نهر الذّهب في تاريخ حلب - ج ٣

كامل البالي الحلبي [ الغزي ]

نهر الذّهب في تاريخ حلب - ج ٣

المؤلف:

كامل البالي الحلبي [ الغزي ]


المحقق: الدكتور شوقي شعث ومحمود فاخوري
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
المطبعة: مطبعة الصباح
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٤٠

فهرب منه نوري باشا ، واستقر هو في عينتاب وصفا له الوقت وسلك سنن من قبله من الظلم والعسف ، حتى أسف الناس على نوري باشا. ولما عيل صبرهم منه هجموا على ولده الذي كان بيده مقاليد أموره وقتلوه شر قتلة وتخلصوا من جوره. ولما سمع بذلك نوري باشا اغتنم الفرصة وحشد أخلاطا من التركمان وقصد عينتاب وحصرها ، وقطع طريق حلب وصار ينهب الأموال ويقتل النفوس.

واتصل خبره بالدوله فعينت درويش عبد الله بك عزت بك زاده ، فمشى نحوه بالعساكر الوفيرة واتفق في هذه البرهة أن مر بتلك الأطراف ككى عبدي باشا قائد الجيش السلطاني وكان معزولا من مصر ، فدخل عليه نوري باشا واستشفع به للدولة ، فضمن له العفو بشرط أن يكون بمعيته. وكان عبد باشا متوجها إلى ديار بكر فتوجه نوري باشا معه وأقام بها إلى أن توفي عبدي باشا. وعندها خرج نوري باشا من ديار بكر وعاد إلى فساده وقصد عينتاب ، واتفق مع زمرة السادات واستولى على اليكجرية وأحرق دورهم ونهب أموالهم ، ثم حصن القلعة وأقام بها كالمتحصن لأنه خاف عاقبة فعله ، إلى أن كتبت الدولة إلى كور مصطفى باشا بالمسير عليه في السنة المتقدم ذكرها ، فتوجه نحوه وحاصره في القلعة خمسة أشهر إلى أن ظفر به وقتله مع جماعة من حاشيته وقطع رؤوسهم وأرسلها إلى حلب ومنها إلى استانبول. وفي أواخر هذه السنة ولي حلب عثمان باشا. وفي سنة ١٢٠٧ وقع في حلب قحط وغلاء.

صلح اليكجرية مع أهل حلب :

وفي سنة ١٢٠٨ ولي حلب عبد الله باشا عظم زاده ، وكانت شرور اليكجرية فيها قد عظمت ، واستبدوا بالأمور حتى لم يبق للوالي حكم نافذ وكان ضعيفا. فولت الدولة حلب سليمان فيضي باشا وشرطت عليه إصلاح البلد من غير إقامة حرب. فحضر إلى حلب وأحضر إليه كبراء اليكجرية وتلطف بهم وعاهدوه على الراحة والسكون ونذر عليهم نذورا ثقيلة لأهل حلب إن نكثوا العهد ، فلم يمض غير أيام قلائل إلا ونبذوا العهود وهجموا بلا سبب ظاهر على محمد أفندي غوري زاده وشتموه وضربوه ضربا مبرحا ، وعادوا إلى ما كانوا عليه ومدوا أيديهم للأرزاق الواردة إلى حلب من خارجها ، فخافهم الوالي وخرج إلى ظاهر حلب بوسيلة أنه يريد تبديل الهواء ، ثم أرسل إليهم رجلا من خاصته ذا نجدة

٢٤١

وشجاعة ورفقه بمباشر من زعماء اليكجرية وطلب منهم النذور التي نذروها أو يوقع بهم ، وكتب إلى الدولة واقعة الحال. ثم في أواسط هذه السنة وقع الصلح وتمت الألفة بين أهل حلب واليكجرية.

تخفيض عدد تراجمة قناصل الدول الأجنبية :

وفي هذه السنة أيضا كتب سليمان فيضي باشا إلى الدولة أن قد بلغ عدد تراجمي القناصل في حلب نحو ألف وخمسمائة رجل. والسبب في ذلك أن الدولة سمحت لكل سفير في استانبول ، ولكل قنصل خارجها ، بشخص وترجمان استثنته من جميع التكاليف الأميرية. فانفتح بسبب ذلك باب لمن أراد الدخول في الترجمانية ، حتى بلغ عدد من كان يلبس قلانس السّمّور (١) ألفا وخمسمائة ، دخلوا بالخدعة والحيلة وامتنعوا عن دفع التكاليف الأميرية وكانوا تجارا ، فعينت الدولة للفحص عنهم رجلا يقال له كسبي أفندي ، فحضر إلى حلب وأحضرهم جميعا وراجع أسماءهم في سجل الترجمة فلم يظهر له غير ستة بحقّ ، فحذف ما عداهم وأرسلهم لاستانبول للمجازاة بعد أن دفعوا له وللكمرجي ولمحصّل الأموال خمسة آلاف ذهب ، وللوالي مثلها. فلم يقبلوها. وفي هذه السنة كانت وفاة سليمان فيضي باشا.

ولم أقف على من ولي حلب بعده إلى سنة ١٢١١ وفيها وليها شريف باشا والي مرعش. ثم في أواخرها وليها حقي باشا والي روم إيلي ، فتحرك من مكانه إلى حلب وعبر في طريقه من معبر كليبولي. ولما قارب قرية سكود أفسد أتباعه وحاشيته الكثيرة مزروعات تلك القرية وأضروا ضررا فاحشا. فابتدر الناس هناك مدافعتهم بالتي هي أحسن فكرّ أتباع الوالي عليهم وأوسعوهم جراحا وقتلوا منهم عدة أشخاص. وعندها رفعوا أمرهم للدولة فأصغت إليهم وغضبت على حقي باشا ومحت اسمه من الوزارة ، ونفي إلى جزيرة استانكوي. وولي حلب مكانه في أوائل سنة ١٢١٢ حسن باشا محافظ بندر. وبعد بضعة أشهر وليها درويش مصطفى باشا والي الروم إيلي.

__________________

(١) السمّور : حيوان لاحم مفترس ، يتخذ من جلده فرو ثمين.

٢٤٢

واقعة جامع الأطروش :

في رمضان هذه السنة عظمت الفتنة بين السادات واليكجرية في حلب ، وجرى بينهما منازعة وقتال ، وتغلّب اليكجرية على السادات فالتجؤوا إلى جامع الأطروش وحاصروا فيه ، ومنع اليكجرية وصول الماء والقوت إليهم وشددوا عليهم الحصار ، ونفذت (١) أقواتهم وعيل صبرهم وأشرفوا على الهلاك من الجوع والعطش ، فاستأمنوا اليكجرية فأمّنوهم على أنفسهم وحلفوا لهم الأيمان المغلظة على ذلك. فوثق السادات منهم وفتحوا أبواب الجامع فما كان إلا أن هجم اليكجرية عليهم وفتكوا بهم قتلا وجرحا وسلبا وسبيا ، والسادات يستجيرون بهم ويستغيثون بالنبي وآله فلا يلتفتون إليهم. وكانوا يقتلون السادات على أنحاء شتى : فمنهم من يقتلونه نحرا في عنقه ، ومنهم من يبقرون بطنه ، ومنهم من يفلقون بالسيف هامته ، ومنهم من يذبحونه من قفاه أو من عنقه ، ومنهم من يطرحونه في البئر أو في حفيرة حيا. وكان السيد يستغيث بشربة من الماء قبل أن يقتلوه ، فلا يغيثوه بل يقتلوه (٢) ظمآن. ومن الغريب أن يكجريا ظفر بأخيه السيد وأراد أن يقتله فاستغاث بشربة ماء قبل القتل ، فبال في فمه وقتله.

جرى ذلك والوالي غائب عن حلب لمحاربة بعض الخوارج على الدولة. ولما اتصل الخبر بالدولة ولّت حلب شريف باشا والي مرعش ـ وهذه الولاية الثانية ـ فأسرع الكرّة إلى حلب وتدارك الحال وأطفأ نار الفتنة. وقد نظم شعراء العصر في هذه الوقعة عدة قصائد نعوا فيها السادات وهجوا اليكجرية. فمّما قاله الشيخ محمد وفا الرفاعي ـ من قصيدة ـ قوله :

كلّ المصائب قد تسلى نوائبها

إلا التي ليس عنها الدهر سلوان

هي المصيبة في آل الرسول فكم

سرى بأخبارها في الناس ركبان

من آل بيت رسول الله شرذمة

من النوابغ أحداث وشبان

آووا لبعض بيوت الله من فرق

من العدو ، وللأعداء عدوان

فجاء قوم من الفجّار تقصدهم

فآمنوهم ، ولكن عهدهم خانوا

__________________

(١) كذا ، والصواب «نفدت» بالدال المهملة.

(٢) الصواب إثبات نون الأفعال الخمسة في : «يغيثونه ، يقتلونه» لأنهما معطوفان على الفعل المرفوع «يستغيث».

٢٤٣

وحالفوهم على فوز بأنفسهم

لكنهم ما لهم عهد وأيمان

وكيف صحّ قديما عهد طائفة

ضلّت وليس لهم في القلب إيمان

سلّوا عليهم سيوف البغي واقتحموا

كما تهجّم جبّار وشيطان

وباشروا قتلهم بما بدا لهم

فبعضهم ذابح ، والبعض طعّان

أو باقر لبطون أو ممثّل أو

ضرّاب سيف وفتّاك وفتان

أو مقتف إثر مهزوم ليقتله

وقلبه لدماء الآل ظمآن

أو خائض بدماء القوم مفتخر

بالسيف مستولع بالهتك ولهان

أو كاسر عظم مقتول وقاذفه

كما تكسّر أصنام وأوثان

وكل هذا وآل البيت ما رفعت

لهم عليهم يد والربّ ديّان

إن يستجيروا بجاه المصطفى شتموا

أو بالصحابة سبّوا البيت ، لا كانوا

أو يستغيثوا يغاثوا من دمائهم

أو يستقيلوا الردى فالقلب صوّان

فلو سمعت عويل القوم من بعد

إذ يستغيثوا لهدّت منك أركان

يا ربّ والدة كبّت على ولد

فمزقوه ، وما رقّوا وما لانوا

يا ربّ أرملة ريعت بصاحبها

وحولها منه أيتام وصبيان

وهي طويلة. وقال محمد أفندي الخسرفّي في هذه الواقعة أيضا من قصيدة :

أهكذا تفعل الإسلام في نفر

المصطفى حبّهم من قبل ما كانوا (١)

سلّوا عليهم سيوف الكيد وابتدروا

سلبا وقتلا ، وما دانوا وما لانوا

ما ذا التباغض للأشراف مع حسد؟

هل جاءكم فيه قبل الآن قرآن؟

هل عندكم أنّ خير الخلق سامحكم

أم عند ربّكم في ذاك غفران؟

هدرتمو دم أبناء الرسول فهل

فرعون أوصاكم فيه وهامان؟

ومن دنا منكم لا عفو عندكم

إذا قدرتم ، ألا دنتم كما دانوا؟

يتّمتمو كلّ طفل لا لسان له

كأن والده للهول نشآن

وكم مخدرة للوجه حاسرة

يهتز من نوحها للعرش أركان

يزيد أوصاكم في ذاك يا سفل

بموت نسل نبيّ ، وهو ظمآن (٣)

__________________

(١) يريد بالإسلام هنا : المسلمين. والحبّ ، بكسر الحاء : المحبوب.

(٢) في الأصل : «النبيّ» فصححناها إلى «نبيّ» ليستقيم الوزن.

٢٤٤

وقال بعضهم في هذه الحادثة أيضا :

يا مصطفى إن القلوب منغّصه

لبنيك في الشهباء حلّت منقصه

في جامع الأطروش سال نجيعهم

فغدت به أرجاؤه متقمّصه

أدرك فجسم الدين أنهكه الضّنى

وكوى بني السادات ابن الحمّصه

أقبل وقل للحربليّ : الحرب لي

فأذق إلهي ذي العصابة مخمصه

أبدت إلى الأشراف شرّ خيانة

وغدت إلى داعي الضلالة مخلصه

عهدت إليهم بالأمان وأصبحت

أعلامها بيد الخداع منكّصه

يا سينها في النازعات أحلّه ال

مولى وعمّهم العذاب وخصّصه

أدماء أعداء الإله ثمينة

ودماء أبناء الرسول مرخّصه؟

فلأنت أولى بالجميع ، وهذه

شكواهم رفعت إليك ملخّصه

سفر المتطوعة من حلب إلى مصر لإخراج الفرنسيين منها :

في غرة جمادى الأولى سنة ١٢١٤ سافر سبعة آلاف فارس من يكجرية حلب مع أحد زعمائهم أحمد آغا حمّصة ، وكان معهم اللواء الكبير ، وتوجهوا إلى مصر لإخراج طائفة الفرنسيس منها. وفي غرة جمادى الأولى سنة ١٢١٥ سافر إبراهيم باشا قطاراغاسي ـ من عظماء رجال الدولة الحلبيين ـ إلى مصر لمحاربة الطائفة المذكورة ، وخرج معه متطوعا نقيب الأشراف محمد قدسي أفندي ، ومعه من الأشراف نحو أربعة آلاف رجل.

ثم في شهر ربيع الأول سنة ١٢١٦ زينت حلب سبعة أيام لرجوع مصر ليد الدولة العثمانية. وفي جمادى الثانية منها عاد إلى حلب قدسي أفندي ومعه الأشراف فزينت لقدومهم أيضا. وفي ذي القعدة منها ـ المصادف الليلة الخامسة عشرة من آذار ـ حدث بحلب زلزلة أخربت عدة أماكن من جملتها ست حجرات من خان اللبن. وفي الخامس والعشرين ذي الحجة منها المصادف اليوم السادس عشر من نيسان وصل إلى حلب إبراهيم باشا قطاراغاسي قافلا من مصر ، وبعد برهة ولي حلب. وغلط في السالنامة إذ جعل ولايته حلب في سنة ١٢١٤ وفيها عمرت منارة جامع العدلية ، وكانت هدمتها عاصفة خرجت في هذه السنة وهدمت معها عدة أبنية.

٢٤٥

إصلاح ذات البين بين اليكجرية والسادات :

وفي غرة محرم سنة ١٢١٧ قدم حلب يوسف باشا الوزير لحسم الفساد بين اليكجرية والسادات وكان كل منهما حنقا على الآخر. فأحضر الباشا المذكور وجهاء الأشراف وسردار حلب عبد الرحمن آغا التل ارفادي وأولاد الجانبلات وخطباء الجوامع والأعيان وإبراهيم باشا الوالي وأغوات اليكجرية ، وأخذ من الطرفين عهودا ومواثيق على استمرار الصلح والسكون بينهم ، ونذر على الأشراف ثلاثمائة كيس ومثلها على اليكجرية أن يدفعوها للحكومة إن ابتدأ أحدهم بما يخلّ بالراحة العمومية ، وأخذ من الفريقين صكوكا على ذلك. وفي محرّمها أيضا صدر أمر الدولة لوالي حلب أن ينفي ثلاثة وأربعين شخصا من زعماء اليكجرية ، وأن يضبط منهم القلعة ويضع فيها مكانهم جماعة من الأرناوود ففعل.

وفي سنة ١٢١٨ ولي إبراهيم باشا قطاراغاسي إمارة الحاج مع إيالة دمشق وطرابلس ، وولى ولده محمد بك حلب مع رتبة الوزارة. وفي محرّم سنة ١٢١٩ خرج إبراهيم باشا من حلب متوجها إلى دمشق لمباشرة وظيفته ، وترك ولده محمد باشا واليا في حلب. وبعد ثلاثة أيام من خروجه قام الحلبيون وأشهروا العصيان على الوالي وأخرجوه من حلب. وكانت الدولة في ذلك الوقت مرتبكة جدا لا يمكنها أن تسوق عسكرا لحلب ولا أن توافق الحلبيين على عزل الوالي الذي رفضوه صونا لشرفها. فرأت الأوفق بالحال أن ترسل من استانبول مباشرا خاصا (١) لصلاح ذات البين ، وكتبت بمساعدته إلى أحد بني الجابري. وفي سنة ١٢٢٠ ولي حلب علاء الدين باشا وهو الذي أحدث مدافع رمضان والعيدين. وفي سنة ١٢٢١ ولي حلب عثمان باشا ابن أحمد باشا الحلبي ، وولي معها محافظة الحرمين الشريفين. غير أن حلب في ذلك الوقت كانت أحوالها مضطربة والفتن قائمة فيها على ساق وقدم ، بحيث كانت النفقات اللازمة لإدارة الوالي يعسر عليه استحصالها ، فضلا عن استحصال النفقات اللازمة لمحافظة الحرمين الشريفين اللذين كانا تحت خطر الوهابية ومهاجماتهم ، ولذا سلخت عنه محافظة الحرمين وبقي واليا على حلب فقط.

وفي ثامن شوال سنة ١٢٢٣ ولي حلب يوسف ضيا باشا الصدر الأسبق. ثم في أواسط سنة ١٢٢٤ جاءه ختم الصدارة ـ وكان في جهة ملاطية ـ لردع بعض عشائر

__________________

(١) أي مبعوثا خاصا ، كما يقال اليوم.

٢٤٦

الأكراد ، وكانت الدولة في ارتباك عظيم ، داخلا من اليكجرية وخارجا من جهة روسية. فأراد أن يستعفي من الصدارة لخطر موقعها إلا أنه خاف غضب السلطان فقبلها وسافر إلى استانبول. وفي الخامس من جمادى الأولى عيّن لولاية حلب ـ التي لم تزل بعهدته ـ سروري باشا مع رتبة الوزارة. وفي سنة ١٢٢٦ ولي حلب راغب باشا. وفي سنة ١٢٢٧ أنهى راغب باشا إلى الدولة بوجوب قتل أبي براق محمد باشا ، وكان منفيا بحلب.

فصدر الأمر السلطاني بقتله فقتل. وسبب ذلك أنه أثار بعض الناس لإيقاع فتنة أملا أن يحصل على غرض يريده فلم ينجح.

ولاية محمد جلال الدين باشا ابن جوبان حلب ، وما كان في أيام ولايته من الحوادث :

في سنة ١٢٢٨ ولي حلب محمد جلال الدين باشا المعروف بابن جوبان. فوصل إلى حلب في اليوم السادس من رجب الفرد من هذه السنة ، وكان اليكجرية في هيجان عظيم وقد طغوا وبغوا واستكبروا وعتوا على أن حالتهم هذه في حلب وغيرها من البلاد العثمانية منذ مئات من السنين كما ستقف عليه في الإجمال الذي نثبته في اليكجرية سنة ١٢٤١ وكانوا لعظمة سطوتهم وقوة عارضتهم يخيفون الولاة فكان معظم ولاة حلب ينزلون خارج البلدة ، إما في تكية الشيخ أبي بكر أو في غيرها ، خوفا من مهاجمات اليكجرية. ولهذا نزل محمد جلال الدين باشا حين قدومه إلى حلب في التكية المذكورة أسوة بالولاة السابقين.

كان اليكجرية يسمعون بهذا الوالي ويعرفون ما عنده من الشدة والصرامة على اليكجرية. فلما بلغهم خبر تعيينه واليا على حلب أخفوا ما كان عندهم من الحلي والأمتعة الثمينة عند التجار الأجانب وقناصل اليهود ، فإن هذا الوالي كبقية الولاة أمثاله اعتادوا في معاقبة اليكجرية مصادرة الأغنياء منهم بالتعذيب ثم بالقتل. ولما وصل جلال الدين إلى حلب طاف في شوارعها ومعه الجلّاد وقطع رؤوس خمسة من اليكجرية إرهابا للنفوس. ثم أظهر الاطمئنان وأقبل على الصيد والنزهة ، وكان في صحبته رجل ذو حيلة ودهاء هو عنده كتخداه (١) فحسّن له قمع هؤلاء اليكجرية بإعمال الحيلة والخدعة بمباشرة الحرب

__________________

(١) كتخدا : لفظة فارسية أخذها عنهم الأتراك ، ومعناها معتمد الوالي ومدير أشغاله.

٢٤٧

والضرب. فعمل الوالي برأيه واختار واحدا من وجهاء اليكجرية ودعاه إليه بالرفق واللطف ـ وهو إبراهيم آغا ابن خلاص ـ وجعل كلما حضر عنده يكرمه ويتودد إليه ويدنيه من مجلسه ويعده بما يسرّه. وما زال يعامله هذه المعاملة الحبيّة حتى تأكد أن إبراهيم آغا أيقن أن محبة الوالي إياه محبة صادقة لا يشوبها غش ولا يشينها تدليس. وحينئذ عمل الوالي وليمة في تكية الشيخ أبي بكر دعا إليها بواسطة إبراهيم آغا ثمانية عشر شخصا من كبراء اليكجرية وزعمائهم ، وصار كلما حضر واحد منهم يدخل إلى التكية على انفراده ويقطع رأسه ويوضع على طرف الحوض حتى أبادهم جميعا. وكان من جملتهم صفيّه وحبيبه إبراهيم آغا ابن خلاص.

ويحكى أن أحد المقتولين في هذه الوليمة الدموية كان ينصح إبراهيم آغا ويحذره من غدر الوالي ، ويذكر له أن ما يراه منه من التودد والمحبة هو محض خداع وتغرير ، فكان إبراهيم لا يلتفت إلى كلامه ويقول له : إن حضرة الوالي يحبني محبة خالصة. فلما كان يوم تلك الوليمة المشؤومة كان آخر من أدخل للتكية وقدم للقتل ذلك الناصح النبيه. وكان إبراهيم آغا واقفا بين يدي الوالي فأقبل ناصحه على الوالي وقبّل الأرض بين يديه وسأله : هل في نيتك قتل هذا الحمار؟ وأشار إلى إبراهيم آغا ، فأجابه الوالي بقوله (هاي هاي) أي نعم نعم ، فقال له : أرجوك أن تقتله قبلي حتى أرى رأسه بين هذه الرءوس فيطيب طعم الموت عندي ثم تقتلني. فأمر الوالي بقطع رأس إبراهيم آغا فقطع ووضع على طرف الحوض ، وحينئذ تقدم الناصح المذكور إلى الجلاد وقال له : الآن طاب الموت. ولوى عنقه فضربه. وكان آخر قتلاء هذه الضيافة الحافلة. ثم إن الوالي جعل يتتبع زعماء هذه الطائفة ويقتلهم بعد أن يصادر أموالهم بالتعذيب القاسي ، حتى استقصى أكثرهم.

عزل قاضي حلب :

وفي أوائل جمادى الأولى من هذه السنة وهي سنة ١٢٢٨ عزل قاضي حلب عزّت زاده دلى أمين أفندي. وسبب ذلك أنه كان يعامل أشراف البلدة ووجهاءها معاملة العامة ، وربما عامل الوالي على هذا النمط. وكان الوالي يتحمله تكريما لعلمه وفضله ويصبر عليه لانقضاء مدته العرفية. لكنه لما كان في بعض الأيام نهر القاضي بالمفتي ووكزه في رأسه

٢٤٨

فسبّب فعله هذا لغطا بين الناس ، فخاف الوالي من حدوث فتنة بين العلماء فأنهى به إلى الدولة فعزلته ونفته إلى طوسية.

طاعون جارف :

في ربيع الآخر سنة ١٢٢٩ حصل في حلب طاعون جارف بلغت وفياته اليومية ثمانمائة إلى الألف من المسلمين ، وأربعين إلى الستين من النصارى ، وعشرين إلى ثلاثين من اليهود.

خروج مناد من قبل الحكومة :

وفيها خرج من قبل الحكومة مناد طاف في محلات حلب وهو ينادي بقوله : (يا أهل هذه المحلة إذا كان في محلتكم يكجري ولم تخبروا عنه فجزاؤكم خمسمائة كيس). الكيس اسم لخمسمائة قرش.

ورود أمر سلطاني بقتل جماعة من زعماء اليكجرية :

وفيها ورد أمر سلطاني بقتل حسن آغا السيد خلاص ، والحاج علي آغا البيلماني ، والحاج محمد بن إبراهيم اشبيب ، فقتلوا وبيعت أملاكهم بواسطة مأمور خصوصي ورد من الآستانة يقال له إبراهيم آغا سلحشور في الباب العالي. والحاج محمد المذكور هو والد محمد آغا بازو الذي من جملة أولاده الأحياء السيد محمد بازو أحد وجهاء محلة الجبيلة الآن.

وفي هذه السنة قتل أيضا أحمد آغا ابن عبد القادر حمّصة وإبراهيم آغا الحربلي ـ كلاهما من زعماء اليكجرية ـ والحاج عمر بن عيسى الجربان من شجعانهم ، وبعد قتلهم بيعت أملاكهم.

أمر النصارى بالغيار :

وفي ثلاثين من ربيع الأول أمرت الحكومة النصارى أن يعتموا بعمائم سماوية اللون ، وأن يلبسوا بأرجلهم النعال الحمر. وسبب ذلك أن كثيرين منهم كانوا يتزيّون بزيّ اليكجرية ليتسنى لهم التسلط على الناس كاليكجرية.

٢٤٩

تأديب حيدر آغا مرسل ، وغيره من الخوارج :

وفي سنة ١٢٣١ صدرت أوامر الدولة بتأديب حيدر آغا مرسل ، وطوبال علي ، وسعيد آغا ، وعمر آغا ابن عمو وغيرهم من الخوارج في بلاد البستان. ولما ساق نحوهم العسكر جلال الدين باشا والي حلب خام عن لقائه حيدر آغا وهرب إلى الرقة ووقع دخيلا عند عربانها. وأما طوبال علي آغا وسعيد آغا فإنهما فرّا إلى جهة الزور وقطعا طريق حلب ، فاضطر جلال الدين باشا أن يخرج العسكر إلى أطراف البرية ، غير أن طوبال وسعيد (١) تغيرت أفكارهما وتوجها مع الحجاج إلى المدينة المنورة واستغاثا بشيخ الحرم قاسم آغا ، فرقّ لهما ووعدهما بالشفاعة عند الدولة ، ثم استرحم من السلطنة العفو عنهما فأجيب إلى ما طلب بشرط أن يقيما في مصر ، وفي خلال هذه السنة ولي حلب السيد أحمد باشا والي الأناطول وولي مكانه جلال الدين باشا.

وفي سنة ١٢٣٢ كثر فساد الأعراب في جوار حلب وجهات ريحا وأنطاكية ، وكان الأمير مهنّا البدوي هو الزعيم الأكبر على الأعراب ، وقد فرض على كل داخل إلى أرضه مبلغا من النقود ، وضرب على القرى المجاورة مضاربه جريمة سماها «الأخوّة» فكانت سببا لخراب عدة قرى وجلاء أهلها عنها. وتفاقم أمر هؤلاء الأعراب وتعطلت السبل وفقد الأمن. وذكر في الجزء الخامس من المجلد العاشر من محلة الجامعة الأميركية أن علي آغا رستم قتل ابن عمه واستولى على جسر الشغر واللاذقية ، وصادر أغنياءهما حتى قنصلي بريطانيا وفرنسا. وكان اليكجرية في حلب مع هذه الحالة في قيام ومخالفة على الوالي.

وفي صفرها صدر أمر الدولة لوالي حلب السيد أحمد باشا أن يقصد الأعراب في الصحراء ويوقع بهم ، وأنفذ إليهم كتخداه عثمان آغا ورفقه بمقدار وافر من العساكر ، وكان العربان على ثمان عشرة ساعة عن حلب ، فوصل إليهم وكسرهم وظفر منهم بأربعة وثلاثين شخصا قطع رؤوسهم وجهزها إلى استانبول. فسرت الدولة من ذلك وأرسلت لوالي حلب تشكّرا واستقلالا بولايته. وفيها أيضا ثارت عشيرة براق وهجموا على أطراف كلّز ، فساق إليهم والي حلب وقاتلهم وظفر منهم ببضعة أشخاص قطع رؤوسهم وأرسلها لاستانبول. وفيها قدم نفر من يكجرية إدلب وقطعوا الطريق من جهة خان طومان ، فظفر

__________________

(١) كذا ، والصواب «سعيدا» بتنوين النصب.

٢٥٠

الوالي بهم وأرسلت منهم أربعة رؤوس إلى استانبول. وفي اليوم السابع من تشرين الثاني سنة ١٨١٦ م مسيحية ـ المصادفة هذه السنة ـ كسفت الشمس وقت الاستواء وبقيت مكسوفة نحو ساعتين وأظلم الأفق وظهر نجم الزهرة.

ولاية خورشيد باشا على حلب :

وفي اليوم الثاني والعشرين من ربيع الثاني سنة ١٢٢٣ ولي حلب خورشيد باشا. وفي سنة ١٢٢٤ ه‍ / ١٨١٨ م قتلت الحكومة ١٧ شخصا من الروم الكاثوليك ، وسريانيا ، ومورانيا (١). والسبب في ذلك أن الروم القديم كان لهم بحلب مطران هو المعترف به عند الدولة بالسيادة على جميع الروم القديم والكاثوليك ، أسوة أمثاله من قديم الزمان ، وكانت طغمة كهنوت الروم الكاثوليك تأنف من سيادته وتنقاد إليه انقياد مكره ، وكانت كنيسة الملّتين في حلب واحدة.

فلما كانت السنة المذكورة استحصل المذكور من الدولة أمرا بنفي جميع كهنة الروم الكاثوليك إهانة لهم ، وعندها امتعط (٢) منه جميع طائفة الكاثوليك واحتشدوا ، وكانوا زهاء سبعة آلاف شخص وهم أكثر عددا من طائفة الروم القديم. ثم ساروا يريدون الإيقاع بالمطران المذكور ، ثم بدا لهم أن يحضروه إلى الوالي ويلتمسوا منه كفّ سلطته عليهم استنادا على أنه لا إكراه في الدين. وكان نمي الخبر إلى الوالي وهو في تكية الشيخ أبي بكر ، فلما رأى جموع الكاثوليك مقبلين عليه إقبال هجوم وتألّب أمر أن يفرق جمعهم ويقتل منهم بعض أفراد تسكينا للفتنة. فنفذ أمره وفرق جمعهم وقتل منهم الأفراد المذكورون. وبقيت سيادة مطارنة الروم على عموم الروم إلى أن دخل المصريون حلب فأفردوا لكل طائفة مطرانا وكنيسة. وبعدهم حذت الدولة العثمانية حذوهم واستمر الحال على هذا المنوال إلى يومنا هذا. هذه الحادثة مذكورة في كتاب عناية الرحمن مفصّلة فلتراجع.

حصار حلب المعروف بحصار خورشيد :

ألمعنا ـ فيما تقدم قريبا ـ عن حادثة قتل اليكجرية وتشتتهم في البلاد عن يد محمد

__________________

(١) يعني مارونيا ، على القلب.

(٢) كذا وردت في طبعة المؤلف نفسه ، والصواب «امتعض» بالضاد ، أي غضب وتألم.

٢٥١

جلال باشا جبار زاده ، وأن حلب من ذلك اليوم أخذت بالسكون والراحة غير أنه لم يمض على تلك الحادثة زمن يسير إلا وقد اعتصب في حلب زمرة من السادات وأخذوا يدأبون بإخلال الراحة وانضباط البلد ، ثم سولت لهم أنفسهم أن يقوموا على الحكومة ويخلعوا طاعتها. واستعدوا للقيام وكاتبوا جماعة اليكجرية الذين كانوا مشتتين في البلاد هربا من جبار زاده ، فحضروا خفية ولازموا البيوت سرا ، وقوي بهم حزب السادات وزادوا استعدادا وصاروا يتوقعون أدنى باعث للثورة.

فاتفق أن حاشية الوالي خورشيد كانت من أعظم الأسباب التي عجّلت قيام الثائرين ، المترقبين أدنى فرصة تسنح لهم. وذلك أن الوالي المشار إليه كان على جانب عظيم من الصلاح والدين ، وبالعكس حاشيته وجماعة دائرته فكان إمامه لا ينفك عن السكر إلا قليلا ، وأما كتخداه سليمان بك فإنه يتناول المسكرات ليلا ونهارا وكثيرا ما كان يرى كالمجنون عند المساء لكثرة ما يشرب ، فلربما كان يغضب على بعض أتباعه فيضربه بالبلطة أو بالخنجر في أي محل وقع الضرب ، وكان يدور في شوارع حلب على هذه الحالة إلى نصف الليل. وغضب مرة على رئيس ساسة الدواب وهدده بالضرب والقتل فخاف بقية السّاسة من شرّه وعولوا على الفرار وكان في الإصطبل عدد وافر من الخيول والبغال فعمد إليها سليمان بك وقطع مقادوها وقيودها واستنفرها إلى خارج الإصطبل فحصل بسببها غلغلة عظيمة في أسواق حلب. فهذه حالة الكتخدا ، وأما بقية رجال الدائرة فإنهم كانوا على أشد انهماك من الفسق والارتشاء ، وكان خورشيد باشا ليس عنده خبرهم بل كان يحسن ظنه بجميعهم.

كانت هذه الأحوال تزيد من الحاشية يوما فيوما والحلبيون المتعصبون في دينهم يزدادون نفورا إلى أن ثاروا بغتة في إحدى الليالي من محرّم سنة ١٢٣٥ وكان الوالي في أطراف نهر الساجور يعاني مكاشفته لجرّه إلى نهر قويق ، ومشوا نحو منزل الكتخدا المدكور فكبسوه وقتلوه ، ثم انتقلوا منه إلى غيره من جماعة الدائرة المنهكمين في المعاصي وأعدموهم عن آخرهم ، ثم التفتوا نحو عسكر الوالي وبغتوهم بالقتل. حتى إني رأيت في بعض المجاميع أن جملة من قتلوا من حاشية الوالي وأتباعه في تلك الليلة سبعة آلاف نسمة ، وهو مبالغة فيما أظن. ثم إن هؤلاء الثائرين كبسوا بيت الإمام المتقدم ذكره فأخذوه مع جميع ما كان عنده من آلات اللهو واللعب وأدوات الفسق والفجور ، وجاؤوا به إلى المحكمة الشرعية كأنه مشهّر ، ونادوا القاضي قائلين وهم يشيرون إلى الإمام : يكفي أن تعلم بحالته استانبول

٢٥٢

فقط. فتلطف بهم القاضي واستعمل أنواع الحيل والمداهنة ودفع عنه هذه الجمهرة ، ثم أحضر إليه جماعة من العلماء وذوي الوجاهة وسار معهم إلى خورشيد باشا في تكية الشيخ أبي بكر وأثبتوا لديه رضاهم ومزيد صداقتهم.

وكان خبر الحادثة نمي إليه (١) وعاد من سفره فابتدر في الحال قطع القناة عن حلب ومنع عنها دخول الميرة والأقوات ، وشدد حصارها وكتب إلى المتسلّمين بأطراف حلب فأحضرهم مع عساكرهم وأطار المكاتيب لاسترجاع عسكر كان أرسله قبل بضعة أيام لجهة ديار بكر ، وكتب لوالي سلانيك أن يرسل له ألفي عسكري موظف تخرج من ميناء اللاذقية. وحرّر واقعة الحال يعلم بها استانبول. فوصلت مكاتيبه إليها في اليوم الثامن عشر من محرّم. وبينهما كانت الدولة مشغولة بإطفاء نار الفتنة المشتعلة في ديار بكر في تلك الأيام إذ ورد إليها خبر حلب أيضا ، فوقعت في حيرة عظيمة. ثم بدا لها أن تكتب لأبي بكر باشا متصرف قيصرية أن يسرع الكرّة مع مقدار يتداركه من العسكر لإعانة والي حلب ، وكتبت إلى جلال الدين باشا جبار زاده ـ والي أطنة ـ بأن يخابر والي حلب ويعاونه حسب الإمكان ، بحيث إذا لزم حضوره بنفسه لا يتأخر. وكتبت إلى جماعة من المدفعية وأصحاب العربات الذين أرسلتهم لإخضاع أهل بغداد أن يكونوا أعوانا لوالي حلب لأنهم لم يبق لسفرهم إلى بغداد لزوم ، لرجوع السلام إليها.

أما خورشيد باشا فإنه كان وصل إليه المتسلمون الذين هم في أطرافه ـ كما تقدم ـ ثم وصل العسكر الذي أرسل لديار بكر ، ثم عسكر الجبل والأرناووط ثم جلال الدين باشا ثم لطف الله باشا والي الرقة. فاشتدت قوته وقوي عزمه ومشى بالعساكر الوفيرة لمحاربة الحلبيين ، والتقى الفريقان في محلة قسطل الحرامي خارج السور ، واشتعلت نار الحرب فلم يمض غير ساعات إلا وتقهقر الحلبيون وولوا منهزمين إلى داخل البلد ، واستمروا على تمردهم. وعندها اتفق رأي الوزراء الثلاثة على أن يدخلوا البلد جبرا ، فرتبوا جيشا عظيما للهجوم على حلب في غرة ربيع الثاني. وفي سحرة يوم منه أطلقت المدافع على أسوار المدينة من عدة جوانب ، وانفتح فيها بضع ثلمات هجم منها عسكر الجبل والأرناوط ودخلوا البلد ، والتقى الفريقان في الأزقة والشوارع وجرت بينهما محاربة مهولة أريق فيها

__________________

(١) أي إلى الوالي خورشيد.

٢٥٣

دماء كثيرة. ثم انجلت الوقعة عن كسرة الحلبيين وانهزامهم ، ودخل الوزراء الثلاثة المدينة وضبطوها بعد أن دام حصارهم أياها نحوا من أربعة أشهر. وهو آخر حصار جرى على مدينة حلب إلى يومنا هذا ، وقد ظفر الوزراء الثلاثة بسبعة من رؤساء الثائرين قطعوا رؤوسهم وجهزوها إلى استانبول مع تحرير مشترك منهم ، فوصلت إلى الباب العالي في أوائل جمادى الأولى وصارت موجبة للمسرة الزائدة وأرسل لكل واحد من الوزراء فروة سمّور ، ولخورشيد باشا خنجر مرصع.

غير أن هذه الحادثة كانت قد شاعت في استانبول وكثر بها لغط الناس ، ودار على الألسن أن سببها ظلم حاشية خورشيد باشا وفسادهم. ولذا اضطرت الدولة لكشف الحقيقة وإزالة الشبهة ، وعينت لذلك رجلا يقال له مصطفى نظيف أفندي كاملي زاده وأرسلته إلى حلب للتحقيق ، فوصل إليها بعد أن ضبطها الوزراء بيومين ، ونزل في محل قريب من تكية الشيخ أبي بكر ، وكان بينه وبين خورشيد عداوة قديمة ، فكتب للدولة أن سبب الحادثة المذكورة هو ظلم جماعة الوالي وارتكابهم الرشوة وانهماكهم في المعاصي وما في معنى ذلك. كما أن خورشيد باشا كتب للدولة بأن نظيف أفندي رجل مفسد محرك للسواكن ، له أغراض فاسدة يحاول الوصول إليها بزمرة من المفسدين الذين يترددون إليه ، وما في معناه. ولما وصل الكتابان للباب العالي رأوهما متضادين فنبذوهما ظهريا.

غريبة :

حكى شاني زاده في تاريخه ـ والعهدة عليه ـ قال : لما انتهت هذه الحادثة وصار الوالي يأمر بقتل الرجال ، قياما بواجب السياسة ، جاء أحد المأمورين في هذا الشأن إلى صالح آغا قوج متسلّم حلب من قبل الوالي وقال له : سيدي ، مساء أمس الماضي تنازع أحد الفقراء الذين يصنعون الكراسي مع واحد من عساكر الدراويش المولوية بسبب مشلح ، فحبس الفقير وعند المساء أدخل إلى محبس الدم وأصبح ميتا. وفي صبيحة هذا اليوم جاءت زوجته ومعها أربعة أيتام لباب الوالي وقدمت له عريضة تذكر فيها أنها محتاجة لعشاء ليلة فهي تسترحم أن يعطوها ما وجد على زوجها المقتول من الثياب لتبيعها وتنفقها على أيتامه.

فأخذت منها العريضة وقدّمتها للوالي ، وعندما بينت له الكيفية أسف للغاية ورقّ للمرأة ورثى لحالها وأحسن إليها بنصف كيس من الذهب.

٢٥٤

أما صالح قوج فإنه لما سمع هذه الحكاية قال : هذا شيء عجيب ، كيف يقتل هذا ظلما؟ والذين صدر الأمر بقتلهم ثلاثة أشخاص ، والمدافع التي أطلقت بإعلان قتلهم ثلاثة ، وجثث القتلى التي أصبحت مطروحة في خندق القلعة ثلاث! فإن كان هذا الرجل قتل غلطا وخطأ فإني أفحص عن الرجل الذي كان يستحق القتل وأوقع القبض عليه. مع أن هذا الظالم الماكر قتل في تلك الليلة أربعة أشخاص دون ذنب ولا جناية بدل أربعة أشخاص صدر الأمر بقتلهم ، فرشوه وخلّى سبيلهم ، وقتل عوضا عنهم من لا ذنب لهم وألقى جثثهم في خندق القلعة ، كما أخبر بذلك من كان عالما بحقيقة الحال.

انتهى ملخصا من تاريخ جودت باشا ، مع زيادة قليلة وقفت عليها في بعض المجاميع ، وقد ذكر فيها أن زعماء الثائرين في هذه الحادثة هم من السادات وأن الصلح وقع أخيرا مع اليكجرية فقط بسبب مخامرة السادات عليهم ، ولذا كان معظم من قتل في تلك الوقعة من السادات. قلت : هذه الحادثة كانت من أهم الحوادث التاريخية وأعظمها بحلب ، حتى إني رأيت في بعض الفهارس الإفرنجية الواردة من باريس أنه يوجد في حانوت صاحبها كتاب مخطوط يشتمل على زهاء ثلاثمائة صحيفة ، كله في خبر هذه الواقعة. وفي الحال كتبت في طلبه إلى باريز فرجع الجواب إليّ بأنه بيع قبل وصول كتابي.

وفي أواخر هذه السنة ١٢٣٥ حول خورشيد باشا إلى إيالة المورة ، وولي حلب مصطفى باشا البيلاني صاحب الحمّام المنسوب إليه في محلة الفرافرة تجاه مزار النسيمي بحلب ، وهو الذي جدد هذا المزار ، وزوجته ماهلقا مدفونة فيه ، وهي صاحبة السبيل الكائن في أواخر سوق العبي في حضرة المفارق الأربعة. وفي سنة ١٢٣٧ ولي حلب إبراهيم باشا.

الزلزلة الكبرى في حلب وأعمالها :

في نحو الساعة الثالثة من ليلة الأربعاء بعد العشاء الأخيرة ثامن وعشرين من شهر ذي القعدة من هذه السنة ١٢٣٧ ه‍ الموافق آب سنة ١٨٢١ م زلزلت حلب زلزالا شديدا امتد حكم سلطانه الرهيب إلى مسافات بعيدة عن حلب ، انتهت حدوده شمالا إلى مرعش ، وجنوبا إلى حمص ، وشرقا إلى الفرات ، وغربا إلى إسكندرونة. زحفت جيوشه الجرارة إلى جميع هذه البلاد وما في ضواحيها وصحاريها من البلدان والقرى. وكان أعظمها مصيبة

٢٥٥

به وأشدها نكبة وبلاء مدينة حلب ثم أنطاكية وبلاد القصير الأعلى والأسفل.

حدثني الشيخ المعمّر محمد آغا مكانسي أحد أعيان حلب ووجهائها في القرن الثاني عشر المولود سنة ١٢٠٢ والمتوفى سنة ١٣٠٩ ـ وكان دقيق الفكر حسن التعبير قوي الحافظة لا يشذّ عن ذهنه كلّي ولا جزئي من الحوادث والكوارث التي مرت عليه مدة حياته بعد طور طفوليته ـ وكنت أسمر عنده في مصيف منزله الكبير الكائن في محلة محمد بك ، في ليلة من شهر تموز طاب نسيمها وسطع بدرها. وقد سألته عن أعظم فزعة عرته في حياته ، بمناسبة حديث كان يحدثنا به عما قاساه من الأهوال والأخطار في بعض أسفاره إلى الحجاز حينما كان إسباهيا (١) يرافق ركب الحاج فقال مجيبا لي عن سؤالي : إن أعظم فزعة عرتني مدة حياتي فزعة ارتعدت لها فرائصي وأوقعتني في مهاوي اليأس من الحياة ، كانت في ليلة الزلزلة الكبرى التي حدثت في سنة كذا (وذكر الليلة التي قدمنا ذكرها).

ثم طفق يقص علينا نبأ تلك الحادثة فقال : بينما كنت جالسا في مصيف داري القديمة في ذلك الوقت أسمر مع جماعة من خلّاني وألتذ بمنادمتهم وحسن حديثهم ـ والنسيم البليل يحيينا بأنفاسه وينعشنا بلطيف هبوبه ـ إذ انقطع عنا بغتة واشتد الحر حتى شعرنا بضنك في صدورنا وضيق بأنفاسنا ، وما مرّ علينا سوى نحو عشرين دقيقة في هذه الحالة المضنكة إلا وسطع في جو الفضاء ضوء أشرقت به الدنيا إشراقها بالشمس تتجلى في ذروة الفلك الأعلى ، فرفعنا أبصارنا إلى العلاء فرأينا هذا النور الساطع صادرا من كوّة مفتوحة في كبد السماء كأنها نافذة من نوافذ جهنم ، وما كدنا نرجع أبصارنا إلى الحضيض حتى أوقر أسماعنا دويّ كهزيم الرعد ، وإذا بالأرض قد مادت بنا يمنة ويسرة والنجوم أخذت تتناثر وتتطاير في أفق السماء كشرر يتطاير من أتون. ثم انتفضت الأرض أربع مرات متوالية أزاحتنا عن مقاعدنا ، فنهضنا على أقدامنا وما منّا أحد إلا وقد أحسّ بدنو أجله كأن السماء وقعت عليه ، أو الأرض كادت تنخسف تحت قدميه. فصرنا نكرر الشهادتين ونضرع إلى الله تعالى بقولنا : يا لطيف ، والجدران تتداعى وتخرّ السقوف وتتدهده الحجارة على الأرض فيسمع لها جلبة ودويّ تقشعر منهما النفوس. كل هذا جرى في برهة من الزمن لا تزيد على نصف دقيقة وقد اشتد غواش الناس وضجيجهم يستغيثون بالله ، وعلا صراخ

__________________

(١) الإسباهي ، والصباهي : العسكري المرافق ، والخيّال.

٢٥٦

النساء وعويلهن ، وطفقت الخلائق تركض إلى الصحراء وهم يتدافعون ويتزاحمون في الشوارع والأزقة هائمين على وجوههم ، لا يلوي والد على ولد ، كلّ يهرع مهرولا إلى ساحل السلامة يطلب النجاة لنفسه حتى كأن القيامة قد قامت وآذن حبل الحياة بالانصرام ، وكان القتام شديدا حلك منه الظلام وحجب النجوم عن العيون.

أما الجماعة الذين كانوا يسمرون عندي فقد أسرعوا الكرّة إلى منازلهم ليتفقدوا أهلهم.

وأما أنا فقد كان أهلي حين وقوع هذا القضاء جالسين في صحن الدار ، وكانت الدار فسيحة وجدرانها قصيرة لم يؤثر بها الزلزال ولا انهدم منها شيء ، فجمعتهم في وسط الصحن وبتنا ليلتنا في قلق زائد ، لأن الأرض كانت في كل برهة ترتجف وتختلج ، ونحن نستغيث بالله ونتعوذ به من سخطه. فلما طلع الفجر أحضرنا جماعة من العتّالين فحمّلناهم من البيت ما يقوم بسدّ حاجاتنا من الفرش والمؤنة وخرجنا بالأهل والعيال إلى أحد بساتين الفستق التي في جوار محلتنا ، وكان الناس قد خرجوا إليها في الليل وبات أكثرهم على الأرض بلا غطاء ولا وطاء. أما بقية جهات البلدة : فمن ناسها من خرج إلى البرية في جوار محلته ، ومنهم من قصد الكروم والبساتين ثم تداركوا الخيم وبيوت الشعر. والأغنياء منهم عملوا بيوتا من الدفّ ، ومنهم الفقراء الذي ظلوا تحت السماء بلا كنّ (١) ولا ملجأ. واستمر الزلزال يتردد نحوا من أربعين يوما تارة خفيفا وأخرى شديدا.

وحين حدوث الزلزلة الأولى كان أكثر الناس على أسطحة منازلهم وفي فسحات دورهم جريا لعادتهم في موسم الصيف ، فسلم بهذه الواسطة العدد الكبير من عطب الزلزلة ، ولو لا ذلك لكان السالم منهم قليلا. ومع هذا فقد مات تحت الردم في حلب زهاء خمس عشرة (٢) ألف نسمة. وكان معظم تأثير الزلزلة في محلة اليهود والعقبة وسوق العطارين وأبراج القلعة وما اشتملت عليه من البيوت والمنازل ، وما جاور القلعة من المباني التي كانت قائمة في ذلك الفضاء المعروف باسم (تحت القلعة). قال : ومما يدل على شدة نفضات الزلزلة في أول مرة أن هلال مئذنة جامع العثمانية اندفع من محلّه وسقط على قبة القبلية فخرقها ووقع على أرض القبلية فحفرها.

__________________

(١) من الدفّ : يعني من الخشب. والكنّ : البيت ، وكلّ ما يستر.

(٢) الصواب : «خمسة عشر» لأن المعدود ـ وهو الألف ـ مذكر.

٢٥٧

كان الناس يتكبدون مشقة زائدة وهم في الصحراء والبساتين بالحصول على الأقوات التي لم يبق الباعة لها سعرا محدودا ، فإن كل واحد من باعة الخبز واللحم وغيرهما يبيع بضاعته بالثمن الذي تسنح له به الفرصة ، وكان الدعّار والمتشردون يقصدون الدور والمنازل وينهبون ما فيها من الأثاث والمؤنات ، فاضطر أهل كل محلة إلى أن يتعاونوا على إقامة حراس يحرسون أموالهم. وكانت جماعة الحكومة كالوالي والقاضي قد تركوا منازلهم وأقاموا في البرية تحت الخيام وبيوت الخشب ، وشغلهم الخوف والفزع عن القيام بمباشرة وظائفهم. فاختل نظام الحكومة وكثرت حوادث النهب والسلب.

أما جثث القتلى التي كانت تحت الردم فكان أهلها المتموّلون أخرجوهم على الفور ودفنوهم بثيابهم ، وقد استخرج البعض منهم وفيهم رمق من الحياة فعاشوا ، ومنهم من مات بعد ساعات ، واستخرج بعض من خرّت عليهم السقوف أحياء لم يصابوا بشيء من الضرر لأن بعض السقوف انهدم جدارها الواحد فقط ، فبقيت رؤوس الأخشاب الأخرى معلقة بالجدار الباقي فتكوّن منها وقاء لمن كان مقيما تحتها فسلم. أما الفقراء الذين لا مال عندهم فقد بقيت قتلاهم مدفونه تحت الردم في الخرابات الكبيرة فكانت هناك قبورهم إلى الأبد.

كانت الأرض في هذه المدة ـ وهي أربعون يوما ـ لا تنقطع حركتها ، غير قليل ، فكان الناس يحسّون من وقت إلى آخر برجفات تحت أقدامهم. وقد شاع أن قطعة كبيرة من الأرض في ناحية قرية الأثارب قد خسفت ، ولهذا كان كثير من الناس لا ينفك عنهم الفزع والقلق لأنهم قد تسلط على واهمتهم بأن الأرض ربما خسفت بهم وإن كانوا آمنين من سقوط الجدران عليهم لإقامتهم في بيوت خشبية. وكانت السنة كثيرة البقول والفواكه قد أكثر الناس من أكلها فكثرت فيهم الأمراض ، ومات منهم عدد كبير. وفي سنة ١٢٣٨ ولي حلب ثانية مصطفى باشا البيلاني. وبعد أيام حول إلى محافظة لواء صيدا وبيروت وصفد ، وولي حلب بهرام باشا والي الرقة إلحاقا.

مقتل نعمان أفندي ابن عبد الرحمن أفندي شريف :

في هذه السنة ١٢٣٨ قتل نعمان أفندي. وسبب ذلك أن بهرام باشا لما قدم على حلب واليا عليها طلب من نعمان أفندي أن يقرضه مائتي ذهب إلى حين ، فاعتذر له بضيق اليد ،

٢٥٨

وسمع بذلك أحمد بك قطاراغاسي فأسرع الحضور إلى الوالي وأعطاه المائتي ذهب ، فسر منه وقرّبه إليه وحقد على نعمان أفندي. ثم وشى واش بنعمان أفندي إلى السلطان بأنه يحاول إثارة فتنة بين الأشراف ـ وكان هو نقيبهم ـ وبين اليكجرية. فأصدر السلطان إلى بهرام أمرا باغتياله. فأرسل إليه يطلبه فامتثل الأمر وخرج من منزله قاصدا منزل الوالي وهو لا يعلم بما أضمر له. ولما وصل إلى منزل الوالي كانت الخيول واقفة بانتظاره ، فأمره الوالي بركوب أحدها موهما إياه بأنه يريد قمع بعض الفلاحين في جهات كلّز لأنهم في صدد الفتنة. فسارت الخيول بهما وبمن معهما من الجند حتى وصلوا إلى قرية تل الشعير من أعمال كلّز وهناك نزل الوالي ومن معه ـ وكان وقت الظهر قد مضى ـ فابتدر نعمان أفندي أداء فريضة الصلاة فتوضأ ووقف يصلي فما شعر إلا وقد خرط في رقبته حبل معقود ، واثنان يشدان طرفيه حتى زهقت نفسه. فتركوا جثته ملقاة في العراء ، وعاد الوالي ومن معه إلى حلب. وشاع الخبر فخرج أهل نعمان أفندي وواروا جثته هناك.

وفي خامس جمادى الأولى من هذه السنة ١٢٣٨ ولي حلب حسن باشا الدرنده لي ، والي الأناضول. وفي الثالث والعشرين من رمضان سنة ١٢٣٩ وليها محمد أمين وحيد باشا ، وهو مولود في كلّز.

لقاح الجدري البقري :

في سنة ١٢٤٠ وصل لقاح الجدري البقري إلى حلب عن يد طبيب من الفرنج المولودين في حلب اسمه منتوره ، وأصله من إيطاليا. فلم يقبل أهل حلب على هذا اللقاح كما ينبغي إلا بعد دخول إبراهيم باشا المصري إلى حلب. وأصل هذا اللقاح كان ظهوره في البلاد العثمانية من الأناضول ، اكتشف بواسطة الفلاحين الذين يقتنون البقر ويعانون حلبها. وفي سنة ١٢٤١ كان إلغاء حزب اليكجرية وانقراضهم.

نبذة في الكلام على هذه الطائفة

قال في دائرة المعارف وغيرها ما خلاصته : كانت عساكر الدولة العثمانية في بدء تأسيسها رجالا يتخذون القتال واسطة لاكتساب معايشهم ، منتقلين بجميع ما لهم من المال والعيال عند الخروج للغارات والغزوات. ثم صار إذا حاربوا أياما قليلة ولم يفوزوا

٢٥٩

بسلب تبددوا وعسر جمعهم ، فاضطرت الدولة في أيام السلطان أورخان بن عثمان إلى أن تستبدلهم بجنود لهم رواتب معلومة غير أنهم لم يمض عليهم غير سنيّات قليلة حتى تمردوا على السلطان أورخان ، وربما قاتلوه إذا حملهم على أمر لا يريدونه. فبدا له حينئذ أن يقيم عسكرا من أولاد الأسراء الروم ، وذلك بأن يفصلهم عن والديهم ويعلمهم العقائد الإسلامية ويمرّنهم على الحروب فيشبون على الغزو والجهاد. وبعد سنيّات قليلة تكوّن جيش من العسكر المذكور مؤلف من ألف رجل ما منهم إلا بطل صنديد. فأخذ السلطان أورخان ذلك الجيش إلى ولي الله الحاج بكطاش ، وطلب منه أن يسمّيه ويدعو له فوضع يده على رأس جندي منه وقال : ليكن اسمه يكجريا. ثم قطع كمّ لبادته ووضعه على رأس ذلك الجندي ودعا لهذا الجيش بالفوز والظفر. ومعنى يكجري : العسكري الجديد فحرفته العامة إلى انكشاري.

ثم لما كثرت فتوحات السلطان مراد وكثر عدد الأسراء ـ حتى بيع الأسير بكأس من البوزة (١) ـ قال بعض العلماء : إن الحكم الشرعي بإعطاء خمس الغنيمة للسلطان يتناول الأشخاص أيضا ، وإنه إذا جرى هذا الأمر يرتفع ثمن الأسراء ويزداد عدد اليكجرية بسرعة. فأعجب السلطان هذا الرأي وأمر بإجرائه. وقد جرى اصطلاحهم في ذلك الزمان على أن يقسموا أولئك الأولاد إلى أجواق يسمونهم عجم أوغلان ، أي أولاد أعجام ، ويعلمونهم القرآن الكريم ثم التمرن على الأشغال الشاقة ، ثم يدخلونهم في السلك العسكري ، وبعضهم يتخذون حرسا وأعوانا للسلطان. وينقسم هذا العسكر إلى أرط ثم إلى أوض (مفرده أوضة محرفة عن أوطاق معناه الحصن) ثم وجاقات. والأرطة مؤلفة من عشرة أشخاص. وبلغت في أيام السلطان محمد خان الرابع مئة وتسعين شخصا. ولهم قائد عام يعرف باسم آغا ، له سلطة مطلقة على وجاقه وحقّ تأديب من أذنب من عساكره ورؤسائه بالحبس والضرب دون معارض.

وكان راتب الآغا في أول الأمر فوق أربعة آلاف قرش في الشهر ، ثم زاد كثيرا. وله أن يبقى في مأموريته ما لم يرتكب ذنبا يستحق به العزل ، وإذا عزله السلطان ولم

__________________

(١) البوزة : كلمة تركية ، ومعناها : الخمر المتخذة من الذرة ، وعربيّتها : الغبيراء ، والسّكركة. وتطلق العامّة لفظ «البوظة» على نوع معروف من «المرطبات».

٢٦٠