نهر الذّهب في تاريخ حلب - ج ٣

كامل البالي الحلبي [ الغزي ]

نهر الذّهب في تاريخ حلب - ج ٣

المؤلف:

كامل البالي الحلبي [ الغزي ]


المحقق: الدكتور شوقي شعث ومحمود فاخوري
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
المطبعة: مطبعة الصباح
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٤٠

في فسحة سوق الجمعة ـ وهو الفضاء الممتد من تجاه جامع الاطروش ، إلى قرب باب القلعة إلى حمام الذهب ، إلى سوق القصيلة ـ فأجرى المحتشدون مظاهرة حماسية طلبوا فيها من الحكومة عدم السماح بحقوقها من جزيرة كريد وقد تليت في هذه المظاهرة عدة خطب حماسية من قبل علماء المسلمين والرؤساء الروحيين المسيحيين. ثم جرت بعد ذلك عدة مظاهرات في حلب ومراكز أقضيتها وقوطعت اليونان في استانبول ، أي أضرب الناس عن شراء بضائعها.

وفي رمضان هذه السنة ولي حلب فخري باشا ابن ناشد باشا ، وهو وال حسن السيرة لو لا ولعه بالميسر. وقد شدد العقوبة على المتجاهرين بالسكر وعاملهم بضرب أرجلهم بالسياط دون تمييز بين رفيع ووضيع فخافوه وقلّ تعاطي هذا المنكر. ثم اعترضت على هذا العمل مدّعية العموم في دائرة العدلية فأبطل الوالي تلك العقوبة وعاد السكيرون إلى ما كانوا عليه.

٤٠١

سنة ١٣٢٨ ه

تجنيد المسيحيين والإسرائليين :

في هذه السنة صدرت أوامر الدولة بإبطال الجزية ـ وهي المسماة عند الدولة العثمانية باسم «البدل العسكري» ـ وأن يستعاض عنها تجنيد شبان الطائفتين أسوة بأمثالهم من طوائف الرعايا العثمانيين. وبناء على ذلك أجريت القرعة الشرعية على عامة شبان الرعية العثمانية ، فجند فيها شبان الملل الثلاث المسلمون والمسيحيون والإسرائليون ، وهي أول قرعة كانت على هذا النمط. وقد سرّت الطائفتان الأخيرتان من هذا الصنيع سرورا زائدا لتخلصهم من غائلة البدل العسكري. ثم انقلبت مسرّتهما إلى الاستياء بعد أن باشر شبانهما الجندية وزاولوا بعض ما فيها من المشقات العسكرية التي يصعب عليهم تحملها لعدم تعودهم عليها ، فكانوا يتذمرون من الجندية ويتظاهرون بندمهم على تعرضهم إليها ولا تحين (١) ندامة.

كلمة في الجزية والبدل العسكري :

الجزية شيء معلوم من النقود يعطيها المعاهد من أهل الذمة على عهده في كل سنة وسميت جزية لاجتزاء المعاهد بإعطائها عن القيام بالجهاد ، كما قاله الزيلعي. وهي بحكم الشريعة الإسلامية لا تؤخذ إلا من الحر البالغ الصحيح العاقل المحترف ، فلا تؤخذ عن العبد ولا عن مكاتب ولا عن امرأة ولا عن صبيّ ، ولا عن مجنون ولا عن مزمن وأعمى وفقير غير محترف ، ولا من راهب لا يخالط ، لأنها خلف عن النصرة وهؤلاء لا تجب عليهم النصرة.

__________________

(١) الأولى أن تكتب : «ولات حين».

٤٠٢

مقدار الجزية :

مقدار الجزية على نوعين : نوع يوضع على أهل الذمة بصلح وتراض ، فتقدر بحسب ما يقع عليه الاتفاق فلا تزاد ولا تنقص ، ونوع يبتدئ الإمام بوضعه إذا غلب على أرضهم ، وهذه لا تزاد على ثمانية وأربعين درهما على الغني ـ تؤخذ منه على اثني عشر قسطا ، في كل شهر أربعة دراهم ـ وأربعة وعشرين درهما على وسط الحال : تؤخذ منه في كل شهر درهمين ، واثني عشر درهما على الفقير المعتمل تؤخذ منه كذلك في كل شهر درهما. والفقر والغنى يعتبران بحسب عرف البلدة. ولو مرض الذمي السنة كلها ولم يقدر أن يعمل لا تؤخذ منه وإن كان موسرا ، وكذا لو مرض نصف السنة أو أكثر.

والمعتبر في تعيين وزن الدرهم هو أن يكون كل عشرة دراهم بزنة سبعة مثاقيل. والمثقال الشرعي مقدّر بعشرين قيراطا كل قيراط مقدر بخمس قمحات معتدلة الوزن ، فيكون المثقال بوزن مئة قمحة ، والدرهم الشرعي مقدر بأربعة عشر قيراطا ، كل قيراط مقدر بخمس قمحات كذلك ، فعشرة دراهم تبلغ سبعمائة قمحة وهي سبع مثاقل (١). وكانت الدراهم في أيام خلافة سيدنا عمر بن الخطاب مختلفة الوزن ، فكان منها عشرة تزن عشرة مثاقيل ، وعشرة تزن ستا ، وعشرة تزن خمسا. فخشي الخليفة من تلاعب الجباة وتحيلهم بأن يأخذوا الجزية من نوع الدراهم التي تزن العشرة منها عشرة مثاقيل ، فيظلموا أهل الذمة. فأخذ من كل نوع من هذه الأنواع الثلاثة ثلاثة دراهم ثم جمع الأثلاث إلى بعضها ووزنها فبلغت سبعة مثاقيل ، فأمر الجباة أن يأخذوا دراهم الجزية على معدّل كل عشرة دراهم بزنة سبعة مثاقيل.

والذي تبين لي بعد الإمعان والتدقيق أن الدرهم الذي كان يؤخذ على المعدل المذكور يساوي في زماننا نصف فرنك تقريبا ، أي قرشين ونصف القرش من النقود الرائجة التي هي أجزاء الذهب العثماني المقدر بمائة وخمسة وعشرين قرشا ، والريال المجيدي المقدر بثلاثة وعشرين قرشا. وعلى هذا المعدل تبلغ جزية السنة كلها عن الغني مئة وعشرين قرشا ، وعن المتوسط الحال نصفها ، وعن الفقير المعتمل ربعها. لا جرم أن هذا غاية الرفق من الشريعة الإسلامية التي قنعت من الذمي بهذا القدر من المال وتكفلت بحماية نفسه وصون

__________________

(١) كذا ، وقبل قليل كتبها على الصواب : «سبعة مثاقيل».

٤٠٣

شرفه وساوت في الحقوق بينه وبين المسلم فجعلت له منها ما للمسلم وعليه ما على المسلم وكلفت المسلم أن يقاتل عنه ولم ترغمه على التجنّد بل تركت ذلك إليه إن رضي الدخول في الجندية ، وإن لم يشأ كفّت عنه وقنعت منه بالجزية.

ومما يعدّ في الشريعة الإسلامية رفقا بالذمي جعلها الجزية على ثلاث مراتب ، على الوجه الذي تقدم بيانه ، كيلا يتحمل الذمي الفقير ما لا يطيقه ، مع أنها لم تميز في الجهاد المفروض على المسلم بين الغني والفقير وذي العيال والمجرد بل جعلت المسلمين كلهم في مباشرة الجهاد بمنزلة واحدة.

ولو عملنا بمقتضى هذا الحساب معدل ما يدفعه المسلم المكلف للجهاد في كل عمره ـ لو أراد أن يجاهد بماله لا بنفسه ـ وبين ما يدفعه الذمي من الجزية وفرضنا أن كل واحد منهما يعيش سبعين سنة ، لظهر لنا أن ما يدفعه المسلم ضعف ما يدفعه الذمي. مثال ذلك : ثلاثة من أهل الذمة مكلفون للجزية وهم من المراتب الثلاث غني ووسط وفقير ، جزية الأول عن السنة (٤٨) وعن الثاني (٢٤) وعن الثالث (١٢) فإذا جمعنا هذه المقادير إلى بعضها يبلغ المجموع (٨٤) درهما. فإذا قسمنا هذا المبلغ على ثلاثة يصيب الواحد منهم (٢٨) درهما في السنة فإذا ضربنا هذا المبلغ في (٥٥) سنة وهي من السنة الخامسة عشرة من عمر الذمي إلى السبعين. يبلغ الحاصل (١٥٤٠) درهما وهو جميع الجزية التي يؤديها الذمي في عمره ـ فأما المسلم المكلف للجهاد ـ سواء كان فقيرا أم كان غنيا ـ فإنه إذا عاش القدر المذكور من السنين فلا أقل من أن يطلب للجندية ثلاث مرات فلو دفع عن كل مرة ألف درهم على أقل تقدير لبلغ مجموع ما يدفعه في عمره (٣٠٠٠) درهم وهي ضعف ما يدفعه الذمي تقريبا.

ثم إن الدولة العثمانية لما رأت لاستثناء صاحب العيال من الدخول في الجندية لزوما (١) ، رفقا بعياله وصونا للتناسل من الانقطاع ، استثنته من الجندية واستثنت معه العجزة والزّمناء (٢) ، ثم عملت معدلا فظهر لها أن عدد الذين يكلفون للتجنيد في كل سنة : واحد من كل مئة وخمسة وثلاثين مسلما. وقد جعلت بدل الجندي من النقود ـ

__________________

(١) أي ضرورة وحاجة.

(٢) يعني ذوي الأمراض المزمنة.

٤٠٤

إذا أراد أن يدفعها بدلا عنه ـ خمسة آلاف قرش أي خمسين ذهبا عثمانيا ، فاعتبرت كل مئة وخمسة وثلاثين شخصا من أهل الذمة كعسكري واحد ، وكلفتهم دفع هذا المبلغ الذي هو خمسة آلاف قرش ، واستثنت منهم المعلمين والمشتغلين في المكاتب العسكرية والطبية والطلبة والمستخدمين في الدرك والشرطة ما داموا في وظائفهم ، واستثنت على الدوام من كان سنه دون الخامسة عشرة وفوق السبعين ، وجماعة الكهنوت والفقراء والعجزة ، وجعلت توزيع ذلك المبلغ على المكلفين بيد رؤساء الطوائف ، وأن ما يلحق المستثنأين (١) يوزعونه على بقية الأفراد. وقد جعلت للمكلفين (٢) حق الاعتراض على رئيس طائفته إذا لم يوزع عليه أسوة أمثاله ، فتنظر الحكومة في شأنه فإذا رأت اعتراضه في محله فإنها تكلف الرئيس أن يساويه بأمثاله إلى آخر ما هو محرر في نظام البدل العسكري المذيل بتاريخ ٩ ربيع الثاني عام ١٣١١ و ٧ تشرين الأول سنة ٣٠٩ رومية.

تتمة حوادث سنة ١٣٢٨ :

وفي هذه السنة ورد الأمر بإلغاء أخذ تذاكر المرور لمن يريد السفر إلى داخلية الولاية. وفيها وصل إلى حلب صديقنا الأديب الفاضل السيد بهاء الدين بك الأميري ، وهو أحد مبعوثي حلب وقد عاد الآن إليها من استانبول ومعه شعرة من الحلية النبوية. فاستقبل بموكب حافل ووضعت الشعرة في قبلية جامع الحاج موسى. وفي رجب هذه السنة ثارت طائفة الدروز في الجبل المنسوب إليهم فأوقعوا بدرك الحكومة وامتنعوا عن دفع المرتبات فمشت عليهم جيوش الدولة وبعد حروب طاحنة تغلبت الجيوش عليهم فأخلدوا للطاعة وحكم بالإعدام على عدد من زعمائهم فعلّقوا ونشرت راية الأمن والسلام في جبل الدروز وبقية تلك النواحي.

وفي شعبان هذه السنة عزل فخري باشا والي حلب ووليها حسين كاظم بك. وفيها وردت الأوامر بإبطال التغالي باحتفال زينة الميلاد والجلوس السلطاني ، وحينئذ قصرت

__________________

(١) كذا ، والصواب : «المستثنيين» أي الذين استثنوا من الجندية.

(٢) الصواب : «لكل من المكلفين» لما سيأتي بعدها.

٤٠٥

الزينة في هذين المهرجانين على إسراج عدد قليل من المصابيح ونشر السجاد وعروق الشجر فوق أبواب الدوائر الرسمية وبعض بيوت الوجهاء على صفة بسيطة. وفيها ظهر في الجزيرة وقضاء الباب ومنبج جراد كثير أتلف مقدارا عظيما من الزروع ، ثم في الشتاء التالي اهتمت الحكومة بجمع بزره فتلاشى وأمن من شره.

٤٠٦

سنة ١٣٢٩ ه

شدة الشتاء وكثرة القرّ والثلج :

في محرّم هذه السنة ـ الموافق كانون الثاني سنة ١٣٢٦ رومية ـ كان الشتاء شديدا والقرّ والثلج في حلب وباقي جهاتها مما لم يسبق له نظير. وفي أثناء هذه الأزمة بعثت إلى السيد الماجد أمين بك التميمي قائممقام قضاء منبج كتابا نشرت في طيه نبأ هذه الحادثة الكارثة. ومنه يعلم القارئ ما أحدثه القرّ والثلج من البلاء في حلب وأنحائها على وجه التفصيل. وإليك صورة الكتاب ، بعد ديباجته :

على أني أحرّر لكم حروف هذا الكتاب والقلم يكرع شرابه من محبرة جامدة ، والفكر يستمد مادته من قريحة نارها بأنفاس البرد خامدة ، ذلك لأن شتاءنا في هذه السنة أقبل علينا فاغرا فاه كالحا بوجهه مكشرا عن أنيابه ، منيخا بكلكله حالّا بأثقاله قد قرس قرّه ، واشتد أمره ، وسكر زمهريره ، وتكسرت على الأرض قواريره ، فأحال الألوان ، وقشفت به الأبدان (١) ، وكتعت الأصابع (٢) ، وأرعدت الأضالع ، وعصب الريق في الأشداق ، وجمد الدمع في الآماق ، تقلصت منه الشفاه ، وكزّت له الأسنان في الأفواه ، صفح بجليده الأنهار والبحيرات ، وأسال لعابه من الميازيب والشرفات ، يتساقط ثلجه على الأرض تساقط النّور من أشجار ثار بها إعصار ، ويتهافت على الحضيض تهافت الفراش المبثوث على لهيب النار ، كلّل بملاءاته رؤوس الأطواد ، ومدّ بساطه اليقق (٣) على الروابي والوهاد ، فعادت به القيعان كأنها درّة ، وأصبح من مرآة الغريب في كل عين قرّة ، ورحم الله القائل :

كم مؤمن قرصته أظفار الشتا

فغدا لسكان الجحيم حسودا

__________________

(١) أي ساءت حالها ، وخشن جلدها.

(٢) أي انقبضت وانعطفت نحو الكف.

(٣) أي الأبيض ، يعني الثلج.

٤٠٧

وترى طيور الماء في وكناتها

تختار حرّ النار والسفّودا

وإذا رميت بفضل كأسك في الهوى

عادت عليك من العقيق عقودا

يا صاحب العودين لا تهملهما

حرّك لنا عودا وحرّق عودا

وتحرير هذا الخبر هو أننا أمسينا يوم الخميس ٣٠ كانون الأول الرومي والغيوم البيضاء متلبدة في السماء والهواء لطيف معتدل ، وما كاد ينقضي الهزيع الأول من الليل حتى أخذ الثلج يتساقط بكثرة فاستبشرنا بذلك لأن الأرض كانت عطشى مشتاقة إلى الماء ، وبعض الزروع الشتوية قد أشرف على التلف. فنمنا ليلتنا فرحين مسرورين إلى أن كان الصباح نهضنا من مضاجعنا لقضاء حوائجنا فما راعنا غير الثلج المتكاثف قدر ذراع وقد تغير الهواء وقرس البرد والغيوم باقية على تلبدها ، تثلج مرة وتمسك أخرى ، مستمرة كذلك مدة سبعة أيام متوالية ، إلى أن كان مساء يوم الخميس سادس كانون الثاني اشتد الدمق (١) وبرد الهواء حتى هبط الزئبق إلى الدرجة العاشرة تحت الصفر في مقياس السانتغراد تحت السماء ، فجمد الثلج القديم وتكاثف فوقه الثلج الحديث قدر ذراع والغيوم لم تزل متلبدة ترسل الثلج تارة وتمسكه أخرى ، إلى أن انقضى كانون الثاني وتم العقد الأول من شباط. وفي هذه الأثناء قرس البرد حتى بلغ درجة لم نشهد نظيرها فيما مر من حياتنا ولا حدثنا الأشياخ أنهم شاهدوا نظيرها قطّ ، فقد أصبحت أصقاعنا في هذه الأيام تضارع الأصقاع القريبة من القطب الشمالي المعروفة باسم (سبيريا) حيث يهبط الزئبق إلى الدرجة الثلاثين تحت الصفر ، وقد هبط عندنا في هذه الأيام إلى الدرجة الرابعة والعشرين. وفي رواية ـ عمن عني بهذا الأمر وحققه ـ أن الزئبق هبط في بعض الأيام إلى الدرجة السابعة والعشرين تحت الصفر بالمقياس المذكور.

تأثير الثلج والقرّ :

وقد نجم عن هذا الثلج والقرّ العظيمين وقوف حركة القطار الناري مدة ثلاثين يوما بين حلب ودمشق وبيروت ، ثم سار من حلب إلى حمص بعد عناء شديد وبقيت الطريق مسدودة من حمص إلى بيروت ودمشق إلى أوائل شباط ، فكأن القطار كان يعتذر عن وقوف حركته في لبنان بقول المتنبي :

__________________

(١) الدمق ، محرّكة : ريح وثلج معرّبة دمه. قاموس. (المؤلف).

٤٠٨

وعقاب لبنان وكيف بقطعها

وهو الشتاء ، وصيفهنّ شتاء

لبس الثلوج بها عليّ مسالكي

فكأنها ببياضها سوداء (١)

وقد انقطع سير القوافل من سائر الجهات القاصية والدانية ، فغلت الأسعار لا سيما الفحم ، فقد ارتفع ثمن رطله من قرشين إلى اثني عشر قرشا وثمن رطل الحطب من قرش إلى ثلاثة قروش ، فقاسى الفقراء الشدائد والأهوال من قلة القوت وفقد مادة الوقود وقام الدعّار والشطّار ينهبون أغلاق أبواب قناء الماء ودفوف سقائف الأسواق وتسلطت الأمراض الصدرية والعصبية ، فمات مئات من الناس بالأزمة والذبحة الصدرية وذات الجنب وذات الرئة والفالج وسكتة القلب ، وكأن الصّقع (٢) بدأ يجري على أهله الانتخاب الطبيعي فأخذ من يضعف عن برده وأبقى من يقوى عليه ، وقد جمد عدد غير قليل ممن كان مسافرا على الطرق أو كان مضطرا لمعاناة خدمة شاقة في البلد فمات أو كاد يموت لو لم يتداركه الناس بالدّفء أو الأخذ إلى الحمام ، ولذا ألزمت الحكومة أصحاب الحمامات بأن يفتحوها ليلا لتكون ملجأ لمن أصابه الجمد ، ومأوى للفقراء الذين فقدوا وسائط الدّفء.

واهتمت الحكومة بجمع الإعانات من أصحاب الخير فجمعت زهاء ثلاثة آلاف ليرا ، فرقت ثلثها على الفقراء نقودا وثلثها اشترت به طحينا وفرقته وثلثا أحضرت به فحما من جهات حمص وبعلبك شحنته مجانا إلى حلب ، إلا أنه لما قارب حماه عارضته الثلوج التي تجدد سقوطها فبقي القطار هناك نحو خمسة عشر يوما إلى أن تمكن من المجيء إلى حلب في أوائل شباط ، فبيع منه جانب برأسماله وفرق باقيه على الفقراء. وكانت الحاجة إلى الفحم كثيرة ، الفقير والغني فيها على السواء وكان طلب الناس له أشد من طلب القوت ، وسبب ذلك أن القوت كان وافرا في حلب بسبب جودة الموسم ، أما الفحم فإنه كان ـ في الوقت الذي جرت العادة على ادّخاره ـ مفقودا لأن الدوابّ التي تحمله من محلاته في فصل الخريف كانت مشغولة بأعمال الحبوب وكان الناس مؤملين بكثرة وجود الفحم في فصل الشتاء حين تفرغ الدواب من نقل الحبوب ، كما يقع ذلك في أكثر السنين التي يكون فيها الموسم جيدا والشتاء معتدلا يمكن أن تسير فيه قوافل الفحم من الجبال وغيرها. أما

__________________

(١) أي إن جبال لبنان صعبة المرتقى والاجتياز في وقت الشتاء ، وصيفها مثل الشتاء في البرودة ، وقد أخفت الثلوج فيها عليه مسالكه فضلّ فيها.

(٢) الصقع : أذى الصقيع. والصقيع : الجليد.

٤٠٩

الآن فقد كاد يستحيل أن تسير القوافل إلى حلب ولو من أقرب محل إليها ولهذا عزّ وجود الفحم على الغني والفقير وصار من أحب الهدايا بين المتحابين وأفضل الصدقات عن المتصدقين ، وكان الناس يستعملون بكثرة مواقد الكاز البترول بالطبخ ويحتالون باستعمالها للدفء بأن يرتكز عليها صفحة الحديد المعروفة بالصاج ، ويضعون فيها رملا ويدفؤون عليه.

وفي هذه المدة هلك مئات من الكلاب في حلب وغيرها مما أبقته آفة التسميم التي سلطتها الحكومة عليها في الصيف الماضي ، وقد هامت الوحوش والضواري على وجوهها في ضواحي حلب ومفاوزها وهجم بعضها على القصبات ، وهلك وصيد ما لا يحصى من الغزلان والذئاب والضباع والنمور والثعالب والأرانب وأنواع الطيور الدواجن وغيرها ، وتلف مقدار نصف مليون من غنم القنية (١) وغنم التجار المرسلة من جهات الموصل وأرضروم ، ولحق تجار حلب من ذلك نحو سبعين ألف رأس ، فانكشف حال كثيرين منهم وارتفعت أسعار اللحم والسمن خمسة وعشرين في المائة ووقفت حركة التجارة ، وأقفلت أكثر حوانيت الباعة في الأسواق والخانات ، وتعطل كثير من الأفران لفقد مادة الوقود وتهدم مقدار عظيم من سقائف الأسواق ، بطبعه ، أو هدمته الحكومة خوفا من خطره. وخرب في أنطاكية عدد غير قليل من البيوت لأن بناءها غير مستعد لتحمل أثقال الثلوج التي لا تقع هناك إلا نادرا. وجمد نهر العاصي على مقدار أربعة أذرع من جانبيه ، وجمد نهر الفرات كله من بعض جهاته وتفطّر في بعض مساجد حلب أعمدة صخرية مر على ركزها في محلها ستمائة سنة فلم يحصل بها خلل سوى هذه السنة.

وبهذا يستدل على أن برد هذه السنة مما لم يسبق له نظير في حلب منذ ستمائة سنة ، وتكسر كثير من الحجارة المرصوفة في سفل الأبواب المعروفة باسم البرطاش وعدد غير قليل من الأدراج الحربية ، وتفرقع أكثر الرخام المفروش في المنازل والمساجد ، وتحطم مالا يحصى من الأواني الزجاجية التي يحفظ فيها بعض المائعات كالخلّ والأشربة الحلوة ، وتخرق الكثير من الظروف النحاسية واختلت طلنبات رفع الماء وتكسر أكثرها ، وصقعت

__________________

(١) القنية : ما يقتنى ويربّى.

٤١٠

الخضر (١) والبقول الشتوية في البساتين كالسلق والإسفانج والقنّبيط ، ولم يسلم منها سوى ذوات الجذور كالجزر واللفت ، وعطب شجر البرتقال وما هو من هذه الفصيلة ، وشجر التين والجوز والزيتون والرمان في حلب وأنطاكية والباب وأرمناز وسلقين وما قارب تلك النواحي ، وقبحت مناظر المنازل والشوارع بما تراكم فيها من الثلوج وأكداس الجليد واندلاع ألسن الميازيب وسيلان أنوف الأسطحة مما تقشعرّ لمنظره النفوس وترتعد له الفرائص. ولسان حال الناظر إلى ذلك يقول :

فإن كنت يوما مدخلي في جهنّم

ففي مثل هذا اليوم طابت جهنّم

مناظر تخدع العين وتدهش العقل ، فيحسب السائر في منازل حلب وشوارعها أنه سائر في خرابة عظيمة رومانية أخنى عليها الدهر وعاثت بها أيدي الأيام والليالي ، حتى عادت أنقاض أطلالها ركاما وأبنيتها المتزاحمة وديانا. عطلت الحكومة جميع المكاتب والمدارس وانقطع البريد عن حلب من جميع الجهات مدة ثلاثين يوما ، فاجتمع في ثغر بيروت من الكتب والرسائل ما يملأ ثلاثين عدلا. ثم في العشر الأول من شباط حملت في البحر إلى إسكندرونة ومنها إلى حلب.

وكان الناس في بحران هذه الأزمة (٢) الشديدة قد لزموا منازلهم وانقطعوا عن السمر والسهر عند بعضهم ، وكان كثير من العائلات المتوسطة في الحال ـ التي كانت العائلة الواحدة منها تسكن أفرادها متفرقة في خلوات الدار وغرفها ـ قد انضموا في أثناء هذه الشدة إلى بعضهم ، وصاروا كلهم ، كبار وصغار (٣) ، يقومون ويقعدون في خلوة واحدة طلبا للدفء فلا يجدونه ، وكان الإنسان يتدثّر بأثقل ما عنده من الدثار حتى يكلّ متنه ويوقد في خلواته المناقل العديدة فلا يتيسر له الدفء الذي يريده ، وقد جمد مداد المحابر وما في ظروف الماء الموضوعة قرب منافذ الخلوة. وكنا نأخذ قطع الجليد ونذيبها في النار فلا تذوب إلا بعد بضع دقائق ، وكأنها ـ لمّا كان جمودها ببرودة درجتها بضع

__________________

(١) أصابها الصقيع بأذاه.

(٢) أي في شدّتها ، وأوج احتدامها.

(٣) كان في الأصل : «كبارا وصغارا» لكن المؤلف في جدول «إصلاح الغلط» جعل الصواب هو «كبار وصغار» فأثبتنا ما ذهب إليه.

٤١١

وعشرون تحت الصفر ـ كان ذوبانها موقوفا على حرارة تعدل درجتها درجة برودتها.

ومن الغريب أن رجلا احتاج إلى منقل مهجور عنده فأسعر فيه النار وطبخ عليها قهوة البن ثم أراد طمر النار في رماد المنقل فأحسّ بجرم في أسفل المنقل تحت الرماد فعالجه فإذا هو قطعة جليد في أسفل المنقل لم تؤثر بها كل هذه النار ولا أذابتها. ومما تقشعر منه النفوس ويقطر له القلب دما موت كثيرين من عرب البادية المخيمين في بيوت الشعر في المفاوز المنقطعة. من ذلك ما حكاه صديق لي من تجار السجاد القافلين من بغداد في هذه الأيام ، قال : لما بلغنا مدينة الدير الحمراء واشتد علينا البرد وكثر تساقط الثلج صرنا نسير في عربة مغطاة جلّلناها بالسجاد مع خيولها ، ووضعنا فيها موقدة كاز استحضرناها معنا لمثل هذا الطارئ ، ولو لا ذلك لهلكنا وهلكت دوابنا.

قال : وبعد أن جاوزنا ضواحي الدير قاصدين حلب مررنا على واد لاح لنا فيه بعض بيوت من الشعر منغمسة بالثلج ، قال : فنزلت من العربة وقصدت بيتا منها لأستأنس بأهله وأستطلع أحوالهم فوصلت إليه بعد مشقة زائدة ، ثم رفعت طرف الخباء ولفتّ نظري إلى داخله فرأيت ؛ ولكن ما ذا رأيت ، لا أراك الله مكروها؟ رأيت ما غشّى على بصري وأوهى عزائمي ، رأيت كلبا وأربعة أوادم مطروحين على الأرض جثثا هامدة بلا روح ، تبصّ (١) ذرّات الجمد من وجوههم وأيديهم ، فعلمت أنهم من شهداء البرد ، وعدت عنهم وقلبي يخفق وأعضائي ترتجف. قال : وشاهدت في أثناء الطريق على ضفاف الفرات مئات من جيف الأغنام التي اغتالها البرد. اه.

ورأيت رسالة واردة من بعض تجار اليهود في عينتاب أرسلها إلى شريكه في حلب يقول فيها : بلغ عدد ما افترسته الوحوش من الأوادم في عينتاب وضواحيها في أثناء الثلج بضعا وثلاثين شخصا. وذكر عن واحد قدم من ملطية في هذه الأيام أنه قال : شاهدت في أثناء الطريق المتوسطة بين ملطية وعينتاب نحو ألف صندوق من التفاح وغيره ملقاة على الأرض ، قد تخفّف أصحابها بإلقائها وفازوا بأنفسهم ودوابهم.

والخلاصة أن تأثير هذه الحادثة الكارثة عظيم وأضرارها خطيرة لو أفضنا بذكرها لملأنا

__________________

(١) أي تلمع وتبرق.

٤١٢

منها مجلدا على حدته. وقد استمر هذا الثلج والبرد إلى أواسط شباط الشرقي ، ثم انقطع الثلج وخفّت وطأة البرد.

تتمة حوادث هذه السنة :

فيها كانت الكمأة كثيرة جدا ، اكتفى بها سكان البوادي وأحضروا منها إلى حلب ما أغنتهم قيمته. وفي صفر هذه السنة بوشر بعمل محطة لسكة حديد بغداد في حلب وفيها حررت الحكومة الأملاك أي قدرت قيمتها بواسطة جماعة من أهل الخبرة بالأملاك. وكان هذا العمل شاملا أكثر البلاد العثمانية التي منها حلب. وفيها كان قيام الأرناؤد في جهات مكدونيا ، وقد أرسل إليهم أحد علماء حلب فتوى بجواز قيامهم على الدولة ، فوقعت الفتوى بيد الحكومة وهي مذيلة بعدة تواقيع من قبل تلاميذ ذلك المفتي ، فألقي القبض عليهم جميعا وأرسلوا إلى الآستانة وهناك حكم عليهم بالنفي إلى جزيرة رودس ، فأقاموا فيها إلى أن استولى عليها التليان في السنة التالية.

وفيها عزل والي حلب حسين كاظم بك وولي عليها مظهر بك ابن بدري بك ، وهو من خيرة شبان دولة تركيا ونخبة ولاتها علما وعملا وعفافا. والوالي الذي كان قبله كاتب بارع غير أنه استهان بأعيان حلب ووجهائها وسمّاهم الأشراف المتغلبة والمتغلبة الأشراف ، ونسب إليهم كثيرا من أعمال الاستبداد والتسلط على الفقراء والمزارعين. وفيها تقرر ربط خط بغداد بإسكندرونة بواسطة العثمانية. وفيها في شوال كان ابتداء حرب الدولة الإيطالية في ولاية طرابلس الغرب.

٤١٣

سنة ١٣٣٠ ه

سير قطار بغداد :

فيها كان ابتداء سير القطار على سكة حديد بغداد من محطتها الأولى في حلب ، الكائنة في كرم الخناقية ، سار منها إلى جهة راجو ثم ما زال الخط يمتد حتى اتصل سنة ١٣٣٥ بخط بوزنتي الكائن في جهة الأناضول المنتهي إلى محطة حيدر باشا في اسكدار إحدى محلات استانبول. وسار القطار من جهة أخرى حتى وصل إلى جرابلس وقد انعقد على الفرات عندها جسر خشبي وقتي يجتاز منه إلى الجزيرة ، ثم ما زال الخط يمتد من هناك حتى جاوز ماردين. ثم وقف العمل بحدوث الحرب العامة.

وفيها انتهت الحرب بين تركيا وإيطاليا على طرابلس الغرب واستولت إيطاليا على طرابلس وجزيرة رودس وغيرها. وفيها في أثناء حصار إيطاليا للدردنيل ـ إرغاما لتركيا على تسليم طرابلس ـ حدث في حلب مظاهرة ضد إيطاليا لتنصرف عن الدردنيل. وفيها صدر الأمر بإجلاء التليان عن حلب سوى من كان منهم راهبا ، وسوى الأرامل والعملة ومن يقبل الدخول في التابعية العثمانية. وفيها استقال والي حلب مظهر بك وتعيّن بدله رفيق بك والي سيواس الأسبق.

انتهاء حرب طرابلس وابتداء حرب البلقان :

وفيها انتهت حرب طرابلس الغرب كما قلنا سابقا وبدأت حرب البلقان بين تركيا ودول البلقان ، وقد احتشد لتركيا من الجيوش عدد لا يحصى خصوصا ما احتشد لها من البلاد العربية ، فإن شبان المسلمين من أبواب غزة إلى منتهى حدود البلاد الشامية لم يكد يتخلف واحد منهم عن التجند في هذه الجيوش ، فكانوا يسيرون إلى جهة البلقان لحرب أعداء الدولة هناك بكل شوق وحماسة ، رغما عما كان ينالهم وهم في أثناء الطريق من المشقات

٤١٤

المضنكة كالبرد والجوع ، وتحكم الأطباء عليهم وزعمهم أنهم موبوءون ومعاملتهم بكل غلظة وقسوة ، وإعادة الكثيرين منهم إلى أوطانهم على أسوأ حالة. ولهذه الأسباب انتهت هذه الحرب بمدة وجيزة منجلية غياهبها عن انكسار جيوش تركيا وضياع جميع أملاكها في البلقان.

٤١٥

سنة ١٣٣١ ه

في هذه السنة والتي قبلها كانت المواسم جيدة والرخاء شاملا. وفي ربيع الثاني منها تعيّن واليا على حلب علي منيف بك. وفيه جدّت الحكومة بجمع إعانة سمّتها الإعانة الملّية.

وفي جمادى الأولى منها صدرت أوامر الحكومة بجواز قبول عرض الحال باللغة العربية في البلاد التي أكثر أهلها عرب. وفيه بوشر بانتخاب أعضاء المجلس العمومي وهو مجلس جديد حادث ، وظيفته البحث عن المسائل التي تعود على الوطن بالرقي والعمار ، ينعقد مدة أربعين يوما في السنة. وفي جمادى الثاني (١) منها وردت الأخبار بأن نيازي بك قتل شهيدا بيد أرنؤدي في مدينة أولونيا إحدى بلاد الأرناؤد. نيازي بك هذا هو رفيق أنور باشا في السعي بقلب الحكومة العثمانية إلى الديمقراطية.

وفيه أعطي امتياز بتجفيف بحيرة أنطاكية التي تبلغ مساحتها خمسين ألف هكتار وقد مضت المدة المضروبة للشّروع بأعمال التجفيف ولم يباشر صاحب الامتياز العمل ففسخ الامتياز وبقيت البحيرة على ما كانت عليه. وفي شعبان حول الوالي علي منيف بك إلى ولاية بيروت وتعين بدله في حلب جلال بك. وفيها استردت تركيا أدرنه وقرق كليسا. وفيه تجاهر سكان بيروت ودمشق بطلب إصلاح بلادهم فأجيبوا إلى بعض مطالبهم ، وشكر الدولة على ذلك بعض الشبيبة العربية. وفي شوال تم الصلح بين تركيا والبلغار.

وفي ذي القعدة بوشر بفرش جادة الخندق بالحجر الأسود وكانت مفروشة بحجر أبيض واختلّ بمدة وجيزة وأكلته بكرات العجلات. وفيه بوشر بفرع إسكندرونة من خط سكة حديد بغداد. وفيه صدرت الأوامر بتوحيد الساعات ، أي بجعل عيار الساعات الفرنجية مبدؤه وقت الزوال. وفيها رخص بأن يكون التدريس في مكاتب الدولة باللسان العربي في البلاد العربية.

__________________

(١) صوابه : «جمادى الثانية» أو «جمادى الآخرة».

٤١٦

سنة ١٣٣٢ ه

في أواخر محرّم هذه السنة قتل تعليقا في رحبة باب الفرج ـ قرب برج الساعة ـ أحد الشبان ، قتل قصاصا منه على قتله غلاما من أسرة كريمة اغتاله في رمضان السنة السالفة. وكان الحامل على قتله إياه غيرته عليه وأمله الاجتماع معه في دار البقاء. والجنون فنون. وفيها جدّت الحكومة بجمع إعانة الأسطول في سائر البلاد الدولة العثمانية وألّفت لهذا الغرض في سلانيك لجنة خصوصية وحضر للحثّ على بذل هذه الإعانة وفد خاص من استانبول جمع لهذه الغاية مبلغا طائلا وكانت هذه الإعانة تجمع منذ سنتين من التجار والمأمورين على أنحاء شتى تؤخذ تارة مشاهرة وأخرى مسانهة (١). وفيها أسست العدلية في منبج مركز هذا القضاء.

أول طيارة في جو حلب :

في شهر ربيع الأول من هذه السنة الموافق نيسان سنة ١٣٢٩ رومية تراءى في سماء حلب لأول مرة طيارة وردت عليها من استانبول ، تحمل أستاذين في فن الطيران وهما شابان تركيان غضّا الشبيبة ، اسم أحدهما صادق والآخر فتحي ، وكان وصولهما إلى حلب وقت الغروب وكانت مهدت لطيارتهما مسافة من الأرض قرب السبيل تجاه جبل البختي ، ورشّ في هذه المسافة تراب أبيض ، فنزلا بطيارتهما عليها بعد أن حلّقا في الجو برهة. وقد خرج لاستقبالهما والتفرج عليهما كبراء الحكومة والعسكرية وأعيان البلدة وألوف من أهلها. ولما استقرت الطيارة في الأرض علا لها الهتاف والتصفيق وارتفعت الأصوات بالدعاء للدولة بالفوز والنصر. ثم إنهما أقاما في البلدة بضعة أيام أقيمت فيها لهما المآدب الحافلة ونالا من الناس إكراما زائدا. ثم نهضا من حلب على طائرهما الميمون قاصدين دمشق الشام فوصلا

__________________

(١) مشاهرة : أي كل شهر. ومسانهة : كل سنة.

٤١٧

إليها في أقلّ من سحابة يوم وبقيا فيها أياما قليلة وحصل لهما فيها من الحفاوة والإكرام ما حصل لهما في حلب.

ثم نهضا من دمشق قاصدين القاهرة ، وبينما هما يطيران في سماء ضواحي الأردن إذ عرض لطيارتهما عارض أبطل حركتها فخرّت بهما من الجو إلى الحضيض ودفعتهما عنها في أثناء هبوطها ، فسقطا إلى الأرض سقوط الصاعقة وقد اندقّت أشلاء كل واحد منهما واختلطت ببعضها فصارت كأنها فدرة (١) لحم مدقوق. ولو لا ما كان يحمله كل واحد منهما من الوثائق لما قدر أحد أن يميزه عن رفيقه. فحملت أشلاؤهما على عجلة إلى دمشق ودفنا في قبرين متجاورين في تربة المرحوم السلطان صلاح الدين ، وكان أسف الناس عليهما شديدا.

كان الغرض من إرسال هذه الطيارة وباقي الطيارات التي أرسلت بعدها إلى هذه البلاد إعلام الشعوب العثمانية بأن الدولة مهتمة بترقية الفنون العسكرية كإحدى الدول المعظمة وأنها انتبهت من رقادها ونفضت عنها غبار التواني والتكاسل اللذين كانت عليهما.

الحرب العامة

الحرب العامة وما أدراك ما الحرب العامة؟ حرب كلح لها وجه الأرض وزلزلت جبالها وقلقت بحارها وكادت تميد لها الدنيا بأهلها. شبّت نيرانها في عاشر رمضان من هذه السنة الموافق ٢١ تموز سنة ١٩١٤ م وخمدت تلك النار الحاطمة في محرم سنة ١٣٣٧ ه‍ وتشرين الثاني سنة ١٩١٨ م ، فكانت مدتها أربعة أعوام وخمسة شهر تقريبا ، نخرت في هذه المدة كبد العالم ، أماتت أمما وأحيت أخرى. أقامت الأمم على بعضها ، يسفكون دماءهم ويخربون بيوتهم وينهبون أموالهم ويعيثون فسادا في أعراضهم كأن رحم الإنسانية قد تقطعت بينهم ، يستعملون في إبادة أنفسهم كل ما تصل إليه أيديهم من آلات التدمير ومعدات الهلاك والبوار حتى ظهر مصداق قول الملائكة الأبرار : «أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء ، ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك (٢)».

__________________

(١) الفدرة : القطعة من الشيء.

(٢) من الآية ٣٠ من سورة البقرة.

٤١٨

آفة على البشر أهلكت من النفوس ما يعدّ بعشرات ألوف الألوف ، ماتوا ميتات مختلفة ما بين قتيل وغريق ومحروق ومفقود ، وميت بالثلج والبرد وهالك بالجوع وأنواع الأمراض وغير ذلك من صنوف البلاء. ناهيك أن عدد الجيش العثماني كان في أثناء هذه الحرب الطاحنة مليونين و ٨٥٠ ألف رجل استشهد منهم من ضبطت أسماؤهم فقط ٣٢٥ ألف ضابط ، وعدد الجرحى ٤٠٠ ألف ، ومجموع الأسرى والمنهزمين مليون و ٥٦٥ ألف رجل. وإن ما أنفقته هذه الدولة في هذه الحرب من الأموال يبلغ نصف مليار من الذهب العثماني. هذه هي خسائر الدولة العثمانية فقط من الأموال والنفوس. ومنه يعلم بالقياس مقدار ما خسرته بقية الدول العظام من هذين النوعين. هلك في هذه الحرب للدولة العثمانية في حملتها على ترعة السويس فقط اثنا عشر ألف جمل ، بله ما هلك فيها من بقية المواشي مما لا يدرك حدّه ولا يمكن عدّه فإن البغال والحمير والخيول في بلادنا كادت تدهى بغائلة الانقراض والانمحاء.

هذا وإن أخبار الحرب العالمية قد تستوعب مجلدات ضخمة تملأ المكتبات مما ليس الإتيان به في استطاعتنا ، فضلا عن كونه ليس من واجباتنا في هذا التاريخ الخاص. وإنما علينا ـ قبل الشروع بسرد حوادث هذه الحرب في حلب وبعض ملحقاتها ـ أن نأتي بمقدمة إجمالية يتصور منها القارئ فداحة خطبها ويدرك شيئا من أحوالها وأسبابها على وجه الإجمال فنقول :

الدول المتحاربة مع بعضها :

الدول المتحاربة مع بعضها ثمان وعشرون دولة. وهي تقسم إلى فريقين ، أحدهما نطلق عليه اسم (دول الاتفاق) والآخر نطلق عليه اسم (التحالف المربع). أشهر دول الفريق الأول : إنكلترا ، روسيا ، فرنسا ، أميركا ،اليابان ، الصين ، بلجيكا ، اليونان ، الصرب ، الحبل الأسود ، رومانيا ، البرتكيز ، وغير أولاء الدول مما لا تخطر أسماؤهن في بالنا.

أما دول التحالف المربع فهن : دولة ألمانيا ، النمسا ، تركيا ، البلغار.

جميع دول الاتفاق أعلن الحرب على دول التحالف المربع متعاقبات دولة إثر دولة. إن عدد جيوش دول الفريق الأول يفوق بكثير جدا عدد جيوش الفريق الثاني ، ومع هذا

٤١٩

فإن النصر كان حليف الفريق الثاني لاجتماع كلمة دوله على غرض واحد وهو الفوز والانتصار ، ولتوحيد حركاتهن طوعا لرأي واحد ، ولانتظام مهماتهنّ وطواعية أجنادهن الذين يقاتلون بصدق وإخلاص ويسمحون بتضيحة أنفسهم دفاعا عن أوطانهم وحفظا لشرفهم لا طمعا بأجرة يرونها جزءا لا يتجزأ من ثمن أرواحهم.

ثم في آخر سنة من سني الحرب انضمت دولة أميركا إلى دول الاتفاق فانعكس الحال وانتهت الحرب بفوزها ، وقد فتك الجوع بالنمسا واضطرها أن تنفرد بالصلح ، ثم تبعتها البلغار وحذت حذوها. وبسبب ذلك انقطع خط الاتصال بين تركيا وحلفائها ودب الرعب في قلوب عساكرها وانكسرت معنوياتهم ، فانسحبوا من سوريا تطاردهم جيوش الإنكليز بمعونة عرب الشريف. وحينئذ تقررت الهدنة ووقفت رحى الحرب.

أسباب هذه الحرب :

لهذه الحرب سببان : أحدهما أولي والآخر ثانوي نتكلم عليه بعد.

السبب الأوليّ :

السبب الأولي الذي اضطر كل دولة من دول الاتفاق إلى أن تطرح ما بينها وبين الدولة الأخرى من الدخل والضغن ـ ويكنّ جميعا يدا واحدة في إشهار هذه الحرب ـ هو تضخم دولة ألمانيا وتوجس الدول الخيفة من غائلتها ، وتوهمهنّ أنها بعد قليل من الزمن ستجرها قوة معداتها البرية والبحرية ومهارتها في الفنون الحربية إلى الطمع باكتساح أوربا وابتلاع الدنيا ، الأمر الذي كان يتجسم شبحه المريع في أعين دول الاتفاق غولا مرعبا مكشّرا عن أنيابه الحديدية يتطاير من عينيه الجهنميتين نار شرر حاطمة تلتهم أوربا بأسرها.

على أن بعض الساسة من الغربيين ينكر على دول الاتفاق ما يتوهمنه من غائلة هذا التضخم ويقول : إن جدّ ألمانيا في بلوغها تلك الدرجة من التضخم لم يكن لها من ورائه غرض ترمي إليه سوى ترقي اقتصادياتها وحفظ كيانها وصد هجمات المحدقين بها من أعدائها ، وإنها لا تفكر قط بالفتح والاستعمار أو التعدي على الجوار والأغيار.

وسنورد بعد قليل نبذة من الكلام على تضخم إيمبراطورية ألمانيا وما بلغته من التفوق والعظمة في فنون الحرب والاقتصاد وغيرهما.

٤٢٠