلّم به جدلا. ولو لا خوف الإطالة لفندنا معظمه. على أن هناك سببين قويين لانقراض الدولة العثمانية أشار المؤرخ المذكور إلى أحدهما ، ولم يوفّه حقه من التفصيل والبيان وأهمل ذكر الآخر بتاتا :

أما السبب الأول الذي أشار إليه : فهو عداء روسيا وإرهاقها تركيا بالحروب مدة قرون طويلة ، بحيث كانت لا تدع لها مجالا لتنظيم صفوفها وإعداد قواتها البحرية والبرية للحرب التالية إلا وتباغتها بالحرب مباشرة أو بالواسطة.

فروسيا هي التي كانت تعوق تركيا عن مماشاة أوربا في مهماتها الحربية وأعمالها الاقتصادية ؛ لأنها كانت متى أحست بنسمة انتعاش تهب عليها تعاجلها بالحرب مباشرة

٥٢٠