نهر الذّهب في تاريخ حلب - ج ٣

كامل البالي الحلبي [ الغزي ]

نهر الذّهب في تاريخ حلب - ج ٣

المؤلف:

كامل البالي الحلبي [ الغزي ]


المحقق: الدكتور شوقي شعث ومحمود فاخوري
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
المطبعة: مطبعة الصباح
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٤٠

في جموع كثيرة من التركمان ، فوقع بينهم مقتلة عظيمة. ثم قبض بعض التركمان الذين مع تغري ويرمش عليه وكاتبوا السلطان بذلك ، فأمر بقتله فقتلوه وأرسلوا رأسه للقاهرة. وفي شوال هذه السنة ولي حلب الأمير جلبان. ثم في سنة ٨٤٣ وليها قانباي الحمزاوي ثم نقل منها إلى دمشق.

إبطال مكس الكتان وتكسير الخوابي

وفي سنة ٨٤٦ نقش على جدار الجامع ما صورته : «لما كان بتاريخ سابع عشر ربيع الآخر سنة ٨٤٦ ورد المرسوم الشريف السلطاني من الملك الظاهر جقمق ـ خلّد الله ملكه ـ بإبطال مكس الكتّان من خان الكتّان ، وملعون من يجدده». ونقش أيضا : «لما كان بتاريخ سابع وعشرين ربيع الآخر سنة ٨٤٦ ورد المرسوم الشريف السلطاني من الملك الظاهر جقمق ـ خلد الله ملكه ـ بإبطال ما كان يؤخذ من أهل مدينة سرمين عن تكسير الخوابي إبطالا دائما ابتغاء لوجه الله تعالى ، والله يجزيه الثواب العظيم».

وفي سنة ٨٤٩ ولي حلب تغري ويردي الجركسي. وفيها حدث بحلب طاعون عظيم لم تعلم وفياته اليومية. وفي سنة ٨٥١ تقرر في نيابة حلب آق ويردي الساقي الخاصكي ، ثم استبدل بقان بك البهلوان فتوفي في ربيع الأول ، وولي حلب برسباي الناصري فتوفي في جمادى الآخرة وولي حلب «تنم». وفي سنة ٨٥٢ أعيد قان باي الحمزاوي إلى نيابة حلب.

إبطال ما كان يؤخذ من الدلالين :

وفيها نقش على جدار الجامع ما صورته : «لما كان بتاريخ جمادى الأولى سنة ٨٥٢ ورد المرسوم من الدولة الشريفة العالية الظاهرية مولانا الملك جقمق ـ خلّد الله ملكه ـ كافل المملكة الحلبية المحروسة ، أعز الله أنصاره ، في إبطال ما كان يؤخذ ظلما من الدلالين في سوق الحراج وأن لا يتعرض لهم أحد من خلق الله. وملعون ابن ملعون من يجددها أو يعيدها أو يسعى بها».

طاعون :

وفي مسودة كنوز الذهب ما خلاصته : في هذه السنة حدث في حلب وأطرافها طاعون

١٨١

سرت جراثيمه إلى غدير خندق القلعة فأفنى ما فيه من السمك ، وطفت جثثه على وجه الماء ، وفتك في المحلات الخارجة عن السور ، لا سيما محلة الكلاسة وبانقوسا أكثر مما فتك في سكان غيرهما من محلات حلب الداخلية وكثرت الوفيات منه في القرى القريبة من حلب حتى نتن هواؤها وبلغت وفياته اليومية في حلب نحوا من خمسمائة نسمة.

إبطال مكس الزيتون من قرى عزاز :

وفيها نقش على جدار الجامع ما صورته : «لما كان بتاريخ خامس شهر ربيع الأول سنة ٨٥٧ رسم المقرّ الكريم العالي يوسف الخاقاني ـ بإشارة مخدومه المقرّ الكريم العالي السيفي المنصوري ، مولانا الملك الآمر أعز الله أنصاره ـ بإبطال مكس الزيتون من قرى عزاز ومعاملتها وملعون ابن ملعون من يعيدها أو يجددها».

وفي سنة ٨٥٩ ولي حلب جانم الأشرفي.

احتفال الناس بماء السمرمر :

قال في مسودة كنوز الذهب ما خلاصته : في هذه السنة ٨٥٩ احتفل الناس بوصول ماء السمرمر إلى حلب ، أحضر إليها من عين ماء في واد من بلاد العجم وهو محفوظ في إبريق من الصفيح ، فوضع على مئذنة جامع القلعة زعما بأنه يجلب طير السمرمر ، الذي هو عدوّ الجراد. قلت : سيأتي لنا في حوادث سنة ٩٦٤ ما فيه البيان لبطلان هذا الزعم. وفي سنة ٨٦٣ ولي حلب إينال اليشبكي.

طاعون جارف :

وفيها وقع طاعون بحلب أهلك الحرث والنسل ، وأقفل دورا كثيرة ومحى عدة بيوت ، وتوفي فيه حم غفير من العلماء والأعيان. ومات فيه بحلب وضواحيها زيادة عن مائتي ألف نسمة.

إبطال خانية قلعة القصير :

وفي سنة ٨٦٤ نقش على جدار الجامع ما صورته : «لما كان بتاريخ سلخ شهر محرّم سنة ٨٦٤ رسم حضرة مولانا السلطان الملك الأشرف إينال ـ خلد الله ملكه ـ بإبطال

١٨٢

ما تجدّد على المصعة بقلعة القصير عن كل خانية عشرة دراهم وأن لا يؤخذ منهم سوى كل خانية درهم واحد ، على جري عادتهم في الزمان القديم. وملعون ابن ملعون من جدد هذه المظلمة».

وفي سنة ٨٦٥ توفي إينال اليشبكي نائب حلب ووليها جاني بك التاجي.

إبطال مكس الزيت من قرى عزاز :

وفيها نقش على جدار الجامع ما صورته : «لما كان بتاريخ سادس شهر ربيع الأول سنة ٨٦٥ رسم الكريم العالي المولوي الملكي المخدومي السيفي ـ كافل المملكة الحلبية الشريفة المحروسة ـ بإبطال مكس الزيت من قرى عزاز وتوابعها وملعون ابن ملعون من يجدده إلى يوم الدين».

وفي سنة ٨٦٨ ولي حلب بردبك الجمدار. وفي سنة ٨٧١ ولي حلب يشبك البجاسي.

قتال أمراء ذي القدرية مع بعضهم :

وفي جمادى الآخرة سمع السلطان بمصر أن رستم بن دلغادر قد تحارب مع قريبه شاه سوار ، كلاهما من أمراء الدولة الغادرية. فرسم السلطان أن يخرج عسكر حلب لمساعدة رستم ، وهذا أول باب فتح للشر مع شاه سوار. وفي سنة ٨٧٢ قويت شوكة شاه سوار فقصده عسكر الشام وحلب فكسرهم وقتل كثيرين من الأعيان واستولى على عدة مدن وقلاع. وفي جمادى الأولى ولي نائب حلب عائدا إليها بردبك الجمدار. وفي سنة ٨٧٣ ولي حلب إينال الأشقر.

محاربة شاه سوار :

وفيها أمر السلطان أولاد الناس أن يخرجوا لمحاربة شاه سوار. لأنه عزم على أخذ حلب. وأمر السلطان أن من لم يسافر لمحاربة شاه سوار فليحمل إلى بيت المال مائة دينار بدلا. وفي شعبان هذه السنة سار العسكر من مصر لمحاربة شاه سوار ، فلما وصلوا إلى حلب هرب منهم فتبعوه ودخلوا في مواضع ضيقة فخرج عليهم في سواده الأعظم وقتل منهم

١٨٣

ومن أمرائهم ما لا يحصى ، وكانت وقعة مشهورة. ثم رجع العسكر المصري في أسوأ حال.

وفي ٨٧٤ ولي حلب قانصوه اليحياوي. وفي سنة ٨٧٦ وصلت العساكر التي جهزها السلطان لمحاربة الشاه سوار فالتقوا معه وأخذوا منه عينتاب وغيرها. ثم في الآخرة التقوا معه ثانية وكسروه كسرة شنيعة حتى التجأ إلى قلعة زمنطوا فساروا إليه وحاصروه. ثم طلب أحد الأمراء ليخاطبه في الصلح فصعد إليه ومعه القاضي شمس الدين بن أجا ، قاضي العسكر ، وتكلما معه فيما قصد وضمنا له إن أصابه شيء. فلم ينزل فخرجا من عنده وأتيا المعسكر وضيقا عليه الحصار ، فطلبهما ثانيا وتكلم معهما كلاما طويلا ونزل معهما ، ثم غدر به نائب الشام وزنجره واستصفى بلاده وأمواله وسيّره معه إلى القاهرة ، فشنقه السلطان مع عدة من أصحابه. وفي سنة ٨٧٨ ولي حلب قايتباي الحمزاوي.

إبطال مكس السلاح وغيره :

وفيها نقش على جدار الجامع ما صورته : «لما كان بتاريخ أول رجب الفرد سنة ٨٧٨ رسم الكريم العالي السيفي خاير بك أمير السلاح المقر الكريم العالي السيفي قايتباي الحمزاوي ـ كافل المملكة الحلبية المحروسة ـ بإبطال مكس جميع السلاح في سوق السلاح. وملعون ابن ملعون من جدّد هذه المظلمة. ومن سعى بتجديدها كان الله ورسوله خصمه يوم القيامة».

وفي سنة ٨٨٢ نقش ما صورته أيضا : «الحمد لله ، لما كان بتاريخ رجب سنة ٨٨٢ رسم الأمير الشريف العالي المولوي الملكي الأشرفي قايتباي ـ خلّد الله ملكه وأدام اقتداره بمحمد وآله ـ بإبطال ما على الدباغين بدير كوش من المكس والمظلمة». ونقش أيضا ما صورته : «لما كان بتاريخ ثالث عشر ذي الحجة سنة ٨٨٢ ورد المرسوم الشريف من حضرة مولانا المقرّ العالي السلطاني الملكي الظاهري قايتباي الحمزاوي ـ كافل المملكة المحروسة أعز الله أنصاره ـ بإبطال مكس الملح الداخل مدينة حلب وملعون ابن ملعون من يتعرض له أو يعيده».

وفي سنة ٨٨٤ ولي حلب أزدمر بن مزيد.

١٨٤

البطش بالحوارنة :

وفي سنة ٨٨٥ بطش الحوارنة ببعض أعوان أزدمر ، فصار يتبعهم ليقتلهم. فحصروه مرة بدار العدل فخشي شيخهم ابن سيرك عاقبة أمرهم فأمرهم أن يطردوه بالسلاح والحجارة صورة ، ففعلوا فهرب إلى دار العدل وقال لأزدمر : إن لم تنادهم بالأمان قتلوك وقتلوني ومتى اطمأنوا فتتبّع واقتل. فناداهم أزدمر بالأمان ، ثم أمسك منهم بعد مدة طائفة وأمر بإحضارهم إليه في يوم الموكب حيث القضاة الأربعة حضور عنده ، وذلك ليوهم أن قتلهم كان شرعا. فأحضروا إليه في اليوم المذكور وأمر الجلاد بقتل واحد منهم فضربت عنقه ، وكان القضاة قد شعروا بخداعه فعارضوا بقتل البقية وحقنت دماؤهم.

والحوارنة المذكورون هم طائفة من عتاد الأبطال كانوا بالدولة الجركسية ذوي بطش وسفك لدماء أعوان الظلمة. وكانوا يقولون : نحن نقتل فلانا ونعطي ديته معلاقا (١) ، لأنهم كانوا قصّابين ، أو من (٢) ذريتهم ومساكنهم أطراف باب المقام وحارة القصيلة. قلت : وإليهم تنسب حارة الحوارنة في ذلك السمت (٣). وفي هذه السنة ولي حلب ورديش أحد المقدّمين. وفي ذي الحجة منها ثار أهل حلب فقتلوا نائب قلعتها لمظالم أحدثها ، وقتلوا معه حاجب الحجاب.

محاربة علي دولات :

وفي سنة ٨٨٨ عين السلطان تجريدة لحلب لمحاربة علي دولات أخي شاه سوار بن دلغادر. ثم في سنة ٨٨٩ عين السلطان تجريدة ثانية تقوية للعسكر ، فإنه بلغه أن المرحوم سلطان بيازيد خان الثاني العثماني قد أمد علي دولات بالعساكر العثمانية. وهذا أول تحرك السلاطين العثمانيين على السلطنة الجركسية. وفي ربيع الأول وقع الحرب بين علي دولات والعساكر الجركسية فانكسر العسكر الجركس وقتل منهم مقتلة عظيمة. ثم في شعبان خرج إلى علي دولات ورديش نائب حلب وتحارب معه ، فانكسر العسكر الجركسي وقتل

__________________

(١) المعلاق : يطلق على ما يقتلعه الجزار من بطن الذبيحة من الرئتين والكبد والطحال والقلب ، وسمّوا ذلك كله معلاقا لأنه يعلّق بالحلقوم ، وجمعه معاليق.

(٢) كذا ، ولعل الصواب : «ومن».

(٣) أي في تلك الجهة.

١٨٥

ورديش وغيره من الأمراء. ثم خرج إلى علي دولات الأمير تمراز ومعه عدة أمراء ، فتحاربوا معه وكسروه واستولوا على ما كان معه من الألوية العثمانية ودخلوا بها حلب. وفي ذي القعدة ولي حلب عائدا إليها أزدمر أمير مجلس.

استرضاء السلطان المصري السلطان العثماني :

وفي ذي الحجة اتفق رأي السلطان وأمرائه أن يرسلوا رسولا إلى السلطان العثماني لإزالة الوحشة بينهما. فأرسلوا تقليدا من الخليفة بأن يكون مقام السلطان على بلاد الروم وعلى ما سيفتحه الله على يده. وقد شاع أن سبب الفتنة بين السلطانين أن أحد ملوك الهند أرسل على يد بعض التجار إلى السلطان العثماني هدية حافلة ، من جملتها خنجر قبضته مرصعة بالأحجار الكريمة ، فلما وصل التاجر بالهدية إلى جدّة احتاط عليها عامل السلطان في جدّة وأرسلها إلى مخدومه السلطان الجركسي فاستحوذ عليها. فحقد السلطان العثماني عند ما بلغه ذلك ، ثم أمد علي دولات بالعساكر وجرى ما تقدم ذكره. غير أن السلطان الجركسي بعد ذلك أرسل الهدية والخنجر إلى السلطان العثماني واعتذر منه. وقيل : السبب في ذلك أن السلطان قايتباي الجركسي آوى «جم» أخا السلطان بايزيد الثاني ، وكان «جم» قد خرج على أخيه فحقد على السلطان قايتباي وكان من أمره ما كان.

الحرب بين العسكرين العثماني والمصري :

وفي سنة ٨٩١ في صفر وقع القتال بين العسكر السلطاني العثماني والمصري ، فانكسر العسكر العثماني وقبض على أحمد بيك بن هرسك قاضي العسكر العثماني وعلى عدة أمراء معه وسيّروا إلى القاهرة.

إبطال إقامة المكّاسين :

وفيها نقش على جدار الجامع ما صورته : «لما كان بتاريخ عشر من جمادى الأولى سنة ٨٩١ رسم بإشارة الكريم العالي المولوي المالكي المخدومي الكافلي السيفي الأشرفي ، كافل المملكة الحلبية المحروسة أعز الله أنصاره ، بإبطال ما كان بمدينة حلب من إقامة المكّاسين. وملعون ابن ملعون من يجددها».

١٨٦

إبطال رسم الحنّة :

وفي سنة ٨٩٣ نقش على جدار الجامع ما صورته : «لما كان بتاريخ رابع عشر شهر جمادى الآخرة سنة ٨٩٣ رسم مولانا المقر العالي السلطان المالكي الظاهري قايتباي الحمزاوي ، مولانا الملك الآمر كافل المملكة الحلبية أعز الله أنصاره ، بإبطال ما كان يأخذ ناظر الحنّة من سوق الحنّاوية وملعون من يجدده».

وفي هذه السنة خرجت تجريدة من مصر لم يخرج منها مثلها فوصلت إلى أذنة وشرعت في حصارها لاستردادها من يد ابن عثمان ، فقتل من الفريقين ما لا يحصى وأخذ العسكر المصري أذنة بالأمان.

الصلح بين السلطانين :

وفي سنة ٨٩٦ تم الصلح بين السلطان العثماني وبين المصري ، وردّ العثماني جميع القلاع التي استولى عليها من المملكة المصرية ، وأطلق المصري جميع أسراه. وفي شوال هذه السنة وقعت فتنة كبيرة بين أهل حلب وبين نائبها أزدمر ، وقتل من مماليكه سبعة عشر مملوكا وقتل من الحلبيين خمسون رجلا ، وأحرقوا جماعة من حاشية النائب ، وكادت حلب تخرب عن آخرها لو لم يتدارك الأمر قانصوه الغوري صاحب الحجاب وقتئذ بحلب. وفي سنة ٨٩١ حدث طاعون عظيم بحلب لم تذكر وفياته. وفي سنة ٨٩٩ توفي أزدمر نائب حلب ووليها مكانه إينال السلحدار ، نقل إليها من طرابلس.

منع السقي من ماء الساجور :

وفي سنة ٩٠١ نقش على جدار الجامع ما صورته : «لما كان بتاريخ رابع جمادى الآخر سنة ٩٠١ ورد المرسوم الكريم العالي المولوي الملكي المخدومي الكافلي السيفي الأشرفي مولانا الملك الناصر كافل المملكة الحلبية بأن لا يسقى من ماء الساجور الواصل إلى حلب زرع حاسين وفافين وملعون من يزرع على ماء الساجور زرعا».

إبطال مكس القطن وغيره من المكوس :

وفي سنة ٩٠٢ نقش على جدار الجامع ما صورته : «لما كان بتاريخ رجب الفرد سنة

١٨٧

٩٠٢ رسم الجناب العالي المولوي الملكي المخدومي الكافلي السيفي الأشرفي مولانا الملك الناصر كافل مملكة حلب المحروسة ـ أعز الله أنصاره ـ بإبطال ما كان يؤخذ من مكس القطن من سوق القطن وملعون بن ملعون من يجدد غيره».

ونقش أيضا في السنة المذكورة أمر بإبطال مكس المسك والزعفران ، وآخر بإبطال مكس السّماق من خان السماق ، وآخر بإبطال ما هو معيّن عن ختم القماش العراقي والدمشقي والقدسي ، وآخر بإبطال ما كان يؤخذ من وقف نهر الساجور الواصل إلى حلب. وصورة كل هذه الأوامر على المنوال السابق فلا حاجة إلى ذكر نصها.

وفي سنة ٩٠٣ خرج آق بردي وهرب إلى دمشق وحاصرها ونهب ضياعها ، ثم سار إلى حلب فنهب ضياعها وحاصرها نحوا من شهرين. فأراد إينال السلحدار صاحب حلب أن يسلمه المدينة فثار عليه أهلها ورجموه وطردوه عنها وحصنوها. فانضم إينال السلحدار نائب حلب إلى آق بردي وتوجّها إلى علي دولات والتجأ إليه. وفي ربيع الآخر من هذه السنة ولي حلب جان بلاط. وفي سنة ٩٠٤ ولي حلب قصروه بن إينال.

حصار آق بردي حلب :

وفيها رجع «آق بردي» إلى حلب وحاصرها أشد المحاصرة وأحرق ما حولها من الضياع وأشرف على أخذ المدينة ، ثم تم الصلح بينه وبين الأمراء الذين قدموا لمحاربته من مصر إلى حلب ، وفيها ولي حلب دولات باي بن أركماس. وفي سنة ٩٠٥ ولي حلب الأمير قرقماش بن ولي الدين. ثم في سنة ٩٠٦ وليها أركماس بن ولي الدين. وفي سنة ٩٠٨ ولي حلب سيباي بن عبد الله الجركسي المعروف بنائب سيس. وفي سنة ٩٠٩ حاصر القلعة سيباي المذكور لوقوع وحشة بينه وبين نائب القلعة ، وخرق المدرسة السلطانية من جهتين : جهة للدخول ، وأخرى جعلها نصب القلعة ، فلم يقدر عليها. وبلغ فعله هذا الغوري فتغير عليه ثم عفا عنه. وفي سنة ٩١٠ ولي حلب خير بك أخو قانصوه البرجي.

هجوم الشيعي على منلا عرب :

في سنة ٩١٥ قدم إلى حلب محمد بن عمر الأنطاكي الواعظ ، المعروف بالروم بمنلا

١٨٨

عرب ، ووعظ في جامعها الأعظم. وكان كثير القدح في شاه إسماعيل سلطان تبريز وفي شيعته. فحضر في مجلس وعظه شيعي متسلح من أصحاب سفير العجم الوارد إلى الغوري صاحب مصر ، جاء من عنده إلى حلب فهمّ الشيعي بإشهار السيف ليقتل الشيخ المذكور فعاجله الحلبيون وقتلوه وأحرقوه. فاضطرب السفير وعرض الحال على الغوري وسبقه خيري بك وعرض على الغوري أنّ قتله أحمد فتنة عظيمة أوقدها السفير. فطاب خاطر الغوري ورضي عن الشيخ.

١٨٩

نبذة من الكلام على دولة الأتراك المعروفة أيضا

بدولة الأملاك ، وعلى دولة الجراكسة في مصر والشام

دولة الأتراك

أكثر ملوك هذه الدولة مماليك لصلاح الدين الأيوبي ولأولاده من بعده. وهم يعرفون بالمماليك البحرية نسبة إلى بحيرة في أراضي مصر. وكان الباعث على تمليكهم ضعف أعقاب صلاح الدين وبلوغ دولتهم طور الشيخوخة والهرم ، وشيوع أخبار التتر الجنكزيين ووشك قصدهم بلاد الشام. فخشي أهل الحل والعقد من المصريين سوء المغبة وسلطنوا المعزّ عز الدين أيبك مملوك الملك الأشرف بن صلاح الدين ، وذلك في سنة ٦٤٨ فقتل سنة ٦٥٥ وتسلطن ولده الملك المنصور نور الدين علي وقتل سنة ٦٥٧ وتولى الملك بعده وزيره الملك المظفر قطمز المعزي وقتل سنة ٦٥٨ وتولى الملك بعده الملك الظاهر بيبرس البندقداري العلائي ومات سنة ٦٧٦ وتولى بعده ولده الملك السعيد محمد بركة خان وخلع نفسه سنة ٦٧٨ وتولى بعده أخوه الملك العادل سلامش فخلع نفسه وخلفه الملك المنصور قلاوون الصالحي النجمي ومات سنة ٦٨٩ وتولى بعده صلاح الدين خليل وقتل سنة ٦٩٣ وقام بعده أخوه الملك الناصر وخلع في سنة ٦٩٤ وخلفه الملك المنصور لاجين المنصوري وقتل سنة ٦٩٨ وتولي بعده الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاوون ثانية ، وخلع نفسه سنة ٧٠٨.

وقام بعده الملك المظفّر بيبرس الجاشنكير ، فقبض عليه بعد أحد عشر شهرا. وتسلطن بعده الملك الناصر محمد ثالثة ومات سنة ٧٤١ وتولى بعده ولده الملك المنصور أبو بكر فخلع سنة ٨٤٢ وتولى بعده الملك الأشرف علاء الدين كوجك فخلع. وتولى بعده الملك الناصر شهاب الدين أحمد ومات سنة ٧٤٣ وتسلطن بعده أخوه الملك الصالح عماد الدين

١٩٠

إسماعيل ومات سنة ٧٤٦ وخلفه أخوه الملك العادل شعبان ومات سنة ٧٤٧ وقام بعده أخوه الملك المظفر زين الدين حاجي وقتل سنة ٧٤٨ وخلفه أخوه الملك الناصر حسن ، وخلع نفسه سنة ٧٥٢ وتولى بعده الملك الصالح صالح بن الملك العادل محمد بن قلاوون ، وفقد سنة ٧٦٢.

وخلفه الملك المنصور محمد بن الملك المظفر حاجي بن محمد قلاوون ، وخلع سنة ٧٦٤ وخلفه الملك الأشرف شعبان بن حسين بن الناصر بن قلاوون وخنق سنة ٧٧٧ وتولى بعده أخوه الملك الصالح حاجي وخلع سنة ٧٨٤ وهو آخر ملوك دولة الأتراك المماليك ، وبه كان انقراض دولتهم وكان ابتداؤها سنة ٦٤٨ وانتهاؤها سنة ٧٨٤ فكانت مدتها ١٣٦ سنة وعددهم ٢٥ ملكا ، وقد بلغت طور الشيخوخة والهرم واستفحل أمر مماليكهم الجراكسة ونبغ منهم رجال بالبطولة والشجاعة وجودة التدبير ، فانتقلت الدولة إليهم وعرفت بدولة الجراكسة المماليك.

دولة الجراكسة

ابتدأ سلطان هذه الدولة في مصر والشام سنة ٧٨٤ وانقرضت سنة ٩٢٢ فكانت مدتها ١٣٨ وعدد ملوكها ٢٣ أولهم السلطان الملك الظاهر سيف الدين برقوق بن نص العثماني الجركسي ، تولى الملك سنة ٧٨٤ ثم قبض عليه في سنة ٧٩١ ثم أعيد إلى السلطنة سنة ٧٩٠ وفي سنة ٨٠١ تسلطن ولده الملك الناصر فرج. وفي سنة ٨٠٨ تولى ولده المنصور عبد العزيز. ثم في سنة ٨١٥ أعيد والده الملك الناصر فرج فقتل ، وأضيفت السلطنة إلى الخليفة المستعين بالله العباسي فجمع بين الخلافة والسلطنة ستة أشهر ، ثم خلع منهما وتسلطن الملك المؤيد شيخ.

وفي سنة ٨٢٠ حضر الملك المؤيد شيخ إلى حلب وأمر بعمارة سورها الجوّاني وكان خرب معظمه في حادثة تمرلنك. وقد جمع الملك المؤيد شيخ القضاة واستشارهم في أمر السور ، وكان في ذلك خراب مساجد وجوامع وأسواق. قال علاء الدين بن خطيب الناصرية في تاريخه الدر المنتخب : فأشرت عليه ألّا يفعل فأصرّ على بناء السور الجوّاني ورسم به ، ثم سافر نحو القاهرة ورسم بإخراج دراهم من حلب ومعاملتها وغيرها وجهز الدراهم لحلب لعمارة السور الجواني. فشرع بعمارته وعمر جانب كبير أشار به ، ولما

١٩١

مات بطل العمل. مات الملك المؤيد شيخ سنة ٨٢٤ فتسلطن بعده ولده الملك المظفر أحمد وقبض عليه في هذه السنة. وتسلطن بعده الملك الظاهر ططر فمات في هذه السنة أيضا. وتسلطن بعده ولده الملك الصالح محمد وخلع سنة ٨٢٥ وتسلطن بعده الملك الأشرف برسباي.

وفي سنة ٨٤١ عهد بالسلطنة إلى ولده الملك العزيز أبي المحاسن يوسف فخلع سنة ٨٤٢ وخلفه الملك الظاهر أبو سعيد جقمق وخلع نفسه سنة ٨٥٧ وتولى بعده ولده الملك المنصور عثمان. وخلع في هذه السنة وخلفه الملك الأشرف أبو النصر إينال. وفي سنة ٨٦٥ خلع نفسه وعهد بالسلطنة إلى ولده الملك المؤيد أبي الفتح أحمد. فخلع في هذه السنة وتولى الملك بعده الملك الظاهر أبو سعيد خوشقدم وهو غير جركسي توفي سنة ٨٧٢ وخلفه الملك الظاهر بلباي الأتابكي فخلع بعد مدة وتسلطن بعده الملك الظاهر أبو سعيد تمربغا الأتابكي وخلع بعد شهرين ، وولي الملك بعده أبو النصر قايتباي المحمودي الظاهري سنة ٨٧٢ ومات سنة ٨٩١ فولي ولده الملك الناصر محمد بن قايتباي وقتل سنة ٩٠٤ وولى مكانه خاله الملك الظاهر أبو سعيد قانصوه فاعتقل ، وولي بعده صهره الملك الأشرف جانبلاط سنة ٩٠٥ فقتل وتسلطن بعده الملك العادل طومان باي سنة ٩٠٦ فقتل.

فتولى بعده الملك الأشرف قانصوه الغوري وهو آخر ملوك الدولة الجركسية ولما أراد المماليك أن يولوه السلطنة شرط عليهم ألّا يقتلوه إذا أرادوا غيره بل يعلموه بإرادتهم فيخلع نفسه متى شاؤوا. وقد بقي في السلطنة إلى سنة ٩٢٢ وفيها كان مقتله في محاربة السلطان سليم العثماني على ما نبينه.

مقتل السلطان قانصوه الغوري واستيلاء السلطان سليم العثماني

على مصر والشام :

في سنة ٩٢٢ تقدم السلطان سليم العثماني بجيوشه إلى البلاد الشامية ليستولي عليها ويستخلصها من يد السلطان قانصوه الغوري. وقد اختلف في أسباب قيامه فقيل : هي أن السلطان سليم (١) لما غزا العجم مرّ بعساكره على البيرة فمنع علي دولات أهل مرعش

__________________

(١) كذا والصواب هنا «سليما» على البدلية. ولا وجه لمنعه من التنوين. وسيتكرر ذلك عند المؤلف.

١٩٢

من أين يبيعوا الأقوات عساكر سليم ، وأباح لأهل مرعش أن ينهبوا أحمال أقوات العساكر العثمانية ، فمات أكثرهم جوعا ، فاستاء السلطان سليم من ذلك وكتب إلى الغوري يستأذنه بحرب علي دولات فكتب إليه بأنك إذا أمكنك أن تقتله فافعل. وكتب إلى علي دولات يحرّضه على السلطان سليم. وكان قصده من تحريض الطرفين أن يتخلص من أحد عدوّيه. ففطن السلطان سليم لذلك وقصد حرب الغوري.

وقيل : إن السبب هو أن السلطان قانصوه أظهر أن مجيئه إلى حلب لم يقصد منه سوى إيقاع الصلح بين السلطان سليم وبين الشاه إسماعيل الصفوي. وقد كتب إلى الشاه مع رسول بعثه خفية كتابا يعده فيه بالنجدة على السلطان سليم. فوقع الكتاب بيد السلطان سليم وتجرد لمحاربة الغوري.

وقيل : إن مجيء السلطان سليم إلى هذه البلاد كان باستدعاء من أهلها تخلصا من الحكومة المصرية لما كانت تجريه على أهل هذه البلاد من العسف والظلم ومصادرة الأموال ، حتى كثرت العوانية (١) لكثرة ما يصغى إليهم ، وسلب كثير من الأغنياء أموالهم حتى عادوا فقراء. وكانت التركات تأخذها الحكومة وتبقي ورثة الميت فقراء. وقد أشار إلى هذه المظالم القرماني في تاريخه ، والشيخ زنبل ، ورضي الدين الحنبلي في كتابهما (٢) ، وغيرهم من المؤرخين.

وقال بعض المفكرين من الأتراك : إن سبب مجيء السلطان سليم إلى البلاد الشامية والقطر المصري عارض ، وإن السلطان سليم لم يكن في حملته هذه قاصدا فتح سورية ، بل كان الغرض منها أن يقصد بها حرب الشاه إسماعيل ويزيل دولته ويستولي على مملكته لغرضين : أحدهما تخليص الناس من كفره وظلمه ، وثانيهما ـ وهو المقصد الأعظم ـ فتح الطريق إلى الشرق الأقصى واستيلاؤه على ما فيه من الدويلات الإسلامية المتبعثرة ، وجعل العالم الإسلامي جميعه تحت راية واحدة لا تقوى على تمزيقها عواصف الأيام والليالي مهما كانت عظيمة. هذا هو الذي كان يقصده من هذه الحملة وبقية الحملات التي كان

__________________

(١) العوانية : كلمة أطلقت على الأموال المغتصبة ظلما وعدوانا عن طريق الوشايات والتهم الباطلة. وربما أطلقت أيضا على من يقومون بالوشاية كما يفهم من نص الغزّي.

(٢) الوجه أن يقال : «كتابيهما».

١٩٣

يجهزها لغزو بلاد العجم. غير أنه لما تحقق أن السلطان الغوري حليف الشاه إسماعيل وظهيره ، بدأبه قبل أن يبدأ بمقصده الأصلي لأنه عدّ سلطان مصر عقبة كؤودا (١) تعوق سيره إلى تلك البلاد. والله أعلم.

هذا وإن السلطان الغوري ـ قبل أن يخرج من مصر ـ أعدّ من جهاز السفر وآلات الحرب ولوازمه ما لم يسمع بمثله ، بحيث كان عدد جيشه وعدد محاربيه يفوق عدد وعدّة الجيش العثماني أضعافا مضاعفة. ثم خرج السلطان الغوري من مصر ـ ومعه الخليفة والقضاة الأربع ـ يوم السبت ١٦ ربيع الآخر سنة ٩٢٢ وكان معه ٩٤٤ أميرا. وبينما هو في الطريق ورد عليه من نائب حلب خيري بك كتاب يقول فيه : إن ابن عثمان أرسل قاصدا ومعه كتاب لمولانا فأبقيت القاصد وأرسلت الكتاب. فلما فكّه السلطان وقرأه فإذا فيه عبارة حسنة وألفاظ رقيقة منها أنه أرسل يقول له : أنت والدي وأسألك الدعاء ، وإني ما زحفت على بلاد علي دولات إلا بإذنك وإنه كان باغيا عليّ وهو الذي أثار الفتنة بين والدي والسلطان قايتباي حين جرى بينهما ما جرى ، وإن البلاد التي أخذتها من علي دولات أعيدها لكم.

فانشرح الغوري وجماعته من هذا المكتوب واستبشروا بالصلح. وكان ذلك كله احتيالا من ابن عثمان. ثم ورد عليه من سيباي نائب دمشق كتاب آخر ، فيه : إن العبد سمع بأن حضرة السلطان يريد السفر إلى قتال ابن عثمان ، وإن المملوك يقوم بهذا الأمر وتمدّوه بالعساكر المنصورة ، وإن خيري بك ملاح علينا ، ومكاتيبه لا تنقطع من عند ابن عثمان في كل وقت. فلم يلتفت الغوري إلى مكتوب سيباي حذرا منه ، لأنه كان له رمّال يقول له : يلي الحكم بعدك حرف السين فكان يحاذر من «سيباي» ظنا منه أنه هو المراد بالسين.

ولما دخل الغوري دمشق زيّنت له سبعة أيام ، وفرش سيباي تحت حوافر فرسه شقق الحرير ، وازدحمت عليه المماليك بسبب نثر الذهب والفضة. ثم رحل إلى حمص ومنها إلى حلب فدخلها يوم الخميس عاشر جمادى الآخرة سنة ٩٢٢ وكان دخوله إليها من باب المقام متوجها إلى الميدان الأخضر في موكب عظيم وأبهة زائدة ، ومعه أمراؤه والقضاة

__________________

(١) في الأصل : «كوود «فأثبتنا الصواب.

١٩٤

الأربعة والخليفة المتوكل على الله العباسي ، وجماعة من مشايخ الصوفية ذوي الأتباع ومعهم الأعلام ، وخيري بك ـ كافل حلب ـ حامل بجانبه القبة والطير ، فنزل بالميدان المذكور ثم حضرت إليه كفّال مملكته بعساكرها. ولما بلغ السلطان سليم (١) نزول الغوري إلى حلب عجب من ذلك وخفي عليه السبب ، فأوفد على الغوري ـ لكشف خبره ـ قاضي عسكره زيرك زاده ، وقراجا باشا ، ومعهما هدية حافلة. ولما مثلا بين يديه سألهما عن السلطان سليم فقال له القاضي : هذا ولدك وتحت نظرك. فقال له الغوري : لو لا أنه مثل ولدي ما جئت من مصر إلى هنا بأهل العلم حتى أصلح بينه وبين إسماعيل شاه ، ثم أجزل عطاءه وصرفه.

ثم إن الغوري نادى بالرحيل لمقابلة السلطان سليم ، ورحل في النصف الآخر من رجب من السنة المذكورة وقد أودع جميع أمواله وأموال أمرائه عند أهل حلب ، وصحب معه قضاة حلب وجماعة من الصوفية ومعهم الربعات والأعلام ، وأظهر أنه بصدد الإصلاح بين السلاطين. وكان الغوري قد أرسل مغلباي الدوادار قاصدا إلى السلطان سليم وصحبته عشرة عساكر من خيار عسكره لابسين أحسن الملابس وعلى رؤوسهم الخوذ ، ومع مغلباي كتاب يتضمن طلب الصلح فيما بين السلطان سليم وشاه إسماعيل. فلما وصل القاصد المذكور إلى السلطان سليم ودخل عليه ومعه العساكر العشرة اغتاظ السلطان سليم وقال لمغلباي : ألم يكن عند أستاذك رجل من أهل العلم يرسله لنا؟ وإنما أرسلك بهؤلاء العشرة ليرعب بهم قلوب عسكري ويخوفهم ، ولكن أنا أكيده بأعظم من هذا. ثم أمر بالعساكر العشرة فضربت رقابهم وحبس مغلباي. وبعد يومين أراد أن يلحقه بهم فشفع به متصرف عينتاب ، فتركه حيا ولكنه حلق لحيته وأخلق ثيابه وأركبه على حمار معقور أعرج ، وقال له : قل لأستاذك يجتهد جهده وأنا سائر إليه. ولم يقرأ كتاب الغوري لشدة غيظه.

ولما رجع مغلباي إلى الغوري على هذه الحالة عسر عليه ذلك وصمم على قتال السلطان سليم ، وأمر كربتاي بأن يكشف خبر السلطان سليم ويرجع على الفور. فلما وصل كربتاي إلى قيصرية وجد أهلها قد قفلوا أبوابها وتأهبوا لقتال الجراكسة لما بلغهم عنهم ما فعلوه

__________________

(١) كذا ، والصواب : «سليما» بدل من المنصوب قبله.

١٩٥

بحلب وأهلها ، ووجد نائب عينتاب قد انحاز إلى السلطان سليم فرجع كربتاي وأخبر الغوري بعصيان قيصرية وعينتاب ، وأن عسكر السلطان سليم قد أقبلت طلائعها. فارتج عسكر الجراكسة لمّا فشا فيهم هذا الخبر ووقع فيهم الخلل. وعند ذلك انتبه الغوري وجمع الأمراء والأعيان وتحالفوا على الصدق فيما بينهم ، وقام من بينهم الأمير سيباي نائب دمشق وقبض على خيري بك نائب حلب وجرّه من طوقه بين يدي الغوري قال : يا مولانا إذا أردت الظفر بعدوك فاقتل هذا الخائن. فقام الأمير جانبردي الغزالي وقال : يا مولانا إن قتلته افتتن العسكر وقتل بعضهم بعضا وطمع العدوّ وضعفت شوكتكم. وكان هذا الكلام مكيدة من الغزالي.

ثم إن الغوري أمر أن ينادى بالرحيل والنزول على حيلان. وفي اليوم الحادي والعشرين رجب ركب الغوري وخرج من ميدان حلب وبات بمن معه في حيلان. وفي الغد أمر العسكر بالرحيل إلى مرج دابق حيث جعله موعدا للسلطان سليم. فرحلوا وأقاموا به. فلما كان اليوم السابع والعشرين رجب لم يشعروا إلا وقد دهمتهم عساكر السلطان سليم. وعندها ركب الغوري وصار يرتب العسكر بنفسه ، وكان حوله أربعون مصحفا مغلفة بالحرير الأصفر على رؤوس جماعة من الأشراف ، وفيهم مصحف بخط الإمام عثمان بن عفان (رضه). وكان على الميمنة سيباي وعلى الميسرة خاير بك.

ثم التحم الفريقان للقتال فما كان غير ساعة حتى لاحت الغلبة على العثمانيين وأخذ الجراكسة منهم سبعة سناجق (١). وكاد السلطان سليم يهرب أو يستأمن ، غير أن الغوري أراد أن يمكر بالقرانصة الذين طالما حاول نكبتهم وهم جند الدولة العام ، فنادى بمماليكه الجلبان (وهم عسكره الخاص) ـ الذين نوى في استحداثهم قهر القرانصة ـ أن يكفوا عن القتال ويتركوا القرانصة يقاتلون وحدهم. فكفّوا وقد شعر القرانصة بمكره فتغيرت نياتهم ، وقد جدّ الجيش العثماني بإطلاق نيران المدافع فصارت تمطر على الجيوش المصرية وابلا من القنابل المهلكة فاضطربوا وخافوا وصاروا ينادون العثمانيين بأعلى أصواتهم : لسنا ممن كفر بالله حتى تحرقوننا (٢) بالنار.

__________________

(١) أي سبعة ألوية.

(٢) الصواب : «تحرقونا» بحذف نون الأفعال الخمسة.

١٩٦

وبينما هم في هذا الاضطراب والارتباك إذا بالسلطان سليم قد رمح بجواده وشق الصفوف وبيده سيف عمر بن الخطاب (رضه) ، وصاح في أمرائه صيحة ردوا بها على الجراكسة كالبحر إذا سال بعرض الوادي. وما زال السلطان سليم وعسكره سائرين حتى جاؤوا إلى صف الغوري ، وهرب خاير بك والغزالي ومن معهما ، ونادوا بأعلى أصواتهم ـ تجاه خيام الغوري ـ بأن السلطان سليما قد أحاط بكم والغوري قد قتل وانكسر وانكسرنا. فتبعهم الجلبان وتشتت العسكر وظنوا أن الغوري قتل حقا. وكان هذا الفعل من خاير بك وصاحبه مكيدة للغوري. أما الغوري فصار ينادي الهاربين : يا سادات! الشجاعة صبر ساعة. فلم يلتفتوا إليه. ولما تحقق الغوري أن الكسرة عليه نزل عليه خلط فالج أرخى حنكه ، فطلب ماء فأتوا به فشرب قليلا وألفت فرسه ليهرب فسقط على الأرض وطلع الدم من فمه. فأمر الأمير علان عبدا من عبيده أن يقطع رأسه ويرميه في الجب خوفا من أن يظفر به السلطان سليم فيمثّل به في البلاد. ففعل العبد ما أمره به الأمير علان. وقيل إن الغوري لما شعر بنزول الخطب مات فجأة فمرّ به بعض عسكر السلطان سليم فحز رأسه وأحضره إلى السلطان فأمر بقطع رأس هذا العسكري وقال له : ليس لك أن تدخل بين الملوك.

وعلى كل حال فلم يعلم للغوري خبر ولم يوقف له على أثر. ولما شاع خبر موت الغوري زحف عسكر السلطان سليم على من كان حول الغوري وقتلوا عدة أمراء من الجراكسة وغيرهم ، وفقد المصحف العثماني ونهب عسكر الغوري وجلس السلطان سليم في مخيم الغوري وأخذ جميع ما فيه ، وكان شيئا يفوق العدّ والإحصاء من الذهب والفضة والملبوس وغير ذلك ، وهو كالقطرة من بحر بالنسبة لما أبقاه الغوري وأمراؤه عند أهل حلب. ثم إن السلطان سليمان بقي ليلة في مرج دابق وذهب أكثر عسكر الغوري قاصدين حلب فمنعهم أهلها لما قاسوه منهم عند مجيئهم.

وأما خاير بك فإنه دخل حلب وزيّن لمحمد بن الغوري ـ وكان أبقاه أبوه على خزائنه بقلعة حلب ـ أن يسافر بالعسكر إلى مصر ويتبوأ موضع أبيه ووعده المساعدة على ذلك. وكان هذا من خاير بك تمام المكيدة ليأخذ حلب إلى السلطان سليم بغير حرب. فصدقه محمد بن الغوري وتوجه بالعسكر قاصدين مصر ، وسار معه خاير بك. فلما وصلوا حماة بقي بها خاير بك وفارق محمد بن الغوري معتذرا له. وأما السلطان سليم

١٩٧

خان فإنه سار من مرج دابق إلى حلب وخرج أهلها لملاقاته عند الميدان الأخضر ، ومعهم العلماء والصلحاء حاملين المصاحف على رؤوسهم يستقبلونه ويهنّونه بالفتح ويسألونه الرفق والصفح فقابلهم بالجميل.

حوادث الدولة العثمانية في حلب :

ودخل السلطان حلب في رجب سنة ٩٢٢ وتسلم قلعتها بالأمان وطلع إليها فرأى فيها ما أدهشه من الذهب والفضة وغيرهما. ثم جمع بأمره من تجار حلب مال كثير سموه «مال الأمان» وصاروا يبذلونه بطيب خاطرهم لخوفهم يومئذ على النفس. ولم يحصل بحلب ـ وجيشه مقيم عليها ـ من القحط أدنى شيء مع كثرة جيوشه. ورام منلا زيرك قاضي عسكره أن يعرض للسلطان في مدارس حلب لنزول العسكر ، فلم يقبل منه السلطان عرضه بل أمرهم أن لا يبيت منهم بحلب ديّار. ثم برز أمره بالتفتيش على ودائع الجراكسة التي كانت عند بعض الناس فجمعوا منها ما لا يحصى واتهموا الأصيل صلاح الدين بن السفاح بشيء منها وعذبوه عليه. ولما كان يوم الجمعة نزل السلطان إلى الجامع الكبير وصلى فيه ودعا له الخطيب وسماه «حامي الحرمين». ولما فرغ من صلاته أرسل إلى الخطيب يأمره بأن يبدل بعد هذا كلمة حامي «بخادم» ثم خلع عليه واستمرت عادة هذه الخلعة مع ولاة حلب إلى أواخر أيام العثمانيين في أول جمعة يصلونها بجامع حلب.

وكان إطلاق كلمة «خادم الحرمين الشريفين» على السلاطين العثمانيين لأول مرة في مدينة حلب. وقد سر السلطان سليم من هذه الكلمة وتفاءل بها خيرا. وقد بقي في حلب عشرين يوما وجعل عليها أحمد بن جعفر ـ المشهور بقراجا باشا ـ واليا ، وكمال الدين ابن الحاج الياس الرومي الحنفي ـ المعروف بابن الجكمكجي ـ قاضيا. وأمر كريم جلبي عبد الله باشا زاده أن يحرر أملاك لوائها ليعين ضريبة الأملاك بموجبها. ثم رحل السلطان من حلب إلى دمشق في العشرين من شعبان فلما وصلها تلقّاه أهلها كما فعل الحلبيون ، فأمّنهم وصلى بها الجمعة وتصدق بها سرا وعلنا. ثم حسّن له خاير بك أن يتوجه إلى مصر للاستيلاء عليها. فسار نحوها واستولى عليها في خبر يطول شرحه. ثم عاد إلى دمشق وأمر ببناء التكيّة الصالحية ثم إلى حلب إلا أنه نزل بمرج دابق وأقام به نحو شهرين ثم سار إلى تخته قسطنطينية.

١٩٨

صلب حبيب بن عربو :

وفي هذه السنة صلب تحت القلعة الأمير حبيب بن عربو ، من طائفة معتبرة من أمراء القصير ، من أهل السنة والجماعة ، لاتهامه بأنه جمع بين تسعة نسوة في آن واحد.

قتل طومان جماعة السلطان سليم :

وفي سنة ٩٢٣ أرسل السلطان سليم خان جماعة من الأمراء والقضاة إلى طومان باي في مصر بالأمان فقتلهم عن آخرهم. وكان من جملتهم أبو بكر بن عبد البر بن محمد ، ويتصل نسبه بمحب الدين بن الشحنة.

نفي جماعة من الحلبيين إلى طربزون (١) :

وفي سنة ٩٢٥ ورد أمر السلطان لوالي حلب بسوق ستين رجلا من تجار حلب إلى طربزون ، فحصل القبض عليهم في ليلة واحدة بحيث صاروا يأتون بالرجل وهو لا يشعر بما أريد فيه ، ثم سيقوا إلى طرابزون. ثم ورد أمر آخر بنفي من في حلب من الأعاجم إلى القسطنطينية فسيقوا إليها. وبرز أمر آخر بسوق أهل بيوت القلعة لاتهامهم بأنهم أخفوا خزانة مال الغوري بعد ما كان السلطان أقر القلعيين على ما كانوا عليه من المكث فيها ، فسيقوا إلى القسطنطينية أيضا.

الاستئذان عن عقود الأنكحة :

وفي هذه السنة صدرت أوامر القضاة إلى العلماء أن يأخذوا إذنا منهم إذا أرادوا عقد نكاح ، وذلك بقصد أخذ رسوم معلومة جعلوها لصندوق المحكمة الشرعية.

هبوب عاصفة شديدة :

وفيها هبت ريح عاصفة ذهبت برأس منارة زاوية الاطغاني (٢) ، وطرابزون جامع الصيفي وبعض حجارتها وتاج الشرافة الكائنة فوق باب قبلية جامع الأموي بحلب ، وبعض

__________________

(١) طربزون ، أو طرابزون : مرفا في آسية الصغرى ، على البحر الأسود ، قرب حدود جمهورية جورجيا.

(٢) كذا ، وفي «الآثار الإسلامية والتاريخية» ص ٢٤٨ «الاطعاني» وتقع هذه الزاوية في شمالي محلة المشارقة.

١٩٩

جدران متوهنة. وقلبت كثيرا من الأشجار العظام ورفعت رجلا كان في الفلاة قدر ذراعين عن الأرض ثم ألقته في مكان آخر.

إشهار جان بردي العصيان وقتله :

وفي سنة ٩٢٦ أشهر العصيان جان بردي الغزالي ابن عبد الله الجركسي ، وكان واليا على دمشق من قبل الدولة العثمانية. وقد خلصه السلطان سليم من أيدي الغوريين وولاه دمشق فلم يظهر معه هذا المعروف العظيم ، بل عندما توفي السلطان سليم وجلس مكانه ابنه السلطان سليمان نبذ العهود والمواثيق وتجاهر بالعصيان وتسلم قلعة دمشق. ثم وجه جماعة مع مملوكه قانصوه المقرفع فقبض على والي حمص وقتله. ثم دخل حماة وقد فرّ قاضيها وواليها إلى حلب ، وأوقع الحمويّين في أمر مريج. ثم حضر جانبردي بنفسه وجمع من الأعراب والتركمان جمعا عظيما وأخذ في محاصرة حلب ، وكان واليها قراجا باشا المتقدم ذكره. فلم ينل من فعله هذا طائلا ، وآل أمره إلى أن حزّ رأسه في سنة ٩٢٧ في معركة كانت بينه وبين قراجا باشا المرسل بعسكره إليه قبلا. ولما حز رأسه اشترته زوجته بمال جزيل ودفنته.

عزل قراجا باشا عن حلب وبيان أغلاط في سالنامة سنة ١٣٠٣ :

وفي أواخر هذه السنة أعني سنة ٩٢٦ عزل عن ولاية حلب قراجا باشا وأمره السلطان سليمان بسوق السفن إلى جهة بلغراد. فساقها وقتل على حصار بلغراد شهيدا سنة ٩٢٨ ذكر هذا في درّ الحبب (١).

تنبيه : لم نعلم من ولي حلب بعد قراجا باشا المذكور؟ وما ذكره في سالنامة الولاية المطبوعة في حلب سنة ١٣٠٣ من أن الوالي بعده خسرو باشا سنة ٩٥٢ فهو غلط محض (٢) لما عرفت من أن قراجا باشا توفي في سنة ٩٢٨ اللهم إلا أن تكون حلب بقيت بدون وال طول هذه المدة. على أن خسرو باشا نقل من ولاية حلب إلى مصر سنة ٩٤١ كما أفاده في درّ الحبب.

__________________

(١) انظر در الحبب ج ١ / ٢١٠ ـ ٢١٢ وفيه أن مقتل قراجا باشا كان سنة ٩٢٧.

(٢) في الأصل : «محط» فصوبناه كما ترى.

٢٠٠