نهر الذّهب في تاريخ حلب - ج ٣

كامل البالي الحلبي [ الغزي ]

نهر الذّهب في تاريخ حلب - ج ٣

المؤلف:

كامل البالي الحلبي [ الغزي ]


المحقق: الدكتور شوقي شعث ومحمود فاخوري
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
المطبعة: مطبعة الصباح
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٤٠

هذا وإن لكل دولة من دول الاتفاق ـ في القيام إلى هذه الحرب ـ أغراض (١) خاصة (عدا الغرض العام) دعتها إلى القيام على ألمانيا ومحاربتها وقهرها.

وها نحن نتكلم هنا على ما علمناه لكل دولة من دول الاتّفاق من الأغراض الخاصة بهذه الحرب فنقول :

أغراض دولة بريطانيا العظمى من هذه الحرب :

هي حفظ سيادتها البحرية وإن شئت فقل سيادتها الدولية. المحاماة عن مستعمراتها في الكونغو التي قصدت ألمانيا تقسيمها سنة ١٩١٣ م / ١٣٣٢ ه‍ ، دفع غائلة ألمانيا عن الهند لأنها بدأت تبذل جهودها في أسباب الوصول إليها ، فعزمت على مدّ السكة الحديدية إلى العراق ، وأخذت تمهد الأسباب لذلك في خليج البصرة. عزم بريطانيا العظمى على جعل شبه جزيرة العرب إمارات تحت نفوذ إمبراطورية عامة عربية خاضعة لإرادة إنكلترا ، وهناك لهذه الدولة العظيمة مقاصد أخرى من هذه الحرب يطول شرحها.

أغراض دولة فرانسة من هذه الحرب :

هي أخذ الثار من ألمانيا واسترداد اللورين وقلعة متس والألزاس وستر برج وضمّ ما فيهما من الألمان ـ البالغ عددهم مليونا ونصف المليون ـ إلى الجمهورية الفرنسية. شلّ يد ألمانيا عن إنجاز وعدها لحكومة مراكش سنة ١٩٠٥ م / ١٣٢٣ ه‍ بأنها ستمد إليها يد المساعدة على فرنسة. إرجاع ألمانيا عن طلبها من فرنسا سنة ١٩٠٦ م / ١٣٢٤ ه‍ أن تتخلى لها عن حقوقها في تلك البلاد. صدّ ألمانيا عن بذل جهودها في مؤتمر الجزيرة المنعقد سنة ١٩٠٧ م / ١٣٢٥ ه‍ بأن تنسحب فرنسا من مراكش. مجازاة ألمانيا ومعاقبتها على بذل مساعدتها سنة ١٩٠٨ م / ١٣٢٦ ه‍ إلى النمسا على اغتصابها بوسنه سراي وهرسك ، وعلى نقضها معاهدة برلين وتحرشها سنة ١٩١٠ م / ١٣٢٨ ه‍ بالفرقة التونسية وتعديها عليها وإرسالها سنة ١٩١١ م / ١٣٣٠ ه‍ إنذارا ثانيا وأسطولا إلى أكادير محتجة على فرنسا بهجوم جيشها على مدينة فاس. ومن تلك الأسباب أيضا اتفاق ألمانيا مع بعض خونة من الوزراء

__________________

(١) الصواب «أغراضا» بتنوين النصب ، لأنه اسم إنّ.

٤٢١

على أن تأخذ ألمانيا مائتي ألف كيلومتر من الأراضي الفرنسية في مستعمرة الكونغو. ولها غير ذلك من المقاصد والمطالب.

أغراض الدولة الروسية من هذه الحرب :

هي تمزيق دولة تركيا والاستيلاء على استانبول. كانت دولة روسية منذ مئات من السنين تحاول الوصول إلى هذه الغاية ، وكانت كل من دولة إنكلتر وفرنسا يحبطان مساعيها في ذلك الوقت. وفي النهاية أدركت روسية بعد معاهدة برلين أن استيلاءها على استانبول أصبح من رابع المستحيلات ، فحوّلت وجه أطماعها إلى الهند. ولما أوصدت السياسة الإنكليزية في وجهها هذا الباب حوّلت أطماعها إلى الشرق الأقصى وقصدته فضربت دولة اليابان على يدها تلك الضربة الدامية ، وحينئذ رأت روسية أنه لم يبق عندها لتوسيع أملاكها سوى الرجوع إلى تلك النغمة القديمة وتحقيق حلمها الأزلي ، وهو تمزيق تركيا واستيلاؤها على استانبول تنفيذا لوصية بطرس الأكبر. رضيت بذلك إنكلترة لتحول قصد روسية عن الهند ، وتجعل المملكة العثمانية ضحية عنها وتكون بذلك قد استفادت فائدة أخرى لها عندها أهمية كبرى ، وهي تخلّصها من الخلافة العثمانية وسيطرتها الروحية على العالم الإسلامي في الهند. وقد أطلقت إنكلترا يد دولة فرنسة في سوريا لتسكت عن روسية في انقضاضها على ملك بني عثمان.

ومن جملة مقاصد روسية من القيام على ألمانيا والنمسا تحقيق حلمها الآخر الذي هو الاستيلاء على العنصر السلافي المنضوي تحت راية النمسا والمجر وضمّه إليها ، وجمع شمل البعض الآخر من هذا العنصر في البلقان وجعله ولاية خاضعة لحكمها.

سبب دخول دولة أميركا إلى هذه الحرب :

كانت دولة أميركا ـ منذ نشبت الحرب العالمية إلى أن دخلت هي في غمارها ـ واقفة موقف الحياد تستغل الأرباح الطائلة من الفريقين المتحاربين اللذين يجتهد كل واحد منهما بأن يضمها إلى صفه. بقيت أميركا واقفة هذا الموقف حتى قدّم وزير خارجية إنكلترا المستر بلفور إلى المستر بايج ـ في أواخر شهر فبراير سنة ١٩١٧ م / ١٣٢٦ ه‍ ـ برقية فحواها أن ألمانيا تستعد الآن لمحاربة أميركا. وقد أرسل البرقية وزير خارجية ألمانيا عن

٤٢٢

طريق بطرسبرج إلى السفير الألماني في واشنطون ليرسلها إلى سفير ألمانيا في المكسيك ليطلب من رئيس جمهورية المكسيك أن تتحد مع ألمانيا على محاربة أميركا ، وأن مكافأة جمهورية المكسيك على هذا الاتحاد ضم عدة ولايات إليها من أميركا. وفي هذه البرقية أيضا تكليف السفير الألماني إلى السعي بفصل اليابان عن دول الاتفاق وضمها إلى التحالف الألماني. وكانت تلك البرقية محرّرة بالشفرة ، وإنكلترا هي التي استحوذت عليها وفكّت طلاسمها لأنها تمكنت في أول الحرب من الاستيلاء على مفتاحها. ولما اطلعت أميركا على البرقية المذكورة عبأت جيوشها وانضمت إلى دول الاتفاق وخاضت معهن في عباب هذا البحر الطامي وكان من أمرها ما كان.

السبب الثانوي لهذه الحرب :

السبب الثانوي لهذه الحرب الضروس اغتيال عصابة صربيّة ولي عهد إيمبراطور النمسا وزوجته. وذلك أنهما في اليوم الثامن والعشرين من حزيران سنة ١٩١٤ م ـ الموافق أوائل شهر رمضان سنة ١٣٣٢ ه‍ ـ بينما كانا في مدينة «بوسنه سراي» راكبين في سيارتهما متوجهين بين صفوف الموكب العسكري إلى إحدى كنائس المدينة ، إذ فاجأتهما قنبلة متفرقعة وعيار ناري أوديا بحياتهما. وفي الحال ألقي القبض على من جنى عليهما هذه الجناية الفظيعة وهو البيكباشي (وجاتا نكوسك) و (ميلان سيغانوريك) كلاهما من عصابة سربية اسمها (نارودنا أو ديرانا) أخذت على عاتقها بذل الجهود بإقلاق راحة حكومة النمسا وفك بوسنه وهرسك عنها وربطهما بحكومة الصرب. وقد تبين من تقرير الجانيين المذكورين أنهما مدفوعان إلى هذا العمل من قبل كبار الموظفين في حكومتهم قصد إثارة فتنة يكون عقباها استيلاء حكومة سربيا على بوسنه سراي وهرسك المحايدتين لمملكتهما واللتين معظم أهلهما من العنصر السربي.

وبعد حدوث هذه النكبة بعثت حكومة النمسا في اليوم الثالث والعشرين من تموز إلى حكومة السرب إنذارا شديد اللهجة أمهلتها لإعطاء جوابه خمسة عشر يوما. فأرادت حكومة السرب قبول شيء من مضمون الإنذار ترضية لحكومة النمسا لتحققها من نفسها العجز من مقاومتها. فنهتها عن ذلك حكومة روسيا وشجعتها على الثبات أمام النمسا ووعدتها المساعدة عليها ، فامتثلت حكومة السرب أمر روسيا وامتنعت عن جواب الإنذار ، وحينئذ

٤٢٣

اضطرت حكومة النمسا إلى عمل مناورة حربية إرهابا لسربيا لتكرهها على قبول مضمون الإنذار ، وأطلقت جنود الحكومة النمسوية بعض كرات مدافعها على حدود سربيا تهديدا لها. وكانت حكومة سربيا قد علا صراخها استنجادا بالدول العظمى ، فقامت عساكر روسيه على حكومتها وأكرهتها على تعبئة جيوشها وإشهار الحرب على ألمانيا توصلا إلى محاربة حليفتها النمسا. ثم شبت نيران تلك الحروب على الوجه الذي سنبيّنه.

بيان أن هذه الحرب كانت مقررة قبل هذه الحادثة :

سمّيت هذه الحادثة سببا ثانويا للحرب لأن العقل يستبعد أن تكون هذه الحرب ـ التي قامت من أجلها الدنيا وقعدت ـ مسبّبة عن تلك الحادثة الاعتيادية التي يكثر وقوع نظائرها في أوربا فلا تأبه بها. غاية ما يمكن أن يقال في هذه الجريمة أنها كانت سببا لتعجيل إعلان الحرب لا سببا لوجودها. ودليلنا على ذلك ما كنا نراه في حلب من الحركات العسكرية الدالة على الاهتمام بالتأهب والاستعداد إلى مباغتة المستقبل بأمر عظيم ، فإن الضباط العسكريين كانوا قبل إعلان الحرب بأشهر يحضرون بين حين وآخر إلى خانات التجار ويسجلون مقادير ما عند كل تاجر من البضائع والغلات وأحيانا يأمرون التجار بالإمساك عن بيع بعض البضائع الموجودة عندهم. ثم قبل إعلان الحرب بنحو شهر أو أكثر دعت جهة العسكرية عرفاء المحلات المعروفين بالمخاترة وأعطت كل واحد منهم مغلفا مختوما على صحيفة مكتوبة ، وأمرته بحفظه عنده مع بقائه مختوما ، وحذّرته من فتحه ووعدته بالقتل إن هو فتحه قبل أن تأمر بفتحه. فكان المختار يأخذ المغلّف ويحفظه في أحرز مكان عنده.

ومن الأدلة الساطعة على أن هذه الحرب كانت مدبرة مقررة ـ قبل حدوث نكبة الاغتيال ـ قول جمال باشا في مذكراته أثناء كلامه على التحالف التركي الألماني : إن عرض ألمانيا على تركيا التحالف معها لم يكن إلا لانزعاجها لتأهبات خصومها. وقال السير روجر كيسمنت الإرلندي في كتابه الذي ألفه تحت عنوان «الجريمة التي ارتكبت ضد أوربا» : إن الخلاف الذي وقع بين السرب والنمسا لم يكن سوى شطر يسير جدا من المسألة الكبرى التي قسمت أوربا على ما نراه فيها من الأقسام المسلحة. وأكبر دليل على ذلك تقرير أرسله السير «ج بوشنان» بمناسبة الطلب الذي قدمته حكومة روسيا إلى سفير

٤٢٤

حكومة إنكلترة في بطرسبرج. وهو أن يؤكد على حكومته أن تنضم إلى روسيا وفرنسة وتعضدهما في أعمالهما. فأجاب سفير إنكلترا على ذلك بقوله أن ليس لحكومته مصالح في السرب تقضي عليها اتخاذ هذه الخطوة ، ثم إن الرأي العام الإنكليزي لا يمكن أن يقنع بوجوب اشتراك حكومته في هذه الحرب من أجل السرب فقط. فعند ذلك رد عليه ناظر خارجية روسيا بقوله : يجب علينا ألّا ننسى أننا في الحقيقة واقفون أمام المسألة الأوربية الكبرى ، وما أمر السرب إلا جزءا يسيرا (١) منها. وأنا أظن أن إنكلترا لا يحسن بها أن تضيع الفرصة وتتغاضى عن المسألة التي نحن بصددها. اه.

أقول : من قرأ هذه المناقشة وأمعن النظر في فحواها علم علم اليقين أن هذه الحرب مدبرة قبل حادثة الاغتيال ، وأن هذه الحادثة كانت سببا لتعجيل الحرب لا سببا لوجودها كما أسلفنا بيانه.

نبذة من الكلام على تضخم إيمبراطورية ألمانيا :

إن الأمة الألمانية ارتقت من بين الأمم الغربية المتمدنة الذروة العليا في جميع حاجيات الحياة. فكما أنها أحرزت قصب السبق في فنون الحرب ومهماته ومعدّاته ، فقد حازت القدح المعلّى من فنون الاقتصاديات على كثرة أنواعها ، ونالت النصيب الأوفر من العلوم الاجتماعية والسياسية وفنون الطب وحفظ الصحة التي بواسطتها لم تزل مواليدها بالنسبة إلى وفياتها آخذة بالازدياد يوما فيوما. كان عدد نفوس الإيمبراطورية الألمانية سنة ١٨١٦ م / ١٢٣٢ ه‍ يقدر ب (٢٥) مليونا. ثم في سنة ١٨٧١ م / ١٢٨٨ ه‍ بلغ عدد نفوسها (٤١) مليونا. ثم في سنة ١٨٨٨ م / ١٣٠٦ ه‍ بلغ (٤٨) مليونا. وفي سنة ١٩١١ م / ١٣٣٠ ه‍ بلغ (٦٦) مليونا.

ومما برعت به الأمة الألمانية فلسفة الطبيعيات والكيميا اللتين أوصلتاها بالأبحاث الدقيقة إلى إخضاع القوات النارية والكهربائية إخضاعا لم يعهد له مثيل. فاستخدمت تلك القوات بالزراعة والصناعة على تعدد أنواعها : من سكب الحديد ونسج الأقمشة ، وعمل السيارات والطيارات ، والغواصات والقوات البحرية التي لا يباريها بها مبار.

__________________

(١) الصواب : «إلا جزء يسير» بالرفع ، لأن «ما» انتقض نفيها ب «إلّا» فبطل عملها.

٤٢٥

كان عدد حصن البخار عندها في سنة ١٨٨٢ م / ١٣٠٠ ه‍ مقدرا بمليون ومائتي ألف حصان. ثم في سنة ١٩٠٧ م / ١٣٢٥ ه‍ بلغ عدد هذه القوة نحوا من خمسة ملايين ومائتي ألف حصان.

على أن الذي أعان الأمة الألمانية على النبوغ في المسائل الاقتصادية والفنون الحربية ، هو غناء بلادها من الحديد والفحم الحجري اللذين هما أس كل قوة آلية. وعليه فإن ألمانيا بمعاملها ـ التي تتحرك بالبخار والكهرباء والغاز الفقير والبترول والبنزين ـ قد فاقت بكثرتها ، بالنسبة إلى عدد نفوسها ، جميع الأمم في أوربّا وغيرها.

كانت صادرات ألمانيا قبل خمس وعشرين سنة من القطن تقدر ب ٦٧ مليونا ، فصارت الآن تقدر ب ٤٢١ مليونا من الماركات. وصادرات الصوف كانت تقدر ب ١٧٧ فصارت الآن تقدر ب ٢٥٣ مليونا من الماركات. وعلى هذه النسبة زادت فيها صادرات الحرير والكتان وبقية المواد التي تنسج منها الأقمشة. وعلى هذه النسبة أيضا زاد فيها عدد التجار ، فقد كان في سنة ١٨٨٢ م / ١٣٠٠ ه‍ يقدر بمليون وخمسمائة ألف فصار الآن يقدر بثلاثة ملايين وأربعمائة وسبعة وسبعين ألفا وستمائة تاجر. وهكذا قل في زيادة الخطوط الحديدية وأسلاك البرق وأسلاك الهاتف والمواد الطبية والفنون الزراعية ، وجميع البضائع التجارية ، وصنوف الأصبغة والأشربة الروحية التي تصدرها دول العالم المتمدن من ممالكها ، فإن ألمانيا قد برعت بها أيما براعة.

لم لم تتفق تركيا مع دول الاتّفاق ، ولم لم تبق على الحياد؟

يؤخذ من مذكرات جمال باشا أن تركيا رغبت عقد التحالف مع دول الاتفاق ، وأن جمال باشا سافر إلى باريز للحصول على هذا الغرض وقابل وزير خارجية فرانسة ، وطلب منه ـ قبل إبرام عهدة الوفاق ـ حل مسألة الجزر بين تركيا واليونان. فكان جواب الوزير له ما معناه أن فرنسة لا يسعها الموافقة على هذا الطلب دون رضاء حلفائها. ومن هذا الجواب فهم جمال باشا أن دول الاتفاق لا ترغب التحالف مع تركيا ، فعاد إلى استانبول بخيبة الأمل. وقابل فيها السير لويس ماليت سفير إنكلترا. وبينما هو يحادثه إذ قال له السير لويس : أرغب منك يا جمال باشا أن تصرح لي بمطاليب الحكومة العثمانية في مقابلة بقائها على الحياد. فأجابه جمال باشا ، بعد أن راجع الصدر

٤٢٦

الأعظم بقوله : إن الحكومة العثمانية تطلب ـ في مقابلة بقائها على الحياد ـ إلغاء الامتيازات ، إعادة الجزر التي أخذتها اليونان من تركيا ، حلّ مشكلة مصر ، تعهد روسيا بعدم التدخل بشؤون تركيا الداخلية ، معونة إنكلترا وفرنسة الفعلية فيما لو هاجمت روسيا بلاد تركيا. قال جمال باشا ما معناه : فأبلغ السير لويس حكومة لندره مطالب تركيا فكان جوابها هكذا :

لا يمكن التفكير بإلغاء الامتيازات ، إنما يمكن لإنكلترا ـ بعد اتفاق حلفائها ـ أن تسمح بإلغاء بعض امتيازات مالية. وأما مسألة الجزر فيجب تأخيرها والنظر إليها فيما بعد ، كما أن المسألة المصرية يترك الخوض فيها الآن ، وإن روسيا لا تفكر مطلقا في مهاجمة تركيا. وإن إنكلترا تطلب ـ في مقابلة إلغائها بعض الامتيازات المالية ـ عدم إغلاق المضايق في وجه سفن روسيا.

فهم جمال باشا من هذا الجواب أن دول الاتفاق لا تود اشتراك تركيا بالحرب في جانبهن ، لأن ذلك يضيع لروسيا فكرة الاستيلاء على استانبول وأن غرض دول الاتفاق السعي في منع تركيا عن القيام بشيء لغير مصلحتهن ، وبالاحتفاظ في غضون الحرب بالاتحاد مع روسيا وإعطائها عند الفوز النهائي استانبول ، ومنح الولايات العربية استقلالا داخليا يسهل فيما بعد سقوطها تحت حمايتهن ووصايتهن.

قال جمال باشا في مذكراته ما خلاصته : إن بقاء تركيا على الحياد ، مع عدم معارضة الملاحة في المضايق ، يسهل لروسيا بعد خروجها من الحرب العالمية ظافرة الانقضاض على استانبول والولايات الشرقية في الأناضول.

قال : وإذا قصدنا التخلص من هذه الغائلة وأردنا إقفال المضايق ـ مع أن دول الاتفاق لا تسمح لنا بقفلها ـ أمكن حينئذ دول الاتفاق أن تضغط علينا ، بل ربما يقول لنا البعض منهن أن يحتل المضايق إلى أن تضع الحرب أوزارها وحينئذ نعيدها إليكم.

قال جمال باشا بعد هذا كله : فلم يبق لنا سوى الالتجاء إلى تحالف قوي.

تحالف تركيا مع ألمانيا :

قال جمال باشا في مذكراته أثناء كلامه على موقف دول الاتفاق حيال تركيا ما ملخصه :

٤٢٧

إن إنكلترا قد تمكنت من القطر المصري ، وهي تجتهد بالحصول على العراق وفلسطين وتوطيد نفوذها في جميع أنحاء شبه جزيرة العرب. وإن روسيا لا تحتاج عداوتها لتركيا إلى دليل ، وهي لا ترى لتحقيق مطامعها أفضل من عزلة تركيا. وأما دول التحالف الثلاثي فإن النمسا وإيطاليا لم يبق لهما مطامع أخرى نحو تركيا ، فقد قدمتا لها كل ما استطاعتاه من الأذى فلم يبق لهما حاجة إلى مطمع جديد. وأما ألمانيا فإنها ترغب أن ترى تركيا عزيزة الجانب إذ لا يمكن ضمان مصالحها إلا بتقويتها.

لا تستطيع ألمانيا الاستيلاء على تركيا وتجعلها كمستعمرة ؛ لأن المركز الجغرافي والموارد الألمانية يجعلان ذلك مستحيلا. فألمانيا إذن تعتبر تركيا بمثابة حلقة في سلسلتها التجارية ، ولهذا أصبحت من أشد أنصارها ضد حكومات الاتفاق التي حاولت تمزيقها خصوصا لأن تصفية تركيا كان معناه تطويق ألمانيا بصفة نهائية ، وذلك أن تركيا في الجنوب الشرقي من ألمانيا كغلق (١) لذلك الطوق ، فالطريق الوحيد الذي تدرأ به ألمانيا ضغط الطوق الحديدي هو منع تمزيق تركيا.

ولما قنطت تركيا من التحالف مع دول الاتفاق على الوجه الذي أسلفنا بيانه ، ورأت أن مطامع روسيا لا تتحقق إلا بعزلتها ، أخذت تفكر في محالفة تنقذها من هذا الخطر. وقد استغرق تفكّرها هذا نحو ستة أشهر. وبينما كان الوقت قد آذن بنشوب الحرب ، وتركيا في قلق من عزلتها ، إذ بألمانيا تعرض عليها عقد محالفة تتفق مع مصالحها وتضمن حقوق الطرفين. فلم تتأخر تركيا عن قبول المحالفة مع تلك الإيمبراطورية القوية البأس ، فإن لهذه المحالفة محاسن كثيرة منها منع دول البلقان عن التدخل في شؤون حكومة تركيا. ومنع دول الاتفاق عن الاستيلاء على بلادها. ومنها أن علماء ألمانيا وفنونها وخبراءها التجار يصبحون تحت تصرف تركيا. إلى غير ذلك من المحاسن والمزايا التي تستغلها تركيا من هذا التحالف. ثم إن دولتي النمسا وبلغاريا دخلتا مع ألمانيا في عقد هذا التحالف دون تردد ولا توقف لأن ما يهم ألمانيا يهمهما أيضا.

__________________

(١) الغلق ، بفتحتين : الباب العظيم. وهو أيضا ما يغلق به الباب ويفتح.

٤٢٨

تصريح بالفوائد التي تقصدها ألمانيا من محالفتها مع تركيا :

لألمانيا في عقد تحالفها مع تركيا مقصدان :

المقصد الأول :

هو حفظ مضايق استانبول من استيلاء روسيا عليها كيلا تفقد ألمانيا وأوستريا ـ حليفتها الأخرى ـ استغلال الفوائد الاقتصادية اللائي تجنيانها من قبل العالم الإسلامي القاطن وراء البحر الأسود والأبيض ، ولتكون تركيا سدا منيعا لوصول المدد إلى روسيا من حلفائها إبان الحرب ، إذ لا سبيل إلى إمداد حلفائها إياها من جهة البحر الأبيض إلا من طريق استانبول.

إن روسيا لو وصل إليها المدد من حلفائها من هذا البحر لما كانت ألمانيا حين نشوب الحرب العالمية تقوى على إخضاعها في تلك المدة القصيرة. وكيف يتصور العقل جواز قهر أمة ـ في تلك المدة الوجيزة ـ يبلغ عدد شعوبها زهاء مائتي مليون ، وجنديها من أشهر جنود الدول البرية لو كان المدد واصلا إليها من حلفائها كما يجب. لا جرم أن المضايق لو كانت مفتوحة لإمدادها بالمعدات والمهمات الحربية لصعب على ألمانيا أن تضربها تلك الضربة القاصمة لظهرها التي لم تكن متوقعة من قبل. ناهيك دليلا على ما وقر في صدور الألمان من عظمة روسيا وضخامة ممالكها وكثرة شعوبها أن الإمبراطور غليوم سئل عن عدد الدول التي يحاربها في هذه المعركة فقال : «عدد الدول التي أحاربها الآن ثلاث ، منها دولتان هما روسيا وحدها ، والدولة الثالثة هي بقية الدول». فاعتبر دولة روسيا وحدها دولتين واعتبر بقية الدول العديدة دولة واحدة.

المقصد الثاني :

هو : من المعلوم أن موقع المملكة الألمانية والنموسية من قارة أوربا متوسط ، وهما معدودتان من الدول المركزية في هذه القارة ، وأن المنطقة المحدقة بهما مفتوحة الغلق (١) من جهة تركيا فقط. ثم لا يخفى أن العالم الإسلامي يبلغ عدده نحو ثلاثمائة مليون من

__________________

(١) سبق شرحه بأنه الباب.

٤٢٩

النفوس ، وهو متبعثر في الربع المسكون ما بين محكوم بدولة إسلامية ضعيفة مضروب عليها نطاق السيطرة من قبل دولة أجنبية ، وما بين قاطن بمستعمرات تحكمها دول أجنبية كالهند وتركستان وتونس والجزائر ، فإنّ الحكومات المستولية عليها في تلك الأصقاع تتصرف بمقدراتها كما تشاء.

ولما رأت دولة ألمانيا أن العالم الإسلامي المتبعثر على هذه الصفة لو تألفت أجزاؤه وربطت ببعضها برابطة الدين لجاء منه قوة تهدد الأرض ببأسها ، فرغبت (١) أن تكون هذه القوة بجانبها ورأت أن لا سبيل إلى استمالة هذه القوة إلى جانبها إلا بالاتفاق مع الدولة العثمانية مقرّ الخلافة التي يتعلق بعرشها عامة المسلمين. فبذلت الدولة المشار إليها جهدها منذ أعوام طوال بموالاة الدولة العثمانية والمحاماة عنها إلى أن اطمأنت تركيا منها ، فمدت إليها ألمانيا يد الاتفاق ، وعقدته معها على أن تكون الدولتان يدا واحدة في إنقاذ العالم الإسلامي وإرجاع مجده إلى ما كان عليه. حتى إن جمال باشا صرح في مذكراته عدة مرات أن أول غرض لتركيا من هذه الحرب هو خدمة العالم الإسلامي. لا ريب أن دولة ألمانيا لو كانت هذه الحرب منجلية عن فوزها وظفرها لكانت جذبت إليها بهذا الاتفاق قلوب عامة المسلمين واستمالتهم نحوها بحكم قاعدة : (من والى صديقك فقد والاك) فكانت تستفيد هي وأوستريا من استمالة العالم الإسلامي إليهما ثلاث فوائد :

الفائدة الأولى :

إشغال قوات عظيمة لأعدائها حين قيامهم عليها تتركها أعداؤها في مقابلة من جاورهم من الحكومات الإسلامية وإماراته المستقلة ، حينما يحدث بين ألمانيا وأوستريا وأعدائهما حرب في أوربا.

الفائدة الثانية :

التي تستفيدها الدولة الألمانية من استمالة العالم الإسلامي إليها : هي جعل الدولة الإسلامية وإماراتها ـ في عامة الرّبع المسكون ـ جزءا من دول الاتفاق المربع لتقاتل معها كجيش من جيوشها حينما تسنح لها الفرصة بشن الغارة على إحدى مستعمرات دول

__________________

(١) لا وجه لدخول الفاء على الفعل الماضي هنا. والجملة جواب «لمّا» الظرفية الشرطية.

٤٣٠

الاتفاق في آسيا وأفريقيا ، ولا سيما الهند التي هي مصدر قوة إنكلترا. وقد رأت دولة ألمانيا وغيرها من الدول المعظمة أنه لا سبيل إلى قهر الأمة البريطانية وجعلها في عداد الدول الثانوية إلا بسلب الهند من يدها وشن الغارة عليها من جهة آسيا ما دامت مخانق البحار في قبضتها وأن الأمم الإسلامية التي تعترض طريق الوصول إليها في آسيا مما لا يستغنى عن مظاهراتهم والاستنصار بقوتهم حين الإغارة على تلك الدولة ، الأمر الذي تعده ألمانيا من مقدمة المقاصد من استمالة المسلمين إليها. ولا يخفى أن الدول الإسلامية وإماراتها في آسيا يتألف منها جيوش ضخمة تملأ الفضاء ، وهي في منتهى درجات القوة والشجاعة بحيث إذا أمدت بالمعدات وقادها رجال محنكون عارفون بفنون الحرب لجاء (١) منها قوة لا تلبث معها أكبر دولة حتي تهن قوتها ويتلاشى معظم ملكها.

الفائدة الثالثة :

رواج البضائع الألمانية والنمسوية في الممالك الإسلامية. إذ من المعلوم أن الأمة الألمانية لم تدع لباقي الأمم مجالا للسبق في ميادين الصناعة والاقتصاديات كما أسلفنا بيانه. ولا يخفى أن استثمار هذا التقدم والرقي يحتاج محصوله إلى أسواق يروج فيها ، وأن أول داع لرواج البضاعة رخص أسعارها ولا شك أن البضائع الألمانية ـ على اختلاف أنواعها ـ حائزة هذه المزية ، ولهذا يتهافت الناس عليها في مشارق الأرض ومغاربها حتى إن كثيرا من شعوب الدول العظام ـ كشعوب إنكلترا وشعوب فرانسة ـ يرغبون بالبضائع الألمانية عن غيرها فيقبلون على شرائها بكل رغبة ونشاط ، حتى إنك لتجد في نفس جزيرة بريطانيا كثيرا من المحركات الألمانية في المعامل الكبيرة ، اختارها أصحاب تلك المعامل دون غيرها لإتقانها ورخصها.

ومع كثرة ما يصرف من البضائع الألمانية في أسواق أوربا وأميركا ، فإنها لم تزل كثيرة وافرة يزيد محصولها على الصادر منها زيادة عظيمة ، فرأت ألمانيا أن تفتح لها أسواقا جديدة في آسيا وأفريقيا تصرف فيهما ما توفر لديها من محاصيل البضائع. ولما كان العالم الإسلامي في هاتين القارتين يعدّ من الشعوب الكبيرة فقد رغبت ألمانيا أن تستميله إليها بواسطة الخلافة الإسلامية لتنال منه رغبتها في رواج محاصيلها ، فيقبل عليها وتزداد بواسطة الخلافة فوائدها

__________________

(١) الصواب حذف اللام ، لأنه لا يقترن بها جواب «إذا» الشرطية.

٤٣١

الاقتصادية التي تسابق بها دول الربع المعمور.

تصريح في البواعث التي حملت تركيا على الاتفاق مع دولة ألمانيا :

معلوم أن دولة تركيا أتى عليها زمن ورايتها تخفق فوق ممالك يربو عدد أهلها على مائة وعشرين مليونا. وكانت دول أوربا في ذلك الوقت يحسبن لها حسابا عظيما ويتسابقين مع بعضهن بالتزلف إليها. ثم لما تقلبت الدهور والأعصار عليها وأخذت ترجع القهقرى ـ سنّة الله في الأيام التي يداولها بين الناس ـ بقيت دولة بريطانيا على مجاملتها لتركيا ، رعاية لخواطر رعاياها المسلمين المرتبطين بالخلافة العثمانية برابطة الدين وتوهينا لأعدائها عن تقربهم إلى مستعمرة الهند ، كمحاماتها عنها في واقعة أبي قير ، تلك الواقعة المدهشة ، وكمحاماتها هي ودولة فرنسا في حادثة القرم التي كسرت فيها جيوش دولة روسيا أيما كسرة ، توهينا لقوة هذه الدولة وإيقافا لها عند ذلك الحد.

ثم إن إنكلترا أمنت غائلة الروس باتفاقها مع دولة اليابان على دفع الروس عن الشرق الأقصى ، وكانت دولة تركيا قد وصلت إلى دورها الأخير من التقهقر والانحطاط وأصبحت عرضة لاستيلاء الفاتحين ، وقد ذهب قسم عظيم من بلادها في الحرب الأخيرة مع روسيا ولم يبق ريبة في عجز تركيا عن مقاومة أعدائها ، فاستغنت دولة إنكلترا عن مجاملتها لتركيا ورأت أنها أولى من غيرها بالأكل من هذه المائدة المبسوطة لكل وارد وصادر ، وأجدر من سواها بالاستيلاء على تلك البلاد ، وأن المسألة الشرقية قد آن أوان مباشرتها ، فاحتلّت ـ في حادثة اعرابي باشا ـ مصر. ومن ذلك الوقت بدأت تركيا تشعر بانحراف هذه الدولة عن مجاملتها ، وكانت عيونها وقناصلها في الممالك الأجنبية تعلمها من وقت إلى آخر بأمور تدل على سوء مقاصد أوربا مع تركيا وعدولها عن مجاملتها واتفاقها على معاكستها ، فتعكّر صافي اعتقادها بإخلاص أوربا ، ثم ازدادت نفورا من دولها حينما تحققت أنهن يعاكسنها في جزيرة كريد ويساعدن مقاصد اليونان. وبعد مدة تأكدت بأنهن انقلبن ضدها انقلابا بينا وانضم إليهن عدوها الأكبر دولة روسيا وغيرها من باقي أعدائها مبرهنة هذا الانقلاب باتفاق الدول على حرمانها مما جنته سيوف جنودها من بلاد حكومة اليونان في حربها الأخيرة معها.

٤٣٢

وكان قد تواتر عند العثمانيين أن دول أوربا غير المركزية قد اتفقن على تقسيم بلاد تركيا فيما بينهم ، وعلى إخراج نواياهن في المسألة الشرقية من حيز القوة إلى حيز الفعل. فلم ير السلطان عبد الحميد بدا من التمايل إلى دولة ألمانيا التي كانت تخطب صداقة تركيا منذ أمد بعيد تمهيدا لبلوغ مقاصدها التي أسلفنا ذكرها. فأحضر هذا السلطان جماعة من الألمان ـ أساتذة العلوم العمرانية والفنون العسكرية ـ إلى مدارس استانبول ووظّفهم بوظيفة التدريس والتعليم. ومن ذلك الوقت شرع هؤلاء الأساتذة يغرسون في أفكار التلامذة حب ألمانيا ويجسمون في مخيلتهم عظمة دولتهم وحبها لدولة تركيا ، ويؤكدون لهم ما وقر في صدر دولة إنكلترا من المقاصد السيئة في حق تركيا وأنها قسمت بلادها بينها وبين باقي دول أوربا ودول البلقان. وكان التلامذة يعتقدون صحة هذه المبادىء ويثبتونها في أذهان الأمة حتى تمكنت من عقولهم واستحكمت في اعتقادهم.

ثم قام حزب الاتحاد والترقي على السلطان عبد الحميد وحملوه على العمل بالقانون الأساسي وقلبوا الحكومة إلى الديمقراطية ثم خلعوه. وقد ساعدت دولة إنكلترا الاتحاديين في هذا الانقلاب انتقاما من السلطان عبد الحميد على ميله إلى الألمان وتقريبه إياهم ، واتخاذه منهم الأساتذة والمرشدين وبعض قواد عسكريين. ثم حدثت حرب طرابلس الغرب بين تركيا وإيطاليا. وكان الاتحاديون يأملون من دولة إنكلترا المساعدة في هذه الحرب فخاب أملهم ولم تساعدهم إنكلترا بشيء حتى ولا بإمرار قواتهم من مصر إلى جهة طرابلس. فازداد نفورهم من إنكلترا وتأكدت رغبتهم بالميل إلى ألمانيا حينما لم يروا بدا من التجائهم إلى هكذا دولة قوية تساعدهم على خصمهم العظيم ، خصوصا بعد أن خاب سعيهم بالتحالف مع دول الاتفاق الذي قدمنا بيانه. ثم حدثت حرب البلقان بين تركيا وحكومات البلقان ، وانجلت هذه الحرب عن انكسار تركيا وخسرانها جميع ولاياتها في البلقان ، وأعلنت البلغار استقلالها بالرومللي ، والنمسا في البوسنه والهرسك. ثم إن تركيا سنحت لها فرصة أمكنتها بمساعدة ألمانيا استرجاع قسم كبير من ولاية أدرنة ، وحينئذ رأت تركيا أن لا مناص لها عن أن تتفق مع ألمانيا لدفع العادية على ثمالة ممالكها (١) ؛ لأنها تحقق لديها من ماجريات هذه الأحوال أن جميع دول الاتفاق العظيمة تشرئب أعناق مطامعها إلى أخذ بلادها وملاشاتها مع ما هي عليه من الضعف والفقر ، وأنه لا ينجيها من نشوب مخالب

__________________

(١) أي على بقيّتها.

٤٣٣

هذه الدولة سوى اتفاقها مع دولة عظيمة كألمانيا التي لم تمد من قبل إلى بلادها يدا ولن تقدر أن تمد إليها يدا لموقعها الجغرافي ، مؤملة بذلك أن تحفظ كيانها بل طامعة بما سولته لها ألمانيا وبما علمته من قوتها وعظمتها بأن تعيد لها مجدها السالف لتحققها أنها وحلفاءها هم الغالبون ، وأن كل من نواهم سيكون مغلوبا.

هذا ما دعا تركيا إلى الاتفاق مع ألمانيا وحلفائها : إيطاليا والنمسا والبلغار. وهذا هو اجتهاد الاتحاديين ، أخصّهم بالذكر بطلهم وصنديدهم أنور باشا الذي نشأ في مدارس ألمانيا وتغذى بألبانها ، وقد أداه سعيه إلى أن يكون الرجل الواحد في دولة تركيا لا يعارضه فيما أراد معارض ولا ينازعه منازع.

دولة إيطاليا حيال الدول المتحاربة :

كانت دولة إيطاليا متفقة منذ عهد قديم قبل الحرب مع دولة ألمانيا ، فلما بدأت الحرب بقيت إيطاليا على الحياد مدة سنة أو أكثر ، وكانت الأخبار تصل إلينا عنها ملونة ، فمرّة يبلغنا عنها أنها لا بد وأن تبقى على اتفاقها مع ألمانيا ، فهي عما قريب تعلن معها الحرب على دول الاتفاق ، وأخرى يبلغنا عنها أنها ستنضم إلى المتحالفين وتعلن الحرب معهم على الاتفاقيين. والناس يبنون على دخولها مع أحد الفريقين رجحان كفة الميزان مع الفريق الذي تدخل معه. ثم في آخر الأمر انضمت إلى الاتفاقيين وأشعلت نار الحرب مع النمسا فلم تفز بطائل.

منذرات هذه الحرب في حلب قبل ظهورها :

قبل إعلان هذه الحرب بأعوام طويلة كانت بعض النفوس الحساسة في حلب تشعر بأنه لا بد وأن تقع هذه الحرب ولو بعد أعوام. وسبب الشعور بذلك هو ما يحس به الباحثون عن أحوال أوربا ـ خصوصا عما يجري بين الأمتين ألمانيا وفرانسة ـ من المراقبة والتحفز على بعضهما إذ أنهما ما برحتا منذ أربعين سنة ـ أي منذ انتهاء حرب السبعين حتى الآن ـ تجد كل واحدة منهما في إعداد المهمات الحربية الجهنمية استعدادا لهذه الحرب الطاحنة ، فكأن نار حرب السبعين قد خمدت ظاهرا ولكنها في الباطن كانت تتأجج كالنار المدفونة في الرماد. ولذا قال بعض الساسة : إن الحرب العامة القائمة الآن لم تكن حربا

٤٣٤

جديدة محدثة ، وإنما هي من تتمة حرب السبعين. ولذا كنت ترى حينا بعد حين في الصحف الإخبارية والمجلات العلمية أقوال المنجمين والمتكهنين المنذرة بهذه الحرب قبل ظهورها بعدة أعوام.

هذا ، وفي أوائل هذه السنة وهي سنة ١٣٣٢ بدأ بعض الناس في حلب يتحدثون سرا بأنه عما قريب تشتعل نار حرب حامية بين عامة الدول ، مع أنه كان لا يوجد في صحف الأخبار ما يدل على ذلك. وكان هذا التحدث السري يتفشى بين الناس يوما فيوما حتى شاع بين جميع الطبقات غير أن من الناس من كان يستبعد الحرب ، ومنهم من يرى أنها قريبة الوقوع. وكان أمراء العسكرية وضباطها يحضرون في بعض الأيام إلى خانات الغلّات ، ويسجلون مقادير ما يجدونه فيها من الحبوب والذخائر ، ويأمرون الخاني (١) بعدم بيعها أحيانا ، ويرخصون له به أخرى. وربما طافوا في خانات التجار وأحصوا ما عند كل واحد منهم من الأقمشة والبضائع المأكولة وغيرها. فكان الناس يرتابون من هذه الأعمال لأنها مما لم يسبق لها نظير ، وبسببها كانت تقوى عندهم صحة الشائعات المنتشرة فيما بينهم بخصوص الحرب العالمية.

تتمة حوادث سنة ١٣٣٢ ه

سباق الخيل :

وفي شهر جمادى الثانية من هذه السنة جرى في أرض الحلبة ـ ظاهر حلب ـ سباق خيل حافل ، حضره كبار الموظفين من ملكيين وعسكريين وألوف من الأهليّين (٢). وأجازت الحكومة الحائزين قصب السبق بجوائز نقدية.

دعوة العرفاء إلى الثكنة العسكرية :

وفي هذه الأيام دعت جهة العسكرية إلى ثكنتها جميع عرفاء المحلات المعروفين بالمخاترة وأعطتهم المغلفات السالفة الذكر.

__________________

(١) هو صاحب الخان. والعامّة تقول : الخانجي.

(٢) وردت هكذا عند المؤلف بياءين في معظم المواضع. والوجه أن تكتب بياء واحدة : «الأهلين».

٤٣٥

إعلان تركيا النفير العام في ممالكها :

يوم السبت عاشر رمضان هذه السنة (١٣٣٢) الموافق اليوم الحادي والعشرين من تموز سنة ١٣٣٠ رومية واليوم الثالث من آب سنة ١٩١٤ م ـ أصبح الناس فرأوا في منعطفات الشوارع وأبواب الأماكن الشهيرة ـ كالجوامع والخانات ـ أوراقا ملصقة بالجدران مطبوعة ملونة فيها صورة الشعار العثماني ، وتحته سطر واحد فيه كلمة (سفر برلك) أي النفير العام. فعلم الناس أن هذه الأوراق هي التي كانت في المغلفات التي سلمتها الجهة العسكرية إلى المخاترة وأمرتهم بحفظها. وقد عظم هذا الأمر على الناس وأصبح تحدّثهم به شغلهم الشاغل ، وبعد أيام قليلة غلق بالشوارع من الجهة العسكرية إعلان فحواه : «أن كل من كان بالغا سن المكلفية العسكرية أن يحضر إلى المكان المعيّن (مثل برية المسلخ) ويثبت اسمه وكنيته في سجلات العسكرية في برهة أيام قليلة».

فتسارع الناس إلى تلك الأماكن لتسجيل أسمائهم ، وكان المسلمون صائمين والحر شديدا ، فتكبدوا من أجل ذلك مشقة زائدة. وبعد أيام دعت الجهة العسكرية كل من أثبت اسمه وكنيته إلى حمل السلاح والدخول في السلك العسكري. ثم أذيع قانون عسكري مصرّح فيه بأن كل ذكر من الشعوب العثمانية يعتبر جنديا ، مسلما كان أم غير مسلم ، سواء كان له معين أم لم يكن. لا يستثنى من الجندية أحد بل كل عثماني يعتبر بحكم هذا القانون عسكريا. وأن المكلف المعذور بعذر شرعي معقول ـ يمنعه عن القيام بالجندية ـ يؤذن له بعد تحقق عذره بالانفكاك عن التجند مدة تلبّسه بالعذر. فإذا انقضت معذرته فعليه أن يعود إلى التجند.

هذا القانون قد استعظمه الناس وعدّوا أحكامه جائرة ، لأنه لا يرحم الوحيد في عياله ولا الضعيف في بدنه ، وقالوا : إنه مما جناه على الأمة جماعة حزب الاتحاد والترقي اقتداء بالحكومة الألمانية التي مشت على قاعدة التجنيد العام.

الإدارة العرفية :

في اليوم الثاني عشر من رمضان الجاري أعلنت العسكرية الإدارة العرفية في حلب.

٤٣٦

التكاليف الحربية وحجز أموال التجار :

في هذا الشهر بدأت الحكومة بأمر العسكرية تأخذ الأموال من التجار باسم التكاليف الحربية بالقيمة التي تقدرها لجنة سميت «لجنة المبايعة» ، وهي بعد أن تقدر للبضاعة المأخوذة قيمة وتأخذ البضاعة تسلم صاحبها مضبطة بالقيمة على أن تدفعها له بعد مدة غير معلومة.

تطواف الضباط العسكريين في الخانات :

في شوال هذه السنة بدأ الضباط العسكريون يطوفون خانات الغلات وخانات البضائع التجارية ، ويكتبون كل ما عند بائع غلّة أو بضاعة تجارية ، ويأمرونه بالإمساك عن بيع غلته وبضاعته حتى يصدر له الإذن ببيعها.

كيف بدأت هذه الحرب :

ذكرنا قبلا ـ في الكلام على السبب الثانوي لقيام هذه الحرب ـ كيف كان بدء الدخول إلى ميدانها والشروع بإشعال نيرانها. ونقول هنا : إن إيمبراطور ألمانيا لما بدأت الحرب على هذه الصفة اهتم بأمرها اهتماما عظيما ، وأراد إطفاء نارها وتسوية الخلاف بين حكومتي النمسا وسربيا على صفة سلميّة ، فأكثر في ذلك المخابرة مع إيمراطوري إنكلترا وروسية ورئيس جمهورية فرنسة والتمس منهم أن يسعوا بوقف هذا البلاء ، ويحلوا عقدة الخلاف بين الحكومتين على طريقة سلمية ووعدهم بذل ما في وسعه لفضّ هذه الحادثة على صفة حبيّة. فلم يصغوا له ولا سمعوا صراخه وكان كل من دولتي روسية وفرنسة قد أعلن النفير العام وحشد الجيوش على حدود الإيمبراطورية الألمانية فاضطر حينئذ الإيمبراطور غليوم أن يصدر أمره إلى جيوشه بأن تكون على قدم الاستعداد منتظرة أول إشارة تصدر منه.

أول تحرش بألمانيا :

وفي اليوم الثاني من آب الغربي سنة ١٩١٤ م طار قسم من الطيارات الفرنسية إلى البلاد الألمانية مجتازة إليها من أراضي الفلمنك والبلجيك المتظاهرين بالحياد ، فألقت هذه

٤٣٧

الطيارات قنابلها على بلاد ألمانية غير محصنة ، فقابلتها الجيوش الألمانية بالمثل واجتازت طياراتها حدود بلجيكا إلى فرنسة ، وكانت ألمانيا طلبت من هذه الدولة أن تسمح لها بإمرار جيوشها من بلادها إلى جهة فرنسة وتعهدت لها بتعويض كل ضرر يصيبها ، فلم تجبها على طلبها. وكانت ألمانيا قد تأكد لديها أن دولة بلجيكا متفقة في الباطن مع فرنسة وإنكلترة وأن تظاهرها بالحياد خدعة ، ولهذا لم تلتفت ألمانيا إلى امتناع بلجيكا عن إجابة طلبها بل اعتبرتها دولة من جملة دول الاتفاق ، وأمرت أسطولها الطيار بأن يجتاز حدودها إلى فرنسة بمقابلة اجتياز طيارات فرنسة إلى حدود الألمان.

إعلان روسية وإنكلترة واليابان الحرب على ألمانيا :

وفي اليوم الثالث من آب الجاري أعلنت روسيا الحرب على الألمان وزحفت جيوشها على حدودهم. ثم في السابع من هذا الشهر أعلنت إنكلترا الحرب عليهم بحجة أنهم خرقوا حياد بلجيكا ولم يحترموا العهود ، وتلت دولة إنكلترة دولة اليابان فأعلنت الحرب عليهم.

توغل جيوش روسية في أراضي ألمانيا وطردهم منها :

وكانت جيوش روسية قد زحفت على حدود بلاد الألمان ـ كما قلنا ـ وتوغلت في أراضيها من الجهة الشمالية أي من جهة بروسية ، واقتربت من برلين حتى أصبحت منها على بعد ستين كيلومترا. وعندها تأكد الإيمبراطور غليوم أن هذا الأمر مما دبّر بليل واضطره الجزع على ملكه إلى تجريد جيوشه تحت قيادة هندنبورغ القائد الشهير وسوقها إلى جهات روسية ليطردوا جيوشها عن بلاد الألمان ، فكان النصر حليفهم لأنهم لم يلبثوا غير قليل حتى طردوا الروس من بلادهم.

إعلان إنكلترا وفرنسة وروسية على تركيا الحرب ، وإعلان تركيا اتفاقها

مع ألمانيا والنمسا وبلغاريا ، ثم إعلانها الحرب على روسية وإنكلترا وفرنسة :

بعد أن أعلنت إنكلترا الحرب على ألمانيا بدأ أسطول إنكلترا يتجول في البحر المتوسط ، وكانت الدارعتان الألمانيتان (جوين) و (برسلاو) قد خرجتا لهذا البحر للاستكشاف ، فبصر بهما أسطول إنكلترة المتجول وجعل يطاردهما فلجأتا إلى الدردنيل ودخلتا فيه. وأحس بذلك سفراء الأجانب وأغاظهم هذا الحال ، وسألوا الصدر الأعظم عن رضائه

٤٣٨

بدخول هاتين الدارعتين إلى الدردنيل وأن هذا مما ينافي وقوف تركيا موقف الحياد. فأجابهم بقوله : إننا ابتعناهما من ألمانيا من قبل وقد تسلّمناهما الآن.

ثم إن تركيا سمّت إحداهما (ياوس) والأخرى (مديلى) وعلى أثر دخولهما أقفلت المضايق.

إعلان تركيا الحرب على الدول الثلاث :

ثم إن الأسطول الروسي هاجم الأسطول العثماني ، فاضطر الأخير أن يطلق نيرانه على أودسا سباستبول وبعض موانئ أخرى ، وذلك في عيد الأضحى من هذه السنة (١٢٣٢). وفي ذلك الأثناء أعلنت روسية أولا ، ثم فرنسة ثم إنكلترا ، الحرب على الحكومة العثمانية. وقد اقترحت تركيا عمل تحقيق مشترك لمعرفة أي الأسطولين كان البادئ بالعدوان؟ فأبت روسية ذلك ، فاضطرت تركيا أن تعتبر نفسها في حال الحرب مع الحكومات المذكورة. غير أن بعض وزراء الدولة العثمانية صرح بأنه يكره الحرب ولا يرضى به (١) ، فاستعفى من وظيفته. إلا أن الأكثرية الساحقة كانت تقول بالحرب ، ومن هذه الأكثرية أعضاء مجلس النواب المعروف بمجلس المبعوثان وحينئذ أعلنت تركيا اتفاقها مع ألمانية والنمسا وبلغاريا وكانت وقّعت على عهدة الاتفاق مع تلك الدول في بدء الحرب غير أنها كتمت هذا الأمر وتظاهرت بوقوفها موقف الحياد ريثما تتمكن من تعبئة جيوشها. إلى أن كانت حادثة الأسطول الروسي وأعلنت دول الاتفاق الحرب عليها أعلنت هي أيضا اتفاقها مع حلفائها أولا ثم أعلنت الحرب على دول الاتفاق.

وكان من أعظم الأسباب التي دعت تركيا لإعلان الحرب على إنكلترا مصادرة الثانية مدرعتي (السلطان عثمان) و (رشادية) اللتين أوصت تركيا بعملهما بعض معامل إنكلترا ، فإنهما بعد أن انتهى عملهما ودفعت تركيا آخر قسط من ثمنهما وتقدمت لاستلامهما أعلنتها إنكلترة بأنها قد صادرتهما.

__________________

(١) كلمة «الحرب» مؤنثة. ويجوز تذكيرها على معنى «القتال».

٤٣٩

إعلان إنكلترة استقلالها بمصر :

في أواخر هذه السنة أعلنت تركيا استقلالها بمصر ، وعينت لها خديويا فخامة حسين كامل باشا.

منع الحكومة إخراج الذهب :

وفي أواخر هذه السنة أيضا منعت الحكومة العثمانية إخراج الذهب من ممالكها ، وأعلنت أن المسافرين الذين يوجد معهم ذهب أو نقود ذهبية يؤخذ مما يوجد معهم الزائد عن عشرة دنانير ويعطون بما أخذ منهم مضبطة يدفع بدلها إليهم بعد انتهاء الحرب.

٤٤٠