نهر الذّهب في تاريخ حلب - ج ٣

كامل البالي الحلبي [ الغزي ]

نهر الذّهب في تاريخ حلب - ج ٣

المؤلف:

كامل البالي الحلبي [ الغزي ]


المحقق: الدكتور شوقي شعث ومحمود فاخوري
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
المطبعة: مطبعة الصباح
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٤٠

بحيث بيعت عدة بنات بأكلهن إلى أن أتى الحصاد وأقبل الخير. وكانت السنة مخصبة وبيع رطل الخبز بأربع وعشرين بارة وشنبل الحنطة بعشرين قرشا. وفي أواخر هذه السنة ولي حلب مصطفى مظهر باشا الشيروزي.

وفي سنة ١٢٦٣ حصل في حلب وباء عظيم وكثرت الوفيات حتى ضاق النهار على الجنائزية وصاروا يشتغلون في الليل ، والتزم الناس البيوت خوفا من أن يدرك أحدهم الأجل وهو خارج عن بيته. وفي سنة ١٢٦٤ ولي حلب كامل باشا وفيها حضر إلى حلب نامق باشا رئيس العسكر وأحصى عدد أهلها الذكور دون الإناث ، فبلغ عددهم نحوا من ستين ألفا. وفي سنة ١٢٦٥ وليها مصطفى ظريف باشا وفيها شحّت المياه وجفّ قويق وعين التل والعين البيضاء. ثم في شتائها وقع مطر غزير وطغى قويق وارتفع حتى غطّى قنطرة باب طاحون جبل النهر. وفي هذه السنة أسست دائرة إحصاء النفوس في حلب.

الفتنة المعروفة بقومة حلب :

هذه حادثة عظيمة لم يحدث بعدها من الثورات الأهلية في حلب أعظم منها. وكان حدوثها في عشية ليلة اليوم الثاني من عيد الأضحى سنة ١٢٦٦ وامتدت وقائعها إلى نحو اليوم الخامس عشر من شهر محرم سنة ١٢٦٧.

أسباب هذه الفتنة :

اختلف الناس في أسباب هذه الفتنة. فقال بعضهم : سببها فرس اغتصبها عبد الله بك البابنسي ـ متسلّم حلب ـ من يوسف باشا شريف زاده فقام أتباع الثاني على الأول للانتقام منه ، وانتقلت القضية من طور خاص إلى طور عام ، وجرى على مدينة حلب وأهلها ما جرى.

قلت : حدثني عبد القادر بك بن يوسف باشا المومأ إليه ـ وهو أدرى الناس بماجريات هذه الحادثة وأعظمهم وقوفا على أسرارها ، لأن والده أحد بطلي روايتها كما ستعرفه ـ أن قصة الفرس كانت على غير هذه الصورة ، وأن قضيتها لم تكن سببا لهذه الفتنة بل سببها الحقيقي غير هذا. قال : وأما قضية الفرس فحقيقتها أن عبد الله بك كان يملك فرسا أصيلا معدودا في وقته من عتاق الخيل يعرف باسم (صقلاوية ابن سودان)

٢٨١

وكان علي بك ـ ابن أخي يوسف باشا ـ مولعا بالخيول الأصائل ، فطلب من عمه أن يستخلص له هذا الفرس من عبد الله بك هبة أو شراء ، فلم تسمح نفس عبد الله بك أن يهبه أو يبيعه كله بل وهب عليا نصفه وقاده إليه بطوعه ورضاه. وصادف إذ ذاك أن عباس باشا ـ الذي صار خديوي مصر بعد عمه إبراهيم باشا ـ كان مولعا بالخيول العربية ، قد أرسل إلى سائر الجهات التي توجد فيها الخيول رسلا جمعوا له منها عددا عظيما حتى استصفى منها أجناسا كثيرة من عتاق الخيل في بلاد حلب وصحاريها ، وكان عبد الله بك معروفا عند المصريين لأنه كان متسلم حلب أيام دولتهم فيها ، فطلب رسول عباس من عبد الله بك فرسه الذي وهب نصفه لعلي بك ، فطلب عبد الله بك من يوسف باشا ـ عمّ علي بك ـ أن يبيعه النصف الآخر من الفرس أو يهبه إياه فأخذه يوسف باشا من ابن أخيه وقدّمه إلى عبد الله بك بطوعه واختياره ، وهو قدّمه إلى رسول عباس باشا هدية. فلما وصل إليه أنعم على عبد الله بك بسيف مرصع وعباءة وسرج مزركش. قال عبد القادر بك : وقد رأيت السرج المذكور تحت عبد الله بك وهو يتجول على فرسه في أثناء الحادثة التي نحن في صدد الكلام عليها.

قلت : وحدثني غير واحد في بيان أسباب هذه الفتنة حديثا طويلا خلاصته : أن عشيرة من عشائر البادية المخيمة في جهات الجبّول تمردت في هذه السنة ١٢٦٦ على الحكومة وامتنعت عن أداء ما عليها من الضرائب فندب الوالي لإخضاعها يوسف باشا ، وقصدها في عدد كبير من الجند والأتباع فلم يفلح وعاد بالفشل ، فندب الوالي إليها عبد الله بك فقصدها وليس معه سوى ستة نفر من أتباعه ، غير أنه ما كاد يصل إلى مضارب العشيرة حتى أحدق به رجالها وأنزلوه ومن معه عن خيولهم وشدوا وثائقهم وطرحوا الحديد في أرجلهم وعاملوهم معاملة الأسراء. واتصل الخبر بالوالي فأمر بتجهيز حملة قوية للتنكيل بتلك العشيرة وقبل أن تخرج الحملة من حلب نمي خبرها إلى العشيرة فارتاعت واضطربت فسكّن عبد الله بك روعها وقال لشيوخها : لا بأس عليكم فكّوا القيد عن كاتبي وأنا أكفيكم بطش هذه الحملة. ففكوا القيد عن كاتبه فأمره عبد الله بأن يكتب على لسانه إلى قائد الحملة كتابا أرسله مع ساع خصوصيّ يقول له فيه : إن العشيرة قد طاعت ودفعت ما عليها من المرتبات فلم يبق لتجريد الحملة عليها من لزوم.

ثم إن العشيرة فكت القيود عن عبد الله بك وعن أتباعه وتداركت جمع ما عليها من

٢٨٢

المرتبات وقدمتها إلى عبد الله بك ، واعتذر شيوخها إليه عما أجروه معه ومع أتباعه من الأسر والتقييد وأفهموه أن السبب الذي حملهم على ذلك كتاب ورد إليهم من يوسف باشا قبل قدوم عبد الله عليهم يقول لهم فيه : إن عبد الله بك قادم عليكم ليخدعكم ويوقعكم في قبضة الحكومة لتنكّل بكم فاحذروا منه. ثم أبرزوا له الكتاب فقرأه كاتبه فوجد فحواه طبق ما قالوا. ثم إن عبد الله بك ودع العشيرة وقفل راجعا إلى حلب وقبل وصوله إليها خرج لاستقباله جمهور عظيم من زعماء محلة قارلق وأهلها الذين هم أتباعه ، وآلوا عليه أن يدخل المدينة من باب النيرب ، فدخل منه بهذه الأبهة الزائدة إرغاما لزعماء هذه المحلة الذين هم أتباع يوسف باشا ، ومشى أمامه أتباعه وهم شاكو السلاح ينشدون الزّجلات الحماسية المشتملة على تهاني زعيمهم بعوده من سفره سالما غانما ، وعلى التنديد بيوسف باشا وفشله في سفره والحط من كرامته. فشق ذلك على أتباعه وأضمروا في نفوسهم الشر لعبد الله بك. وبعد أيام تجمهروا في عشية الليلة المذكورة وقصدوا الإيقاع بعبد الله بك وجرى منهم ما جرى كما سنبينه قريبا.

قلت : هذه الحكاية تشتمل على عدة أمور يستبعدها العقل السليم :

(١) يستبعد العقل من يوسف باشا داهية عصره أن يطوّح بنفسه ويرسل هذا الكتاب إلى جماعة من العرب البسطاء الذين لا ينبغي للعاقل أن يأمنهم على سره لا سيما وقد سبق منه قصده إياهم للإيقاع بهم فكيف يتصور العقل ائتمانهم على كتابه وعدم إيصاله إلى الوالي الذي يكون أدنى جزائه عنده النفي؟

(٢) يستبعد العقل أن يتجرأ أتباع يوسف باشا في ليلة الحادثة على الإيقاع بعبد الله بك وهم يعلمون أن أتباعه أكثر منهم عددا وأقوى شكيمة ، وأن عرب البادية كلهم أنصاره وأعوانه.

(٣) يستبعد العقل انتقال القضية فجأة من طور خاص وهو قصد الإيقاع بعبد الله بك إلى طور عام وهو تهديد سلامة البلد وإحداث ما كان فيها من الويل والنكد.

(٤) يستبعد العقل أن يكون أتباع عبد الله بك الذين جاؤوا للدفاع عنه في تلك الليلة قد اتفقوا مع أعدائهم أتباع يوسف باشا في هذه البرهة من الزمن ، وصاروا جميعا يدا واحدة بإثارة هذه الفتنة العامة على غير رضاء من عبد الله بك.

٢٨٣

السبب الحقيقي لهذه الكارثة :

إذا علمت هذا تبين لك أن السبب الحقيقي لهذه الفتنة العمياء غير قضية الفرس وغير حكاية العشيرة ، بل السبب الصحيح أمر مستور دبّر بليل خفيّ على الناس في وقته فصاروا يرجمون به الظنون ، وكلّ يتكهن عنه حسب عقليته وحسبما شاهده من ظواهر الماجريات دون البحث عن بواطنها.

إن السبب الحقيقي لهذه الكارثة قد بالغ من أوثق عقدته في ستره وإخفائه ، وأسدل عليه حجبا كثيفة من الكتمان صونا لحياته ، إذ لو كشف الستار عنه في تلك الأيام لما أحجمت الدولة قيد لحظة واحدة عن قتل ناسج برده ونافخ ناره. وإليك في بيان الحقيقة جملة استخلصتها من كلام المكانسي الذي كان في ذلك الزمن من خاصة الرجال المنتمين إلى يوسف باشا شريف ، المخلصين في محبته والمطّلعين على أسراره.

قال : إن الدولة المصرية لما دخلت هذه البلاد أناطت متسلمية حلب بعبد الله بك البابنسي ، وهو من قدماء اليكجرية وله أتباع كثيرة في حلب وبرّها ، فكان عبد الله بك يأخذ المقاطعات الأميرية ويصرف أموالها على أتباعه وأعوانه من الحضر والبدو ، والحكومة المصرية لا تعارضه في ذلك ولا تطالبه بأموال المقاطعات لعلمها بأن صرفها على أتباعه مما يعود نفعه إليها ، فكأنها كانت تعتبر أتباعه كجند لها. ثم لما انسحبت الحكومة المصرية من حلب وعادت إليها الحكومة العثمانية أبقت متسلّميتها في عهدة عبد الله بك ، فكان يأخذ المقاطعات ويصرف أموالها على أتباعه كما كان معتادا عليه في عهد الحكومة المصرية. غير أن الحكومة العثمانية لما رسخ قدمها في حلب وغيرها من البلاد التي عادت إلى حكمها جعلت تطالب عبد الله بك وبقية رؤساء البلاد ـ ومنهم يوسف باشا ـ بما تأخر في ذممهم من أموال المقاطعات ، وهي مبالغ طائلة تعدّ بألوف الألوف ، وكان جل ثروات رؤساء البلاد مجموعة من تلك الأموال ، وكان ولاة حلب يتقاضون الرؤساء هذه الأموال فيما طلونهم بأدائها فيتساهلون معهم ولا يشددون في طلبهم ، إلى أن ولي حلب مصطفى ظريف باشا فرأى أن أموال المقاطعات المتأخرة في ذمم الرؤساء قد بلغت ألوفا مؤلفة ، وأن الدولة في ذلك الحين على أشد الحاجة إلى المال فجعل الوالي يشدد على الرؤساء الطلب حتى بلغ من تشديده أن هددهم ببيع أملاكهم وحبسهم وكسر شرفهم. فاضطربوا وذلّت

٢٨٤

أنفسهم فمنهم من وفى شيئا من ديونه وعجز عن وفاء الباقي عليه ، ومنهم من لم تسمح نفسه بوفاء ديونه التي تستغرق ثروته وهو يوسف باشا.

وأما عبد الله بك فقد كانت ديونه أكثر من ديون جميع المدينين لكنه ليس عنده ما يفي بعشرها ، لأنه كان ـ كما قيل ـ نهابا وهابا. فاضطرته الحالة أن يستعين بذي رأي وتدبير على إيجاد وسيلة تدفع عنه هذه الغائلة ، فلم يركفؤا لهذه المهمة غير يوسف باشا ، فحضر إليه سرا وبعد أن تعاتبا وطرحا ما كان بينهما من التعاكس والتشاكس ـ اللذين تتطلب وحدة المصلحة طرحهما ـ تذاكرا في التماس وسيلة تدفع عنهما هذه المهمة المدلهمّة ، فقر رأيهما على أن يدبرا إحداث ثورة إرهابية وقتية تضطر الوالي إلى أن يستعين بهما إلى إطفاء نائرتها ، وعندها يرى من واجبه مسامحتهما بأموال المقاطعات المتأخرة بذمتهما. فقررا أن يذاع سرا بين الناس ـ بواسطة دهاة من سماسرتهما ـ تصميم الحكومة على أخذ عسكر بالقرعة ، وإضافة ضريبة الأملاك المعروفة في تلك الأيام باسم (ترابيّة) وأن يجسّم ضرر هاتين البدعتين في أفكار العامة من أتباعهما تجسيما يحملهم على أن يثوروا في طلب رفضهما من تلقاء أنفسهم دون أن يدعوهم إلى الثورة أحد ، تفاديا من وقوع تبعة الثورة على فرد معين.

قال المكانسي : وقد جرت هذه التدابير كلها من عبد الله بك ويوسف باشا على صورة خفية جدا ، بحيث كان الثائرون أنفسهم لا يعرفون سببا لثورتهم سوى معارضتهم لتصميم الحكومة على أخذ القرعة وإضافة ضريبة الأملاك ، وهم يجهلون كل الجهل اليد المحركة لثورتهم ، وأن يوسف باشا وعبد الله بك لم يقصدا في تدبير ما دبّراه سوى ثورة بسيطة إرهابية لا تبلغ درجة التفاقم وتصل إلى الحد الذي وصلت إليه ، ولو أنهما علما بما تجرّه هذه الثورة من الفظائع والمصائب وتعقبه من طائل المسؤولية ، لما كانا اقترفاها ، غير أنهما لما وصلت إلى ما وصلت إليه من الخطورة والتضخم لم يبق في قدرتهما منعها.

كيف كانت الثورة؟ :

بعد عشاء الليلة الثانية من عيد الأضحى سنة ١٢٦٦ تألب جماعة من العوامّ وزعمائهم في سوق باب النيرب ، وعولوا على إحداث ثورة ضد الحكومة. وأول عمل باشروه أنهم قصدوا جماعة الدرك في مخفرة باب الحديد ، وهددوهم بإطلاق عيارات نارية اضطرت

٢٨٥

جماعة الدرك إلى الهرب منهم والالتجاء إلى الرباط العسكري (القشلة). ونمي الخبر إلى الوالي فحضر إلى محل الثوار بنفسه لإخماد ثورتهم ، لكنه لما رأى جموعهم تجاه جامع التوبة ، وما هم عليه من العربدة والهيجان وإطلاق الرصاص ، هاله الخطب وانصرف عنهم ولسان حاله يقول : الهزيمة نصف الغنيمة. ولو أنه أظهر لهم الثبات وسطا عليهم بعض السطو لفلّت جموعهم وكفي شرّهم ، لكنه لما قدم عليهم ظنوه هو ومن معه جماعة العسس (١) ، ولم يعلموا أنه هو الوالي إلا بعد انصرافه. فلما علموا بخوفه ورخاوته زاد شغبهم وقويت نفوسهم.

وفي نحو الساعة الثالثة من الليلة المذكورة مشوا بطبولهم وزمورهم إلى محلة الفرافرة ليوقعوا ببعض الأعيان لأنهم لم يدفعوا عنهم غائلة البدعتين المذكورتين ، مع قدرتهم على دفعهما على زعمهم. وكان الأعيان قد بلغهم قيام هؤلاء الغوغاء فتركوا منازلهم والتجئوا إلى الرّباط العسكري. ولما وصل الثائرون إلى محلة الفرافرة لم يجدوا في منازل الأعيان سوى الحريم والخدم فرفعوا أصواتهم بالسب والشتم وأطلقوا بعض العيارات النارية ، ثم توجهوا إلى محلة قارلق لمواجهة عبد الله بك ومطالبته بدفع البدعتين المذكورتين ، لأنه هو متسلم البلد وهو المسؤول عن دفع الحيف والظلم عن أهلها. وبينما هم عند سبيل الدلي محمود في قرب بانقوسا إذ تقابلوا مع تقي الدين أفندي المدرس. حدثني خادمه محمد آغا الفراش ـ وقد وظف بعد فراشا في المدرسة العثمانية وكنت مجاورا فيها ـ أن الثائرين لما قبضوا على تقي الدين أفندي ـ قال : وكنت معه ـ أضجعوه إلى الأرض وأرادوا ذبحه ، فقال بعضهم يحرم امتهان دم العالم وإراقته على الأرض كدم شاة. ثم تجرّد القائل من عباءته ومدّها تحت تقي الدين وقال : اذبحوه فوقها. وبينما هو يستعيث بهم ويطلب منهم الكفّ عنه إذ مرّ بهم الشيخ أحمد شنون ـ المعروف بالحجار ـ فتشفع به فعفوا عنه. قال خادمه محمد آغا : وقد أثر الرعب في تقي الدين حتى قطع نسله.

ثم إن الثوار أخذوا معهم تقي الدين إلى عبد الله بك ليرى رأيه فيه. فلما وصلوا إليه أنكر عليهم عملهم وبعث به إلى الرباط العسكري ومعه من يحفظه وقال عبد الله بك للثائرين : ما ذا تريدون؟ فقالوا : لا نعطي عسكرا ولا ضريبة ، وأنت في قدرتك إبطال

__________________

(١) العسس : الحرّاس الذي يطوفون ليلا ، يحرسون الناس ، ويكشفون عن أهل الريبة.

٢٨٦

هاتين البدعتين. فأجابهم بأن هذا مما أمرت به الدولة ولا قدرة لي على ردّه. فقالوا : إذا نحن نحارب الدولة ونجبرها على إبطالهما. فقال لهم : أنتم قوم فجّار ، اذهبوا عني حيث شئتم. وكان قد انضم إليهم أتباعه وأحزابه فقالوا له : نريد أن نقصد النصارى ونطلب منهم مالا نشتري به ذخيرة لأن النصارى يشاركوننا بالاستفادة من نتيجة قيامنا ، فتسقط عنهم أيضا ضريبة الأملاك وغيرها من الضرائب التي تصمم الدولة على طرحها. فقال لهم : أنتم قوم أشرار اذهبوا عني حيث شئتم. فتوجهوا إلى جهة محلات النصارى وقد كثر جمعهم وانضم إليهم البدوي والقروي وعلت ضوضاؤهم وهم يضربون طبولهم وينشدون زجلاتهم ويرفعون أصواتهم بقولهم : (عسكر ما نعطي فردي ما نعطي).

ولما وصلوا إلى محلة الألماجي والماوردي قصدوا بطريرك طائفة الروم مكسيموس مظلوم وأرادوا القبض عليه لأنه كان منذ أيام إبراهيم باشا المصري وما بعدها يدور أحيانا بشوارع حلب وهو راكب بأبهة زائدة وموكب حافل ، يتلقى المسلمون منه ذلك كإرغام لهم وتعال عليهم ، فكانوا ينقمون عليه هذا الصنيع ويحملونه منه على قصد إهانتهم. ولما أحسّ بقدوم الثائرين على محلته هرب منها إلى خان العلبية واختبأ عند بيت الركوبلي ، ثم سافر من غده. أما الثوار فقد أخذوا بإطلاق الرصاص وتكسير الأبواب والنهب في محلة الألماجي والماوردي إلى قرب طلوع الشمس ثم توجهوا إلى محلة الصليبة ، وكان عبد الله بك قد أرسل إلى أكابرها يطلب منهم ألف ذهب عثماني بشرط ألّا يتعرض لهم أحد بسوء. فلم يجيبوه على طلبه وقالوا : إن أصابنا ضرر طلبنا تعويضه من الحكومة فعلام ندفع للثوار ألف ذهب؟ وحينئذ دخل الثوار إلى محلة الصليبة وشرعوا بتحطيم الأبواب والنهب ، وكان أكثر أغنيائها قد تركوا بيوتهم وتحصنوا بالخانات مع عيالهم ، ومنهم من أخذه لبيته بعض معارفه من المسلمين وحماه عنده ، ومنهم من دعا إلى بيته بعض أصحابه من المسلمين ليحامي عنه ، فسلمت بذلك بيوت كثيرة وسلم من كيد الثوار عدة جهات كحارة المحبّي والشرعسوس ، لأن بعض سكانها كانوا من وجهاء المسلمين فدافعوا عن جيرانهم النصارى فلم يصب أحد منهم بسوء.

لم يزل النهب مستمرا ومتعاطوه في كثرة وازدياد حتى انضم إليهم الفلاح والبدوي ورعاع الناس من أهل حلب ، وكان يتقدم الثائرين طبل لتجميع الناس إليهم فكانوا كلما مروا على رجل ولم يتبعهم أوسعوه ضربا وسبا. وأخبرني بعض تلامذة والدي أن والدي

٢٨٧

بينما كان واقفا على باب مسجد أشقتمر ـ المعروف بجامع السكاكيني ـ إذ مرت عليه شرذمة من الثوار فنادوه : «شيخ امشي معنا». فقال لهم : اسبقوني حتى ألبس ثيابي وألحقكم. ثم دخل إلى الجامع وأغلق بابه ولم يخرج منه إلا بعد أيام. هذا وإن النهب لم يزل يجري أحكامه إلى اليوم الثاني عشر من شهر ذي الحجة وكان البدوي قد ينهب الشيء من أثاث المنزل وهو لا يعرف ما ذا يراد من استعماله. وصادف أن بدويا نهب ساعة دقاقة ظنها صندوقا فيه نقود ، وبينما هو سائر بها إذ دقت الساعة فارتاع منها وحسب أن فيها جنيا فبصق عليها وطرحها إلى الأرض فتحطمت. ورأى بدوي في بعض البيوت كيسا فيه لؤلؤ ظنّه رزا فحمله فلما كان في أثناء الطريق ذاقه فلم تقطعه أسنانه فحسبه خرزا فرماه إلى الأرض فتبعثر وسحق تحت الأقدام.

في اليوم الثاني عشر من ذي الحجة وقف النهب لأن الأعيان والحكومة أرسلوا إلى زعماء الثائرين يؤمنونهم مما يخافون ، ويتعهدون لهم بما يطلبون. وفي اليوم الثالث عشر من هذا الشهر ترددت الرسل بين الطرفين واستقرت القاعدة على أن يكون عبد الله بك هو المفوض بالأمور ، وأن تستثنى حلب من القرعة العسكرية ومن عدة ضرائب أميرية ، وأن يسامح عبد الله بك ورفقاه من أموال المقاطعات المتأخرة في ذممهم ، وأن لا يسترق النصارى الإماء والعبيد المسلمين ، وأن يمتازوا عن المسلمين بعلامات فارقة ، إلى غير ذلك من الطلبات والاقتراحات. والذي اضطر الحكومة أن تجيبهم إلى ما طلبوا خلوّ القلعة والرباط العسكري من الحامية ، إذ لم يكن موجودا فيهما سوى مائتي جندي. وبعد أن استقر الصلح على الشروط المذكورة أقام الثوار سلطانا عليهم ابن حميدة ، فجعل وزيره عبد الله بك وصار ابن حميدة يأمر وينهى كسلطان قاهر. وكان الأعيان والوجهاء قد نزلوا من الرباط إلى تكية بابا بيرم ، وبقي الوالي في الرباط لشدة جبنه وخوفه.

ولم يقتل من النصارى في هذه الحادثة سوى خمسة نفر قتلوا لا عن قصد انتقام سوى واحد منهم : فالأول : القس جبرائيل الكلداني استمات على حفظ أمانات للكنيسة كانت عنده فقتل وأخذت الأمانات. الثاني : أخو القسيس السرياني ، احترق في كنيسة السريان تبعا لها لأنها احترق معظمها. وكان المسبب بإحراقها شماس موكل بحفظ ما فيها من الآثار الفضية فسرقها وألقى النار في الكنيسة وادعى أن النار هي التي أتت على الآثار. الثالث : رجل يقال له ابن القصاب ، وهو الذي قتل عمدا لأنه كان يؤذي المسلمين بما كان يجريه

٢٨٨

من التيه والعجرفة والازدراء بهم وسبّهم وشتمهم ، مستندا في ذلك على أنه كان من عساكر النمسا. الرابع والخامس : نعمة الله الحمصي وخادمه. أما نعمة الله فسبب قتله أن عبد الله بك حينما أرسل إلى أهل محلة الصليبة يطلب منهم ألف ذهب رضي أكثرهم بإعطاء هذا المبلغ وأرادوا تقديمه إليه فمنعهم عن ذلك نعمة الله ، وأجاب رسل عبد الله بك بما تقدم بيانه. فقتل وقتل خادمه معه لمحاماته عنه.

بعد أن تم الصلح على الشروط المتقدم ذكرها كتب الوالي بالخبر مع بريد خاص إلى الآستانة. وكان قد أنفذ الرسل إلى حكام أنطاكية وأذنة وعينتاب وأغوات العمق يطلب منهم الإمداد وإرسال ما تيسر لهم من العساكر. فما مضى على ذلك سوى بضعة أيام حتى أخذت العساكر والمتطوعون من فرسان ومشاة يتواردون من الجهات المذكورة من جهة سيورك ، فيدخلون القلعة والرباط خفية حتى اجتمع فيهما قوة كافية لخذل البغاة وكبتهم. وحينئذ كتب الوالي والأعيان إلى عبد الله بك بأن يحضر إلى دار الحكومة زعماء الثائرين ليعطيهم الأمان على أنفسهم وأموالهم ويحرر أسماءهم في دفتر يرفعه إلى الدولة لتقرر كل واحد منهم بوظيفته ويستقر الحال على ذلك. فأجابهم عبد الله بك إلى هذا الطلب وعيّن لهم اليوم الذي يجمع فيه الزعماء المذكورون ويعمل فيه هذا العمل.

وكان الوالي والفريق عبد الكريم باشا انتخبا نحو مئة وخمسين عسكريا من ذوي البسالة والنجدة وسيّراهما (١) ليلا إلى دار بني الجلبي حيث كان يسكن الوالي ، وهي اليوم تعرف بدار العدلية داخل دار الحكومة ، فخبّأ العساكر المذكورين في تلك الدار وأمراهم متى جاءهم النذير أن يخرجوا بغتة ويحيطوا بكل من رأوه في دار الحكومة ويوقعوا القبض عليه ويسقوه (٢) إلى الرباط العسكري. فلما كان الغد وهو يوم الثلاثاء رابع محرم الحرام سنة ١٢٦٧ حضر الزعماء المذكورون إلى دار الحكومة ليأخذوا الأمان وتحرر أسماؤهم على الصفة المتقدم ذكرها. سرى الخبر إلى العساكر المخبوءة بدار بني الجلبي فأسرعوا الكرّة بأسلحتهم ، ولم يشعر الزعماء إلا والعساكر قد أحاطت بهم وخالطتهم وأوقعت القبض عليهم ومشت بهم إلى الرّباط وأودعوهم فيه ، وكان من جملتهم عبد الله بك. ولما اتصل الخبر

__________________

(١) الصواب : وسيّراهم. وضمير الجمع للعساكر.

(٢) أي يحملوه ، يقال : وسقه يسقه ، أي جمعه وحمله.

٢٨٩

بأتباعهم وحواشيهم وبقية أحزابهم قامت فيهم الحمية الجاهلية وهاجوا وماجوا وأخذوا يطلقون الرصاص على الرباط والقلعة ، وذلك في صبيحة يوم الأربعاء خامس محرّم هذه السنة ١٢٦٧ فقابلهم الجنود بإطلاق البنادق والمدافع واشتدت الحرب وكانت من الرباط أشد ، وكلّ من الحصنين صوّب أفواه مدافعه على محلة النيرب ومحلة قارلق وبانقوسا. وكان كثير من سكان هذه المحلات قد لجؤوا إلى المحلات الداخلة في البلد لأنهم لم يكونوا من حزب الثوار.

وما زال الحال سائرا على هذا المنوال إلى ظهيرة اليوم المذكور. ثم أخذت الحرب تخف حسب اشتداد الحرّ وبقي الحال هكذا إلى وقت العصر. وقد أظهر الجنود أنهم قد انكسروا لعلمهم أن الثائرين يقاتلون من غير رئيس يقدّم لهم الذخيرة من البارود والرصاص ، فقصدوا بإظهار الكسرة أن يستصفوا ما عند الثوار من الذخيرة. وفي تلك الأثناء تسلّق جماعة من الثوار سطح الجامع الخسروي ، وقلعوا ألواح الرصاص الذي صفحت به القبة ليصبوه بندقا. ولما كان بعد العصر سكن إطلاق الرصاص من الجانبين المتحاربين وعرض أعيان البلد الصلح عليهما فرضيا به. وقرأت في أحد مجاميع والدي أنه لما كان بعد غروب هذا اليوم (يوم الأربعاء) أقبلت العربان على حلب من فرق شتى كالعنزة والحديديين والبقّارة والعساسنة وغيرهم ، ما ينوف على أربعة آلاف رجل نجدة للثوار ، فقويت نفوس الثائرين ونكثوا عن الصلح.

وفي صبيحة الغد وهو يوم الخميس سادس محرم هذه السنة (١٢٦٧) نشبت الحرب بين الفريقين وحمي وطيسها ، وصبر كل منهما للآخر. واستمر الحال هكذا إلى وقت الظهر ، فتقهقر الثوار ودهشت العربان ثم عوّلوا على الفرار ، وانكسر الثائرون كسرة شنيعة وانحلّت جموعهم. فنزلت العساكر من الحصون في أثر الثوار وأسعرت النار في سوق بانقوسا وسوق باب النيرب وقارلق ، فالتهمتها النار عن آخرها بعد أن غنم الجند أكثر ما فيها من الأموال والبضائع وألقوا النار في كثير من بيوت المنهزمين وقتلوا عددا كبيرا من الثائرين وغيرهم الذين لا دخل ولا تصنّع لهم بإحداث الفتنة. وكانوا يقتلون كل من صادفوه حتى العميان والأولاد الصغار. وهكذا أخذ المظلوم بجريمة الظالم. وهذا مصداق قوله تعالى (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً). وكان أكثر القتل في رجال تلك المحلات ووقع القبض على كثير منهم وكسبت بيوتهم وبيوت أخر اختبئوا فيها داخل

٢٩٠

البلدة ، وتبعتهم العساكر إلى القرى يقبضون عليهم وينكّلون بهم تنكيلا. اه.

قال صاحب كتاب «محررات نادرة» التركي العبارة ما خلاصته بعد التعريب : لما وصل خبر هذه الحادثة إلى استانبول انعقد في اليوم الخامس والعشرين من ذي الحجة هذه السنة ١٢٦٦ مجلس خاص لتلافي ما يقتضيه الحال في هذه الحادثة. وبعد مفاوضة طويلة استقرّ رأي المجلس على إرسال أربعة كتائب (طوابير) من العساكر : اثنتين منهما من عساكر استانبول ، واثنتين (١) من العساكر ؛ لأنه لا يوجد سوى هذين العسكرين صالحا للإرسال إلى حلب ، لأن جميع عساكر الدولة في ذلك الوقت كانت مشغولة بما هو أهم من هذا. ولما استقرّ رأي المجلس على إرسال تلك العساكر كانت بواخر الدولة المعدة لحمل العساكر والأعتاد الحربية مشغولة ، بعضها مسافر وبعضها متصدّع ، وقسم منها في محافظة المواني. فاضطرت الدولة أن تنتظر باخرة من بواخرها إلى أن حضرت فأرسلت فيها العساكر المذكورة ومعها ستة مدافع ، وعزلت والي حلب ظريف باشا وعينت بدله محمد باشا القبرصي ، وتوجه مع العساكر فوصل إلى حلب في محرّم سنة ١٢٦٧ وكانت الأمور قد هدأت وشمل البغاة قد تشتّت.

ومع هذا فإن محمد باشا أخذ من يوم وصوله إلى حلب يستقصي حقائق الأمور ويفحص عن السبب والمتسبب ، حتى ظهرت له جلية الحال فنفى نحو ٨٠٠ شخص إلى جهات مختلفة ـ كعكّا وكريد وقبرص ـ وأمر بعقد مجلس خاص لتحصيل أموال النصارى وجعل رئيسه محمد آغا المكانسي ، وأعلن أن المال المتحصّل يدفع لذويه بعد أن يبرهنوا عليه ، وأن ما لم يتحصل من أموالهم تقدر له قيمة وتوزع على أهل البلد وتجمع منهم بواسطة الحكومة ، كما أنها هي التي توزع القيمة على النصارى الذين لا تظهر أعيان ما نهب لهم من الأموال في هذه الفتنة. وبعد أن فرغ الوالي من تقرير هذه المهمة شرع بأخذ العسكر من ذوي الاختلال بلا قرعة ، ثم شرع يأخذ العسكر بالقرعة الشرعية من عامة أهل البلدة ، وهي أول قرعة كانت في حلب أيام الدولة العثمانية. وما زال الوالي يدبر أمور البلدة ويقطع دابر المفسدين حتى استتبّ الأمن وعادت المياه إلى مجاريها. اه.

قال شيخنا المكانسي : وقبل وصول محمد باشا القبرصي إلى حلب صدر أمر الدولة

__________________

(١) كذا ، والصواب : «أربع كتائب ... اثنتان منها ... واثنتان ...».

٢٩١

بإرسال ظريف باشا والي حلب وعبد الله بك البابنسي ومعه بعض أقاربه إلى استانبول ، فأرسلوا إليها. وبينما هم في الطريق مات عبد الله بك مسموما ، وقيل مات حتف أنفه. ثم إن والي حلب الجديد نفى تقي الدين أفندي إلى القدس. وقبل وصوله إليها عفت الدولة عنه ، فسار إلى الحجاز وحج وتوجه إلى استانبول واستقر في منصب إفتاء حلب ، فعاد إليها. ونفى والي حلب أيضا يوسف باشا إلى قونية فسار إليها. ثم صدر العفو عنه فتوجه إلى استانبول ومنها إلى حلب. وقد حاز على رتبة مير ميران.

انتهى ما قصدنا إلى إيراده من أخبار فتنة حلب ، وقد أسهبت الكلام عليها خلافا لما ألزمت به نفسي من الإيجاز في غيرها من الحوادث والكوارث ؛ لأن هذه الفتنة الفاجعة آخر الفتن الأهلية في حلب ، ولأن التحدث بها لا يزال يدور على الألسن بين حين وآخر لقرب عهدها بكثير من الناس الذين كان آباؤهم يحدثونهم بنتف من أخبارها وهم في توق شديد إلى سماعها مفصلا.

استطراد في الكلام على احترام رابطة اللسان

ورابطة الجوار عند أمة العرب في جاهليتها وإسلاميتها

إن قيام الغوغاء في هذه الحادثة على النصارى ـ إخوانهم باللسان والجوار ـ مما لم يسبق له نظير من يوم فتح المسلمون مدينة حلب إلى يوم ظهور تلك الحادثة. فما كان قيامهم هذا بالحقيقة إلا نزعة شيطانية أثارها في أدمغتهم عاصفة الطيش والجهل ، الذي (١) يأباها الدين وترفضها حقوق رابطة اللسان والجوار.

إن كل من يتصفح وجوه التاريخ ويستقصي أخبار العرب في جاهليتها وإسلاميتها يتضح له جليا أنه لا يوجد على وجه البسيطة أمة تضاهي أمة العرب من جهة احترامها الرابطة اللسانية وحقوق الجار :

الرابطة اللسانية :

أما الرابطة اللسانية فقد جعلتها الأمة العربية هي الجامعة الوحيدة للوحدة القومية التي

__________________

(١) الصواب : «التي» ، صفة للعاصفة ، وكما يتبيّن من بقية الجملة.

٢٩٢

تدعو الأمة إلى التحابب والتوادد والتناصر والتعاضد ، بحيث يكون كل فرد من أفراد هذه الأمة راقدا بواسطة هذه الجامعة في مهاد الوفاق والوئام مع باقي إخوته العربيين مهما اختلفت مللهم ونحلهم. فقد يتجلى لك من ملامح وجوه التاريخ أن العرب المسيحيين والموسويين والوثنيين في البلدان والقرى والصحاري ، من اليمن والحجاز والحيرة والعراق ، والجزيرة والشام الجنوبية والشماليّة ، كانوا في الأزمنة الغابرة راتعين مع بعضهم في بحبوحة الأمان والسلام على السواء ، وكانوا لا يعرفون التعصب للدين ولا النعرة الدينية ، بل كانت عصبياتهم لا تنعقد إلا للجنسية والحلف والولاء والجوار ، كما أن الحرب التي تقع بينهم كانت لا تثور إلا بسبب التنافس على مادة الحياة والتنازع على الرئاسة ، لا لاختلاف الملة والدين. فكانت قبيلة غسان مثلا فيها المسيحيّ والموسوي والوثني ، تحارب قبيلة غفار التي يوجد فيها من الملل الثلاث لعداوة دنيوية أو تنافس قومي يقع بين القبيلتين ليس إلا. ولم ينقل إلينا التاريخ أنه جرى بين أمتين عربيتين حرب أثارتها حمية دينية سوى الطفيف النادر الذي ربما كان سببه أمرا خارجيا عن العرب ، صادرا بتحريض من جاورهم وملك السيادة عليهم من الأمتين الفارسية والرومية.

هكذا كانت الرابطة اللسانية مرعيّة عند الأمة العربية القحطانية والعدنانية. ثم لما جاء الإسلام بقيت هذه الرابطة محترمة بين العرب المسلمين وغيرهم ، يعتمد العربي على العربي ويركن إليه لمجرد كونه عربيا ، غير ناظر إلى ملّته ونحلته. حتى إن هذه العاطفة العالية كانت من جملة العواطف الشريفة التي تحلت بها شمائل النبي العربي محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صلّى الله عليه وسلّم ، فإنه لما اضطهده قومه الأقربون حسدا وحرصا على الرئاسة اضطر إلى الهجرة عن وطنه والالتجاء إلى قوم آخرين يأوي إليهم ويستنصر بهم على أعدائه ، فخيّر بالهجرة إلى البحرين أو المدينة أو قنّسرين ، فقال : أوحي إليّ : أيّ الثلاثة نزلت فهي دار هجرتك : المدينة والبحرين وقنّسرين.

ومعلوم أن هذه الجهات كانت مسكونة بالعرب ، فالمدينة كانت مأوى أبناء قبيلة الأوس والخزرج ، وكان يسكن في ضواحيها قبائل سليم وكلهم أهل أوثان ، وكان القاطنون جهة البحرين بطونا من عبد القيس بن ربيعة وبكر بن وائل ، ومنهم كان أمير هذه الجهة من قبل الدولة الفارسية ـ حين مجيء الإسلام ـ المنذر بن ساوى ، من بني حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم ، وكان فيهم النصراني والوثني. أما قنّسرين ـ وهي الآن قرية

٢٩٣

على مقربة من حلب وكانت بلدة عظيمة وإليها كان يضاف الجند فيقال جند قنّسرين ـ فقد كان في جهاتها كثير من القبائل العربية التي أشهرها تنوخ ، وهم من ذرية النعمان الذي تضاف إليه المعرة ، وكانوا نصارى. ولا ريب أن النبي لم يخيّر بالهجرة إلى إحدى هذه الجهات إلا لأن أهلها عرب يحدبون عليه وينصرونه على أعدائه قياما بحق الرابطة المرعيّة بينهم وهي وحدة اللسان.

وهكذا بقيت هذه الرابطة محترمة بين العرب بعد انتقال النبي من هذه الدار إلى دار القرار ، فإن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ـ الذي هو أعظم خلفاء الإسلام ـ احترم الرابطة اللسانية وبنى عليها صرح نجاحه فيما يتوخاه من مآربه ومقاصده ، فأمر العرب المسلمين في مبدأ خلافته أن يبدؤوا بقصد العراق والشام دون غيرهما لأن فيهما عربا يتّحدون معهم وينصرونهم وإن كانوا على غير دينهم. وقد صدّقت الوقائع حسن رأيه وحققت الماجريات صحة تفرّسه ، وذلك أن قائده الوليد بن عقبة لما قدم على عرب الجزيرة نهض معهم مسلمهم ونصرانيهم ، واستخلصوا الجزيرة من الروم. ولما تقدم عبد الله بن المعتمّ (١) ـ قائد العرب المسلمين ـ إلى فتح تكريت والموصل انضم إليه عرب إياد وتغلب والنمر والشهارجة ، وكلهم نصارى ، فكان فتح هذين البلدين بواسطتهم. ولما قصد المثنى فتح البويب بعث إلى من يليه من العرب المنتصرة يستنصرهم ، فوافى إليه منهم جمع عظيم ، وكان فيمن جاءه أنس بن هلال النمري في جمع عظيم من النمر النصارى ، وقالوا : نقاتل مع قومنا. وقال المثنى لأنس : إنك امرؤ عربي وإن لم تكن على ديننا ، فإذا حملت على مهران (وهو قائد من الفرس) فاحمل معي. فأجابه إلى ما طلب وحمل معه هو وقومه على مهران ، وكان قاتل مهران غلاما نصرانيا قتله واستولى على فرسه. وحارب زبيد الطائي مع العرب في واقعة الجسر حتى قتل وكان نصرانيا.

وكثيرا ما كان عرب الشام والعراق عونا لإخوانهم العرب المسلمين في حروبهم يرشدونهم وينصحونهم ويحملون إليهم أخبار أعدائهم. من ذلك أن الوليد بن عقبة خرج غازيا إلى الروم فجاءه رجل من العرب النصارى وقال له : إني لست من دينكم ولكنني أنصح ، للنسب ، فالقوم يقاتلونكم إلى نصف النهار فإن رأوكم ضعفاء أفنوكم ، وإن صبرتم

__________________

(١) من الصحابة ، والقوّاد في الفتوحات الإسلامية أيام الخليفة عمر بن الخطاب.

٢٩٤

هربوا وتركوكم. ومن هذا القبيل أن حمص بينما كانت في ذمة المسلمين إذ شغلوا عن حفظها فردّوا على أهلها ما كانوا أخذوه منهم من الجزية ، فقال أهلها : لولاؤكم (١) وعدلكم أحبّ إلينا مما كنا فيه من الظلم والضيم ، ولندفعنّ جند هرقل عن المدينة معكم. على أن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه عرف حق هؤلاء العرب النصارى وكافأهم على حسن صنيعهم ونصرتهم للمسلمين وعاملهم بكل رفق ومواساة. من ذلك أن الوليد بن عقبة أبى أن يقبل من تغلب إلا الإسلام فكتب إليه عمر بأن يتركهم وما يدينون به. وكان في تغلب عزّ وامتناع ، وقد همّ بهم الوليد فخاف عمر أن يسطو عليهم فعزله وأمرّ عليهم فرات بن حيان. ولما همّ قواد المسلمين أن يضعوا الجزية على أهل الذمة ـ وفيهم جماعة من تغلب وإياد والنمر وهم نصارى ـ أبى هؤلاء الجزية. وبلغ عمر ذلك فاستشار أصحابه فقال له بعضهم : إنهم عرب يأنفون من الجزية. فوافق ذلك ما في نفسه ، ففرض عليهم الصدقة كما تفرض على المسلمين.

هذه هي الرابطة القومية العربية وهذه حرمتها ورعايتها بين العرب في جاهليتهم وإسلاميتهم.

رابطة الجوار :

وأما رعايتهم حرمة الجوار ومحافظتهم على حقوق الجار مهما جار ، فإن الرجل من العرب كان قبل الإسلام متى قبل جوار إنسان وجب عليه حميّة أن يجيره من عدوه ولو ضحّى عنه نفسه ، وأن يفديه ولو بروحه ويقوم بحمايته من أعدائه مهما كانوا ، ويصونه من كل غائلة ويسعفه بكل طلب. وحسبنا شاهدا على ما قلناه قصة الكلابي مع عمير ابن سلمّي. وخلاصتها أن رجلا من بني كلب كان جارا لعمير ، وكان لعمير أخ اسمه «قرين» بغى على الكلابي فقتله ، فجاء أخو الكلابي واستجار بقبر أبي عمير وطلب من عمير أن يقتصّ من أخيه قرين ، فاجتهد عمير هو وقبيلته بالكلابي أن يقبل دية أخيه جميع ما تملكه القبيلة ويعفو عن قتل قرين ، فلم يفعل ، فقتل عمير أخاه قرينا بالكلابي وأنشد :

قتلنا أخانا للوفاء بجارنا

وكان أبونا قد تجير مقابره

__________________

(١) في الأصل : «لولائكم» خطأ. واللام هنا لام الابتداء وهي مفتوحة والاسم بعدها مبتدأ مرفوع.

٢٩٥

وأنشدت أم قرين :

تعدّ معاذرا لا عذر فيها

ومن يقتل أخاه فقد ألاما

هذا حال الجار عند العرب الجاهلية وهذه هي حرمة الجوار ورعايته فيما بينهم. ولما جاء الإسلام بقي الجوار محترما عند المسلمين ، وأرشد النبي إلى احترامه بقوله : «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورّثه». وقد قدمنا في الجزء الأول من هذا الكتاب «نبذة من حقوق الجوار» فراجعها تجد فيها ما يقنعك بأن الجوار عند المسلمين لا يقل احترامه عما كان عند العرب قبل إسلاميتهم.

رجعنا إلى سرد الحوادث :

وفي سنة ١٢٦٨ ولي حلب عثمان نوري باشا.

النفير العام :

وفي سنة ١٢٦٩ كان النفير العام في البلاد العثمانية لمحاربة المسكوب (الروس). فخرج من حلب خمسمائة متطوع ، وكان قائدهم علي بك بن سعيد أفندي شريف. ومن جملة المتطوعين المرحوم الشيخ علي بن محمد النيرباني ، الشهير بابن ناصر آغا. وهذه الحرب هي المعروفة بحرب القريم ، كانت الغلبة فيها للدولة العثمانية بمساعدة حليفتيها فرانسة وإنكلترا. وقد عاد المتطوعون بعد ستة أشهر ولم ينقص منهم غير القليل وكان من أعظم المشوقين إلى المتطوعين الحلبيين والدي كما أخبرني بذلك تلميذه الشيخ علي المومأ إليه. وفي هذه السنة (١٢٦٩) ولي حلب سليمان رأفت باشا بن مصطفى آغا ، وكان لطيفا ظريفا محبا للعلماء والأدباء ، ومدحه والدي بقصيدة أجازه عليها توجيه وظيفة التحديث عليه في أموي حلب.

وصول السكاير إلى حلب :

وفي سنة ١٢٧٠ وصل إلى حلب استعمال التبغ باللفافات المعروفة بالسكاير ، فأنكر الناس التدخين بها أولا ثم ألفها أكثرهم وهجروا التدخين بالقصبات المعروفة بالغليون. وكانوا قبل ذلك يتغالون بالغلايين ، والأكابر منهم يتخذونها من عود الياسمين ، وربما بلغ

٢٩٦

طولها ثلاثة أذرع أو أكثر وكان الأغنياء وأولو الوجاهة من الناس يجعلون في فم القصبة حلمة عظيمة قد تكون قدر بيضة الحمام من الكهرباء يسمونها (أمزك) أو (طقم) وربما تبلغ قيمة البعض منها ألف قرش وزيادة ، لأنها قد يكون بين قطعها خواتم مرصعة بالألماس والأحجار الكريمة ، وكان لصنعة قصبات التدخين في حلب عدة حوانيت ، واشتهر بهذه الصنعة عدة بيوت يعرف أحدها ببيت الجبوقجي ، كما أن البوادق ـ التي يحرق فيها التبغ المدخّن بالغليون ـ كان لها عدة حوانيت يعرف أصحابها بالبوادقجية وهم يعملونها من الطين ، ولأهلها براعة في عملها. وقد أشرنا إلى هاتين الحرفتين في الكلام على صنائع حلب من الجزء الأول من هذا الكتاب. وفي سنة ١٢٧١ ولي حلب إسماعيل رحمي باشا.

ظهور بقلة الطماطم في حلب :

في هذه السنة ظهر في حلب بقل عرف باسم (باذنجان أفرنجي) أو باسم (بنادورة) أحضر بزره من مصر أحد التجار وزرع في حلب فأنجب وأخصب ، غير أن الحلبيين لم يألفوا أكله في أوائل ظهوره بل كان بعضهم ينفر منه ، حتى إن بعض البسطاء كان إذا رآه أو ذكر في حضوره ينطق بالشهادتين توهما منه أنه من الخضر المحرّمة التي اخترعها الفرنج. وكان النادر من الناس إذا رضي بأكله يقتصر على الأخضر مطبوخا ويتحامى الناضج الأحمر منه زاعما أن هذا (وخم) مضرّ يسبب الأمراض. ثم على تمادي الأيام ألف للناس أكله وصاروا يتحامون الأخضر منه ولا يستعملونه إلا مخلّلا ، وأقبلوا على استعمال الأحمر الناضج إقبالا زائدا حتى صاروا يعملون من عصيره دبسا يدخرونه للشتاء لتطبيب أطعمتهم التي لا تلذ في أذواقهم إلا بعد أن يضاف إليها شيء منه.

وفي سنة ١٢٧٢ ولي حلب حمدي باشا فبقي فيها مدة وكثرت شكوى الناس منه ، فندبت الدولة لفحص أحواله رجلا يقال له أمين أفندي محاسبه جي ، فحضر إلى حلب وفحص أحواله فثبت لديه ظلمه وتجاوزه على أموال الدولة. فأنهى بعزله ، فعزل وولى حلب مصطفى باشا الأشقودري. وفي سنة ١٢٧٤ وليها الحاج محمد كامل باشا. وفي سنة ١٢٧٥ وليها محمد رشيد باشا. وفي شتاء هذه السنة أثلجت السماء في حلب وضواحيها أربعين يوما ، فخربت عدة بيوت ومات ما لا يحصى من الأغنام وتعطلت الطرق.

٢٩٧

قطع الماء عن قسطل الرمضانية :

وفي هذه السنة ١٢٧٥ حكم بسدّ ثقوب مجرى برد بك إلى قسطل الرمضانية ، وصدر بذلك حجة شرعية محررة صورتها في سجل المحكمة الشرعية المحرر على ظهره : «من سنة ١٢٧٣ إلى ١٢٧٥». وفي سنة ١٢٧٦ ه‍ ولي حلب إسماعيل باشا. ثم في سنة ١٣٧٧ وليها عصمت باشا الشهير بدالي عصمت ، وكان الناس يهابونه حتى الأجانب. وفي سنة ١٢٧٨ وفد من الشرق جراد كثير واستمر يعيث ويفسد في حلب وبلادها إلى سنة ست وثمانين.

تمديد السلك التلغرافي :

في هذه السنة (١٢٧٨) أو التي قبلها صار الشروع بتمديد السلك البرقي في حلب وبعض ملحقاتها. وكان البسطاء من الناس إذا قيل لهم إنه ينقل الأخبار من بلد إلى أخرى مهما كانت بعيدة بلحظة ـ كطرفة عين ـ ينكروا ذلك ويقولوا (١) : لا شك أن الذي ينقل هذا الخبر شيطان مارد منبث في التيّل (٢). وفي سنة ١٢٧٩ ولي حلب ثريّى باشا.

بناء دور في جبل الغزالات :

وفيها أنشأ الوالي في قمة جبل الغزالات دارا ذات غرف كثيرة ، وتبعه المرحوم الشيخ محمد بهاء الدين أفندي الرفاعي ـ مفتي حلب ـ فأنشأ في ذيل الجبل قصرا ، وذو الكفل بك دفتردار الولاية فأنشأ في جواره دارا عظيمة. لم تزل أطلال هذه المنازل باقية حتى الآن.

وصول استعمال زيت البترول إلى حلب :

وفي سنة ١٢٨٠ وصل إلى حلب استعمال زيت البترول ـ المعروف بالكاز ـ في المصابيح المعروفة باللّنبات واحدها (لنبة). وقد تحامى الناس استعماله في أول ظهوره زاعمين أن ريحه يؤذي الصدر ، وأن سطوع نوره يضر البصر ، وكان من يستعمله من

__________________

(١) الصواب «ينكرون ذلك ويقولون» بإثبات نون الرفع في الأفعال الخمسة ولا مسوّغ لحذفها هنا.

(٢) التيل : من ألفاظ العامّة بمعنى السلك.

٢٩٨

الناس يقتصد بصرفه جدا بحيث كان ملء (اللّنبة) منه يسهر عليها عدة ليال إلى منتصف الليل. وهو معذور بذلك فإن ضوء هذا المصباح مهما كان ضعيفا فهو أسطع بكثير من ضوء السراج والقنديل والشمع وغيرهما من الظروف التي يكون الاستصباح بها بواسطة زيت الزيتون. ولا شك أنه أقل ضررا من هذه الظروف التي ينبعث منها العثان والسّخام فيضرا بالصحة ويسوّدا المنزل وأثاثه ويضعفا (١) البصر وقد ظهرت للناس فوائد الكاز بعد مدة قليلة فعم استعماله وبطل استعمال جميع ظروف الاستصباح وتركت في زوايا الاهمال حتى أصبحت نسيا منسيا.

وفي هذه السنة (١٢٨٠) حدث في حلب غلاء شديد وبرد قارس أدهش العقول. وفي سنة ١٢٨١ ولي قضاء حلب قاض عرف عند الناس باسم (أبي دية) لأن يده مقطوعة من مفصل ذراعها. وكان ظالما منهمكا بالمعاصي متجاهرا بتناول الرشوة. وفي ٢٤ جمادى الأولى من هذه السنة أبرقت السماء وأرعدت ثم قذفت بردا كبارا واحدته في حجم البيضة أو أكبر ، واستمر نحو ١٥ دقيقة فهلك به ألوف من الطير وانكسر للناس من زجاج نوافذ البيوت ما قيمته خمسمائة ألف قرش ، وكان من غريب أمره أنه لم يتجاوز مدينة حلب.

تشكيل لواء الزور :

وفي ابتداء فصل الربيع من هذه السنة توجه الوالي ثريّى باشا ومعه شرذمة من العساكر لردع الأعراب المتمردين على الدولة في جهة الزور ، فأخضعهم وأجرى عليهم قوانين الدولة وعيّن عليهم قائم مقام وشكّل مصرفيّة الزور بالدير الحمراء ، ورجع إلى حلب. وفي أواخر هذه السنة كثر تعسف القاضي أبي دية وضجر منه الناس ، ورفعوا بسوء حاله محضرا إلى الدولة ، فعزلته وولت مكانه عثمان أفندي وكان غاية بالصلاح. وفي سنة ١٢٨٢ وفي المحرّم عاد الحاجّ من الحجاز ، وأخبروا أنه مات هناك بالهواء الأصفر نحو مئة ألف نسمة. وكان ابتداؤه في تلك البلاد يوم عيد الأضحى. ثم في هذه السنة وصل هذا المرض إلى حلب وكان معظم سطوته في ربيع الأول ، وبلغت وفياته اليومية ثلاثمائة نسمة ، وقد أصبت به ونجوت ، وأصيبت والدتي فتوفيت. وكان الناس يدورون في الأزقّة ليلا ويستغيثون

__________________

(١) لا مسوّغ لحذف النون من الأفعال المضارعة الثلاثة الأخيرة ، والصواب إثباتها : «فيضرّان ـ ويسوّدان ـ ويضعفان». والعثان : الدخان الذي ينبعث من ضوء السراج ونحوه.

٢٩٩

بالله ويخرج بعض القراء إلى المآذن ويقرءون سورة الدخان.

وفي سنة ١٢٨٣ شكلت ولاية حلب وفيها حرّرت نفوس ولايتها. وفيها وليها جودت باشا صاحب التاريخ المشهور. وفي محرّم سنة ١٢٨٤ صدرت الإرادة بتخفيض البدل العسكري إلى ٨٠ ذهبا عثمانيا وكان مئة ذهب. وفيه قسمت الحكومة محلات حلب إلى اثنتي عشرة منطقة سمّت كل واحدة منها قولا ألفت له مجلسا من مختاريه واختياريته.

صدور جريدة الفرات :

في محرّم هذه السنة (١٢٨٤) صدرت صحيفة الفرات الرسمية الأسبوعية باللغتين التركية والعربية. وهي أول جريدة صدرت في مدينة حلب. ثم صدر العدد الخمسون منها باللغات الثلاث التركية والعربية والأرمنية. ثم صدر العدد ال ١٠١ باللغتين التركية والعربية فقط. وكان في بعض الآنات (١) يصدر لها ملحق تحت عنوان «علاوه فرات» أو «غدير الفرات».

أسس هذه الصحيفة مكتوبيّ الولاية حالت بك ، وهو الذي تولى تحريرها. واستمرت هذه الوظيفة تناط بمكتوبي الولاية يتناولون راتبهم الشهري عليها من ريع المطبعة. وأول مترجم لها من التركية إلى العربية (أحمد حمدي أفندي ابن محمد بن عبد المعطي زوين الحلبي) وكان أديبا شاعرا. وفي سنة (١٢٩٠) هاجر إلى الحجاز. وتولى ترجمة الجريدة بعده (عبد القادر أفندي ابن تقي الدين أفندي) الذي تولى بعد الكتابة الثانية عند السلطان عبد الحميد خان الثاني. ثم تولى الترجمة بعده فقيد الوطن السيد الفاضل عبد الرحمن أفندي الكواكبي. ثم في حدود ١٣٠٠ أنيطت هذه الوظيفة بي وبقيت في عهدتي نحو عشرين سنة ، استقلت منها في خلالها عدة مرات ، وكنت أعود إليها بطلب من المكتوبية سنة ، استقلت منها في خلالها عدة مرات ، وكنت أعود إليها بطلب من المكتوبية وإلحاحهم. وفي حدود سنة ١٣٢٤ وكلت بها العالم الشيخ محمد خير الدين أفندي الحنيفي ، فبقي قائما بها إلى أن ألغيت في أيام النفير العام سنة ١٣٣٤ وآخر ما صدر منها العدد ال (٢٤٢٠) ثم صدر بعدها عوضا عنها جريدة عنوانها (حلب) وهي تصدر الآن باللغة العربية فقط ، يتولى تحريرها الأديب الفاضل السيد محمد منير المدوّر البيروتي ، وهو

__________________

(١) أي في بعض الأوقات. وقد جمع المؤلف «الآن» ـ بمعنى الوقت والحين ـ على آنات ، والصواب : الآونة.

٣٠٠