نهر الذّهب في تاريخ حلب - ج ٣

كامل البالي الحلبي [ الغزي ]

نهر الذّهب في تاريخ حلب - ج ٣

المؤلف:

كامل البالي الحلبي [ الغزي ]


المحقق: الدكتور شوقي شعث ومحمود فاخوري
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
المطبعة: مطبعة الصباح
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٤٠

أو صعوده. كما أنه كثيرا ما كان يهبط إذا توالت الأخبار بانكسار جيوش تركيا وقد تنعكس الحالة فيصعد مع توالي تلك الأخبار ولا يهبط.

وقد صار كصنف كبير من الأصناف التي يشتغل بها التجار ، ولهذا كنت ترى جماهير الصيارفة والتجار واقفين في باب خان الكمرك يتعاطون بيع هذا الورق وشراءه من بعضهم ، وكل اثنين أو ثلاثة منهم متكاتفون يتكلمون مع بعضهم همسا وفي أيديهم ألوف من هذا الورق يشتري زيد من عمرو ألف ورقة مائة قرش ، سعر كل واحدة منها ثلاثون قرشا وربع القرش مثلا ، ويدفع له الثمن نقدا في الحال نقودا ذهبيّة أو فضية ، وبعد ساعة يصعد سعر الورقة إلى ثلاثين قرشا ونصف القرش فيبيع زيد ألف الورقة ـ التي اشتراها قبل ساعة ـ إلى خالد على السعر الأخير فيربح منها مائتين وخمسين قرشا. ثم لا تمضي ساعة حتى يهبط السعر أو يعلو فيبيع خالد ألف الورقة التي اشتراها قبل ساعة ، فيربح أو يخسر على حسب السعر الموجود. فمن الناس من ربح من هذا الورق أرباحا طائلة ومنهم من خسر فيه جميع ثروته كأنه كان يلعب بالميسر.

من الأسباب الظاهرة التي حملت الناس على الخوف من عاقبة هذا الورق ـ فازداد سعره هبوطا حتى نزل إلى خمس قيمته المحررة فيه ـ خطبة ألقاها طلعت باشا ناظر مالية تركيا في مجلس النواب ، تكلم فيها على حالة هذا الورق وتلاعب التجار في أسعاره وأورد من جملتها عبارات يفهم منها بأن هذا الورق لم يكن مكفولا من قبل ألمانيا ولا من غيرها ـ كما كان يعتقده الناس الذين لا ثقة لهم بمالية الدولة ـ وإنما كانوا مقبلين على تداوله اعتمادا على ثروة كافلته دولة ألمانيا ، فلما سمعوا تلك العبارات من خطبة طلعت باشا أحجموا عن قبوله خوفا من سوء عاقبته ، فهبط سعره إلى خمس قيمته كما قلنا. مع هذا كان كثير من الناس يعتقد أن هذا الورق مكفول من دولة ألمانيا رغما عما قاله طلعت في خطبته وأن ما قاله في هذه الخطبة لم يقصد منه إلا تنزيل أسعار هذا الورق إلى الدرجة الغائيّة لتشتريه الحكومة من الرعية بالثمن البخس بواسطة سماسرة خفيين وتعدمه ، فتكون بعملها هذا قد وفت سلفا قسما كبيرا من الديون عن دولة تركيا من هذا الورق بقسم منه ، والله أعلم بحقيقة الحال.

إن كثيرين من التجار كانوا يشترون الورق من البلاد التي يهبط فيها سعره ويصرفونه في البلاد التي يعلو فيها فيبدلونه بالذهب الذي يهرّبونه إلى بلادهم بإرشاء المراقبين في محطات

٤٨١

سكك الحديد أو بغير طريقة. وربما اشتروا بالورق أموالا من استانبول أو مملكة النمسا أو بلغاريا وأحضروه إلى بلادهم كذلك. وقد يشترون بالورق من بلدة أجنبية أموالا تجارية لا يمكن إحضارها في إبان الحرب فيبقونها في تلك البلاد إلى أن تنتهي الحرب فيحضرونها. وقد يشترون بالورق العثماني المذكور أوراقا مالية أجنبية ويبقونها في أيديهم إلى ما بعد الحرب فيربحون منها مبالغ طائلة. مثلا : يشترون بثلاثة (١) ورقات عثمانية من أوراق المائة قيمتها التجارية الحاضرة ٧٥ قرشا ورقة إمريكانية قيمتها ١٠٠ قرش إلا أنها لا رواج لها الآن بين تجار البضائع في البلاد العثمانية فيبقونها محفوظة عندهم إلى انتهاء هذه الحرب ، ثم يصرفونها في شراء بضائع من البلاد التي يروج فيها الورق الأميركاني فيربحون منها أرباحا عظيمة.

الورق النقدي وحالة مرتزقة الحكومة :

ارتفعت أسعار أكثر البضائع الوطنية في مدة طويلة من أيام هذه الحرب إلى عشرين ضعفا عما كانت عليه قبلها. كان رطل الدقيق الجيّد قبل الحرب يباع بثلاثة قروش ، فصعد سعره في أثنائها إلى ستين قرشا ذهبية أو فضية. أما البضائع الغربية فمنها ما ارتفع سعره عشرين ضعفا ، ومنها ما ارتفع أكثر من ذلك ، كالسكر فإن سعره ارتفع قريبا من أربعين ضعفا ، كان الرطل يباع منه قبل الحرب بسبعة قروش فبيع في أثنائها بنحو ثلاثمائة قرش. وهكذا كان الحال في كثير من البضائع الغربية كالمنسوجات وأنواع الحرير والعقاقير والبترول وغيرها. وبسبب غلاء البضائع على هذه الصفة تضرر مرتزقو الحكومة من هبوط أسعار الورق أكثر مما تضرر به غيرهم. مثلا كان المأمور المستخدم الذي راتبه الشهري ستمائة قرش ـ أي راتبه كل يوم عشرون قرشا أميرية ـ وعياله سبعة أشخاص يعيش بهذا الراتب قبل هذه الحرب عيشة رضية ؛ لأنه يكفيه في اليوم رطل من الدقيق قيمته ثلاثة قروش ، والباقي من راتبه ـ وقدره سبعة عشر قرشا ـ يصرفها في باقي حاجاته من الأدم والكسوة والوقود والاستصباح والحمّام وأجرة المنزل ، وغير ذلك من النفقات الضرورية.

وكانت الحكومة تدفع ليرة الذهب العثماني على سعرها الأميري وهو مائة قرش ، وقيمتها الرائجة في التجارة مائة وسبعة وعشرون قرشا ونصف القرش. فكان معاشه الشهري ـ الذي هو ستمائة قرش ـ يبلغ سبعمائة وخمسة وستين قرشا رائجة. والمعاملة بين الأهليّين

__________________

(١) كذا والصواب : «بثلاث» كما هو واضح.

٤٨٢

على السعر الرائج. فلما تنازل سعر الورق إلى مقدار خمس قيمته صار هذا المسكين يأخذ راتبه من الحكومة ست ورقات ، سعر الورقة في التجارة عشرون قرشا ، فكان معاشه عن الشهر كله يبلغ مائة وعشرين قرشا رائجة ، وهي قيمة رطلين من الدقيق فقط لا يكفيه مع الاقتصاد أكثر من يومين ، فيضطر ـ لإكمال باقي ضرورياته ـ إلى أن يبيع أثاث منزله ثم ثيابه وثياب عياله حتى يضطر للتسؤّل. وربما كان لخدمته تسلط على الناس فيضطره الحال ـ رغما عن عفافه ـ أن يمد يده إلى أخذ الرشوة وأكل المال الحرام ، فيبطل الحق ويحق الباطل.

ولما بلغت الحالة بالمستخدمين هذه الغاية رأت الحكومة وجوب تلافي حالتهم بقدر ما يمكنها ، صونا لشرفها ، فشرعت تأخذ من الزارعين عشرا ثانيا ـ سمّته المبايعة ـ بقيمة تبلغ الربع والثلث من قيمته الحقيقية ، وتدفع للزراع هذه القيمة ورقا على سعره الأميري. وأما باقي المأكولات والصابون ومادة الوقود فإن الحكومة جعلت تشتريها من ذويها بقيمة تضعها من عند نفسها ، وتدفع لهم تلك القيمة ورقا على سعره الأميري أيضا. ثم جمعت هذه الأموال في مكان ووظفت لتوزيعها على المأمورين موظفين وكتابا ، يعطون المستخدمين من هذه الأموال مقدار ما يخفف ضررهم بقيمة تزيد على قيمتها التي اشترتها الحكومة بها شيئا قليلا ، وتأخذ منهم القيمة ورقا ـ من رواتبهم ـ على سعره الأميري. وسمّت هذا العمل (إدارة الإعاشة).

وبهذه الواسطة خفّ ضرر المستخدمين وصار يمكنهم أن يحصلوا مع الاقتصاد على ضروريات حياتهم. فكان المأمور يأخذ من هذه الإدارة في رأس كل شهر قدرا معلوما من الحنطة والبرغل والعدس والحمّص والملح والسكر والقهوة والحطب والفحم والصابون والزيت والبترول ، فيبيع من هذه الأشياء ما يمكنه الاستغناء عنه بقيمته الحقيقية ، ويصرف القيمة في باقي حوائجه.

جالية أهل المدينة المنورة :

وفي هذه السنة وهي سنة ١٣٣٥ قدمت علينا جالية أهل المدينة المنورة وهي في حالة يرثى لها ، قد تركت أموالها وأمتعتها في المدينة المنورة. وجاءت هذه البلاد في وقت غلت فيها أسعار الأقوات وارتفعت أجور المنازل. وكان بين هذه الجالية أسر كريمة فيهم السادات

٤٨٣

والأعيان الذين كانت موائدهم في المدينة المنورة مبسوطة للصادي والغادي ، فلما وصلوا حلب وليس معهم من المال سوى القليل اشتد عليهم الخطب والكرب رغما عما كان يبذله لهم بعض الحلبيين الكرام من القرى والمعونات ، إلى أن خصصتهم محاسبة الأوقاف بمبلغ من أموالها المشروطة لفقراء الحرمين المحترمين ، فخفّ عنهم بعض ما كانوا يجدونه من شظف المعيشة.

كان إجلاء أهل المدينة المنورة عنها من جملة الأمور التي نفّرت قلوب العرب عن الحكومة العثمانية ، وكانت القلوب تزداد نفرة واشمئزازا حينما كنا نسمع من أولئك الجاليات أخبار مظالم القائد العسكري هناك وما فعله بالعوالي (١) وأهلها من الفظائع.

سقوط القدس في يد الإنكليز :

وفيها تواردت الأخبار بأن القدس الشريف وغيرها من بلاد فلسطين دخلت في حوزة الدولة البريطانية ، وأن جيوشها تقدمت إلى جهة السّلط وغيرها من تلك الديار.

عزل جمال باشا وسفره :

وفيها وصل جمال باشا إلى حلب معزولا من القائدية العامة. وألقى في بعض الأندية خطابا أوهم به الناس أنه لم يعزل وإنما هو عازم على السفر إلى الآستانة لبعض شؤون مهمة ، وأنه عما قريب يعود إلى وظيفته. وكأنه أراد بهذا الإيهام بقاء مهابته في النفوس كيلا يتجرّأ أحد على اغتياله. وكأن ولاة الأمور في الآستانة أدركوا في ذلك الوقت أغلاطه وخطاياه في هذه الوظيفة فعزلوه. ويا ليتهم كانوا يفهمون ذلك قبل أن يعضل الداء ويتعذر الشفاء.

تعيين نهاد باشا قائدا بدل جمال باشا :

وفيها قدم على حلب قائدا عاما ـ بدل جمال باشا ـ نهاد باشا. وهو شاب جميل الطلعة بشوش الوجه دمث الأخلاق ، متباعد عن مواضع الريبة ، ميّال للخير. تمنى الناس أن لو كان ندب لهذه الوظيفة في أول الحرب ، أما الآن فماذا عساه يفعل وقد اتسع الخرق على الراقع ونفذت سهام القدر ولم يبق في القوس منتزع؟

__________________

(١) العوالي : المناطق المجاورة للمدينة المنورة (كما سيأتي في شرح المؤلف لها).

٤٨٤

سقوط بغداد في يد الإنكليز واستيلاء روسيا على بلاد الأناضول :

وفيها تواردت الأخبار باستيلاء الجيوش البريطانية على بغداد وتقدمها إلى جهة الموصل ، وبأن جيوش الروس استولت تباعا على طرابزون وأزروم ووان وبتليس ، وتقدمت نحو الموش. وقلق أهل ديار بكر من قربها إليهم.

هبوط أسعار الحبوب وعودها للارتفاع :

وفيها ـ في أيام إدراك المحاصيل الزرعية وورود الغلات إلى حلب ـ هبطت أسعار الحبوب هبوطا بيّنا ، فبيع الشنبل من الحنطة بستمائة قرش ، ومن الشعير بأربعمائة. غير أن ذلك لم يدم سوى أيام قلائل حتى عاد السعر للارتفاع كما كان ، وسبب ذلك إقبال الألمان على احتكار الحبوب وشراؤهم إياها بالثمن الذي يطلبه صاحبها منهم غير مبالين بغلائها ، لا يهمهم شيء سوى الحصول عليها بأي ثمن كان.

ولما رأى الوالي «بدري بك» أن الحب قد ارتفعت أسعاره ، حتى بيع شنبل الحنطة بألف ومائتي قرش ، خشي إن تمادى هذا الأمر أن يعود سعر الشنبل إلى ألفي قرش. فتخابر مع قواد الألمان وكلّفهم ألّا يباشروا بأنفسهم شراء الحبوب كيلا يطمع بهم أصحابها فيرفعوا سعرها ، وأنه يلزم نفسه بأن يقدم لهم جميع ما يلزمهم منها على سعر ١٢٠٠ قرش. فأجابوه إلى ما طلب. وفي الحال عيّن من قبله رجال درك فرسانا ، وأرسلهم إلى القرى ـ في قضاء الباب وقضاء جبل سمعان ـ وأمرهم أن يشتروا من المزارعين شنبل الحنطة بسبعمائة قرش معدنية ، رضي صاحب الحب أم لم يرض. وسمّى هذا البيع والشراء (سربست مبايعه) أي بيع بالحرية. فكان رجال الدرك ـ الذي أرسلهم لهذه المهمة ـ متى ظفروا بحنطة يأخذوها من صاحبها على هذا السعر ، رضي أم لم يرض ، ثم يحملوا ما يشترونه ويرسلوه إلى المحل الذي عيّنه الوالي وهو يقدّمه إلى الألمان على سعر ١٢٠٠ قرش حسبما تعهّد لهم. فحصل من هذا العمل فائدتان : فائدة خصوصية وهي ربح الوالي من كل شنبل خمسمائة قرش ، وفائدة عمومية وهي وقوف سعر الحبّ عند هذا الحد ، إذ لو لا هذا العمل لكان سعر الحب يرتفع إلى ألفي قرش أو أكثر.

على أن الوالي «بدري بك» قد ربح من هذه المسألة أرباحا طائلة تعدّ بعشرات الألوف

٤٨٥

من الليرات. ولو أنه كان يسمح بمقدار من هذه الأرباح إلى الفقراء لكان يخفّف عنه ذلك لغط الناس ، الذي كان أقلّه قولهم فيه : «هذا لم يجيء واليا وإنما جاء تاجرا». وكان يزيد لغطهم به حينما يرونه وهو يربح هذه الأموال مارّا في الشوارع متكئا على أريكته في سيارته ، والفقراء من جهتي الجادّة يضجون ويصيحون بكلمة «جوعان». ومنهم من مات ومنهم من أسكته الجوع وظل يجود بنفسه ، فيمر حضرته ويرى هذه المناظر المفزعة فلا يتحرك فيه دم الإنسانية بل تراه كأنه يتفرج على شيء تلذّ به النفس لغرابة منظره.

تشدد العسكرية في القبض على الناس :

وفي هذه السنة اشتدت العسكرية في إلقاء القبض على الناس الذين هم من مواليد سنة ١٢٨٠ إلى سنة ١٣١٥ رومية ، فكان رجال الدرك يمشون في الأزقة والشوارع ويقبضون على الرجال بلا تفريق بين الرفيع والوضيع. وكانوا متى رأوا شابا يستوقفوه ويطلبوا منه وثيقته فيبرزها لهم ، فإن كان ـ بحسب تفرّسهم به ـ أهلا لأن يستخرجوا منه شيئا تعللوا عليه بقولهم : هذه الوثيقة قد مضى حكمها ، أو هي مغلوطة أو تقليد ، أو يقولوا له تذهب معنا حتى تقدمها إلى رئيس دائرة أخذ العسكر ليقيدها في سجله ، أو يتعللوا عليه بغير ذلك من العلل الواهية ، فلا يرى المسكين بدا من أن يدفع لهم مقدار ما استحضره وأعدّه لمثل هذه البلية من النقود ذهبا فصاعدا.

هذه حالة أهل الوثائق مع رجال الدرك وأما الذين ليس معهم وثيقة فأولئك ممن غضب الله عليهم فاستحقوا من رجال الدرك كل إهانة وتعذيب ؛ لأنهم في الحال يوثقونهم في سلك الصفوف المسلسلة بالحبال ويسوقونهم أذلّاء صاغرين إلى محبس المركز ، الذي هو مغارة أو مسجد قديم. غير أن هؤلاء المسلسلين ـ الذين ربما يبلغ عددهم نحو مائة شخص أو أكثر ـ لا يصل منهم إلى محبس المركز سوى بضعة أشخاص ، وهم الذين لا يملك أحدهم خمسة قروش يرشي (١) بها زعيم رجال الدرك ليتخلص من قبضته ، فتزجّ هؤلاء الأشخاص في محبس المركز وتترك أياما طويلة. وربما كان المحبوس غريبا وليس له من يسأل عنه من أهله فيقاسي أنواع الجوع والبلاء ، لا تتركه العسكرية يخرج من محبسه ، ولا تأخذه

__________________

(١) كذا والصواب : «يرشو» لأن الفعل واويّ اللام. وشاع مضارعه بالياء على ألسنة الناس.

٤٨٦

للثكنة وتعسكره وتسوقه إلى الجهة المعيّنة لمثله. وربما بقي على هذه الحالة مدة أربعين أو خمسين يوما فيشرف فيها على التلف.

وكان الناس يسمّون رجال الدرك الذين يقبضون على الناس «أهل الحبلة» فمتى أحس بهم واحد من رأس السوق مثلا يناد : الحبلة الحبلة. فيعدو للهرب من لم يكن معه وثيقة. واشتهر من زعماء هؤلاء الرجال جماعة بالظلم والقسوة ونالوا ثروة طائلة من هذه المهنة. وكان أحدهم قبل الحرب لا يملك شيئا وللناس فيهم زجلات مضحكة يتغنّون بها في خلواتهم ، وكان هؤلاء الرجال يأخذون الرشوة من بعض الناس مشاهرة ويدعونهم في حوانيتهم. وكانوا لا يبالغون من التجاهر بأخذ الرشوة ولا يخافون من أن يطّلع عليهم رؤساؤهم. وبسبب ذلك كان الناس يعتقدون أن رؤساء هؤلاء الزعماء شركاء معهم.

وإن تشدد العسكرية في القبض على الناس قد أضرّ بهم ضررا عظيما لأن أكثر مواليد السنين المذكورة كانوا يضطرون للاختفاء ، فيبقون من غير كدّ ولا كسب مع أنهم أصحاب عيال وأطفال فيبيعون ما عندهم من الأثاث والثياب ليصرفوا أثمانها في قوتهم الضروري ثم ينفذ (١) ما عندهم فتضطر عيالهم للتسؤّل وربما مات أحدهم جوعا. وكان عذرهم في الفرار من التجند ما يسمعونه ويشاهدونه من سوء حالة العساكر في مأكلهم وملبسهم وقسوة الضباط عليهم ، فيرون الموت في أوطانهم أهون عليهم من الموت في جنديتهم.

تظاهر المستخدمين بالرشوة وسلب الأموال الأميرية :

وفي هذه السنة ، بعد أن سافر جمال باشا من هذه البلاد وتحقق انفكاكه عنها الأشرار المستخدمون من الملكيين والعسكريين ، ازداد تجاهرهم بالرشوة والتسلط على أموال الناس والدولة ، فعمّ فسادهم وكثر فجورهم. وكان المستخدمون في محطات السكك الحديدية أعظم الجميع تكالبا وأشدهم شرها في سلب الأموال. كانوا لا يمكّنون تاجرا من شحن بضاعته إلى جهة ما إلا بعد أن يأخذوا منه رشوة ، مبلغا يكفي شرههم ، وإلا قالوا له :الشحن ممنوع. وكان كثيرون من التجار تضطرهم الحال إلى أن يشركوا معهم في أرباحهم معتمد المحطة المعروف باسم (القوميسير) وإلا بقيت بضاعتهم مطروحة على الأرض.

__________________

(١) الصواب : «ينفد» بالدال المهملة. وتكرر ذلك عند المؤلف كثيرا. وهو خطأ شائع.

٤٨٧

وكثيرا ما كان القوميسير نفسه يتجّر بالبضائع لحسابه فيشحن إلى بيروت أو دمشق أو استانبول بضاعة من البضائع التي تربح كثيرا لأن غيره لا يقدر على شحنها ، فيربح من تلك البضاعة أرباحا طائلة يختص بها وحده. وربما كان يشرك معه في هذا الربح أحد كبار الموظفين إسكاتا له ، ويتحدث الناس عن أحد القوميسيرية أنه جمع مئات ألوف من الليرات بواسطة هذه الوظيفة. أما أمراء العسكرية فجميعهم إلا قليلا منهم لم يألوا جهدا بسلب أموال الدولة والرعية ؛ منهم من كان متسلطا على متعهدي الأرزاق العسكرية ومنهم من كان موكولا إليه شراء الدوابّ أو غيرها من لوازم الحرب ، ومنهم من كان مأمورا بالديوان العرفي أو معيّنا كناظر على استلام الحبوب أو الدقيق أو الخبز أو الحطب أو غير ذلك من الخدم والوظائف التي لصاحبها سلطة ونفوذ في جماعة التجار أو الزراع أو الصناع فكان كل واحد من أولئك المأمورين لا يمضي وصلا ولا يصدق على عمل من هذه الأعمال إلا بعد أن يأخذ القدر الذي يرغبه ويرضيه.

وكان الموظفون على أهراء الحبوب العشرية لا يتسلمون الحب ممن يقدمه إليهم إلا مغربلا خالصا من كل غشّ ، ويأخذون منه الثمانية ، عشرة ، ثم يخلطون الحب ترابا ومدرا عشرة أو عشرين في المائة ، وحين تسليمه ينقصون وزنه عشرة أو عشرين في المائة. يفعلون هذا علنا دون مبالاة من أحد ؛ لأن من يخافون سيطرته عليهم قد سدّوا فمه وأعموا عينه بمقدار ما يرضيه من المال مهما كان كثيرا ؛ لأن الأهراء قد يزيد فيه (١) من الغلة نحو ألف شنبل أو أكثر. فإذا فرضنا أن حافظ الأهراء باع كل شنبل بخمسمائة قرش يحصل في يده من النقود ما مجموعه نصف مليون من القروش ، وهو مبلغ كبير يشبعه هو وآمريه.

والخلاصة أن كل مستخدم في الملكية أو العسكرية من كبير وصغير ـ سوى قليل منهم ـ قد جمع في أيام هذه الحرب ثروة مدهشة طغى من أجلها وبغى وامتطى خيول السرف والترف ومشى في الأرض مرحا ، وتمنى أن تمتدّ مدة هذه الحرب ما دام حيا. وكنت إذا مررت على حوانيت صاغة الحلي تراها غاصة بنساء الضباط والأمراء والموظفين ، فكان الصاغة يشتغلون في الليل والنهار ولا يتاح لهم أن يقدموا الحلي إلى طلابه في الوقت

__________________

(١) كذا ، والصواب «فيها» لأن الضمير يعود على «الأهراء» وهي مخازن الحبوب.

٤٨٨

المطلوب. وكان كثير من الموظفين الموكلين على الأرزاق العسكرية يقصدهم التجار سرا ويشترون منهم أنواع البضائع بأبخس الأثمان.

قلنا : إن ازدياد التجاهر بالرشوة كان بعد انفكاك جمال باشا عن هذه البلاد ، وأما قبل انفكاكه عنها فكانت الرشوة أقل من ذلك بكثير بالنسبة إلى ما وجدت عليه بعد رحيله ، وهذا مما يجب أن يعدّ من جملة حسناته.

٤٨٩

سنة ١٣٣٦ ه

اشتداد الجوع وجمع إعانة للفقراء :

كانت الأمطار في شتاء السنة الماضية قليلة جدا بحيث يئس الناس من حياة الزروع ، فارتفع سعر شنبل الحنطة في حلب إلى ألفي قرش ، كما أشرنا إلى ذلك قريبا ، واشتد الخطب على العجزة والضعفاء والفقراء وأصبح كثير من الناس يقتاتون بالحشيش يسلقونه ويأكلونه فترم (١) سوقهم ويموتون. ومنهم من يقتات بقشور البقول والفواكه وتفل النّشا ـ المعروف بالدوسة ـ والعظام. وبعض الجزارين يخلط لحوم الحمير بلحوم الغنم ويغش بها الناس.

وصار الجوع يفتك بالفقراء فتكا ذريعا وقد ملأ ضجيجهم الفضاء فكان الإنسان يتألم من صياحهم وتضورهم ، خصوصا حينما كان يشاهد بعض موتاهم جثثا هامدة في الأزقة والشوارع رجالا ونساء وأطفالا ، الأمر الذي أثار الحمية وأزكى نار المروءة في أفئدة جماعة من أهل النشاط والوجاهة ، فسعوا بتأليف جمعية خيرية تهتم بجمع إعانة نقدية من أهل الخير تصرفها في قيمة خبز تفرقه على المعوزين المذكورين. فما مضى غير أيام قليلة حتى بلغ ما جمع من هذه الإعانة نحو خمسة وعشرين ألف ورقة مائة ، وكان سعر الورقة في التجارة نحو ثلاثين قرشا. ثم إن هذه الجمعية أخذت المدرسة الشعبانية والقرناصية والإسماعيلية وغيرها من الأماكن ، وحشدت فيها المعوزين من النساء والأطفال ليس إلّا ، وجعلت الجمعية تفرق على كل واحد منهم رغيفين في اليوم. وقد بلغ مجموعهم نحو ألفي نسمة ، وهذا العدد بالحقيقة يقدّر بثلث عشر فقراء مدينة حلب ، فإن عددهم يقدر بتلك الأيام بستين ألف فقير من المسلمين فقط. أما فقراء الطوائف المسيحية والإسرائيلية فكان يقدر عددهم بنحو عشرة آلاف فقير.

__________________

(١) تصاب بالورم. وفعله : ورم يرم.

٤٩٠

وكانت الجمعيات الخيرية من هاتين الطائفتين تقدم لهم أقواتهم الضرورية على حسب إمكانها ، ولم يكن في وسع الجمعية الإسلامية المذكورة أن تقوم بكفاية جميع فقراء المسلمين. وقد استمر هؤلاء الفقراء من المسلمين يتناولون هذه الجراية إلى أن نفذت (١) نقود الإعانة ، وكان الموسم قد اقترب وهبط سعر الشنبل من الحنطة إلى ١٢٠٠ ومن الشعير إلى ٦٠٠ قرش ، وتبين أن المحل كان في الجهات القبلية فقط ، وهي جهة العيس والأحصّ وقضاء المعرة ، أما في الجهات الشرقية وهي قضاء الباب ومنبج فقد كان المحل فيها أقل فتكا ؛ لأن الشنبل من البذر حصل مثله ، وفي جهتي الشمال والغرب حصل الشنبل من البذر ضعفه أو ثلاثة أمثاله.

والخلاصة أن المدة المجموعة من أواخر سنة ١٣٣٥ وأوائل هذه السنة وهي ١٣٣٦ لم يمرّ في أيام هذه الحرب أصعب ولا أكثر ميتا بالجوع منها.

سقوط السّلط ويافا وغيرها :

وفيها تواردت الأخبار البرقية باستيلاء الجيوش الإنكليزية العربية على السلط ويافا وغيرها من تلك الجهات وتقدموا إلى جهة درعا.

عود البرنس عبد الحليم إلى استانبول :

وفيها عاد البرنس عبد الحليم أفندي أحد أفراد الأسرة العثمانية من جهة فلسطين متوجها إلى استانبول.

استقراض داخلي :

وفيها فتحت الحكومة اكتتاب استقراض داخلي قدره ثلاثون مليونا من الليرات ، الورق النقدي ، بفائض خمسة في المائة في السنة ، على أنها تقبل الورق العثماني على سعره الأميري وتدفع عن كل مائة ورقة خمس ليرات ذهب فائضا على قسطين ، الأول بعد ستة أشهر من تاريخ أخذ القرض ، والثاني بعد ستة أشهر أخرى. فلم يقبل الناس على هذا القرض إقبالا يستحق الذكر لعدم ثقتهم بالحكومة. وفي شتاء هذه السنة كانت الأمطار كثيرة وكان

__________________

(١) الصواب «نفدت» بالدال المهملة.

٤٩١

الخصب عظيما إلا أن الغلات كانت قليلة بسبب قلة البذر.

انكسار روسية :

وفيها تواردت الأخبار البرقية بأن جيوش الألمان قد كسرت جيوش الرّوس شرّ كسرة (١) ومزقتها كل ممزق ، واحتلت قسما كبيرا من بلاد الروس ، وأن ألمانيا قد أكرهت روسيا على أن تخضع لها وتعقد معها صلحا يخدم مصلحة الألمان ، وقد قسّمت مملكة الروس بين العناصر القاطنة فيها وجعلت كل عنصر منها حكومة مستقلة تحكم مقدّراتها. وعدّ هذا الظفر لألمانيا برهانا قاطعا على أنها ستخرج من هذه الحرب ظافرة لأن قواتها حينما كانت متبعثرة في جبهة روسيا كانت هي الغالبة في الجبهة الغربية ، فما ظنك بها الآن وقد توفرت لديها تلك القوات المهولة وصار في إمكانها أن تحشدها كلها في الجبهة الغربية؟

ترخيص الحكومة بنقل الذهب :

وفيها ـ في شعبان ـ رخصت الحكومة بنقل النقود الذهبية من بلدة إلى أخرى داخل المملكة العثمانية.

وفاة السلطان رشاد :

وفيها ، في يوم الأربعاء رابع وعشرين رمضان ، أطلقت المدافع من القلعة والقشلاق العسكري إعلاما بوفاة المرحوم السلطان محمد رشاد الخامس وجلوس السلطان محمد وحيد الدين على عرش السّلطنة العثمانية.

عزل بدري بك والي حلب وتولي عاطف بك :

وفيها ـ في شوال ـ عزل بدري بك عن ولاية حلب وخلفه عاطف بك.

انكسار بلغاريا :

وفيها وردت الأخبار بالبرق العثماني أن حكومة بلغاريا قد انكسرت شر كسرة ،

__________________

(١) في الأصل : «كثرة» فصححناها.

٤٩٢

واضطرت أن تسلّم لعدوّتها دولة اليونان ، وأن الطريق الذي يصل برلين بالآستانة قد سده البلغار فتعذّر وصول الامداد بالسلاح والذخائر الحربية التي كانت تأتي إلى الآستانة من برلين والنمسا. وكانت هذه البلية من أعظم أسباب انكسار الجيوش الألمانية في البلاد الشامية وإخلاد تركيا إلى إلقاء سلاحها أمام الدولة البريطانية.

فحص فضلة المسافر :

وفي شعبان هذه السنة أعلنت الصحية في حلب بأن كل من يريد السفر على قطار الشام وبغداد إلى جهات دمشق وبيروت والآستانة ، وغيرها من البلاد والنواحي التي على هذه الخطين ، عليه أن يأخذ من دائرة الصحية وثيقة (بورتور) أي براءة تشعر بسلامته من الأمراض الوبائية. وإذا لم تكن معه هذه الوثيقة يمنع من السفر إلى تلك الجهات.

فكان كل من أراد السفر على قطار سكة الحديد ـ ذكرا كان أم أنثى ـ يحضر إلى مكان الصحية فيدخله خدمها إلى الخلاء ويدفع له قارورة صغيرة لها سداد ومعها ملوق صغير ، يكلفه بأن يأخذ شيئا من فضلته (١) ويضعه في القارورة ، فيفعل ويعيد القارورة إلى الخادم فيكتب اسمه عليها ويأخذها إلى محل التحليل ، وبعد يوم أو يومين يعود هذا الإنسان إلى مكان الصحية فيأخذ الوثيقة المذكورة إن كان تبيّن أن فضلته نقيّة من مكروب مرض وبائي ، وإلا منع من السفر وأخذ إلى المستشفى. وكان كثير من الناس يستهجنون هذا العمل ولا تطاوعهم نفوسهم على إجرائه ، فكانوا يأخذون الوثيقة شراء بريالين أو أكثر ، على حسب تحملهم ، وبذلك فتح للصحية باب جديد من الرزق ونصب شرك آخر لعرقلة مساعي من أراد السفر ؛ لأنه كان يناله تعب زائد في الحصول على تلك الوثيقة علاوة على ما كان يناله من التعب في الحصول على إجازة السفر التي يجب عليه أيضا أن يأخذها من جهة شرطة مخفر محلّته.

انسحاب الروس من بلاد الأناضول :

وفيها ورد الخبر بالبرق العثماني أن عساكر الروس قد انسحبوا من بلاد الأناضول التي كانوا استولوا عليها في أواسط هذه الحرب ، وهي أزروم ووان وبتليس ، وانسحبوا أيضا

__________________

(١) الملوق : الملعقة ، أو ما يشبهها. والكلمة من العامية التي اندثرت اليوم أو كادت. والفضلة : البراز.

٤٩٣

عن طرابزون وأخلوا الباطوم وغيرهما من البلاد العثمانية التي كانوا احتلوها في جهات قفقاسيا في الحروب الأخيرة الغابرة مع تركيا.

عود الشريف حيدر باشا إلى الآستانة :

وفيها قدم من جهة دمشق إلى حلب حضرة الشريف علي حيدر باشا عائدا إلى الآستانة.

تقدم جيوش الإنكليز والعرب في جهات درعا وانهزام المستخدمين :

في شهر ذي القعدة من هذه السنة تواترت الأخبار بتقدم جيوش الإنكليز والعرب في جهات درعا ، وأن القوة المعنوية في الجيوش التركية الألمانية قد انكسرت واستولى عليها اليأس ، ففارق ليمان باشا الألماني مكانه وتوجه إلى جهة استانبول ، وكان معاونا في القيادة الحربية جمال باشا الصغير الذي هو قائد الجيش المحارب ، وهو غير جمال باشا القائد العام. ثم فارق جمال باشا الصغير الجيش المحارب ، وهو غير جمال باشا القائد العام. ثم فارق جمال باشا الصغير الجيش أيضا ولحق بليمان باشا ، وبعده طفق المستخدمون والموظفون من ملكيين وعسكريين في البلاد الساحلية ودمشق وغيرها يتركون وظائفهم ويرحلون أفواجا إلى استانبول وغيرها من البلاد التركية خوفا من استيلاء جيوش الإنكليز والعرب عليها ووقوعهم أسرى في أيدي المحتلين أو قيام الأهليّين عليهم انتقاما من إساءتهم إليهم.

استبدال والي حلب عاطف بك بمصطفى عبد الخالق بك :

وفي ذي الحجة من هذه السنة عزل والي حلب عاطف بك وخلفه مصطفى عبد الخالق بك ـ وهذه ولايته الثانية ـ فوصل إلى حلب في اليوم الخامس والعشرين من هذا الشهر مجردا عن عياله ونزل في فندق البارون.

٤٩٤

سنة ١٣٣٧ ه

جلاء الموظفين من أماكنهم :

في أوائل محرّم هذه السنة وصل إلى حلب جمهور من الموظفين والمستخدمين فرارا من وقوعهم أسرى في قبضة المستولين ، قادمين من دمشق وبيروت وغيرهما من البلاد السورية والساحلية التي قرب استيلاء الجيوش الإنكليزية العربية عليها ، متوجهين إلى استانبول والأناضول. وكان مع هؤلاء الموظفين أهلهم من النساء والأطفال ، فازدحموا في سكة حديد بغداد وظل الكثيرون منهم عدة أيام تحت السماء بلا غطاء ولا وطاء ، فنالهم من المشقة ما لا مزيد عليه.

خبر سقوط دمشق وتشتت شمل الجيوش العثمانية :

يوم الثلاثاء ـ ثالث يوم من محرّم هذه السنة ـ وصل الخبر إلى حلب بأنه في ظهيرة يوم الاثنين ، ثاني يوم من الشهر الحالي ، استولى على دمشق الشام عرب الشريف ، الذين هم في مقدمة جيوش الدولة البريطانية ، وكان السواد الأعظم من موظفي تركيا فيها قد خرجوا منها قبلا كما ذكرناه آنفا ، وحين دخول العرب إليها أقيم أحد كبراء أولاد المرحوم الأمير عبد القادر الجزائري مقام الوالي ليقوم بإدارة توطيد الأمن والسلام في المدينة ريثما يحضر إليها ـ من قبل الشريف حسين ملك العرب ـ من يتسلم زمام إدارة أمورها.

وقد ارتاع الناس في حلب من هذا الخبر وعجبوا من سرعة سقوط هذه المدينة العظيمة في أقرب وقت وكانوا يقولون : إنها لا يمكن سقوطها بأقل من سنة. وقد تشتت شمل الجيوش العثمانية الألمانية في جهات درعا ومزقوا كل ممزق ما بين أسير وقتيل في الحرب وضائع ومتردّ ومقتول من قبل عرب البوادي وسكان القرى المتوسطة بين دمشق ولبنان وبعلبك. وكانت جبهة الحرب في جهات درعا ، وهناك كانت هزيمة جيوش الأتراك ومن معهم من الألمان. وكان سبب انكسارهم الفجائي ـ الذي لم يكن في الحسبان ـ

٤٩٥

التفاف العرب عليهم من ورائهم بقطع مسافة من الصحراء في مدة لا يمكن للجيوش الإنكليزية أن تقطعها فيها ، لكثرة أثقالها التي لا تتحملها تلك الرمال في هاتيك المفاوز. وبسبب هذا الالتفاف أصبح الجيش التركي بين نارين نار الإنكليز ونار العرب ، فانقطع عليه خط الرجعة وعوّل على الهزيمة. وقد غنمت جيوش إنكلترة من الأقوات والمهمات الحربية وغيرها ما يعجز عنه قلم الإحصاء.

سقوط رياق :

هذا ولم يمض غير أيام قلائل على سقوط دمشق حتى شاع في حلب أن الألمان قد يئسوا من الظفر بعدوهم فأحرقوا محطة رياق بما فيها من الذخائر والمهمات ـ وكانت شيئا كثيرا ـ ونسفوا شبكتها الحديدية وتقدموا إلى جهة بعلبكّ وجاء العرب على أثرهم واستولوا على رياق.

انتهاء صحيفة الفرات :

وفي اليوم الخامس من محرّم هذه السنة كان ختام حياة صحيفة الفرات وآخر نسخة صدرت منها في هذا اليوم كان عددها (٢٠٤٢٠).

إبطال القبض على العساكر :

وفي هذا اليوم صدر أمر القائد العسكري العثماني بحلب بإبطال إلقاء القبض على العساكر الفارّين. فسرّ الناس من ذلك سرورا زائدا لتخلصهم من هذا البلاء الذي كان خارجا عن طاقتهم.

حدوث فزع في حلب :

وفي يوم الجمعة سادس محرم وقع الذعر في سوق مدينة حلب ، فأغلقت الدكاكين والخانات وهجم الناس متزاحمين يعدون كالسيل الجارف. وكان سبب هذا الذعر طلقة من غدّارة (١) خرجت على غير قصد في يد واحد من سوق البزّ ـ المعروف بسوق

__________________

(١) الغدّارة : سلاح ناري قصير ، فوهته واسعة. وهي أصغر من البندقية وأكبر من المسدس.

٤٩٦

البالستان ـ فأصابت شابا من بيت ونّس فقتلته في الحال ، فظن الناس أن هذه الطلقة من جهة الجنود التركية أو الألمانية الذين وصلوا إلى حلب ؛ مع أن الجنود المذكورين لم يصلوا إلى حلب إلا بعد ستة عشر يوما كما يأتي بيانه.

وفي يوم السبت والأحد وقع نظير ذلك الذعر في السوق المذكور ، وكان سببه قيام جماعة من السّفلة والغوغاء للنهب والسلب ، وهم من العساكر الفارّين الذين خرجوا من مخابئهم آمنين غائلة القبض عليهم ، وحينئذ أدرك الأهلون والحكومة أن إبطال قضية القبض على العساكر الفارّين مضرة بالمصلحة العامة فأعيد القبض وبطل الخوف من السّفلة والمتشردين.

نسف محطات وسقوط حمص وحماة وغيرهما :

وفي هذه الأيام وردت الأخبار من جهات حمص وحماة بأن الجنود التركية والألمانية حملهم اليأس من مقاومة جنود العرب والإنكليز على أن يحرقوا جميع المحطات بين رياق وحلب وينسفوا شبكاتها الحديدية ، ويهدموا سائر ما في هذا الطريق من الجسور وينسحبوا إلى جهة حلب ، وأن العرب أتوا على أثر انسحابهم واستولوا على حمص وبعلبك وحماة.

خوف الجنود التركية وموظفي حكومتها وارتحالهم من حلب :

وفي هذه الأيام وقع الخوف في حلب وشاع أن العرب يصلون إليها يوم الجمعة عشرين محرم. فأخذت الجنود التركية الألمانية والجم الغفير من موظفي الحكومة العثمانية يسرعون الرحيل من حلب إلى جهات استانبول والأناطول ؛ خوفا من وقوعهم أسرى في قبضة الإنكليز ، أو من تسلّط أهل البلد عليهم انتقاما منهم على ما كانوا يفعلونه معهم في أثناء هذه الحرب من المظالم وأنواع التعدي. فازدحم في محطة بغداد موظفو حلب مع موظفي دمشق وبيروت وحمص وحماة وغيرها من البلاد الشامية والساحلية ومعهم نساؤهم وأطفالهم وقاسوا في برهة ليلتين مرّت عليهم هناك ـ وهم تحت السماء ـ من الجهد والبلاء ما لا يعلمه إلا الله تعالى. وكان الرجل العظيم من هؤلاء الموظفين يرضى أن يتيسر لركوبه ولو حافلة دوابّ ، حتى إن قاضي حلب سليمان سرّي أفندي ركب في حافلة دواب وعدّ ذلك نعمة عظمى.

٤٩٧

تحليق طيارات الإنكليز في سماء حلب :

بعد سقوط دمشق بأيام قلائل بدأت طيارات الإنكليز لأول مرة تحلّق في سماء حلب لاكتشاف مواقع الجنود العثمانية في ضواحي حلب ، والألمانية في جهات قرية «المسلميّة» فكان هؤلاء الجنود كلما علتهم طيارة يطلقون عليها كرات مدافعهم فلا تعمل فيها شيئا. وفي يوم من الأيام حلّق في سماء حلب خمس طيارات في آن واحد ، فكثر إطلاق المدافع عليها ، وألقت طيارة منها قنبلة وقعت على مقربة من محطة بغداد وانفجرت فقتلت ستة عشر إنسانا وجرحت أربعين وقتلت عدة دوابّ.

مقدمات سقوط حلب :

يوم الأربعاء ثامن عشر محرم حضر والي حلب العثماني مصطفى عبد الخالق بك إلى دار الحكومة ، ودعا إليه جماعة من وجهاء حلب وعلمائها وأخبرهم بأن حلب تسقط عما قريب وأنه عازم على البقاء في حلب إلى ما قبل سقوطها بثلاث ساعات ، وأنه يصرف منتهى جهده على حفظ الأمن والسلام مهما كلفه ذلك من الخطر على نفسه ، غير أنه يطلب من الوجهاء وأهل البلدة أن يساعدوه على تنفيذ هذا الغرض وأن يختاروا منهم رئيسا عليهم وواليا وقتيا إلى مجيء عساكر الشريف إليهم. فانتخبوا منهم سبعة أشخاص انتخبوا واحدا منهم رئيسا عليهم كوكيل وال وقتي.

الهدنة بين إنكلترا وتركيا :

وفي هذا اليوم وردت الأخبار البرقية تفيد أنه حصل بين دولة إنكلترة ودولة تركيا هدنة إلى مدة ستة وثلاثين يوما. فسرّ الناس من ذلك الخبر سرورا عظيما.

إطلاق المحابيس :

وفي ليلة الخميس تاسع عشر محرم حضر قائد الدرك المسمى عند الدولة العثمانية (قومندان الجندرمة) إلى محل المحابيس وأمر أفراد الدرك الموكلين بحفظ المحابيس بأن يتركوا خدمتهم ويتوجهوا إلى حيث شاؤوا. ففعلوا ما أمرهم به وتركوا السجون خالية من الحرس وكان فيها ما يربو على ألف وخمسمائة مسجون. وسمع ذلك رجال الدرك والحرس والشرطة

٤٩٨

الموظفون في المخافر لحفظ الأمن فتركوا مخافرهم وتوجهوا إلى منازلهم. ولما سمع هذا الخبر المجلس الذي أمر بانعقاده الوالي العثماني ظن أن الوالي هو الذي أمر قائد الدرك بذلك ، وأن الحكومة العثمانية قد انسحبت وتخلت عن حفظ البلدة ، فاهتم المجلس بتأليف قوة من أهل البلدة لتقوم بحفظها ريثما تدخل الحكومة الجديدة.

صدور أمر الوالي بحل المجلس الذي أمر به :

وفي صباح يوم الخميس تاسع عشر محرّم الجاري دعا الوالي العثماني عبد الخالق بك رجال المجلس الذي أمر بانعقاده ، وأنكر عليه سعيه بتأليف القوة المحافظة وأخبره بأن الحكومة لم تنسحب بعد من حلب ، وأنه إنما أمر بهذا المجلس ليتذاكر معه في بعض الشؤون التي بواسطتها يتم استتباب الأمن والراحة حتى تدخل الحكومة الجديدة ، وأن القائد العثماني يقول إن حفظ البلدة من خصائصه وإنه لا يرضى بتأليف قوة من أهل البلد لأجل حفظها إلا إذا جعلت هذه القوة تحت أمره ونهيه. وبالحقيقة أن الوالي والقائد أساءا الظنّ بهذا المجلس وتوهما أن القوة التي يؤلفها ربما أوقعت بهما وببقايا الأتراك من المأمورين والعساكر الذين لم يتمكنوا من الجلاء مع أن ذلك لم يخطر على بال أحد من أهل حلب الذين ما برحوا إلى ذلك الوقت يهابون الأتراك ويحترمونهم.

اشتداد الخوف وقيام الأسافل للنهب :

انسحب المجلس الوقتي لما سمعه من الوالي ، وضرب الصفح عن جمع القوة المحافظة التي لا ترضى أن تكون تحت أمر القائد ونهيه ، وانسحبت الحكومة العثمانية لأن جميع رجال دركها وشرطتها استولى عليهم الخوف فتركوا وظائفهم ، والجنود النظامية لا يوجد منهم في المدينة سوى خمسين أو ستين جنديا لا يمكنهم التجوال في البلدة لحفظ الأمن فيها لأنهم واقفون بالمرصاد للدفاع عن الوالي والقائد إذا تعرض إليهما أحد من الأرمن وأهل البلدة أو غيرهما. وباقي الجنود النظامية قد توجهوا إلى جبهة الحرب المصطفّة تجاه جنود العرب والإنكليز في نواحي الراموسة وقرية خان طومان والشيخ سعيد ، فلم يبق في البلدة قوة تحفظ الأمن والسكينة.

وأصبح الناس في هذا اليوم وهو يوم الخميس فوضى لا حاكم ولا رادع لهم. فقام

٤٩٩

الأسافل من كل ملّة وانضم إليهم زعانف الأعراب المجاورين لحلب وهجموا كالسيل الجارف على مستودعات الجنود التركية والألمانية والثكنة العسكرية القديمة المعروفة بالشيخ يبرق ، والحديثة الكائنة على جبل البختي ، وعلى مكاتب الحكومة ومستشفيات الجنود ، ونهبوا جميع ما وجدوه في هذه الأماكن من السلاح والقذائف والأقمشة والحبوب والمنسوجات والصوف والقطن وأنواع الحديد والأخشاب والصابون والرز والسمن والزيت ، وكان شيئا كثيرا. واقتلعوا أغلاق هذه الأماكن ورفوفها ونهبوا صناديقها وكتبيّاتها وما في ذلك من السجلات والدفاتر التي لا فائدة لهم منها سوى جلودها ، فأما ما فيها من الأوراق فكانوا ينثرونها ويطرحونها تحت أقدامهم. وكان بعض هؤلاء الأوباش يدخلون المستشفى وينهبون جميع ما فيه ، ثم يطرحون المرضى عن أسرتهم ويأخذون مفارشهم ، وربما جردوا المريض من ثيابه وتركوه مطروحا على الأرض. وقد بيعت غدّارة المرتين (١) بخمسة قروش ، وصندوق القذائف المعروفة بالخرطوش بقرشين.

فاستولى الخوف على القلوب وأسرع التجار إلى إغلاق حوانيتهم خوفا من هجوم الأشقياء عليهم. وأمسى الناس في أمر مريج (٢) لا يأمن الإنسان على نفسه وماله من التفاف هؤلاء الأسافل إلى منزله ونهب ما فيه والتعرض إلى حرمه.

انفجار لغم :

وبينما كان الناس على هذه الحالة المكربة إذ سمع وقت الغروب هزيم (٣) انفجار صمّت له الآذان كأنه صوت مائة صاعقة انقضّت في آن واحد ، فانخلعت القلوب هلعا وارتعدت الفرائص ، واهتزت أرجاء البلدة وجدرانها وتحطم كثير من زجاج النوافذ. وظن الناس لأول وهلة أن القائد العسكري بدأ بإطلاق كرات المدافع على البلدة ليخربها ، فأيقنوا بالهلاك. ثم ظهر أن هذا الهزيم هو صوت انفجار مستودع بارود قديم في الثكنة العسكرية ؛ كانت العساكر التركية وضعت فيه لغما انفجر بيد أحد الناهبين. وحينئذ اطمأن الناس

__________________

(١) سبق شرح الغدارة. والمرتين : البندقيّة يحملها المشاة ، من التركية. وقوله «غدّارة المرتين» من إضافة الشيء إلى نفسه للتوضيح.

(٢) أي مختلط.

(٣) الهزيم : الصوت المدوّي ، وأكثر ما يستعمل في صوت الرعد.

٥٠٠