نهر الذّهب في تاريخ حلب - ج ٣

كامل البالي الحلبي [ الغزي ]

نهر الذّهب في تاريخ حلب - ج ٣

المؤلف:

كامل البالي الحلبي [ الغزي ]


المحقق: الدكتور شوقي شعث ومحمود فاخوري
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
المطبعة: مطبعة الصباح
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٤٠

يقطع رأسه يجعله واليا في إحدى الإيالات كأنه منفي ، وللمأمورين من هذا الوجاق ألقاب شتى : كشربجي باشي ، وعشي باشي ، وساقي آغاسي ، وأوطه باشي ، إلى غير ذلك مما يدل على أن أولئك الجنود كانوا عائشين من إنعامات السلطان وأنهم كأولاد له. وكانوا يحترمون القدور والمراجل التي توزع عليه بها تعييناتهم ويأخذونها معهم إلى الحروب فإذا خسروها عدّ ذلك عارا عليهم. ثم في أواخر أيامهم صاروا إذا أرادوا رفض أمر يضعونها أمام منازلهم مقلوبة علامة على العصيان ، ولكل واحد منهم وشم خاص على يده اليسرى فوق الكوع مستدير ، قطره نحو قيراط وربع بأحرف تدل على اسم صاحبه وسنّه ، وتحته عدد فرقته. وإذا عجز أحدهم بسبب جراح أو كبر سنّ يعتزل وجاقه تحت اسم «متقاعد» ، ويعطى شهرية المتقاعدين ويؤذن له بالتروج.

وعلى هذه الترتيبات البسيطة امتدت فتوحات تلك الطائفة من أبواب برصة إلى أبواب فينّا ، وحافظوا على ذلك النظام مدة خمسمائة سنة ، حتى إنهم بعد أن صارت طريقتهم ثقيلة على البلاد والعباد وأوصلوا المملكة إلى أقصى درجات الانحطاط ، كانوا لم يزالوا من الأمة كالروح من الجسد حتى كاد سقوطهم يتهدد وجودها ، وهم ـ قبل اختلال نظامهم ـ أحسن جنود العالم ضبطا وانتظاما وأشدهم بأسا وإقداما.

وهاك نبذة في ذكر معركة من معاركهم ، بها تعلم ما كانوا عليه من القوة والنجدة : وهي أن السلطان با يزيد يلدرم خان سار في أيامه بعسكره الجرار المؤلف من اليكجرية وغيرهم إلى حدود هنكاريا قاصدا الاستظهار على أوربا بأسرها. وكان السلطان مراد خان الأول قد صادم عساكر الصّرب والبشناق بعساكره من اليكجرية فهزمهم وبدد شملهم ، فألقي النفير العام في ممالك أوربا قاطبة أن النصرانية أمست في خطر التلاشي من مهاجمات المسلمين ، وقامت دعاة النصرانية في كل صقع وإقليم يدعون بالغيرة الدينية ، فأجاب الجميع صوت النفير وأخذت الأبطال تتهيأ للحرب ، وأرسلت فرنسا وألمانيا أحسن رجالهما وخرجت فرسان مار يوحنا من حصونها في رودس ، وثارت رجال هنكاريا بحمية لا مزيد عليها. ولم يمض إلا القليل حتى اجتمع عند الملك سيجسيمند مئة ألف مقاتل من الأبطال ، وكان الجميع يمدون يد المساعدة في دفع العثمانيين عن بلادهم واستئصالهم عن آخرهم.

وكان السلطان با يزيد خان قد استعد لمقابلتهم وجمع نحو مائتي ألف مقاتل ونزل بهم

٢٦١

متحصنا بالقرب من بيكويوليس. فلما أقبلت عساكر سيجسيمند على جيوش الإسلام ظنوا أن الغلبة سهلة عليهم جدا لأنهم رأوا تلك الجيوش خالية من كل ترتيب وإن كانت أسلحتهم كاملة. وكان يظن الناظر في اليكجرية أن ملابسهم الطويلة الواسعة تعوقهم عن خفة الحركة والرشاقة في استعمال الحراب ، وعمائم الصباهية الكبيرة وقلانسهم الضخمة تزيد مناظرهم ضخامة في عين الناظر إليهم وتجعله يتهاون بمصادمتهم. فتقدم فرسان من فرنسا وأنشبوا الحرب مع فئة قليلة من اليكجرية لا يبلغ عددهم ٤٠٠٠ فبدد شملهم الفرسان وفتحوا فيهم طريقا ساروا منه إلى بقية جيش المسلمين المجتمع وراءهم ، وإذا بجيش عرمرمي من الرجال الأشداء لا يلتفتون إلى الهاربين من عساكر تلك الشرذمة ولا يبالون بما وقع عليها من الكسرة ، كأنهم الأسود ثباتا ومنظرا ينتظرون هجوم عساكر الأعداء عليهم فما كان غير قليل حتى سمع من عساكر المسلمين جلبة هائلة وفي أثرها ثارت اليكجرية على ذلك العدو فخام عن لقائهم فتبعوه وأعملوا فيه السيف ولم يفلت منه إلا الشريد الهارب ، وقد جعل ذلك الظفر العظيم اسم اليكجرية مهيبا جدا في أوربا بأسرها.

وكانت طريقة اليكجرية في القتال أن يحيطوا صفوفهم بجيش من العساكر الجاهلة ، ويفتحون بها باب الحرب ويشتغل بها العدو مدة ولا يتيسر له الوصول إلى معظم عساكرهم إلا بعد أن يكلّ من القتال ، حتى إن تلك الجنود الجاهلة كانوا يملؤون بجثثها الخنادق ، وربما جعلوها تلالا يتسلقون عليها إلى الحصون والقلاع التي يحاصرونها. ولما كان اليكجرية يباشرون الحروب دائما ويرزقون الفوز والظفر وينالون الغنائم العظيمة ، داخلهم التيه والكبرياء وصاروا يعدّون أنفسهم هم المحامون عن بيضة الإسلام وحوزة الملك ، والعلة الوحيدة لوجودهما. ثم تمادوا في غلوائهم حتى صاروا يتجاسرون على خلع الملوك وتبديل الوزراء وقد بالغ بعض سلاطين آل عثمان في تعظيمهم وإكرامهم ، مستندا في ذلك إلى أنهم هم الذين شادوا الملك وبهم امتد في أوربا وآسيا وأفريقية وجزائر البحر حتى استحق مالكه أن يلقب بسلطان البرّين وخاقان البحرين.

ولما أحرزت المملكة هذه الشهرة العظيمة بواسطة اليكجرية ازدادوا عتوّا وتعديا وضعفت شجاعتهم وإقدامهم ، وصاروا رعبا للسلاطين بعد أن كانوا رعبا للعدو ، وصاروا يجاهرون بالعصيان لأدنى سبب حتى اضطر السلطان عثمان الثاني إلى العزم على ملاشاتهم ، وأمر بجمع عساكر جديدة في آسيا وتعليمهم أصول الحرب الحديثة. فاستاء اليكجرية من

٢٦٢

ذلك وهاجوا واجتمعوا في ساحة آت ميدان وقلبوا مراجلهم أمام القشلة ، وضربوا الطبول. فانزعج السلطان لذلك وأشاع بأنه كان يستعد للحج الشريف وأن العساكر التي أمر بجمعها في آسيا لم تكن إلا للمحافظة عليه في طريق الحج ، وأمر بتجهيز سفن لأجل تلك الغاية. فلم يقنعهم هذا الاعتذار وقاموا قومة رجل واحد وقتلوا عددا عظيما من الحرس والحجاب وأفرجوا عن السلطان مصطفى وبايعوه وأزالوا السلطان عثمان.

وهكذا طغوا وبغوا وذاقوا لذة السلطة وحرصوا على إبقائها فيهم. وتاريخهم مدة قرنين بعد هذا العمل ليس هو إلا سلسلة متصلة مؤلفة من حلقات العصيان والتمرد والعبث بالنفوس الزكية ، ثم صاروا يمتنعون عن الدخول في العسكرية إلا بالاسم ويؤذن لهم بالإقامة دائما كالمحافظين. ثم حصلوا على إذن بالتزوج والإقامة مع عيالهم ، فاضطرتهم العيلة (١) إلى الدخول في التجارة والصنائع وأهملوا سيوفهم وبواريدهم ولم يبق بهم من صفات الجنود سوى المحافظة على أخذ رواتبهم في أوقاتها. ولم يكفهم ذلك حتى صاروا يأخذون مرتّبات لعيالهم ، وقيدوا أسماء أولادهم في سلك الجنود الأمناء مستبدين لا يؤدون شيئا لخزينة الحكومة. وصار ينخرط في سلكهم جماهير غفيرة من الناس ، وبعضهم ينفق مبالغ باهظة ليحرز شرف الانتظام في مسلكهم وأن يوشم على يده اليسرى بالوشم المتقدم ذكره ، الذي كان صاحبه يستبد بجميع أعماله ، صالحة كانت أم طالحة. وقد دخل في تلك الزمرة كثير من اليهود والنصارى طمعا في السلب والغنائم في أوقات العصيان. واستولى عليهم الكسل والجهل باستعمال السلاح حتى إن كثيرا منهم من يضع في البارودة الرصاص قبل البارود ، وكثيرا منهم من يكون في المؤخرة ويطلق بارودته على من في المقدمة. وربما حاول قوّادهم ردعهم عن ذلك فيجيبونهم بقولهم : إن رصاصة اليكجري تعرف العدو من الصديق.

وقد انتشبت مرارا مقاتلات شديدة في أزقة القسطنطينية بينهم وبين الصباهية الذين كانوا أعداء لهم ، فكانوا يطوفون في الأسواق وبين البيوت ويوسعون الناس ضربا وافتراء ، ويسلبون ما صادفوه من الأمتعة ويرتكبون شرورا كثيرة ويسبون النساء والبنات من دون مانع ولا معارض. وكانت القسطنطينية بجملتها في قبضة يدهم يفعلون فيها ما يشاءون

__________________

(١) العيلة : الفقر.

٢٦٣

من دون حساب ولا عقاب ، وإذا قدم مركب موسوق (١) حطبا أو فحما إلى الميناء يذهبون حالا إليه ويسمونه بسمة أرطتهم (٢) ، إشعارا بأنه قد دخل تحت ظل حمايتهم وبأنه قد صار لهم حق بيعه وقبض ثمنه ، وجميع الخضر الواردة إلى السوق تحت مطلق تصرفهم يبيعونها بما شاؤوا ويعطون أصحابها من الثمن ما سمحت به أنفسهم. وهم في كل يوم يذهبون جميعا باحتفال لأجل أخذ مرتّباتهم ، ويتعدون في طريقهم على كل من صادفوه ، وقائدهم يمشي أمامهم وبيده مغرفة ضخمة طولها ذراعان وهم يتبعونه حاملين مراجلهم العظيمة على عتلات ومعهم جمهور من المحافظين بأيديهم سياط ضخمة. فإذا اتفق أن أحدا لم يحد عن الطريق ـ الذي يمرّون فيه ـ حالما يسمع قولهم : صاغ (أي ظهرك أو احذر) فإن القائد يضربه بتلك المغرفة العظيمة فيرميه إلى الأرض ، ثم يأتي أصحاب السياط ويوجعونه ضربا. وإذا رأى الحمّال منهم مع رجل رزمة يجبره أن يسلمه إياها لكي يحملها له ، طالبا منه أن يدفع له الأجرة سلفا ، التي ربما تساوي قيمتها. ثم بعد قبض الأجرة يسمح له بحملها إن شاء ، بشرط أن يعطيه شيئا على ذلك.

وكان إذا بنى أحد بيتا يأتي إليه نجار من اليكجرية ويطرد نجّاريه ، ثم يتمم هو العمل متى شاء ، وبالطريقة التي يستحسنها. وكان الأمر والنهي في الدواوين والمحاكم والمأموريات بيد أولئك القوم العتاة في جميع بلاد المملكة العثمانية. وكانوا ينصبّون ويعزلون متى شاؤوا. ولم تزل الأمور جارية على هذا المنوال حتى كادت المملكة تسقط تحت نير تلك القوة الهائلة التي كانت أوربا بأسرها ترتعد من مجرد ذكر اسمها.

وفي سنة ١٢٠٨ ابتدأ السلطان سليم الثالث يتخذ عسكرا جديدا وسماه بالنظام الجديد. فهاج اليكجرية ومن يتعصب إليهم ، فاضطر السلطان إلى إرسال ما كان عنده من العسكر المذكور إلى آسيا ثم أرجعه إلى استانبول حينما اشتغلوا في الحرب خارجا مغتنما تلك الفرصة. ولما أخذ هذا العسكر الجديد يزيد عدّة ، قام الجميع عليه بصوت واحد مدّعين أن ذلك بدعة تضادّ الدين ، فاضطره الأمر إلى التسليم لهم أيضا. ثم انتهز فرصة أخرى وأرجع النظام وجعل منه عسكرا محافظين على المدينة وأحضر من آسيا عساكر غير منتظمة لتكثير العدد.

__________________

(١) أي محمّل. والوسق : الحمل.

(٢) الأرطة : لفظة تركية ، معناها الجماعة أو الفرقة من الإنكشارية. ثم صارت بمعنى الجماعة مطلقا.

٢٦٤

فأخذ اليكجرية في إضرام نيران الاختلاف بين عساكر النظام وتلك العساكر التي هي غير منتظمة ، فحدثت حركة شديدة من بين الفريقين دارت فيها الدائرة على عساكر النظام فهربوا إلى القشل (١) ، وأما العساكر التي هي غير منتظمة فذهبوا إلى اليكجرية وأخرجوا المراجل المشهورة وجعلوها صفوفا في ساحة القشلة ، فاجتمع جمهور من اليكجرية المستوطنين وثار معهم جمهور من رعاع المدينة وحينئذ لم يسع السلطان إلا الأمر بإبطال النظام. غير أن اليكجرية لم يرضوا إلا بخلعه وسجنه عند الحريم جزاء لما ابتدع في الإسلام من العادات والملابس الفرنجية على زعمهم ، ونادوا باسم السلطان مصطفى. ولما أجلسوه على تخت السلطنة أصدر أمرا بإبطال النظام الجديد.

ثم في السنة التالية قام مصطفى باشا بيرقدار ووقف بعساكره على باب السرايا وطلب متهدّدا إرجاع السلطان سليم إلى تخت الملك. فلما رأى السلطان مصطفى ذلك الأمر خنق السلطان سليما وطرح جثته من كوة القصر إلى العصاة الذين كانوا محيطين بالسرايا. فساءهم ذلك جدا وهجموا على السرايا وخلعوا السلطان مصطفى ووضعوه في السجن الذي كان فيه السلطان سليم ، ونودي باسم السلطان محمود الثاني ، وكان السلطان محمود يتردد دائما على السلطان سليم وهو في السجن ، ويسرّ جدا بما كان يطلع عليه من تدابير ابن عمه بما يرجع المملكة العثمانية إلى ما كانت عليه من النجاح والسطوة ، ولم يكن أقل بغضا منه لطريقة اليكجرية ، وكان يحسب نفسه قادرا على قهرهم ، فحلف مقسما أنه لا بد من أن يهلك تلك القوة الفظيعة التي كانت قابضة على زمام السلطنة بأيديها الخبيثة. فتولى مصطفى باشا بيرقدار منصب الصدارة العظمى وأخذ ينتقم من أعداء السلطان سليم ، وأما السلطان محمود فصرف همته في اتخاذ التدابير والوسائل اللازمة لقرض زمرة اليكجرية. وبعد أن تسلح بفتوى من شيخ الإسلام أمر بإجراء نظام اليكجرية القديم بكل صرامة وتدقيق وإبطال علائق المتزوجين منهم ، وإجبار المتزوجين بأن يتركوا حوانيتهم ويسكنوا في القشلة ، ويتعلموا هناك فنون الحرب ويخضعوا لأصول طريقتهم.

فلما نشرت هذه الأوامر هاج اليكجرية وأظهروا العصيان في شهر رمضان وأضرموا النار في بيوت مجاورة لقصر الصدر الأعظم ، فاحترق وهو نائم على سريره ، ثم ساروا

__________________

(١) جمع قشلة وهي الثكنة. «منزل العسكر».

٢٦٥

هاجمين على السرايا ، حيث كان السلطان محمود ، فجمع السلطان حالا الطّوبجية ومن عنده من العساكر الجديدة ، وانتشب القتال بين الفريقين مدة يومين ، وأصبحت المدينة في خطر عظيم من تلك النيران التي أضرمها اليكجرية. وكانت عساكر السلطان محمود قليلة ضعيفة ورعاع المدينة قد اتحدت مع اليكجرية والمتعصبون لهم يحركون العامة ويهيجونهم ، فرأى السلطان أنه لم يبق له إلا وجه واحد للتخلص من أيدي أولئك القوم العصاة ، وهو أن يقتل السلطان مصطفى فيبقى وحده من سلالة بني عثمان ، ففعل ثم خرج ووقف وحده أمام ذلك الجمهور الهائج فلم يجسر أحد أن يمد إليه يدا ، وسلم قواد العساكر الذين قاتلوا عنه في السرايا للعدو لكي ينتقموا منهم بحسب إرادتهم ، وأقسم بأنه لا يجدد إلى الأبد ذلك النظام الجديد المكروه. وأجاب اليكجرية إلى كل ما طلبوه ، وأطلق لهم العنان كجاري عادتهم حتى إنه قيّد اسمه يكجريا في إحدى أورطهم.

ومن ذلك الوقت وقع القضاء على اليكجرية لأن انقياد السلطان محمود وتسليمه لهم في كل شيء لم يكن إلا بقصد الغلبة عليهم ، فأخذ من ذلك الوقت بعزم شديد يستخدم التدابير اللازمة المؤدية إلى المرغوب ، ودام مدة ثمان عشرة سنة منتظرا الفرصة لتنكيس تلك السيطرة وإنقاذ السلطنة من مخالبها الحادة. وكان جماعة من الطّوبجيّة قد تعلموا من عدة سنين طريقة الإفرنج في استخدام المدافع ، إلا أنهم لقلة عددهم وقصر معرفتهم في استعمال المدافع كان اليكجرية يزدرون بهم. وأما السلطان فكان يزيد عددهم ويقويهم شيئا فشيئا لكي يعتمد عليهم عند الاقتضاء. وفي تلك الأثناء حصلت حركة الأروام فصارت حجة لتعليم تلك الزمرة أصول العسكرية وزيادة عسكرهم ، وكانوا شديدي البغضة لليكجرية ، وكان السلطان لا يألو جهدا عن اتخاذ كل الوسائل لتقوية تلك الحماسة فيهم نحو اليكجرية.

وفي سنة ١٢٤١ بلغ عدد الطوبجية في القسطنطينية أربعة عشر ألفا ، وكانوا جميعا خاضعين خضوعا تاما للسلطان ، خبيرين بأمور الحرب ، خلافا لليكجرية الذين كانوا دائما يجلبون عارا على الراية العثمانية بعدم انقيادهم إلى قوادهم عند القتال ، ورغبتهم الوحشية في سفك الدماء والسلب عند الانتصار ، وكانوا قد أغضبوا الناس بمظالمهم وتعدياتهم ، والعلماء بإدعائهم السيادة عليهم ، وقوادهم بما كانوا يبدونه من الجبن والتمرد على أوامرهم. ولما ظهرت ـ من انتصارات عساكر إبراهيم باشا في حرب المورة ـ القوة التي يكسبها

٢٦٦

التعليم الإفرنجي العساكر ، رأى السلطان محمود خان أن الوقت الذي كان ينتظره منذ سنين كثيرة قد أتى ، وأنه قد حان الزمان الذي يجب فيه بأن يخلص من مخالب اليكجرية بإيجاد قوة جديدة منظمة كافية لدفع قوتهم وإنقاذ السلطنة منهم ، وقادرة على المدافعة عن المملكة إذا مسّت الحاجة. وإذ كان لا بد له من التخلص قبلا من الارتباكات الخارجية ، اضطره الحال للتسليم إلى طلب اقترحته روسيا ، ولم يكن لها قصد بذلك إلا جعله وسيلة لإضرام نار الحرب بينها وبين الدولة العلية. ثم عقد مجلسا من رجال الدولة العظام لأجل النظر في قوة العسكر وإصلاح الأحوال وأخرج فتوى بجواز تزيّي جنود المسلمين بزي أهل الكتاب ، وبأن يتخذوا ما لهم من العوائد فيستخدمونها لمدافعتهم ويقاتلونهم بسلاحهم.

وفيما كان المجلس ملتئما ، قال رجل من أعضائه ، وكان شيخا مسنا : إن اليكجرية أشبه بعجائز ذوات عجب ، وقد علاهن الكبر يفتخرن كثيرا بما كان لهن من الجمال منذ سنين كثيرة. وقال آخر : إنهم لا يعتبرون الآن العلماء ، مع أنهم كثيرا ما حاموا عنهم وساعدوهم. وقال آخر : إنهم طالما جلبوا العار على الراية العثمانية بواسطة تجاوزهم حدود الشريعة وعدم انقيادهم لأوامر السلطنة. فقر رأي ذلك المجلس على وجوب إصلاح أحوال العسكر ، وحكم بأن يؤخذ رجال من كل فرقة من فرق اليكجرية ويجعلوا عسكرا جديدا وأن يكون لهم لباس خاص على نسق واحد وأن يتعلموا أصول الحرب على طريقة الإفرنج ، مع المحافظة على الواجبات الدينية الإسلامية وعين ذلك المجلس مرتبات ذلك العسكر الجديد وكل ما يتعلق به من النظامات بكل تدقيق وتفصيل.

وبعد أن حكم شيخ الإسلام أن ذلك جائز شرعا تعهد المجلس بإجرائه بالفعل. ثم عرضت تلك الأحكام على قواد العساكر فقبلوها وختموا على تلك العهود ، ولكن حالما ابتدأت الحكومة في إجراء ذلك النظام الجديد وتعليم ذلك العسكر الطريقة الإفرنجية استفاق اليكجرية من غفلتهم فجاهروا بالعصيان وصفوا المراجل كجاري العادة وأخذ أصحابهم والمتعصّبون لهم من رعاع الناس يتواردون إليهم من كل أطراف المدينة. وكان ذلك في اليوم الخامس من شهر حزيران سنة ١٨٢٥ م مسيحية المصادفة سنة ١٢٤١ ه‍ وكانت الدراويش تتقدم تلك الجماهير وتهيجهم لمقاومة تلك البدع الجديدة الإفرنجية ، وذهبوا بهم إلى منزل كبير اليكجرية قاصدين قتله فنجا من أيديهم ، فنهبوا منزله ومنزل الصدر الأعظم فوقعت المدينة ثانيا في قبضة أيديهم.

٢٦٧

وأما السلطان محمود خان فإنه استحضر إلى سراياه جميع الطوبجية ، وبعث رسولا إلى اليكجرية العصاة يأمرهم بإلقاء السلاح والتسليم فرفضوا الأوامر واستهزءوا بها. فجمع العلماء وأخبرهم بما كان فقالوا جميعا : إن اليكجرية هم أعداء الدين. فجلس السلطان تلك الليلة في السرايا في نفس الموضع والحالة التي جلس عليها منذ ثمان عشرة سنة ، وكانت المدينة بأيدي جنود هائجة قد علا ضجيجهم إلى الجو وملؤوا الأسواق حتى وصلوا إلى باب السرايا وأخذوا يجلبون ويتهددون. وفي صباح اليوم السادس عشر من شهر حزيران من السنة المذكورة أخرج السلطان علم النبي صلّى الله عليه وسلّم من الخزينة وسار بكل جنوده إلى ساحة آت ميدان. وبعد تقديم الدعاء في جامع السلطان أحمد نشر هناك العلم الشريف فأخذت الجماهير تتقاطر إليه ، ثم أخذت الجيوش تتقدم نحو اليكجرية وتدفعهم إلى الوراء ، إلى أن وصلوا إلى تل مشرف على معسكرهم بقرب جامع السلطان محمود ، وكنت ترى جماهير كثيرة من المسلمين يبادرن بسرعة إلى معسكر السلطان لأجل المدافعة عن العلم الشريف. ثم ثار جماعة من الطوبجية نحو ساحة آت ميدان من دون مصادمة كثيرة ، ولم يمض إلا القليل حتى أحاطت الجنود المظفرة بتلك الساحة الفسيحة من كل جهة ، وجعلت المدافع على كل مرتفع وفي كل شارع مقابل ذلك الموضع.

وعند ذلك خرجت اليكجرية من القشل قاصدة الهجوم على عساكر السلطان فأرسل السلطان رسولا يأمر اليكجرية أن يسلموا ، فقتلوا الرسول وللحال أشعلت الطوبجية المدافع وكان عددها مائة مدفع وأخذت تطلق الكرات والقنابل على ساحة آت ميدان والقشلة ، فهجمت اليكجرية على الصفوف السلطانية فدفعتهم العسكر المظفرة دفعة هائلة وذبحوا منهم عددا غفيرا ، فرجع من سلم هاربا إلى القشلة ، وحينئذ تحولت المدافع نحو القشلة بأسرها ، وأشعلت النار الدائمة فلعبت بالقشلة. فصرخ اليكجرية من داخلها طالبين العفو والرجمة فلم يلتفت إلى صراخهم ، وذلك أن ألوفا من الشيوخ والنساء والعذارى طالما كانوا يصرخون إليهم في أيام سطوتهم طالبين الرحمة فلم يرحموهم ولا التفتوا إلى صراخهم. ولم تزل المدافع تعج والبواريد ترسل الرصاص من دون انقطاع حتى سقطت حيطان القشلة إلى الداخل على من سلم فيها من نيران القتال فهلكوا عن آخرهم ، ولم ينج أحد من جميع الذين كانوا قد وقفوا في تلك المعمعة لمحاربة سلطانهم وولي نعمتهم ، فسحق ذلك العصيان سحقا فظيعا في أول ظهوره ، ولكن لم يكن ذلك نهاية العمل لأنه كان لم يزل ألوف من

٢٦٨

اليكجرية باقين متفرقين في أماكن مختلفة من المدينة ، وكانت الإيالات أيضا مملوءة منهم.

وفي اليوم الثاني خرج فرمان شريف بإبطال تلك الزمرة وملابسها ومصطلحاتها وقشلها حتى واسمها من كل المملكة ، ونادى به المنادون. وهذه ترجمته : «بموجب حكم الكتاب والشريعة ، إصلاحا لحال أمة محمد ، وإحياء للدولة والدين ، تلغى أرط اليكجرية من الآن وصاعدا وتبطل كليا. وبموجب اتفاق العامة مع جميع العلماء حرر أنفار عساكر محمدية منصورة مكان هؤلاء ، وعلى أهل العرض بعد هذا أن يفتحوا دكاكينهم ويكونوا في أشغالهم ومكاسبهم». اه.

فوقع الرعب على كل زمر اليكجرية وهربوا متبددين في كل صقع وناد. وكانت الحكومة تفتش عليهم في كل مكان من المملكة وتلقي القبض على كل من وجدته منهم وتعاقبهم بالقتل بالسيف أو بالخنق أو بالسجن أو النفي ، بحسب أحوالهم وذنوبهم. وكنت ترى خليج قسطنطينية مملوءا من جثث القتلى الذين كانت تلقى فيه (١). فبلغ عدد الذين قتلوا ثلاثين ألفا. وهكذا كانت نهاية هؤلاء العساكر المنكودة الحظ ، والوبال الذي جلبه لنفسها بغيها وعدم مراعاتها النعمة. وقد أرخ بعضهم هذه الحادثة بقوله : غزاي أكبر ، وذلك سنة ١٢٤١.

قلت : إن الفظائع التي كان اليكجرية يجرونها في استانبول ، كانوا يجرونها بل أعظم منها في حلب وغيرها من البلاد الخارجة عن استانبول ، فقد كانوا قابضين فيها على الحرف والصنائع ، وكانوا يعاملون الناس بالجبروت والقسوة ويهينون الأشراف ويهتكون الأعراض. وكانت جميع الفتن والثورات في حلب ـ التي أسلفنا ذكرها ـ هم السبب الأعظم بإثارتها وكان زعماؤهم في الدرجة القصوى من الثراء والغنى ، وهم على جانب عظيم من العتوّ والكبرياء. وكان ولاة حلب يعجزون عن إخضاعهم وردعهم إلا من لجأ منهم في قهرهم إلى الحيلة والخدعة معهم ، كما فعل باستئصال عدد كبير من طواغيهم جلال الدين باشا. وكانوا يجرون في حلب من الفظائع والمخازي ما يقف اليراع خجلا عن تحريره وتسطيره : يهتكون شرف العذارى في حضور أوليائهم وفي منازلهم ، ثم يبصقون بوجه الرجل ويأخذون منه ما يوجد عنده من النقود وما عند نسائه من الحلي ، ويخرجون من

__________________

(١) صواب العبارة : «.. التي كانت تلقى فيه» أو : «.. الذين كانوا يلقون فيه».

٢٦٩

بيته وهم يودعونه باللعن والشتائم. ومن فظائعهم أيضا أنهم كانوا يدخلون رأس الكلب في بطيخة خضراء فارغة ويرسلونه في الأسواق والشوارع ، ووراءه واحد منهم ينادي بقوله : تنحّوا عن طريق السيّد (لأن السادة كانوا يلبسون في رؤوسهم العمائم الخضر).

ومما كانوا مستولين عليه من الحرف والمهن حرفة اللحّامين ، فقد كان معظمها في أيديهم ، وكان الرجل لا يقدر أن يطبخ في بيته إلا نوع الطعام الذي يأمره به لحّامه ، فلربما أمره عدة أيام بأن يطبخ نوعا واحدا من الطعام لأن اللحمة التي عند لحامه لا تصلح لغير ذلك النوع ، ولا يستطيع الرجل أن يشتري من لحام آخر مطلوبه من اللحم ، لأنه إذا فعل ذلك فربما يقضي لحامه عليه. فاتفق أن رجلا كان اسم لحامه رحمون آغا فكانت زوجة الرجل إذا سألته : ما ذا نأكل في هذه الليلة؟ يجيبها بقوله : «الإرادة لرحمون آغا». فسارت هذه الكلمة مسير المثل في حلب يتمثل به من كانت إرادته تبعا لإرادة من هو أقوى منه.

والخلاصة أن الفظائع التي كانت تجريها هذه الطغمة الشريرة كثيرة جدا يحتاج استقصاؤها إلى مجلّد على حدته ، وأن جميع ما كان يجريه عليهم الولاة من العقوبات والمصادرة والتعذيب قليل من كثير مما كانوا يستحقونه. فالحمد لله الذي أراح منهم البلاد والعباد.

انتهى ما قصدنا إلى إيراده من الكلام على أحوال الطائفة اليكجرية. ولنعد الآن إلى سرد الحوادث فنقول : في سنة ١٢٤٢ ولي حلب سيروزي يوسف مخلص باشا ابن إسماعيل بك من أعيان سيروز. وفيها حدث بحلب طاعون جارف بلغ عدد وفياته اليومية نحو أربعمائة نسمة. وفي سنة ١٢٤٣ ولي حلب الصدر الأسبق رؤوف باشا. وقرأت في السجل المحفوظ في المحكمة الشرعية أنه في هذه السنة رفع مفتي حلب أحمد أفندي الجابري ، ونقيب أشرافها عباس أفندي طه زاده ـ وغيرهما من وجهاء حلب ـ إلى الحاكم الشرعي أن بكير آغا ابن كعدان ، وعبيد بن الجذبة وأتباعهما ـ وهم مصطفى وعواد وأحمد بن هاشم ـ عازمون على العود إلى حلب والإضرار بأهلها ، فهم ـ أي المفتي ونقيب الأشراف ورفقاؤهما ـ يطلبون من الحاكم الشرعي أن يحكم بقتلهم : فأحضر الحاكم أهل المحلات

٢٧٠

ونبه عليهم بأن كل من وجد في محلته واحد من هؤلاء فعليه أن يدفع للخزينة العامرة ١٥٠٠ قرش. اه وفي سنة ١٢٤٤ ولي حلب علي رضا باشا.

مقتل أحمد بك قطاراغاسي :

في هذه السنة (١٢٤٤) قتل أحمد بك ابن إبراهيم باشا أمير الحاج ووالي حلب سابقا. وسبب قتله أن الدولة أرادت أن تستعين به على إخضاع عصابة من المتمردين عليها في جهات أرضروم ، فكلفته الشخوص إليها مع مائة وخمسين شخصا من أتباعه (على أن تكون النفقة على هذه الحملة من ماله أسوة بغيره من وجهاء البلاد العثمانية الذين كانوا في تلك الأيام يساعدون الدولة على أعدائها فيجهزون إليهم الحملات على نفقاتهم). ولما ورد هذا التكليف على أحمد بك اعتذر بانحراف صحته وطلب المهلة ريثما تعاوده صحته ، وكتب على الفور إلى أخيه مصطفى بك المقيم في استانبول ـ وهو صاحب رتبة (ميراخور) ـ كتابا يذكر له فيه خبر هذا التكليف ويستشيره بالسفر إلى أرضروم. وأرسل الكتاب مع ساع خصوصي.

فكتب إليه أخوه في جوابه يحذره فيه من هذه السفرة ، ويأمره بأن يماطل بالإجابة على قدر استطاعته. وأرسل له هذا الكتاب مع ساع خاصّ استحثّه على السرعة والاستعجال. ولما وصل الساعي إلى حلب سأل عن منزل أحمد بك فقيل له : هو في الفرافرة. فلما وصل الساعي إليها وقيل له : هذه هي محلة الفرافرة ، رأى رجلا عليه سيماء العظمة واقفا بباب منزل فخم يحفّ به الخدم والحشم. فلم يشك بأنه هو صاحب الكتاب فقدمه إليه فتناوله منه وأعطاه جائزته وانصرف. ثم نظر ذلك الرجل في عنوان الكتاب فإذا هو لأحمد بك مرسل إليه من أخيه مصطفى بك. ففضّ ختامه وقرأ ما فيه ، وكان هذا الرجل العظيم ـ الذي وقع الكتاب بيده غلطا ـ يوسف باشا شريف زاده ، الذي كان يتحين الفرص ويرقب الدوائر تدور على أحمد بك الذي كان يوسف باشا لا يشك ولا يرتاب بأنه هو ذلك الواشي الذي كان سببا لاغتيال والده نعمان أفندي ، الذي أسلفنا خبر خنقه في حوادث سنة ١٢٣٨ وقد ظفر الآن يوسف باشا بضالته المنشودة وأيقن بأنه قد نال أمنيته التي هي أخذ الثأر من قاتل أبيه. فأسرع إلى منزل الوالي علي رضا باشا وقدم إليه ذلك الكتاب واستحثه على تقديمه إلى حضرة السلطان ليرى رأيه في أحمد بك

٢٧١

وأخيه مصطفى بك. فما كان من الوالي سوى أن أرسل الكتاب مع ساع خاص إلى السلطان ولما قرأه السلطان استشاط غضبا وأصدر أمره إلى الوالي بقتل أحمد بك وتجهيز رأسه إليه بكل سرعة. ولما ورد هذا الأمر إلى الوالي كان أحمد بك متمارضا قد أقام في قصر بستان المفتي للاستشفاء بطيب هواه ، ينتظر من أخيه جوابه عن كتابه وهو غافل عما خبأته له يد الأقدار.

وفي يوم الثلاثاء ٢٧ ذي القعدة من هذه السنة أشاع الوالي أنه يقصد أن يعود أحمد بك. ثم توجه هو وأتباعه إلى بستان المفتي ، وكان قد نمي خبر زيارته إلى أحمد بك ، فخرج لاستقباله إلى باب القصر وتلقاه بالترحاب ، وبعد أن جلس معه جلسة العائد للمريض وحادثه بلطيف عباراته ودعا له بالصحة والعافية نهض للانصراف ، وتبعه أحمد بك ليشيّعه ، وبينهم هو نازل على الدرج إذ أتته طلقة غدارة وتبعتها ثانية وثالثة فلم تخطىء رصاصاتهما جسمه فوقع قتيلا يتخبط بدمه. فتقدم أحد الرماة إلى جثته الهامدة وحز رأسه وبعد أن حشاه تبنا قدمه إلى الوالي الذي لم يتأخر لحظة واحدة عن إرساله إلى السلطان. ولما وصل الرأس إلى السلطان أحضر مصطفى بك أخا المقتول وأطلعه على الكتاب وسأله عن كاتبه ، فأقر بأنه خط يده ، ثم أخرج له رأس أخيه وسأله : هل تعرف هذا الرأس؟ فأجاب : نعم هذا رأس أخي. وفي الحال التفت السلطان إلى الجلاد وأشار إليه بأن يقطع رأس مصطفى بك ، فامتثل الأمر وقطع رأسه. ثم وضع الرأسان في كيس من البزّ ودفنا في حفرة واحدة.

وصدر أمر السلطان إلى والي حلب بمصادرة جميع أملاك الأخوين وأموالهما ، وأن ينفي كل حالم من أولادهما وأتباعهما. فنفى من يصدق عليه أمر السلطان إلى جهات متعددة ، ثم وضع أملاكهما في المزاد العلني فلم يرغب أحد بشرائها إما احتراما لأصحابها وإمّا تشاؤما (١) بها. وكان الحاج بكور آغا كتخدا الآتي ذكره قريبا قفل من بغداد وعزم على التوطن في حلب ، وكان في الغاية القصوى من الثراء والغنى ، فاشترى جميع أملاك الأخوين المومأ إليهما في حلب وخارجها. وكان من جملة تلك الأملاك الدور الكائنة في محلة الفرافرة ، وهي دور عظيمة فخمة ، كل دار منها تضاهي محلة لما اشتملت عليه من

__________________

(١) في الأصل : «تشائما» خطأ.

٢٧٢

الأبهاء والمقاصير وكثرة الغرف والمرافق والحدائق ومتانة البناء وزخارف النقوش ، وهي لم تزل تعدّ من بدائع الآثار البنائية القديمة التي يقصدها الأثريون للتفرج.

وبعد أن اشتراها الحاج بكور آغا وتصرف بها مدة من الزمن أعادها جميعها إلى ورثة الأخوين بالثمن الذي أخذها فعدّ ذلك منه شهامة وكرم أخلاق ، وظهر للناس أنه لم يقصد من شرائها إلا حفظها لورثة الأخوين وإعادتها لهم حين سنوح الفرصة. ولم يبق له منها سوى داره المقيم بها الآن بعض فروع أعقابه. ومن غريب الاتفاق أنه كان لأحمد بك جارية كالحظيّة عنده ، كانت تندد بالحاج بكور وتطعن به وتتحايل عليه لأنه حاز الزعامة لدى الولاة وصار نافذ الكلمة عندهم ، فوقعت هذه المسكينة في قبضة الحاج بكور آغا ، أخذها شراء مع جملة ما أخذه من تركة أحمد بك وجعلها خادمة في مطبخه بعد أن كانت حظية أعظم رجل في حلب يأتمر الخدم بأمرها ولا ترد لها كلمة.

سفر علي رضا باشا إلى بغداد :

وفي سنة ١٢٤٦ تمرّد داود باشا والي بغداد على الدولة وخرج عن طاعتها. فأصدر السلطان أمره إلى علي رضا باشا بأن يكون واليا في بغداد ، وشرط عليه أن يخضع واليها المتمرد وينكل به. فسافر إلى بغداد في أواخر هذه السنة وصحب معه (أبا بكر بن محمد ابن إبراهيم الكردي) أحد رجالات العمق وأمرائه ، وجعله مستشارا له ووكيلا عنه في إدارة أمور الجيش وسماه كهيا أو كتخدا. ومن ذلك اليوم عرفت هذه الأسرة بآل الكتخدا.

وفي هذه السنة ١٢٤٦ ولي حلب إينجه بيرقدار زاده محمد باشا. وفي سنة ١٢٤٨ استولى على حلب إبراهيم باشا ابن محمد علي باشا خديوي مصر.

إجمال بهذه الأسرة :

لهذه الأسرة تاريخ حافل يسمى «المناقب الإبراهيمية» وهو مطبوع متداول استغنينا به عن إطالة الكلام في بيان أخبار هذه الأسرة واكتفينا بالإلماع إليها بهذا الإجمال فنقول :إن الجد الأعلى لهذه الأسرة هو المرحوم محمد علي باشا ، وأصله من مدينة قولة إحدى بلاد الأرناوود وبها كانت ولادته سنة ١١٨٣ ومات والده عنه وهو صغير فكفله أحد أصدقاء أبيه وأحسن تربيته ، ونشأ على محبة الفوز والظفر بمقاصده وصحب الغزاة ، واشتهر

٢٧٣

بين أقرانه بالحزم والعزم. ثم لما دخلت طائفة الفرنسيس مصر وألقت الدولة العثمانية النفير العام لإخراجها ، كان من جملة من امتثل أمر الدولة ونهض من بلده متوجها إلى مصر ، فدخلها وحارب الطائفة المذكورة في عدة وقائع واشتهر بالشجاعة وجودة الرأي ولما خرجت تلك الطائفة من مصر ولت عليها الدولة العثمانية محمد خسرو باشا ، وكان محمد علي باشا قد استمال علماء مصر ووجهاءها فمالوا إليه وأظهروا له من المحبة ما أطمعه أن يكون واليا عليهم.

واتفق في ذلك الأثناء (١) أن محمد خسرو باشا جهز جيشا لقتال بقية المتمردين من المماليك حكام مصر ، وكان محمد علي باشا من جملة ضباط ذلك الجيش. وبقضاء الله وقدره انكسر الجيش المذكور وتغلب المماليك ، واتّهم القائد محمد علي باشا بممالأتهم ووشي به إلى الوالي ، فقصد أن يوقع به غير أن محمد علي باشا فطن لما أراد وانضم إلى المماليك حذرا منه ، وجرى بينه وبين الوالي وقعة كان هو الغالب فيها ، ووقع الوالي بقبضته. واتصل الخبر بالسلطان سليم خان فعظم عليه الأمر وأرسل علي باشا ليتولى مكان خسرو باشا ويكبت العصاة. فلما وصل إلى مصر لم تدن له المماليك بل خلعوا طاعته وقتلوه ، ثم وقع النزاع بين اثنين من رؤسائهما وكان لعسكر الأرناوط مال مكسور عند أحدهما فطالبوه به باتفاق مع محمد علي باشا وحصروه في داره عدة أيام ، ثم سنحت له فرصة هرب بها إلى الصعيد وانحلّ عزم المماليك بعده ، ولم يبق منهم إلا رئيس واحد. وكان محمد علي باشا قد استمال العلماء والرؤساء وأحبوه محبة مفرطة وأقاموه مقام الوالي على مصر ، وأرسلوا محمد خسرو باشا إلى القسطنطينية وولوا مكانه رشيد باشا ولقبوه نائب السلطنة على مصر. ولم يمض إلا قليل من الزمان حتى مات الرئيس الذي بقي من المماليك وصفا الوقت لمحمد علي باشا وتولى مصر.

ولما سمع حضرة السلطان بهذا الأمر تكدر منه جدا وأمر في الحال مصطفى باشا قبطان أن يسير إلى مصر ويسلمها إلى من بقي من المماليك بشرط أن يدفعوا للدولة في كل سنة خمسة آلاف كيس ، وأن يأمر محمد علي باشا بالتوجه إلى سلانيك. فلما وصل مصطفى باشا إلى مصر وعلم علماؤها ورؤساؤها بمراده اجتمعوا عنده وتلطفوا بتعريفه أنهم لا يرضون

__________________

(١) كذا ، والصواب : «في تلك الأثناء». ونكتفي بهذه الإشارة عن مثيلاتها في مواضع أخرى.

٢٧٤

واليا عليهم إلا محمد علي باشا. فأجابهم إلى ما طلبوا وكتب بواقعة الحال إلى الباب العالي ، وعندها صدرت الأوامر السلطانية بإقرار محمد علي باشا واليا على مصر بشروط معلومة وذلك في صفر سنة ١٢٢٠ ولما تمكنت ولايته ورسخ قدمه بدأ ببقية المماليك فأبادهم ثم شرع بإصلاح أحوال مصر وإقليمها حتى استقام له ما أراد ، وانتشرت فيها الصنائع والفنون وارتقت إلى أعلى ذروة في الكمال.

وأما سبب مسير ولده إبراهيم باشا إلى الديار الشامية : فهو أن عبد الله باشا والي عكّة لما أشهر العصيان على الدولة وأرسلت له درويش باشا وحاصره وضيق عليه ، استغاث بمحمد علي باشا فشفع له عند الدولة وخلصه من عقابها. غير أنه بعد مدة يسيرة حجد معروفه وشرع يطعن به ويذكر مثالبه ، فتكدر منه محمد باشا وكتب للدولة بعزله فلم تجبه. وعظم عليه ذلك فجهز ولده إبراهيم باشا لمحاربته فخرج من الإسكندرية في غرة جمادى الأولى سنة ١٢٤٧ وفي خمسة أيام وصل إلى حيفا وخيّم بها وسيّر باقي الجيش برا إلى عكا ، فوصلوها في عشرين تشرين الثاني سنة ١٨٣١ م وبعد بضعة أيام وصل إليها إبراهيم باشا وبنى تجاهها المتاريس وكاتب عبد الله باشا بالصلح فلم يفعل ، وحينئذ أمر إبراهيم باشا بإطلاق المدافع على أسوار عكا وذلك في رابع يوم من رجب سنة ١٢٤٧ وكتب للأمير بشير حاكم لبنان أن يحضر لمعاونته ، فامتنع أولا ثم أجاب وحضر ، فسرّ به إبراهيم باشا وأقره على حاكمية لبنان. وكان إبراهيم باشا قد أرسل أحد قواده لافتتاح بلاد الساحل فافتتحها.

ولما بلغت القضية مسامع الدولة العثمانية عظم عليها الأمر وكتبت لوالي حلب بيرقدار محمد باشا أن يجهز جيشا تحت قيادة حسين باشا لمحاربة إبراهيم باشا. فحصن حلب وجمع العساكر وتوجه إلى حمص في سبعة آلاف فارس من الأرناوود والهواري والعربان ، وصحب معه أمين النزل يوسف باشا شريف زاده ، السالف الذكر ، ودخلها وحصّن قلعتها وعسكر في نواحيها ينتظر قدوم العساكر من دار السلطنة ، وأرسل أمامه عثمان باشا مع أربعة آلاف مقاتل لمحاربة المصريين ، فسار إليهم واستولى على اللاذقية وتقدم إلى جهة طرابلس والتقى بشرذمة من العساكر المصرية وكان مقدمتهم الأمير خليل بن الأمير شهاب ، وجرت بينهم وقعة عظيمة انكشفت عن انهزام عثمان باشا. ولما بلغ إبراهيم باشا هذا الخبر وأن محمد باشا معسكر بحمص ، مشى نحوه وترك نفرا من عسكره عند عكا وقد كاد أن يفتحها ،

٢٧٥

فأدرك عثمان باشا في القصير وقد أمده محمد باشا ، فاشتبك الحرب بينهما وانجلى عن كسرة عثمان باشا والتجأ إلى حمص ، ورجع إبراهيم باشا إلى عكا وجدّ في حصارها حتى فتحها حربا في اليوم السابع والعشرين من ذي الحجة ، ثم توجه إلى دمشق فوصلها في حزيران سنة ١٢٤٨ ه‍ والتقاه واليها علي باشا الأسعد ، وجرت بينهما وقعة انكسر فيها الوالي المشار إليه وعمد إلى الفرار ودخل إبراهيم باشا البلد واستولى عليها.

وكان في هذا الأثناء وصل إلى أنطاكية حسين باشا السردار الذي عينته الدولة مع عسكر ضخم لقتال إبراهيم باشا ، وقد أرسل حسين باشا طليعة إلى حمص. وعلى بعد نصف مرحلة منها التقى الجيشان وشبت بينهما نار حرب هائلة انتهت بانتصار إبراهيم باشا ورجوع حسين باشا ومحمد باشا إلى حلب خائفين مذعورين ، فدخلاها وجمعا الأعيان والوجهاء وطلبا منهم المدد فلم يجيبوهما ، فرحلا عن حلب وقد تركا فيها أموالا وأمتعة لا تدخل تحت حصر ، فنهبت جميعها ووقع الضعف فيمن معهما من العسكر فتبعهم أهل القرى وسلبوا أكثر ما كان معهم. وأما إبراهيم باشا فإنه بعد هذا الفوز توجه إلى حلب على طريق تل السلطان ودخلها بعد خروج الوزيرين المتقدم ذكرهما دون منازع ولا معارض ، وذلك في ثامن يوم من صفر سنة ١٢٤٨ الموافق اليوم السابع عشر من تموز سنة ١٨١٢ م فبقي بها مدة ثم نهض لقتال حسين باشا السردار وتوجه إلى جهة بيلان ، وذلك في اليوم السابع والعشرين من صفر المذكور ، وكان حسين باشا قد سد طريق الجبل على إبراهيم باشا فأرسل عسكرا صعدوه من جهة كلّز وأقام هو بواد قريب من الجبل.

ولما وصلت العساكر المذكورة والتقوا بعساكر حسين باشا علقت بينهم حرب شديدة كانت عاقبتها فوز إبراهيم وإقلاع حسين باشا إلى جهة قونيه ورجوع إبراهيم باشا إلى حلب. وبعد مدة سافر منها إلى أدنة ، وكانت قد سلمت إليه فخيم فيها بعسكره. ثم وردت له أوامر أبيه بالتقدم نحو قونية فامتثلها وشخص إلى قونية. وقبل دخوله إليها أخلاها أمين رؤوف باشا الصدر الأسبق ، فاستولى عليها إبراهيم بغير منازع ولا معارض بعد أن جرى له في الطريق بعض وقائع. ثم في اليوم السابع والعشرين رجب علقت نار الحرب بين الفريقين وكان عسكر كل منهما وافرا جدا. وبعد وقعات تشيب ناصية الوليد انتهت الحال بنصر إبراهيم وأسر رشيد باشا الصدر. ولما تفاقم الأمر توسط سفير فرنسة بالصلح بين

٢٧٦

الدولة والمصريين على أن يكون لهم كريد وسورية وولاية أدنه. وعلى هذا استقر الحال ووقفت الحروب ورجع إبراهيم باشا إلى الديار الشامية.

ثم في سنة ١٢٥٥ صدر الأمر السلطاني إلى حافظ باشا أن يسير إلى سورية ويستخلصها من المصريين ، فامتثل وسافر إليها بسبعين ألف مقاتل. وسمع إبراهيم بقدومه فتقدم لملاقاته إلى «نزب» بأربعين ألف مقاتل وهناك التقى الجيشان وجرت بينهما معركة عظيمة أفضت إلى فوز إبراهيم وإنهزام حافظ باشا. وبعد هذه الواقعة خافت الدول الأجنبية سوء العاقبة وتداركت رتق هذا الفتق بإشارة الدولة العثمانية واتفقت إنكلترة والروس والنمسا وبروسة على إخراج المصريين من سوريا طوعا أو كرها ، وأن لا يتركوا لهم سوى مصر وأقطارها مع قسم صغير من الديار الشامية وعقدوا على ذلك وثائق الاتفاق فيما بينهم بمدينة لندن عاصمة إنكلترا سنة ١٨٤٠ م ثم كاتبوا الحضرة الخديوية بالتصديق على اتفاقهم فلم يقبل منهم ، وعندها أشهروا الحرب عليه وأرسلت إنكلترا عمارة بحرية إلى سواحل سوريا فاستولت على جميعها وشحنتها بالمهمات ، فضعف إبراهيم باشا عن مقاومتها وأوعز إلى عساكره بالهرب ، فاجتمعوا إليه من سائر البلاد وتوجه بهم إلى جهة مصر من طريق البر لأن إنكلترا ربطت عليه المسالك البحرية ، وقد نفذت (١) أقوات حاميته ومات منهم الكثيرون جوعا وأكلوا لحوم الخيل والبغال والحمير حتى أكارعها وأخسّ ما فيها. وفي قرب مدينة غزّة احترق بضع صناديق من البارود ، وهلك بسببها عدد غير قليل من العساكر المرضى والنساء والأطفال الذين كانوا بمعية الجيش. ويروى أن هذه الحريق كانت مفتعلة (٢) من إبراهيم ليخفف عنه الناس الذي أقلقوه بشكوى الجوع. والله أعلم.

حوادث حلب أيام إبراهيم باشا المصري

ولما دخل إبراهيم باشا إلى حلب ـ على ما تقدم ذكره ـ نزل في تكية الشيخ أبي بكر ، وبعد بضعة أيام انتقل إلى منزل بني العادلي ، فأقبل عليه قناصل الدول وأعيان البلدة يسلمون عليه ويهنّونه بالسلامة. فتلطف بهم وأعطاهم الأمان مما يخافون. وبعد بضعة

__________________

(١) الصواب «نفدت» بالدال المهملة.

(٢) كذا وردت العبارة في الأصل ، وفيها ترخص.

٢٧٧

أيام صار يقبل عليه أعيان البلاد الحلبية ويدخلون في طاعته. ثم شرع بتنظيم أمور حلب وبلادها ، وعيّن لها متسلّما أحمد أفندي ابن عبد القادر أفندي حسبي زاده ، ثم غضب عليه وضربه بالسياط فمات بعد يومين. وكان متسلما حلب ـ قبل دخول إبراهيم باشا ـ إبراهيم آغا سياف زاده ، وعين في مكان حسبي زاده عبد الله بك البابنسي. وفي سنة ١٢٤٩ رأى الحلبيون صرامته في أحكامه وشدته في انتقامه وعقوبته وشاهدوا ما يعامل به العسكري من الإهانة والشتم واللعن ، فعزموا على مناضلته. واجتمع من زعمائهم جمّ غفير ، منهم عيسى آغا وبكور آغا كعدان وأحمد بن هاشم ومحمد آغا حطب ـ وهم من بقايا زعماء اليكجرية ـ وعقدوا بينهم اتفاقا وكتبوا به ميثاقا ختموه ، سوى قليل منهم. فاتصل الخبر بإبراهيم باشا بواسطة محمد آغا حطب ، فقتل بعضهم ونفى الباقين وأمر بجمع السلاح من البلد ، فجمع منه ما لا يحصى ، وارتفع سعره حتى بيعت نصلة بندقية بثلاثمائة قرش. وفي هذه السنة أمر أيضا بجمع العسكر فثقل هذا الأمر على الناس لعدم اعتيادهم عليه وهرب منهم خلق كثير وتشتتوا في البراري ، ومنهم من مات تحت المطر والجليد وأكلتهم الوحوش ، وكانت تكبس البيوت ويؤخذ منها العسكر دون مراعاة شريف أو وضيع ، حتى إن الأولاد الصغار كانوا يؤخذون ويدخلون المكتب ويكسون بملابس الجندية.

وفي سنة ١٢٥٠ صار الشروع بتعمير الرباط الكبير المعروف بالشيخ يبرق ، الذي أسلفنا الكلام عليه في محلة الشميصاتية من الجزء الثاني ، ورباط آخر في نواحي الكلاسة شرقي مشهد الشيخ محسّن ، وغير ذلك من المباني. وكانت الفعلة والنجارون والمجصّصون يقادون للعمل في هذه المحلات بالسلاسل ويساقون بالضرب والشتم ، ويدفع لهم قليل من الأجرة ، ومنهم من لا يعطى شيئا. وكان أكثر أنقاض هذه الأبنية وحجارتها من المساجد القديمة والجوامع المهجورة والخانات المهملة. وفي ابتداء رمضان سنة ١٢٥٣ تجدد طلب العسكر واشتد التفتيش عليهم ، حتى صارت النساء يحبسن في بيوت القهوة ويضربن الضرب المبرّح ليقررن عن رجالهن. فجمع مقدار وافر وبقي بعض أفراد لم يشددوا في طلبهم رعاية لرمضان. ثم في أول يوم من عيد الفطر صدرت الأوامر بإتمام جمع من بقي من العسكر ، فذاقت الناس أمرّ من الصاب ، وانقلب عيدهم مأتما. ثم في ثالث يوم من شوال ورد العفو عن بقية الأشخاص المرتبة على البلد. وفي اليوم الثامن عشر من شوال

٢٧٨

سنة ١٢٥٤ وقع ثلج كثير سقط به مقدار نصف الشجر ، وكان معظم ذلك في إدلب وريحا وأرمناز.

وفي غرة ذي الحجة توجه الاصباهية إلى استانبول من سائر البلاد الشامية بأمر المرحوم السلطان محمود خان. وفي اليوم الثالث عشر من هذا الشهر وقع القبض والتفتيش على أولاد المسلمين ليدخلوا في النظام العسكري ، ومن لم يوجد منهم قبض على أبيه أو أمه أو زوجته وعذبوا إلى أن يحضر الرجل المطلوب. ومن هرب منهم أو أحجم عن السفر يجعل هدفا للرصاص في أرض عوّاد ، فكان لا يخلو يوم من عسكري مقتول. وقد استصفت الجندية شبّان أهل حلب وملحقاتها ، فلم يبق منهم سوى الكهول والعجزة ووقفت حركة الأشغال وعزّ القوت وتهتكت الحرائر في الحصول على ما يقيتهنّ. وفي اليوم الرابع عشر منه صدر الأمر بالعفو عن بقية المطلوبين. وفي هذه السنة كان الشتاء شديدا والأمطار غزيرة تعطّل بسببها أكثر العمران واستمرت نحو سبعة أشهر لم تنقطع إلا قليلا.

وفي غرة محرّم سنة ١٢٥٥ خرج العسكر من حلب وبلادها إلى جهة الرّها لمحاربة حافظ باشا المرسل من قبل الدولة العثمانية ، وصارت الأمتعة والميرة تنقل من حلب وغيرها إلى تلك الجهة. ثم كانت الوقعة بين الجيشين في المحل المعروف بنزب وقد مرّ خبرها. وفي ليلة الأحد ثاني عشر شعبان زرق (١) بين العشاءين نجم غلب ضوءه القمر ، واستمر شعاعه في السماء نحو عشر دقائق ثم أخذ في الذهاب نحو الجنوب. ثم في الليلة الرابعة عشر من الشهر المذكور وهي ليلة الثلاثاء رجفت الأرض رجفة قوية غير أنها لم يحصل منها ضرر. وفي سلخ رمضان سنة ١٢٥٦ ـ المصادف لليوم السابع والعشرين تشرين الأول سنة ١٨٤٠ مسيحية ـ خرج العسكر المصري من حلب وبلادها وخلت الأرض منهم. وقدم على حلب الحاج يوسف باشا شريف زاده ومعه جماعة من الجند ، فاستبشر الناس بقدومه ، ثم قدم عليها من قبل الدولة العثمانية زكريا باشا مع عسكر كثير محافظة لها إلى أن يحضر الوالي الجديد. وبعد أيام قلائل حضر واليا عليها محمد أسعد باشا وأبقى عبد الله بك متسلّما. وقبل خروج إبراهيم باشا من بلادنا أمر بإحراق بعض البيوت الكبار

__________________

(١) أي لمع فجأة وبسرعة. والكلمة بهذا المعنى عاميّة.

٢٧٩

لانحياز ذويها إلى الدولة العثمانية ، من جملتها منزل يوسف باشا شريف ، فقد احترق هذا المنزل كله وأصبح رمادا كأن لم يكن.

مجيء عسكر الأرناود إلى حلب :

وفي سنة ١٢٥٧ وفد على حلب نحو ثلاثة آلاف من عسكر الأرناود ، وكان قدومهم من بلاد أشقودرة ، وقد جاؤوا إليها بإشارة من الدولة إرهابا للحلبيين لما كانت الدولة تتخيل منهم إحداث بعض الفتن ، ومن ثم كانوا يفعلون أمورا فظيعة تدل على عتّوهم وتوحشهم ليعظموا في أعين الحلبيين ، منها أنهم كانوا يخرجون الجرذان من المراحيض ويشوونها في الأتون ويأكلونها ، وربما وضعوها في مقلاة السمك ، وكانوا يأكلون الفأر وأجراء (١) الكلاب على هذا النسق. ومنها أنهم كانوا يفعلون الفاحشة والزنى بالعجائز والشيوخ. ولما تمادى فسادهم وضجر منهم الحلبيون قاموا عليهم وحصروهم في خان البيرقدار ـ بالقرب من السوق الصغير ـ وكثر إطلاق الرصاص من الطرفين. وخاف كبراء البلد من تفاقم الحال فحضر إليهم المتسلم عبد الله بك وأمرهم بالرحيل قبل أن يفتك بهم الحلبيون ، فسمعوا مقاله وأقلعوا من حلب ليلا. وفي سنة ١٢٥٨ ولي حلب محمد وجيهي باشا. ثم في سنة ١٢٦١ وليها عثمان باشا.

غلاء شديد :

وفيها كان الغلاء شديدا ، بيع فيه شنبل الحنطة بمائة وخمسين قرشا. وكان قبل البيدر بخمسة وعشرين قرشا. وكان كلما اشتد البرد واقترب الشتاء تقلّ الأقوات من البلد حتى انعدمت ، وهاج الناس وصاروا يأكلون الحشيش والعشب. ومع شدة الغلاء في الحبوب كانت بقية المأكولات رخيصة : فكانت قيمة رطل الأرز بثلاثة قروش وربع قرش ، ورطل اللحم الخالص بسبعة قروش ونصف ، ورطل التين بقرش ومثله الزبيب ، ومائة الجوزة بثلاثين بارة. ولما اشتد الخناق بالناس ونفذت المؤنات أمر الوالي المحتكرين أن يفتحوا مخازنهم ويبيعوا ما فيها من الغلّة ففعلوا ، واشتغلت الأفران وازدحم الناس عليها وبيع رطل الخبز فيها بثلاثة قروش ونصف. وبالجملة فإن الناس قاسوا شدة عظيمة في شتاء هذه السنة

__________________

(١) الأجراء : جمع جرو ، وهو ولد الكلب.

٢٨٠