نهر الذّهب في تاريخ حلب - ج ٣

كامل البالي الحلبي [ الغزي ]

نهر الذّهب في تاريخ حلب - ج ٣

المؤلف:

كامل البالي الحلبي [ الغزي ]


المحقق: الدكتور شوقي شعث ومحمود فاخوري
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
المطبعة: مطبعة الصباح
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٤٠

سنة ١٣٠٩ ه

في محرّم هذه السنة خفّت وطأة الهواء الأصفر في حلب وحارم وأنطاكية. بعد أن بلغت وفياتها اليومية في حلب مائة شخص وزيادة ، ولكنها في هذا الشهر أيضا فشت في عينتاب وكلّز. وفي محرّم هذه السنة أيضا بوشر بستر مجرى المياه القذرة في الخندق الكبير ، الذي صار جادة عامة بعد أن قطعت منه الأشجار وثقّف (١) بالتراب من باب حديد بانقوسا إلى حضرة مزار السهرودي. وفي هذا الشهر أيضا فشت علة الهيضة في أورفة فأخذت تحت المنطقة الصحية. ثم في شهر ربيع الأول فشت في إسكندرونة. وفي أواخر شهر رجب تقلص ظل الهيضة من سائر بلاد الولاية ورفع الحجر الصحي عنها. وفي آذار منها وصل إلى حلب جراد كثير طبّق السهل والجبل وملأ قناة حلب وأفسد ماءها ، فطبّقتها البلدية بالحجارة الكبيرة من قرية هيلانة إلى قرب ناحية بعادين ، منعا لسقوط الجراد فيها. وقد ترك من القناة بعض مواضع مكشوفة للشرب والوضوء. وطول ما طبق منها ثلاثة عشر ألف ذراع معماري ، وجمع من بزر الجراد ـ قبل أن ينقف ـ زهاء ستة ملايين أقّة.

وفي هذه السنة بلغت رسوم عدّ الغنم عن سنة ١٣٠٨ رومية في ثلاثة عشر قضاء ملحقة بحلب (٧١٩٣٢٤٢) قرشا موزعا هذا المبلغ على رأس كل شاة ومعزى : ثلاثة قروش ونصف القرش عملة أميرية ، سعر الذهب العثماني مئة قرش. وفي ذي القعدة من هذه السنة بوشر بتنظيم جادة الخندق من باب دار الحكومة إلى باب الفرج. وفيها فتح مستشفى الغرباء تحت القلعة قرب سوق الضرب ، وسمي مستشفى الغرباء الحميدي ، وفرش من أموال إعانة جمعت من أهل الخير. وفيها طبق كثير من مجاري المياه القذرة في حلب ، وكانت مكشوفة تنبعث منها الروائح الكريهة وتشوه مناظر الشوارع.

__________________

(١) أي سوّي وقوّم اعوجاجه.

٣٢١

سنة ١٣١٠ ه

في محرّم هذه السنة مات ولدان من أهل محلة أقيول ، لأكلهما لب عجو المشمش ، لسمّ يوجد فيه يقال له حامض الكيالوس. وفي صفر هذه السنة شرع بتعمير المدرسة الحلوية عن يد لجنة خصوصية بنقود مجموعة من أحكار أراضي التلل خارج باب الفرج ، قرب السّهروردي. وكانت تعرف قبلا بمناشر الزبل ، وهي من جملة أوقاف الحلوية التي وقفها نور الدين الشهيد ، وكانت قبلا تلالا عظيمة كالجبال لا يشتريها أحد بقرش واحد. فلما كثر الناس بحلب وانتشر الأمان خارج سورها أخذ الناس يشترون كل ذراع مربع من التلل المذكورة من متولي المدرسة بعشرين قرشا. ثم تصاعد السعر حتى بيع الذراع على طريقة التحكير الشرعية بذهبين عثمانيين ، فأثرى وقف المدرسة المذكورة وكثرت عقاراته ، وعمرت المدرسة ظاهرا وباطنا. ومن هذا التاريخ أخذت محلة التلل بالسعة والعمران حتى أصبحت في هذه الأيام من أجمل محلات حلب وألطفها موقعا وأغلاها قيمة. وقد أسلفنا ذكرها في الكلام على محلة الصليبة الصغرى من الجزء الثاني.

وفي اليوم الخامس من شهر ربيع الأول حدث في سوق رأس الجسر من مدينة أنطاكية حريق أتى على ٦٥ بناء ما بين دار ودكّان. وفيه أيضا كان ستة أشخاص من السامسونيين يشتغلن في طاحون في جهات كلّز أكلوا نباتا يعرف بالفطر فمات منهم ثلاثة. وفي رجب بوشر بتعمير مستودع لزيت البترول المعروف بالكاز في مدينة إسكندرونة. وفيها حول المكتب الإعدادي الملكي في حلب إلى ليلي فبلغت طلبته نيفا وثمانين. وفيها قبضت الحكومة على رجل يستخرج من قرية قرق مغارة (أربعين مغارة) ملح البارود فصادرته وحبسته. وفي شعبان ـ المصادف شباط الرومي ـ حدث عدة هزات أرضية في حلب والرّها ومرعش والبستان وعينتاب والبيرة. وفيها ارتفع سعر التنباك بسبب دخوله تحت شركة الانحصار ، فصار المدخنون بالماربيج يستعملون فيه بدل التنباك حب الرز وعرق السّوس ، ويزعمون أنه يغني عن التنباك. فلم يقيموا على ذلك غير القليل ثم عادوا إلى التنباك.

٣٢٢

وفي ربيع هذه السنة كانت الأمطار كثيرة غزيرة في جميع الجهات ، فكبست السيول بعض المنازل في الرّها وأنطاكية وغيرهما من البلدان ، وطغت المياه على سهول العمق فأغرقت كثيرا من قراه ، وكان ذلك ناشئا عن ضيق مصائد السمك المبنية في نهر العاصي ، المعروفة في أنطاكية باسم (داليان). وفيه قذف بحر السويدية قرب «الجوليك» حوتا عظيما طوله ـ عدا رأسه ـ ثلاثون ذراعا معماريا ، فأخذ الأرمن هناك رأسه واستخرجوا منه مقدارا عظيما من الدهن. وفيها وزعت الحكومة على بعض الزراع حب ذرة صفراء وبيضاء أحضرت من أميركا قصد تجربة محصولها فلم تنجح.

وفي صيف هذه السنة في آب منه اشتد الحر في حلب حتى صعد الزئبق في مقياس السنتغراد في الظل الشمالي إلى الدرجة الأربعين. وفيها تواردت الأخبار من الرقّة بأنه فشا في غنم بعض قراها مرض سببه دودة في كبدها تحصل من رعيها حشيشة اسمها البور. وفيها عاد لدين الإسلام عشيرة فلجلو في قضاء بازارجق ، بعد أن صارت إباحية من الطائفة المعروفة باسم قزل باش (الرأس الأحمر). وفي يوم الثلاثاء ١٥ جمادى الثانية وصل إلى حلب واليا عليها الحاج عثمان باشا ، وهي ولايته الثانية ، وكان كسيحا يحمل بين يدي الرجال ويوضع في عربته ويحمل منها إلى محل جلوسه. وهو من أعظم وزراء الدولة عند السلطان عبد الحميد ، محبوبا لديه ، لأنه هو الذي سعى بقتل بطل تركيا الفتاة مدحت باشا حينما كان محبوسا في الطائف ، وعثمان باشا واليا في الحجاز. وكان هذا الوالي في منتهى درجات السخاء إلا أنه أيضا كان في منتهى درجات قبول الرشوة. وفيها نقل مركز قضاء جبل سمعان إلى قرية خان تومان.

٣٢٣

سنة ١٣١١ ه

في ربيع الثاني منها تم افتتاح جادة الخندق ، وبدأ الناس يسيرون فيه بكل سهولة. وكان هذا الخندق بستانا كما بينا ذلك في الكلام على أسوار حلب. وفيه تم بناء القنطرتين المضافتين إلى جسر الناعورة تعريضا له. وفيه ورد من قضاء إدلب أن رجلا في قرية «شلاية» في ناحية «ريحا» ذبح ماعزا مريضة وباع لحمها فكلّ من أكل منه مرض ، ومنهم ثلاثة ماتوا. وفيها مدّ السلك البرقي من حلب إلى الرقة على طول ١٨٠ ميلا (كيلومتر). وفيها وضع أساس مسجد وتكية في قرية «حيش» من أعمال قضاء المعرة لزعم مرقد لوليّ هناك اسمه علي خزام. وفيها أحدث في حلب مكتب للإناث تدفع نفقاته من جهة المعارف. وفيها مدّ السلك البرقي من حلب إلى دير الزور.

٣٢٤

سنة ١٣١٢ ه

في سادس محرّمها توفي الشيخ حسن وادي ، ودفن في حجرة غربي قبلية مسجد الزاوية تحت القلعة ، قرب باب محلة ألطون بغا. وفي ١١ محرّم منها ولي حلب حسن باشا الأشقودري ثانية. وفي جمادى الأولى منها المصادف تشرين الثاني سنة ١٣١٠ احترق سوق بيلان. وفيها كان تأليف كتائب الحميدية من عشائر البوادي مضاهاة لعساكر القوزاق عند الدولة الروسية لأنهم من عشائر بواديها. وفيها جعل مركز قضاء حارم في قرية كفر تخاريم تفاديا من وخامة هواء حارم وضيقها ، ورغبة في جودة هواء كفر تخاريم وسعتها. وقد تعهد جماعة من أهلها أن يعمروا فيها من أموالهم دارا للحكومة ومستودعا للرديف ومحلا للتلغراف ، فوفوا بوعدهم.

عصابات الأرمن :

وفيها استفاضت الأخبار من أنطاكية وإسكندرونة وجسر الشغر أن جماعة من عصابات الأرمن ظهروا في الجبال المتوسطة ، بين ناحية السويدية في قضاء أنطاكية وبين ناحية أرسوز في قضاء إسكندرونة ، وأنهم تحرشوا ببعض قرى المسلمين والمسيحيين وتعدّوا على أهلها. فلم يلتفت الوالي ـ وهو حسن باشا الأشقودري ـ إلى هذه الأخبار وأراد أن يبقي هذه الحادثة في حيّز الكتمان لغرض لا نعلمه. ولكن هذه القضية لم تقف على حدّ يمكن كتمانها عنده فقد عادت تلك العصابة الأرمنية إلى تعدّيها واشتهر أمرها ثم تعلقت بشعف الجبال (١) وسلكت منها في الشعوب والمضايق حتى وصلت إلى الزيتون من أعمال مرعش.

ولما بلغ الحال هذا المبلغ لم يسع الوالي أن يتغاضى عنه ، فندب للتحقيق عن هذه القضية رجالا من حلب أشخصهم إلى جهة السويدية ، فتبين لهم أن جماعة من ناشئة الأرمن قدموا على ثغر السويدية من أميركا بقصد الترؤّس على طوائف الأرمن في البلاد العثمانية والقيام

__________________

(١) يعني أعالي الجبال.

٣٢٥

على الحكومة لينالوا الاستقلال ، وأنهم ـ بعد أن أهاجوا الفتن والقلاقل في جهات السويدية وأضرموا فيها نار الثورة ـ تسلقوا الجبال وقصدوا جهة الزيتون ليجعلوها مقرا لحركاتهم الحربية. فلم ترق هذه الأخبار بعين الوالي بل مسخها وشوّه وجه حقيقتها وأذاعها في صحيفة الفرات. والظاهر أن الوالي كان يخشى أن يتطير السلطان منه لحدوث هذه المسألة في أيام ولايته.

ثم إنه لم يمض سوى مدة يسيرة حتى اشتهر الحال وظهر الاختلال في جهات الزيتون حيث انضم إلى تلك العصابة ألوف من الأرمن وثاروا بغتة ، وكان من أمرهم ما سنذكره في حوادث السنة التالية. وكان سبب تفاقم أمرهم تغاضي حسن باشا الوالي عن أخبارهم في مبدأ أمرهم ، ولذا نقم عليه السلطان وعزله عن ولايته فسافر إلى استانبول وبعد مدة وجيزة أدركته الوفاة. وفيها وضع في مسجد مشهد الحسين بحلب منبر وجرت فيه خطبة في الجمعة والعيدين. وفيها ظهرت علة الهواء الأصفر في حلب وبلغت أقصى وفياتها في اليوم نحو الثلاثين.

٣٢٦

سنة ١٣١٣ ه

في شوّالها الموافق آذار سنة ١٣١٢ ورد من قضاء جسر الشّغر أن الغنم في الجبل الوسطاني قد فشا فيه مرض قتّال ، سببه تراكم قراد على أديمه (١). وبعد أن أشخص إلى تلك الجهة المأمور البيطري وفحص المرض قال : إن علاجه إزالة القراد على الدابة بالنظافة إن كان القراد قليلا ، ومسحه بمزيج مركب من جزء من روح الترمنتينا وجزءين من الماء إن كان كثيرا. فاستعمل هذا العلاج ونجح. وفيها ورد من قضاء حارم أن بقرة لعثمان من أهل قرية «أفيز» ولدت عجلا ميتا له رأسان وأربع عيون وأربع آذان وفمان وأربع قوائم. وفيها ـ في ذي القعدة ـ وردت الأخبار من جهات السويدية وأنطاكية أن جمعا عظيما من الأرمن الأغراب وفدوا على السويدية وجبل موسى وما جاورهما من القرى الأرمنية ، وانضم إليهم شرذمة من زعانف الأرمن الوطنيين ، وأخذوا يعيثون بالأرض فسادا. فأشخص إليهم من مركز الولاية جماعة من الثقات للفحص عنهم والتنكيل بهم بعد أن يتبين لهم فساد طريقتهم ، ففحصوا الحقيقة وتبين لهم أن تلك الطائفة ومن انحاز إليها هم من الثوار ، فقبضوا على بعضهم وهرب البعض الآخر وتشتت شمل تلك العصابة. وفي ١١ جمادي الثاني (٢) منها وصل إلى حلب واليا عليها مصطفى ذهني باشا ، ثم عزل وولي حلب رائف باشا فوصل إليها في خامس شعبان منها.

تمرد الأرمن في الزيتون :

في شعبان من هذه السنة أيضا أخذت الأخبار تتوارد من الزيتون بأن الأرمن هناك تمردوا على الحكومة وشهروا السلاح على المسلمين وقتلوا وسبوا واستولوا على الثكنة العسكرية وفتكوا بالعسكر والضباط وقتلوا نساءهم وأطفالهم ومثلوا بهم تمثيلا فظيعا

__________________

(١) الأديم : الجلد. والقراد : حشرات صغيرة تقتات من الدّم ، تمتصّه حيث تستطيع.

(٢) الصواب : «جمادى الآخرة» أو «جمادى الثانية» ، لأن كلمة «جمادى» مؤنثة.

٣٢٧

فاهتمت الدولة بأمرهم وجهزت جيشا من حلب وآخر من أطنه تصحبهم الأرزاق والمهمات الحربية وكان الوقت شتاء والأمطار غزيرة والثلوج متراكمة في الطريق المؤدية إلى الزيتون فلقيت العساكر بالوصول إليها الشدائد من البرد والثلج والجوع مات منهم بسبب ذلك عدد غير قليل. وأخذت البلدية في حلب من الناس عددا عظيما من الدواب كالجمال والبغال والخيل لتحمل عليها المهمات إلى الزيتون على أن تعوض أصحاب الدواب قيمتها بعد انقضاء تلك الحادثة فلم تعوض عنها سوى نحو عشرها وضاعت بقية الدواب على أهلها. ولما علم الأرمن الثائرون في الزيتون أن العساكر سائرة إليهم جزعوا واضطربوا وتحققوا أن لا قبل لهم في النصرة عليهم فأخذ زعماؤهم يخابرون لجانهم الكبرى في البلاد الأوربية فاستغاثت تلك اللجان بالدول الأجنبية وطلبت منها السعي بإنقاذ أولئك الثوار وانتشالهم من مخالب العساكر التركية. فأصدرت كل من دولة إنكلترا وألمانيا وفرانسة وإيطاليا أمرا إلى قنصلها في حلب بأن يتوجه إلى الزيتون ويتوسط الصلح بين الحكومة العثمانية وبين الأرمن الثائرين. وفي أسرع وقت سافرت القناصل إلى الزيتون ولقوا من الطريق برحا من شدة البرد وقد استمروا في الزيتون زهاء ستة أشهر إلى أن أخلد الثوار إلى الطاعة وصدر العفو عنهم وتقرر بأن يكون القائممقام في قضاء الزيتون مسيحيا وله معاون مسلم. وفي هذه السنة حدثت المشاغب الأرمنية في مدينة أورفه ومرعش وعينتاب وكلز وبيره جك من ولاية حلب ووان وبتليس وغيرهما من بقية البلاد العثمانية وقتل من الأرمن في هذه المشاغب على رواية مائة ألف نسمة. وكان الباعث على هذه المشاغب قيام الأرمن على الحكومة وإقلاقهم راحتها في طلب انفصالهم عنها وبقائهم دولة مستقلة أو تحت نفوذ دولة روسيا أو إنكلترة. ونحن لا نشك أن تلك المشاغب كانت بإشارات خفية وأوامر برقية مرموزة من السلطان عبد الحميد إلى ولاته وأمرائه العسكرية في ممالكه رغما عما كانت الحكومات تختلق لكل مشغبة سببا غير معقول لدى أرباب العقول. على أن جميع البلاد السورية بل سائر البلاد العربية لم يحدث فيها شيء من تلك المشاغب والسبب في هذا عدم الإيعاز من قبل السلطان عبد الحميد إلى أهلها بإحداث تلك المشاغب لعلمه أن أهلها لا يلبون طلبه ولا يلبث أن يذيعوا ذلك السر الذي لا يخفى عليهم.

استطراد في الكلام على الأرمن ومدينة الزيتون :

نورد في هذا الاستطراد بعض ما وقفنا عليه من الأحوال الروحية والتقاليد القومية ،

٣٢٨

التي سارت على سننهما الهيئة الاجتماعية من الطائفة الأرمنية التي مضى على مجاورتنا إياها بضع سنوات غبّ أن هاجرت إلى حلب بعد الحرب العالمية ، وقد أصبح فيها منهم العدد الكبير الذي يقدر بستين ألف نسمة ، فنقول :

الأرمن ـ مهما اختلفت أجناسهم وتباينت أقطارهم ـ أمة نشيطة جدية عاملة منصرفة عقليتها إلى الماديات دون المعنويات ، وهي ثابتة في مقاصدها قوية الإرادة في منازعها ، تمارس من صعاب الأمور ما يعجز عنه غيرها من أمم الشرق ، لا تعتمد إلا على نفسها ولا يعوقها عائق في سبيل غاية تطلبها. ترى كل فرد من أفرادها ـ ذكرا كان أم أنثى ، كبيرا كان أم صغيرا ـ مكبّا على عمله مهرولا إلى حانوته مبكرا لمزاولة مهنته التي ارتضتها له قوة جسمه وسعة مداركه ، فمنهم التجار بأنواع البضائع الشرقية والغربية ، ومنهم الصيدلي والطبيب والمحامي ، والمهندس والصرّاف والخادم والكاتب ، والميكانيكي والخياط والحائك ، والنجار والحداد والحجّار ، والمعمار والطاهي واللحّام ، وصاحب المقهى والمنزل ، وبائع الخضر والبقول ، وغير ذلك من المهن التي لا تخلو واحدة منها ، شريفة كانت أم حطيطة ، إلا والمشتغلون بها من الأرمن عدد كبير يزاولونها باعتناء وإتقان لا مزيد عليهما. وهم ـ على اختلاف مهنهم وحرفهم ـ يقنعون بالربح اليسير ويقتصدون بالإنفاق على أنفسهم ، الأمر الذي أكسد سوق نظرائهم من الحلبيين وضيّق عليهم أسباب معايشهم ، لأنهم لا يقنعون بالربح اليسير لتعوّدهم على التوسع بالإنفاق دون الاقتصار على ضروريات الحياة.

كل فرد من أمة الأرمن ـ ذكرا كان أم أنثى ـ لا يرضى أن يكون عاطلا عن العمل متقاعدا عن الاحتراف ، ولذا لا ترى منهم متسوّلا ولا متشردا ، ولا من هو عيلة على غيره ، سوى من أعجزته العاهات والزّمانات (١) عن النهوض بعمل ما ، وسوى الأيتام الذين ليس لهم مال ولا أولياء ينفقون عليهم ، فإن هؤلاء الجماعة قد تكفلت بإعاشتهم الجمعيات الخيرية الأرمنية المؤلفة في حلب وغيرها من بلاد أميركا وأوربا ، ففتحت لهم دور العجزة والمياتم والمدارس ، وأغنتهم عن الحاجة إلى غيرهم وعنيت بأمورهم أحسن عناية.

__________________

(١) الزّمانات : جمع زمانة ، وهي المرض الدائم (المزمن).

٣٢٩

أما نساء أمة الأرمن فإنهن يرين للرجل حق السيطرة عليهن ، فهن بهذه العقيدة من أطوع نساء العالم لأزواجهن ، وهن بعيدات (إلا ما شذّ منهن) عن معانقة الأزياء الغربية في لباسهن وزخارفهن ، إذ قلما تجد على أرمنيّة ثوبا يبدو منه الذراعان إلى قرب الكتف ويظهر منه الكاهل والنحر وأعالي الصدر. كما أنك لا تجد فيهن واحدة تستعمل في وجهها وشفتيها ـ وما بدا من يديها ـ التمويه بالبياض والحمرة. قد اعتضن عن ذلك كله بنظافة بشرتهن واعتدن على الاغتسال بالحمّام والتردد إليه من حين إلى آخر ، والتزمن في لباسهن جميعا زيا واحدا ، وهو ثوب بسيط بأكمام ، يستر المرأة من رقبتها إلى ما تحت ركبتيها ساترة ساقيها بجورب منتعلة بحذاء (قندرة) له كعب عال ، فاتحة على رأسها شبه طيلسان (١) أسود اللون مثلث الشكل ، قد أرسلت خلفها زاويته الوسطى تستر بها ظهرها وضفيرتها. ومنهن من تفتح على رأسها منديلة صفيقة سوداء ، ترخي منها ذؤابة على ظهرها تخالط بها شعرها ، فلا يفرق الناظر إليه بينه وبين ذؤابة المنديلة. على أن هذا النسق من اللباس والطيلسان لا يكاد ينقص عن الإزار الشرعي سوى عدم ستره جميع الشعر. وقلّ منهن من تلبس القبعة (البرنيطة) في رأسها.

ما تؤاخذ به أمة الأرمن :

إن هذه الأمة على ما هي عليه من المزايا الحسنة لم تتنزه عن بعض هنات تستوجب عليها المؤاخذة وهي :

(١) التعصب المفرط الخارج عن دائرة الاعتدال ، فإن كل واحد من الأرمن يرى الصواب كله فيما هو عليه من العقيدة والتقاليد والعادات ، وأن ضد ذلك فيما هو عليه غيره. على أن هذه العقيدة هي التي تجعل الأرمني بعيدا عن معاشرة غيره منكمشا عن صحبة الناس ، غير مؤتلف ولا مختلط معهم.

(٢) التهوّر وقصر النظر وقلة التبصر بالعواقب ، وعدم وزن القدرة في القيام على طلب الاستقلال الذي طالما جلب على أمة الأرمن البوار والدمار ، وأفنى منها ما يعدّ بألوف الألوف ، دون الحصول على ما تبتغيه ، غير متعظة بقول الحكيم :

__________________

(١) الطيلسان : وشاح يوضع على الكتف والرأس ، يشبه ما يسميه العامة «الشال».

٣٣٠

إذا لم تستطع شيئا فدعه

وجاوزه إلى ما تستطيع

وكيف تريد أن تدعى حكيما

وأنت لكلّ ما تهوى تبوع؟

(٣) الإلحاح بالانتقام من عدوهم إذا ظفروا به ، حتى إنهم ليبطشون ببعضهم إذا طرأ بينهم خصام ونزاع ، فترى سورة الغضب في أحدهم تحمله على أقصى ما تجود به قوته من الضرب والبطش.

إن التهور وقلة التبصر في العواقب قد كلّفا الأرمن أن يريقوا من دمائهم بحارا دون أن يحصلوا من ذلك على جدوى.

إن من تصفح التاريخ ونقّب فيه عن حوادث الزيتون والأرمن ، وعما طرأ على مرعش من الخراب المتكرر ، يظهر له جليا أن قيام الأرمن وتمردهم على الحكومات الإسلامية لم يخل منها زمن من الأزمان ، يقومون على الحكومات تارة بأنفسهم وأخرى بواسطة الروم الذين يشنون الغارات على جهات الأناضول بإغراء الأرمن والالتجاء إليهم ، ينضمون إلى الصليبيين تارة وإلى التاتار أخرى ، فلا ينالون من ذلك سوى الفشل الذي كان الأحرى بهم أن يقودهم إلى العيش مع جيرانهم بالمسالمة والوفاق كما يعيش غيرهم من بقية الطوائف المسيحية التي تعيش في غبطة من السلام والوئام.

انظر إلى ما كتبناه في الكلام على مرعش يظهر لك أن هذه البلدة خربت بمشاغب الأرمن خمس مرات ، أعاد بناءها في المرة الأولى معاوية ، وفي الثانية العباس بن الوليد ، وفي الثالثة الوليد بن هشام ، وفي الرابعة صالح بن علي ـ في خلافة المنصور ـ وفي الخامسة سيف الدولة بن حمدان. ثم تنقلت عليها الولاة المسلمون حتى استولى عليها كيخسرو بن قليج أرسلان السلجوقي ، وكأنه استصعب حفظها والقيام بها فوهبها لبعض طهاته ، وهو حسام الدين ، ثم انتقلت عنه لأولاده إلى أن كانت سنة ٦٥٦ فعجز عماد الدين ـ آخر من تولاها من أولاد حسام الدين ـ عن ضبطها لتواتر غارات الأرمن عليها ، فعرضها على كيكاوس صاحب الروم فأباها ، فعرضها على السلطان صلاح الدين فأباها أيضا ، فرحل عنها وتسلمها الأرمن حتى أخرجهم منها سنة ٩٠٠ علاء الدولة بك أحد أمراء الدولة ذي القدرية (١) وعمرها في موضعها الحالي وأجلى الأرمن عنها إلى أن

__________________

(١) انظر حاشية المؤلف عند كلامه على حوادث سنة ٧٦٧ ه‍.

٣٣١

كانت سنة ٩٢٨ دخلت تحت سلطة الدولة العثمانية ، وكان جاليتها الأرمن ومن اختاروا التوطن في ضواحي قلعة الزيتون الخربة التي هي في وسط جبال وعرة المسالك جدا ، تحصّنا وتمنعا عن الحكومة التي تهددهم بقوتها إذا حاولوا التمرد عليها.

ونقلت من كتاب «فظائع الأرمن» التركيّ العبارة ما خلاصته أن الأرمن في حدود سنة ٩٥٢ ه‍ رأسوا منهم أربعة أشخاص سموهم (إيشخان ـ برنس) وقسموا مدينة الزيتون بينهم أربعة أقسام ، أقاموا على كل قسم منها واحدا يحكمها من هؤلاء الأربعة ، وعقدوا جمعية سموها (فه أودال) جعلت وظيفتها السعي وراء تأييد السلطة الأرمنية على أهل تلك النواحي المجاورة لهم. فاستفحل أمر هذه الجمعية وامتدت سلطتها إلى القرى المجاورة لها ، حتى صارت تجبي الضرائب من أهلها بواسطة جباة ينصبونهم ، حتى إن كثيرا من القرى الإسلامية القريبة من الزيتون خربت وجلا أهلها عنها فرارا من ظلم الزيتونيين وتعدّيهم ، وكانوا كثيرا ما يتمردون على الحكومة بدعوى كثرة ضرائبها عليهم ، حتى إنهم قاموا مرة عليها بزعم أن ضرائبها البالغة في السنة ١٥ ألف قرش لا يقدرون على دفعها ، ثم إنهم لما رأوا أن لا مناص لهم من دفعها أذعنوا للطلب ودفعوها ثم تجاهروا بالعصيان وقاموا عليها في سنة ١١٩٧ ثم تكرر منهم هذا التمرد في كل من سنة ١٢٠١ و ١٢٢٣ و ١٢٢٤ و ١٢٤١ و ١٢٤٧ و ١٢٥٨.

وفي سنة ١٢٧٠ حضر إلى الزيتون قسيس اسمه (ملكيان أورزروفي) ليكون عضوا عاملا في العصابة العصيانية. وعندها انتخب الإيشخانيون القسيس (ديراسويان) مشاور الحكومة ، فنصبوه حاكما عاما على الأرمن في تلك النواحي. فتوجه هذا إلى دولة روسية ليؤيد حاكميته الموهومة. وبينما هو في الطريق إذ ألقي القبض عليه في مدينة أرضروم وحضر إلى الزيتون شابّ اسمه (هاروتيون جاقريان) وهو زيتوني الأصل ، وكان من مأذوني مكتب الأرمن في «غلطة» فتعين عضوا عاملا في جمعية الزيتون ، فنفخ هذا الشاب في أدمغة الأرمن روح استقلال الأرمن وانفكاكهم عن الدولة العثمانية.

ومن ذلك الوقت أخذوا يشدّدون الوطأة على من حولهم من أهل القرى المسلمين ، وأخذوا يستعطفون أمة الأرمن ويطلبون منهم المدد والمعونة على مشروعهم فصارت الإعانات ترد إليهم تباعا من أميركا ومصر وغيرهما ، حتى إن أرمنيا اسمه (مياسيال أنيكه)

٣٣٢

الزيتوني المقيم في مصر ، تبرع على هذه الجمعية بأربعمائة ليرا ، وأرسل إلى مكاتب الأرمن في الزيتون معلمين خصوصيين ، وصار يحضر إلى الزيتون ـ من غير أهلها ـ جماعة تمكنت فكرة الاستقلال من رؤوسهم ، منهم رجل أعطوه لقب (برنس) حرروا له محضرا عاما ليقدمه بنفسه إلى نابليون الثالث إيمبراطور فرانسة ، قالوا فيه إنهم يسترحمون من حضرة الإمبراطور باسم سبعين ألف بطل أرمني أن يظاهرهم على الاستقلال. فاهتم الإمبراطور بهذا الطلب أولا ثم لما تأمل المحضر وعلم ما فيه من المبالغة في العدد والتظلم طرحه وراء ظهره.

قال في الكتاب المذكور : وفي سنة ١٢٨٢ سرى تمرد الزيتونيين إلى استانبول بواسطة مرخّصي الأرمن الزيتونيين. وفي تلك الأثناء عينت الحكومة للزيتون قائمقام ، فقام بعضهم يطلبون من البطركية رفعه ، وظهر واحد من شجعانهم اسمه (بابيك باشا) وصار يتعاطى الدعارة وقطع الطريق إلى أن مات. وفي سنة ١٢٩٧ بدأ الاختلال في تلك الجهة وكان زعيمه رجلا اسمه بابيك ، وقد دام هذا الاختلال إلى سنة ١٣١٣ وقد حدث في هذه المدة عدة وقائع أهمها الواقعة التي تقدم ذكرها ، التي بدأت سنة ١٣١٣ وقد اشترك في هذه الواقعة عامّة الأرمن الجبليين ، سوى أفراد قليلين منهم. واستغرق هذا الاختلال مدة خمسة وأربعين يوما. ثم تداخلت القناصل ووقفت هذا الاختلال كما قدمناه.

قال صاحب الكتاب المذكور : والغريب أن زعماء هذا الاختلال قاموا في أوله على قصد النهب والسلب ، ثم بدا لهم أن يفرغوه في قالب سياسي ، وبذلك اغتنموا فرصة جمع مبلغ عظيم من النقود ، جمعوها من الأرمن ودلّوها في جيوبهم. وكان الغرض الحقيقي من هذه المشاغب الدعوى للمداخلة الأجنبية ، وإضعاف الدولة العثمانية والتأمين على استقلال الزيتون. اه الاستطراد.

وفي هذه السنة ١٣١٣ استولى الخوف على الناس في حلب وصار لا يمرّ يوم وإلا ويقع فيه الرعب من الثورة ، فيغلق الناس حوانيتهم ويتراكضون إلى بيوتهم. وفيها ـ في ثاني عشر آذار ـ سطع بين العشاءين ضياء دهش له الناس ، استغرق نحو خمس دقائق. وقد انتبه له الناس من داخل خلواتهم وجعلوا ينظرون إليه ، وبينما كانوا يرونه جرما ملتهبا آخذا بالهبوط ، إذ بصروا به جرما عظيما كأنه قطعة سحابة نارية يتطاير منها شرر كثير كأنها

٣٣٣

جمرة تتلظى ، ثم أخذ لونها بالبياض حتى عادت كأنها غمامة بيضاء استمرّت تشاهد في الجو نحو ساعتين. وقد ترك حين نزوله من العلوّ أثرا محمرا بقي قدر ساعتين. وشوهد هذا الحادث أيضا في جزيرة قبرص وقونية وأدرنة.

وفيها استتب الأمن في الزيتون وأقلعت عنها طوابير الرديف إلى مراكزها ، فوصل منها في يوم الجمعة ١٩ ذي القعدة عدة كتائب سافرت في ثاني يوم إلى أزمير. وفيها عمر في قرية قره أغاج قرب مدينة إسكندرونة جامع على نفقة الخزينة الخاصة. وفيها أضيفت ناحية تركمان إلى ناحية حرّان ، وجعلت قضاء سمّي «قضاء حرّان» ألحق بمتصرفية أورفة. وفيها صدر الأمر بأن يعمر على الساحل الممتد من بياس إلى السويدية إحدى عشرة مخفرة لتكون بالمرصاد على الأرمن الذين يقدمون من أميركا وأوربا إلى البلاد العثمانية بقصد تهييج المشاغب وطلب الاستقلال.

٣٣٤

سنة ١٣١٤ ه

في صفر هذه السنة اهتم مجلسنا البلدي برحبة السقاية ـ المعروفة بسبيل الدراويش ـ في شمالي حلب على بعد ميلين منه ، فعمر فيها غرفتان على طرز جميل ، وأنشئ تجاههما بستان فسيح ، وجعل ذلك المكان محلا لنزهة العموم. وفي ربيع الثاني منها تواردت الأخبار من الآستانة بأن عصابة من الأرمن أثاروا فيها وفي غيرها من البلاد مشاغب شديدة ، فعوقبوا على عملهم وعاد الأمن والسلام إلى مجراه القديم ، ودعت حكومة حلب علماءها وأعيانها ورؤساء الكهنة فيها وألقت عليهم النصائح اللازمة وحثتهم على الوفاق والمسالمة لبعضهم ، وحذّرتهم عاقبة المخالفة. ثم فرقت الحكومة على الناس بواسطة عرفاء المحلات نشرة مآلها : أن بعض أولي الفساد من طائفة الأرمن العاملين على إثارة الفتن والقلاقل في الآستانة قد عقدوا النية على إثارة ذلك أيضا في عامة البلاد العثمانية ، وغرضهم من هذا العمل إغضاب المسلمين ليوقعوا بالأرمن ، فيبرهن الأرمن لأوروبا بأنهم مظلومون وأن المسلمين لهم ظالمون فتنهض أوروبا لإنقاذهم من ظلمهم وتقع الدولة العثمانية في خطر سياسي جديد. فالواجب على كل فرد من أفراد الرعية العثمانية أن يلزم جانب السكون والحياد ولا يتعرض إلى ما لا يعنيه ، فإن الحكومة وحدها هي المسؤولة عن إخماد كل ثائرة وقطع دابر كل فساد.

وفي أيلول منها وقع في السويدية مطر غزير انقضّت في أثناء وقوعه صاعقة على زورق في الميناء حطمت ساريته. وفيها ورد الأمر بأن إحدى عشرة قرية ـ بعضها في قضاء حارم من أعمال ولاية حلب ، وبعضها الآخر في قضاء الخاصة من أعمال ولاية أطنة ـ تسلخ عن هذين القضاءين وتضاف إلى قضاء بيلان ، وهي : دده جنار ، وبوز هيوك ، وقره بابو ، وبرته لى ، وباصي بورت ، وبلانقوز ، وزنكي ، وجام صاري ، وطوسون هيوكي ، وكوز كجه ، وقره مان قاش. وفيها تم بناء الثكنة العسكرية في زيتون.

٣٣٥

حدوث حرب اليونان :

وفيها بدأت دولة اليونان تتحرش بجزيرة كريد وتثير فيها الفتن والقلاقل بواسطة عصابات يونانية تمدهم بالأموال والسلاح ، فيقطعون السبل ويشنون الغارات على القرى وينهبون ويقتلون. وكان الحامل لدولة اليونان على هذا العمل اغتنامها فرصة اشتغال الدولة بحوادث الأرمن وعجز ماليتها عن الحرب. وفيها رأت الدولة العثمانية وجوب حرب اليونان وردعها لتماديها في غيّها. إلا أن مالية الدولة في عجز عظيم عن الإنفاق على هذه الحرب ، فاضطرها الحال إلى أن تفرض على المملكة إعانة سمّتها إعانة التأسيسات العسكرية ، قدرها ٥٨٥٢٢٥٠ قرشا. فلحق مدينة حلب منها ٩٤٧٧٥٠ قرشا وقضاء أنطاكية ٦٦٤٥٠٠ قرشا ، وقضاء عينتاب ٧٦٢٧٥٠ قرشا ، وقضاء كلّز ٧٥٩٧٥٠ وقضاء إدلب ٥٣١٢٥٠ وقضاء الباب ٢٣٠٧٥٠ وقضاء الجسر ٢٧٩٧٥٠ وقضاء حارم ٢٨٩٥٠٠ وقضاء بيلان ٨٢٠٠٠ وقضاء إسكندرون ١٤٤٠٠٠ وقضاء المعرة ١٧٣٧٥٠ وقضاء منبج ١٨٥٠٠ وقضاء الرقة ٦٩٧٥٠ وقضاء جبل سمعان ٢٥١٢٥٠ وشعب الأملاك السنية ٦٥٧٠٠٠ قرش.

وفيها عين السلطان عقيب حوادث الأرمن ومشاغبها مشيرا جوالا في الولايات الشاهانية ليفحص عن وجوه الإصلاح التي تحتاجها كل ولاية ، وكان تعيين هذا المشير صوريا ، الغرض منه التمويه على الدول الأجنبية التي تطلب حماية الأرمن وتطهير البلاد من الظالمين والمستبدين. والمشير المشار إليه : اسمه شاكر باشا ، فطاف عدة ولايات وكتب ما رآه من وجوه الإصلاح اللازم إجراؤها في تلك الولايات. ثم في العشر الثاني من رمضان هذه السنة وصل إلى حلب قادما إليها من الرقة فخفّ لاستقباله إلى ناحية بابلّي في شمالي حلب قائد العسكرية أدهم باشا وعدد عظيم من الجنود الشاهانية وأعيان البلد ، ونزل ضيفا كريما في منزل بني العادلي في محلة السفاحية ، وكان معه حسيب أفندي مستشار السفارة العثمانية في طهران ومادر كورداتو أفندي معاون المشير ، وغيرهم من الحاشية والمعاونين ، فنزل كل واحد منهم في منزل واحد من أعيان حلب ، وكانت زوجة المشير معه وهي مسيحية روسية تخرج للناس غير محتجبة. وبعد أن استراح بضعة أيام أعلن أنه يقبل كل لائحة تبحث في إصلاح حلب وجميع ولايتها. فأقبل عليه الكتّاب وأولو العقول الثاقبة باللوائح المتنوعة الطافحة بالفوائد الآيلة لإصلاح أحوال الولاية وتحسين أمورها ، من تأسيس

٣٣٦

مكاتب علمية وصناعية وتجارية وزراعية ، وافتتاح طرق ومعابر ، وإحضار معامل وأوائل وتخفيض رسوم وتكاليف واحداث غيرها ، وتأليف ضابطة من الملل الثلاث وغير ذلك. فكان يتلقى تلك اللوائح بكل ارتياح ويظهر بها إعجابه. ويعد بتنفيذها مع أنه لم يظهر لها بعد ذلك أدنى أثر ولا خبر.

وفيها حوّل أدهم باشا قائد حلب إلى القائدية العامة في حدود اليونان لحرب المتعدّين على كريد ، فبارح حلب على الفور متوجها إلى جهة الحدود المذكورة ، وكان أدهم باشا صار بعد حادثة الزيتون قائدا عاما فوق العادة على حلب وأطنة وما جاورهما قصد استطلاع أخبار الأرمن ومراقبة أحوالهم. فلما تحول إلى حدود اليونان ، خلفه في القائدية العامة المذكورة علي محسن باشا. وفي شوال هذه السنة المصادف شباط سنة ١٣١٢ تظاهرت دولة اليونان بالعداء على الدولة العثمانية ، فجهزت دارعة (لورييورم) وشحنتها بالعساكر وأمرتهم أن يخرجوا إلى (كوكيمباري) فعارضتهم دارعة إنكليزية وساقت دارعتهم (لورييورم) مخفورة إلى خانية ، وكانت الدولة العثمانية قد جهزت مائة واثنين وتسعين طابورا وعزمت أن تجعل هذه القوة مائتين وعشرين طابورا ، وصدرت الأوامر للحامية العثمانية المرابطة في حدود ألاصونيا وتساليا بأن تكون على قدم الدفاع.

وفيها صدر الأمر بجمع إعانة اسمها إعانة المعابد الإسلامية ، وبجمع إعانة أخرى اسمها إعانة مهاجري كريد المسلمين. وهكذا كان لا يمر في تلك الأعصار العجيبة شهر أو شهران إلا وتصدر الأوامر بجمع الإعانات على اختلاف أسمائها ومقاصدها ، فكأن أموال الدولة على كثرتها كانت في تلك الأوقات ترمى في عرض البحار ، كما أن تلك الإعانات ـ التي أضجرت الناس وأزعجتهم ـ كانت تدفن في الأرض. وفي شهر ذي القعدة الموافق نيسان سنة ١٣١٣ بدأت تتوارد الرسائل البرقية من الصدارة والنظارة الداخلية إلى ولاية حلب ، نقلا عن القائد العام في جزيرة كريد ، مبشرة بظفر العساكر العثمانية واستيلائهم على البلاد اليونانية وحصونها ، بلدة بعد بلدة وحصن بعد حصن. وكان حضر إلى حلب عدد وافر من مسلمي جزيرة كريد مهاجرين منها فرارا من تعدي اليونان عليهم وإيقاعهم بهم ، فقر رأي المرحوم والي حلب رائف باشا ومجلس إدارة الولاية على أن تلك الرسائل البرقية التي ترد تباعا تعرّب وتطبع وتباع وتصرف قيمتها المتحصلة في مصالح المهاجرين المذكورين ، فكلفني الوالي المشار إليه بتعريبها حسبة ، فصرت أعربها ثم تطبع في مطبعة

٣٣٧

الحكومة وتباع ، ويصرف الحاصل من ثمنها في مصالح المهاجرين.

وفي يوم الخميس ٢١ ذي القعدة سافر من حلب شاكر باشا المشير المفتش العام المتجول في ولايات الأناضول وقد تقدم الكلام فيه. وفيها ورد أمر بجمع إعانة لمهاجري مسلمي كريد الذين وصلوا إلى الآستانة ، ويبلغ عددهم مائة ألف وخمسة آلاف إنسان ، منهم ٦٠ ألفا لا يملكون قوت يومهم. وفيها توالت انتصارات العساكر العثمانية وفشل الجنود اليونانية ، ففتّ ذلك في عضد ملك اليونان فاستغاث بقيصر روسيا والتمس منه أن يتوسط بينه وبين السلطان ففعل.

٣٣٨

سنة ١٣١٥ ه

في محرّم هذه السنة تم الصلح بين الدولة العثمانية واليونان على غرامة حربية تدفعها الثانية للأولى قدرها أربعة ملايين ليرة ، وأن يرد إلى اليونان جميع البلاد التي أخذت منها في هذه الحرب ، وبقيت جزيرة كريد تحت حماية الدول العظمى ريثما يتفقون على طريقة في شأنها ، ثم اتفقوا على أن تكون لليونان.

قصيدة من نظم الشاعر الأديب عبد الفتاح الطرابيشي الحلبي (١) ، نوّه بها بذكر ما أحرزه العثمانيون من الظفر في حربهم مع اليونان وما فتحوه عنوة من البلدان والمواقع :

الحمد لله حقّ النصر والظفر

وأقبل الدهر في ذا الفتح يفتخر

وأصبحت دولة الإسلام سائدة

وسيفها في قفا الأعداء مشتهر

ودولة العسكر اليونان خائفة

مثل الشيّاه إذا أسد الشرى نظروا

والجيش سدّ عليهم كل ناحية

حتى تخيّل أن الناس قد حشروا

لله درّ جيوش المسلمين فقد

أبدت فعالا لها طول المدى سير

هم الليوث إذا نار الوغى استعرت

والواردون إذا عنها العدى صدروا

أقلّهم يلتقي الآلاف مبتسما

تحت الغبار بقلب دونه الحجر

أمسى تلذّذهم ، والحرب دائرة ،

صوت المدافع ، والتصهال ، لا الوتر

يقودهم كلّ ندب ، حسن سيرته

يثني عليها قضاء الله والقدر

وكلّ شهم مشير لا نظير له

يكاد يعطيه كنه العبرة النظر

هانت بهمّتهم كلّ الصعاب كما

دانت لحزمهم الأمصار والقطر

يا يوم (لاريس) (٢) والأبطال غائرة

هل أنت إلا على أعدائنا سقر

__________________

(١) هو عبد الفتاح بن محمد أمين الطرابيشي ، معاصر للمؤلف. ولد سنة ١٢٧٧ ه‍ وتوفي سنة ١٣٣٠ ه‍. «إعلام النبلاء».

(٢) في الأصل : «لاريسا» فحذفنا الألف ليستقيم الوزن.

٣٣٩

حيث المدافع رعد والدخان به

سحب وما قذفت من جوفها المطر

يوم به جاءنا عزّ ومنفعة

وللأعادي أتاها الذلّ والضرر

و (طرنوى) أصبحت تهتزّ من جزع

مثل النزيف الذي قد هزّه السّكر

لاقت رجالا تروع الأسد حملتهم

ويرهب الجنّ لقياهم وهم بشر

باعوا نفوسهم لله وانتدبوا

نحو الأعادي فما أمسى لهم أثر

حازوا غنائمهم والسلب أجمعه

وأطلقوا السبي عفوا بعد ما أسروا

(ترحالة) خبّرينا ما نظرت فقد

حارت بمخبرك الألباب والفكر

وحذّر (١) الروم من قوم جبابرة

إذا نضوا سيفهم لا ينفع الحذر

فإن يظنّوا الجبال الشمّ تعصمهم

إن الجبال لدى فرساننا مدر

يفضّلون المنايا في مقاصدهم

على الدنايا ولا يثنيهم الخطر

يلقون أنفسهم في كل مهلكة

كأنهم للقا الأعداء قد فطروا

و (غولس) صار بالتسليم مأمنها

وزال عنه العنا والهمّ والكدر

وقد غدت في جيوش النصر زاهية

زهو العروس التي قد زانها الخفر

والحرب حرب (ولستين) فتلك غدت

ممّا يقصّر عنها الوصف والخبر

أحاطها الجند من بعد الهجوم لها

حزنا وسهلا ، فمنها لم يفز نفر (٢)

لله (لورس) ما لاقت وما نظرت

من فعلهم وظلام الليل معتكر

قد هاجموها مساء والعدوّ بها

ما أدبر الليل حتى أقبل الظفر

أمسوا تذمّهم الأعداء وتمدحهم

أهل الشجاعة حتى السّبع والنّمر

قولوا لمن ظنّ أن العجز أقعدنا

عن ردّهم حينما في عهدهم غدروا

هلا سمعت بما قد قلت من مثل

لا يحمد القطف حتى يوجد الثمر

دوموا أيا عصبة الأعداء في قلق

والدمع منهمر والقلب منفطر

فإنّ أوطارنا تقضى بهمّتنا

لا بالخيانة منا يبلغ الوطر

سلوا (زراقا) و (كروانا) فقد شهدا

فعال أبطالنا والحرب تستعر

__________________

(١) كذا في الأصل ، ولعلها : «وحذّري» بياء المؤنثة عطفا على «خبّرينا».

(٢) الحزن ، بفتح الحاء : الغليظ من الأرض ، في ارتفاع. وهو ضد السهل.

٣٤٠