نهر الذّهب في تاريخ حلب - ج ٣

كامل البالي الحلبي [ الغزي ]

نهر الذّهب في تاريخ حلب - ج ٣

المؤلف:

كامل البالي الحلبي [ الغزي ]


المحقق: الدكتور شوقي شعث ومحمود فاخوري
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
المطبعة: مطبعة الصباح
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٤٠

سنة ٦٩٢ كتب الملك الأشرف لبعض عسكره بحمص ، وإلى صاحب حماة وإلى عمه الملك الأفضل ، بالمسير إلى حلب والمقام بها إرهابا للتتر. فساروا جميعا ودخلوا حلب يوم الثلاثاء تاسع وعشرين شعبان الموافق رابع شهر آب.

افتتاح بلاد سيس :

وفي سنة ٦٩٧ قدم إلى حلب يكناس بدر الدين الفخري ـ أمير سلاح الملك الصالح ـ وتوجه إلى بلاد سيس ، وصحبته الأمير علم الدين سنجر الدوادار وصاحب حماة ونائب صفد وعساكر مصر والشام ، ومقدّم الجميع يكناس المذكور. فوصلوا إليها في رجب وشنوا عليها الغارات ونادوا في أطرافها بالثارات فأمروا وحكموا وأسروا وغنموا ونازلوا قلاعها وأخلوا من السكان بقاعها ولم يزالوا مقيمين عليها حتى أخذوا حموص وتل حمدون وسعلان والنفير وسودان ومرعش وما هو من جنوبي جيحان ، ثم رجعوا إلى حلب فرحين مسرورين فأقاموا بها مدة ثم ساروا إلى أماكنهم.

عود التتر إلى حلب وما حدث فيها من سنة ٦٩٧ إلى ٧١٣ :

وفي سنة ٦٩٨ قويت الأخبار بتحريك التتر نحو البلاد الشامية وجرد الملك المظفر عسكر حماة إلى حلب حتى وصل إلى المعرة ، فبعث إليهم سيف الدين بلبان الطباخ نائب حلب كتابا بتراخي التتر فعادوا ، ثم بعث إليهم كتابا آخر يستحثهم على الحضور فساروا إلى حلب ودخلوها في الثالث والعشرين من رمضان. ولما قويت هذه الأخبار استخرج السلطان من غالب الأغنياء بمصر والشام ثلث أموالهم لاستخدام المقاتلة.

وفي سنة ٦٩٩ سار قازان بن أرغون بجموع عظيمة من المغل والكرج والمزندة وغيرهم وعبروا الفرات ، ووصل بجموعه إلى حلب ثم إلى حماة ثم سار ونزل على وادي مجمع المروج ، وسارت إليه عساكر السلطان الملك الناصر واشتبك القتال بين الفريقين ، وتمت الهزيمة على المسلمين ، واحتوى التتر على أثقالهم وتبعوا العساكر إلى غزة واستولوا على عدة بلاد أعظمها دمشق ، واستمروا فيها إلى أن سمعوا برجوع عسكر مصر إليهم ففارقوها وساروا إلى الشرق. وفيها دخل قراسنقر إلى حلب نائبا بها عن السلطان.

وفي سنة ٧٠٠ عاد التتر إلى الشام وخلت بلاد حلب وسار قراسنقر بعسكر حلب

١٤١

إلى حماة وأقام التتر ببلاد سرمين وتيزين والعمق وغيرها ، ينهبون ويقتلون. وسارت إليهم العساكر ، وصادف في هذه المدة تدارك الأمطار وكثرة الوحول بحيث عجز عسكر المسلمين عن الإقامة في تلك المحالّ لتعذر وصول القوت إليهم فرجع إلى مصر كما أتى ، ودام التتر على إفسادهم في بلاد حلب نحو ثلاثة أشهر ثم ارتدوا على أعقابهم دون سبب يعلم. ورجع عسكر حلب مع قراسنقر إلى حلب وتراجعت الجفّال إلى أماكنهم. وفيها ألزم السلطان الملك الناصر محمد أهل الذمة أن يلبسوا الغيار ، فلبس اليهود عمائم صفرا ، والنصارى زرقا ، والسامرة حمرا ، بعد أن اجتهدوا في دفع ذلك ببذل الأموال لأرباب الدولة فما أفادهم.

وفي سنة ٧٠٣ سارت عساكر مصر وحماة إلى حلب وانضم إليهم عسكرها ، وقصدوا بلاد سيس وحاصروا تل حمدان وفتحوها بالأمان من أيدي الأرمن وهدموها إلى الأرض. وفي سنة ٧٠٥ في أوائل المحرّم المصادف عشرين من تموز أرسل قراسنقر نائب حلب مملوكه قشتمر إلى بلاد سيس ، وكان المملوك المذكور أخرق سكّيرا ، ففرّط في حفظ العسكر ولم يطالع العدو ، فجمع صاحب سيس جموعا كثيرة من التتر والأرمن والفرنج وكبسوا قشتمر ومن معه ، فولى الحلبيون منهزمين وتمكن التتر والأرمن منهم وأفنوا غالبهم. ومن سلم منهم اختفى في تلك الجبال ، ولم يصل منهم إلى حلب إلا قليل حفاة عراة.

وفي سنة ٧١٠ ولي نيابة حلب سيف الدين قبجق عوضا عن قراسنقر ، فلم تطل مدته بها ومات قبل انتهاء السنة وولى مكانه أسندمر ، وولي نيابة السلطنة بالفتوحات بحلب جمال الدين أقوش الأفرم. ثم إن أسندمر المذكور استقر بحلب وصدر السلطان متوغر عليه لجرائم سبقت منه ، فلم يشعر إلا ووصل إليه جمّ غفير من العساكر المصرية وعساكر حماة وحمص فقبضوا عليه وجهزوه إلى مصر مقيدا وضبط ماله إلى بيت المال ، وكان ذلك في اليوم الحادي عشر ذي الحجة.

وفي سنة ٧٩١ لما قبض على أسندمر سأل قراسنقر نائب دمشق من السلطان أن يعيده إلى نيابة حلب لتعوّده عليها ، فرسم له بما طلب وحضر قراسنقر إلى حلب واستقر بها إلى أوائل شوال ، واستأذن للحجاز فأذن له فخرج من حلب وأضمر في نفسه العصيان ، واجتمع بأمير العرب مهنّا بن عيسى واتفقا على المشاققة. فبلغ السلطان ذلك فسيّر إلى

١٤٢

قراسنقر ومهنا يطيّب خاطرهما ، فلم يرجعا عن إصرارهما. فجرد إليهما عسكرا فخاما عن لقائه إلى جهة الفرات ، وبقي العسكر بحلب والحاكم عليها المشدّون والنّظّار (١) وليس لها نائب.

وفي سنة ٧١٢ في العشر الأول من ربيع الأول وصل نائب السلطان إلى حلب وهو سيف الدين سودي الجمداري الأشرفي الناصري عوضا عن قراسنقر المذكور ، وفيها قويت أخبار التتر وجفل أهل حلب وبلادها. وكان وصل إلى حلب ـ لمدافعتهم ـ الملك المؤيد أبو الفداء مع عساكره وعسكر دمشق ، ثم وصل التتر إلى بلاد سيس والفرات. فعندها رحل الأمير سيف الدين سودي مع العساكر إلى حماة ودخلها يوم السبت سابع رمضان وأقام بظاهر حماة ونزل بعض العسكر في الخانات. وكان البرد شديدا والجفّال قد ملؤوا البلد ، وكان التتر نازلين على الرحبة مجدّين في حصارها. فلما طال حصارهم لها وقع بهم الغلاء ورحلوا عنها في السادس والعشرين رمضان ، واستولى أهل الرحبة على آلات حصارهم ، وعاد سودي نائب حلب بمن معه من العساكر الحلبية. وفي هذه السنة سعى سيف الدين سودي بجرّ ماء من نهر الساجور إلى نهر حلب ، ففتح له مجرى أنفق عليه نحو ثمانمائة ألف درهم ، نصفها من ماله والنصف الآخر من بيت المال. وقبل أن يتم العمل قيل له إن من يسعى بجرّ ماء من الساجور إلى قويق يموت بغتة ، فترك العمل وذهب ما صرفه سدى.

وفي سنة ٧١٣ خرجت معرة النعمان من معاملات حماة وأضيفت إلى معاملات حلب. وفي رجب سنة ٧١٤ توفي الأمير سيف الدين سودي نائب حلب ، وكان مشكور السيرة وولي السلطان مكانه الأمير علاء الدين ألطونبغا الحاجب ، فوصل إلى حلب في أوائل شعبان. وقد انتفعت حلب بهذا النائب وعمر جامعه بالميدان الأسود ونقل إليه أعمدة عظيمة من قورس. وعمرت بسبب هذا الجامع أماكن كثيرة وقد سبق الكلام عليه في محلة ألطونبغا في الجزء الثاني. وفي سنة ٧١٥ في شعبان سار شطر جيش حلب لحصار قلعة عرقينة ـ من أعمال آمد ـ فتسلموها بالأمان بلا كلفة وقتلوا بها طائفة وسلخ أخو مندوه وعلّق على القلعة. وأغار العسكر على قرى الأرمن والأكراد ورجعوا سالمين.

__________________

(١) المشدّون : جمع «المشدّ» وهو خفير يقوم بخدمة الوالي. والنظّار : جمع «الناظر» وهو المسؤول الأول عمّا يجري في الديوان ، وعن أوراقه وموظفيه.

١٤٣

وفي سنة ٧١٦ في نيسان ترادفت الأمطار في بلاد حلب وحماة وحمص وحملت السيول وغرقت ضيعة من بلاد حمص ، ووقع مع المطر في بعض الجهات برد ، الواحدة في حجم النارنجة ، وصحبه شيء من السمك والضفادع وطمى السيل على الوهاد ، وأغرق ما مر به وخرب كثيرا من الأماكن ، وحمل عدة بيوت من العرب والتركمان والأكراد.

غزو بلاد سيس

وفي سنة ٧٢٠ قدم على حلب عساكر دمشق وساروا جميعا صحبة ألطونبغا (١) نائب حلب ـ إلى بلاد سيس ، واقتحموا نهر جيحان وكان زائدا ، فغرق به بعض العساكر. ثم نازلوا قلعة سيس وزحف العسكر حتى بلغ السور وغنموا منها وأتلفوا البلاد والزروع وساقوا المواشي ـ وكان شيئا كثيرا ـ ثم عادوا وقطعوا جيحان ، وكان قد انحطّ ، ودخلوا حلب وفي أواخر ربيع الآخر وسار كلّ لبلده.

وفي سنة ٧٢٢ قدم إلى حلب عسكر مصر ودمشق والساحل وانضم إليهم عسكر حلب وساروا جميعا صحبة ألطنبغا (٢) نائب حلب إلى إياس من بلاد سيس ونازلوها وملكوها بالسيف ، وعصت عليهم القلعة أولا ثم هرب منها الأرمن وألقوا فيها النار ، وملكها المسلمون وهدموا منها ما أمكنهم. وفي سنة ٧٢٣ أجدبت الأرض من دمشق إلى حلب وانحبس المطر ولم ينبت إلا القليل ، واستسقى الناس فلم يسقوا. وفي سنة ٧٢٤ رسم السلطان بإبطال المكوس عن سائر أصناف الغلة بالشام فأبطلت وكان شيئا كثيرا. وفي سنة ٧٢٥ أفتى قاضي القضاة كمال الدين بن محمد بن علي الزملكاني بتحريم الاجتماع بمشهد روحين ودير الزربة وأشباههما ومنع من شدّ الرحال إليها ، ونودي بذلك في المملكة الحلبية فإنه كان يشتمل على منكرات وبدع ، وعملت في تحريم ذلك المقامة المشهدية.

وفي سنة ٧٢٧ في آخر المحرم طلب ألطنبغا إلى الديار المصرية. ثم في صفر وصل إلى حلب مكانه الأمير سيف الدين أرغون الناصري. وفيها انتزع القاضي ابن الزملكاني كنيسة اليهود المجاورة للعصرونية. وقد تكلمنا على ذلك في ترجمته ، وفي الكلام على اليهود في المقدمة.

__________________

(١) المؤلف ، كعادته ، لا يلتزم برسم واحد لأسماء الأعلام الأعجمية. وقد تكرر ذلك في كتابه هذا.

(٢) المؤلف ، كعادته ، لا يلتزم برسم واحد لأسماء الأعلام الأعجمية. وقد تكرر ذلك في كتابه هذا.

١٤٤

وفي سنة ٧٣١ نهار الأربعاء تاسع صفر ، وصل نهر الساجور إلى حلب فزيد به نهر قويق بساقية بناها الأمير أرغون الدوادار ، وكان يوم وصوله يوما مشهودا خرج لتلقّيه ملك الأمراء وسائر الناس مشاة مكبرين مهللين ، وكان قبله الأمير سودي شرع بإجرائه إلى حلب فقيل له : من جرّه يموت في عامه ، فتركه. وقيل مثل ذلك لأرغون فلم يلتفت إلى هذا القول فمات بعد أربعين يوما وذلك في ربيع الأول ، وخرجت جنازته مكشوفة عليها كساء خلق من غير ندب ولا نياحة (١) ولا قطع شعر ، ولا لبس جلّ ، ولا تحويل سرج ، طبق ما أوصى به ، ودفن بسوق الخيل قبليّ القلعة وعملت له تربة حسنة سقفها السماء (٢). وقبره دارس. وكان متقنا لحفظ القرآن الكريم مثابرا عليه متشرعا في أحكامه كتب بخطه صحيح البخاري ـ بعد ما سمعه على الشيخ أبي العباس أحمد بن الشحنة الحجّار ، وويزة بنت عمر أسعد النجا بمصر في سنة ٧١٥ بقراءة الشيخ أبي حيان ـ واقتنى الكتب النفيسة وكان فيه ديانة رحمه الله. وفي جمادى الأولى سنة ٧٣١ عاد الأمير علاء الدين ألطنبغا إلى نيابة حلب وفرح الناس به وأظهروا السرور.

وفي سنة ٧٣٣ في خامس [عشر](٣) شعبان وصل حلب شادّا (٤) : الأمير بدر الدين لؤلؤ القندشي وعلى يده تذاكر وصادر المباشرين وغيرهم ومنهم النقيب بدر الدين محمد بن زهرة الحسيني ، والقاضي جمال الدين بن ريان ناظر الجيش ، وناصر الدين محمد بن قرناص عامل الجيش ، وعمه المحبّي عامل المحلولات ، وعدة ذوات من الحلبيين ، واشتد به الخطب وانزعج الناس كلهم [حتى] البريئون ، وقنت (٥) الناس في الصلاة يدعون عليه وقال ابن الوردي فيه :

قلبي لعمر الله معلول

بما جرى للناس مع لولو

يا ربّ قد شرّد عنّا الكرى

سيف على العالم مسلول

وما لهذا السيف من مغمد

سواك يا من لطفه سول

__________________

(١) في الأصل : «نياحية» فصوّبناها من «تتمة المختصر» ٢ / ٤١٩.

(٢) أي ليس لها حجرة ولا سقف.

(٣) ما بين مربعين من تتمة المختصر ٢ / ٤٢٨ وكذا ما يأتي بعده.

(٤) الشادّ : هو الذي يتولى وظيفة التفتيش ، بحسب الاختصاص الذي يضاف إليه.

(٥) تصحفت الكلمة ، في الأصل إلى : «وفتنت» والتصويب من «تتمة المختصر».

١٤٥

لولو ، هذا : كان مملوكا لقندش ضامن المكوس في حلب ، ثم صار ضامن العداد ، ثم صار منه ما صار وعزل ونقل إلى مصر ، ففعل بها أعظم ما فعله بحلب ، وعاقب حتى المخدّرات (١).

وفي سنة ٧٣٥ في شوال عاد عسكر حلب ونائبها من غزاة بلد سيس وقد خربوا بلد أدنة وطرسوس وأحرقوا الزرع واستاقوا المواشي ، وأتوا بمائتين وأربعين أسيرا وما عدم منهم سوى شخص واحد غرق في النهر وكانوا عشرة آلاف سوى من تبعهم. فلما علم أهل إياس بذلك أحاطوا بمن عندهم من المسلمين التجار البغاددة وغيرهم نحو ألف نسمة ، وحبسوهم في خان وأحرقوهم ، وقليل من نجا منهم ، وذلك في يوم عيد الفطر ، واحترق في حماة مائتان وخمسون حانوتا ، واحترقت أنطاكية إلا القليل منها.

وفي سنة ٧٣٦ وصل الأمير سيف الدين أبو بكر الباشري إلى حلب وصحب معه منها الرجال والصنّاع لعمارة قلعة جعبر ، وكانت خربة من زمن هولاكو ، وهي من أمنع القلاع. وقد لحق المملكة الحلبية وغيرها ـ بسبب عمارتها ونفوذ ماء الفرات إلى أسفل منها ـ كلفة كثيرة. وفي صفر طلب من البلاد الحلبية رجال للعمل بنهر قلعة جعبر ورسم أن يؤخذ من كل قرية نصف أهلها فخلت عدة ضياع بسبب ذلك. ثم طلب من أسواق حلب رجال استخرجت أموالهم ، وتوجه نائب حلب إلى القلعة المذكورة مع قريب من عشرين ألف رجل.

وفي سنة ٧٣٧ توفي الأمير الشاب الحسن جمال الدين خضر ابن ملك الأمراء علاء الدين ألطنبغا نائب حلب ، ودفن بتربة حسنة بالمقام عملها له والده عند جامع المقام خارج حلب. وفي رمضان قدم إلى حلب أمراء من مصر ودمشق وطرابلس وحماة ومعهم عسكرهم والمقدّم على الكل ألطنبغا نائب حلب ، ورحلوا إلى بلاد الأرمن وحاصروا ميناء إياس ثلاثة أيام. ثم قدم رسول الأرمن من دمشق بكتاب نائبها يتضمن طلب الكف عنهم على أن يسلموا البلاد والقلاع التي في شرقي نهر جيحان. فتسلموا منهم ذلك وهو ملك كبير وبلاد كثيرة : كالمصيصة وكوبرا والهارونية ، وسرفند كار ، وإياس ونجيمة والنقير ، فخرب المسلمون برج إياس الذي في البحر واستنابوا في البلاد وعادوا منها في ذي الحجة.

__________________

(١) أي النساء في خدورهنّ.

١٤٦

وفيها ورد الأمر بالسماح في جميع مراكز المملكة عما يؤخذ على الأغنام الدغالي (١) الداخلة إلى حلب ، وأن يقتصر بأخذ الرسم على الأغنام الكبار ، وفيها وقف صلاح الدين يوسف ابن الأسعد الدواتدار (٢) داره النفيسة بحلب ـ المعروفة أولا بدار ابن العديم ـ مدرسة على المذاهب الأربعة ، وشرط تدريسها على القاضي الشافعي والقاضي الحنفي.

وفي سنة ٧٣٨ في صفر توفي بدر الدين بن محمد بن إبراهيم بن الدقاق الدمشقي ناظر الأوقاف بحلب. وفي أيام نظره فتح الباب المسدود الذي بالأموي شرقيّ المحراب الكبير ، لأنه سمع أنّ بمكانه رأس زكريا عليه السلام فارتاب في ذلك ، فأقدم على فتح الباب بعد أن نهي عنه ، فوجد بابا عليه تأزير رخام أبيض ، ووجد فيه تابوت رخام أبيض فوقه رخامة بيضاء مربعة. فرفعت الرخامة عن التابوت فإذا فيها بعض جمجمة فهرب الحاضرون هيبة لها وردّ التابوت بغطائه إلى موضعه وسد عليه الباب ، ووضعت خزانة المصحف الشريف على الباب وقد أثرت هذه الهيبة بالناظر المذكور وابتلي بالصرع إلى أن عض على لسانه فقطع ومات.

وفي العشر الأوسط من ربيع الآخر عزل ملك الأمراء علاء الدين ألطنبغا عن نيابة حلب. وفي العشر الأول من جمادى الأولى قدم إلى حلب الأمير سيف الدين طرغاي نائبا بها. وفي سنة ٧٣٩ نادى مناد في جامع حلب وأسواقها ـ وقدامّه شادّ الوقف (٣) بدر الدين تيليك الأسند من أمراء العشرات ـ بما صورته : «معاشر الفقهاء والمدرسين والمؤذنين وأرباب الوظائف الدينية ، قد برز المرسوم العالي أن كل من قطع منكم وظيفته وغمز عليه ، يستأهل ما يجري عليه». فانكسرت لذلك قلوب الناس لأن هذا النداء يدل على بغض أهل العلم والدين. ثم نكب بدر الدين لكلمة صدرت منه وعقد له بدار العدل يوم العيد مجلس مشهور ، وأفتى العلماء بتجديد إسلامه وعزله وضربه ، فشمت به الناس.

وفي سنة ٧٤١ عزل طرغاي عن حلب وكان ـ على طمعه ـ يصلي ويتلو كثيرا. وفيها وصل إلى حلب نائبا عليها طشتمر سيف الدين الناصري المعروف بحاجي خضر.

__________________

(١) المفرد «الدغلي» وهو الخروف الذي لا يتجاوز عمره سنة واحدة. والكلمة تركية.

(٢) الدواتدار «الدواة ـ دار» : معناها حامل الدواة.

(٣) أي ناظر الوقف والمشرف على أموره.

١٤٧

وفيها وصل إلى حلب فيل وزرافة جهزهما الملك الناصر لصاحب ماردين. وفي سنة ٧٤٢ نهب ألطنبغا مال طشتمر حاجي خضر نائب حلب لأنه لم يوافقه على رأيه في خلع السلطان ، وهرب طشتمر المذكور إلى الروم وفيها عوقب بحلب لولو القندشي المكّاس المتقدم ذكره ، وعذب بدار العدل حتى مات واستصفي وشمت به الناس.

وفي ذي الحجة وصل الأمير علاء الدين أيدغش الناصري إلى حلب نائبا في حشمة عظيمة ، وخلع على كثير من الناس وأقام إلى صفر ثم نقل إلى نيابة دمشق وتأسف الحلبيون عليه. وفي هذه السنة وهي سنة ٧٤٢ توفي أحد أمراء حلب ، بدر الدين محمد بن الحاج أبي بكر ، ودفن بجامعه الكائن قرب جسر الدباغة المعروف بمسجد أولاد أبي بكر. وقد أسلفنا الكلام عليه عند ذكر محلة حسر السلاحف من الجزء الثاني. وفي هذه السنة ولي حلب الأمير سيف الدين طقزتمر الحموي ، ودخلها في عاشر صفر سنة ٧٤٣ وفي رجب هذه السنة نقل طقزتمر إلى نيابة دمشق وولي مكانه حلب الأمير علاء الدين ألطنبغا المارداني.

وفيها وصل علاء الدين القرع إلى حلب قاضيا للشافعية. وأول درس ألقاه بالمدرسة قال فيه : «كتاب الطهارة باب الميّات» (١) ، بإبدال الهاء تاء ، قال ابن الوردي : فقلت للحاضرين : لو كان باب الميّات لما وصل «القرع» إليه ولكنه باب الألوف. ثم قال القاضي : قال الله تعالى : وجعلها كلمة باقية في عنقه ، مكان «عقبه» ، فقال ابن الوردي : لا والله ولكنها في عنق من ولّاه. فاشتهر عن ابن الوردي هاتان التنديدتان في الآفاق.

وفيها توفي بحلب الشيخ كمال الدين المهمازي وكان مقبولا عند الملك الناصر ووقف عليه حمّام السلطان ، وسلم إليه تربة ابن قره سنقر ، وبه سميت هذه التربة. وفيها اعتقل القرع بقلعة حلب معزولا ، ثم فك عنه الترسيم وسافر إلى القاهرة. وفيها توفي بحلب الحاج معتوق الدبيسري ، وهو الذي عمر الجامع بطرف بانقوسا ودفن بتربة بجانب الجامع. وفي سنة ٧٤٤ في صفر توفي الأمير علاء الدين ألطنبغا المارداني نائب حلب ودفن خارج باب المقام.

__________________

(١) يريد : «المياه» ؛ ولكنه شدّد الياء وأبدل الهاء تاء.

١٤٨

تمزيق كتاب فصوص الحكم

قال ابن الوردي : وفيها مزّقنا كتاب «فصوص الحكم» بالمدرسة العصرونية بحلب عقيب الدرس وغسلناه ـ وهو من تصانيف ابن عربي ـ تنبيها على تحريم قنيته ومطالعته. وفي ربيع الأول وصل الأمير سيف الدين يلبغا اليحياوي نائبا إلى حلب وكان حسن السيرة ، وفيها حاصر يلبغا نائب حلب زين الدين قراجا بن دلغادر التركماني بجبل الدلدل ـ وهذا الجبل ممتنع ، موقعه في جانب جيحان ـ فلم ينل منه يلبغا طائلا بل قتل كثير من عسكره وأسر. واشتهر اسم زين الدين وعظم على الناس شرّه. وكانت هذه الحركة من يلبغا في غير محلها.

وفيها كانت الزلزلة العظيمة المزعجة العميمة ، أخربت كثيرا من الأماكن ودخلت إلى مصر والشام ، وتواتر بعدها الزلزال مدة فسكن الناس في الصحاري ، وتشعّث في جامع حلب بعض الجهات وانفتحت منارته ثم التأمت ، وتهدم كثير من القلاع والحصون ، ومات تحت الردم خلق كثير وكاد الخراب يعم مدينة منبج. وفيها يقول ابن الوردي :

منبج أهلها حكوا دود قزّ

عندهم تجعل البيوت قبورا

ربّ نعّمهم فقد ألفوا من

شجر التوت جنة وحريرا

وقال أبو محمد الحسن بن حبيب الحلبي ، فيمن خرج إلى برّ حلب خوفا من الزلزلة :

يا فرقة فرقوا وعن حلب نأوا

وتباعدوا لما رأوا زلزالها

ما زلزلت شهباؤنا وتحرّكت

إلا لتخرج عامدا أثقالها

وفي سنة ٧٤٦ في ربيع الآخر نقل يلبغا نائب حلب إلى نيابة دمشق ، وخلفه الأمير سيف الدين أرقطاي ، فأبطل الخمور والفجور بعد اشتهارها ، ورفع عن القرى الطّرح وكثيرا من المظالم ، ورخّص السعر ، وسرّ به الحلبيون. وفيها كتب على باب القلعة وغيرها من القلاع نقرا (١) في الحجر ما مضمونه مسامحة الجند بما كانوا يدفعونه لبيت المال بعد وفاة الجندي والأمير ، وذلك علوفة أحد عشر يوما عن كل سنة أمضاها المتوفّى في الجندية ، وهذا القدر هو التفاوت بين السنة الشمسية والقمرية. وهذه مسامحة بمال عظيم.

__________________

(١) النّقر : الكتابة في الحجر.

١٤٩

وفي محرم سنة ٧٤٧ طلب أرقطاي نائب حلب إلى مصر فسار إليها. وفي ربيع الأول وصل إلى حلب الأمير سيف الدين طقتمر الأحمدي نائبا عليها. ثم في رجب منها سافر إلى مصر لوحشة بينه وبين نائب دمشق لأنه لم يساعده على خلع السلطان الكامل صاحب مصر والشام. ثم في شعبان منها وصل إلى حلب نائبا عليها الأمير سيف الدين بيدمر البدري وكان عنده حدّة وقسوة : كرهت فتاة زوجها قبل أن يدخل عليها ، فلقّنت كلمة الكفر لفسخ نكاحها ، وهي لا تعلم معناها. فأمر بيدمر فقطعت أذناها وشعرها وعلّق ذلك على عنقها وشق أنفها وطيف بها على دابة بحلب وتيزين ، وهي من أجمل البنات وأحياهن ، فشق ذلك على الناس وعمل النساء عليها عزاء في كل ناحية حتى النساء اليهود وأنكرت القلوب قبح ذلك. قال ابن الوردي :

وضجّ الناس من بدر منير

يطوف مشرّعا بين الرجال

ذكرت ، ولا سواء ، بها السبايا

وقد طافوا بهن على الجمال

وفي محرّم سنة ٧٤٨ وصل إلى حلب شهاب الدين بن أحمد بن الرياحي على قضاء المالكية بحلب ، وهو أول مالكي استقضى بحلب. وفيها ظهر بين منبج والباب جراد عظيم صغير من بزر السنة الماضية ، فخرج عسكر من حلب وخلق كثير من فلاحي النواحي الحلبية ـ نحو أربعة آلاف نفس ـ لقتله ودفنه ، وقامت عندهم أسواق وصرفت من الرعية أموال. وهذه سنة ابتدأ بها ألطنبغا الحاجب من قبلهم. وفي المحرّم سافر الأمير ناصر الدين المحبّي من حلب بعسكر لتسكين فتنة ببلد شيزر بين العرب والأكراد ، قتل فيها من الأكراد نحو خمسمائة نفس ونهبت أموال ودوابّ. وفيها ثار الأرمن في «إياس» فنكّل بهم أمير إياس حسام الدين الشيباني وأرسل من رؤوسهم إلى حلب.

وفي منتصف ربيع الأول سافر البدري نائب حلب إلى مصر معزولا. أنكروا عليه فعله في البنت المتقدم ذكرها وندم على ما فعل. وفيه وصل إلى حلب نائبا أرغون شاه الناصري في حشمة عظيمة. وفي ربيع الآخر قدم على كركر ولختا عصافير كالجراد المنتشر فسار الناس إلى شيل غلّات البذر وهذا ممّا (١) لم يسمع بمثله. وفيه وصل تقليد القاضي شرف الدين موسى بن فياض الحنبلي بقضاء الحنابلة بحلب ، فصار القضاة أربعة. ولما بلغ

__________________

(١) في الأصل : «حمام» بدل «مما». والتصويب من تتمة المختصر ٢ / ٤٩١.

١٥٠

بعض الظرفاء أن حلب تجدد بها قاضيان مالكي وحنبلي ، أنشد قول الحريري في الملحة (١) :

ثم كلا النوعين جاء فضله

منكّرا بعد تمام الجمله

وفي جمادى الآخرة نقل أرغون شاه نائب حلب إلى نيابة دمشق ، وهو في غاية السطوة ، مقدم على سفك الدماء بلا تثبّت ، قتل في هذه المدة اليسيرة خلقا كثيرا ووسّط وسمّر (٢) ، وقطع بدويا سبع قطع بمجرد الظن ، وغضب على فرس له ثمينة (٣) ، مرح بالعلافة فضربه حتى سقط ، ثم قام فضربه حتى سقط. وهكذا عدة مرات حتى عجز عن القيام. فبكى الحاضرون على هذا الفرس فقيل فيه :

عقلت طرفك حتى

أظهرت للناس عقلك (٤)

لا كان دهر يولّي

على بني الناس مثلك

وفي أواخر هذه السنة أعني ٧٤٨ وصل إلى حلب نائبا فخر الدين إياز ، نقل إليها من صفد ، ثم في شوال منها إلى مصر معتقلا. وفي ذي الحجة وصل إلى حلب مكانه سيف الدين الحاج أرقطاي الناصري ، ولما دخل إلى حلب أعفى الناس من زينة الأسواق لأنها تكررت حتى سمجت.

وفي شوال وصل إلى حلب ـ من قبل السلطان ـ أسود ليأخذ على كل رأس غنم تباع بحلب وحماة ودمشق درهما. فيوم وصوله إلى حلب وصل خبر قتل مرسله السلطان ، فسرّ الناس بذلك. وفيها كان الغلاء بحلب وحماة ودمشق. وحلب أخفّ غلاء من غيرها ، وأشدّه بدمشق ، حتى انكشف الحال وجلا كثير من أهلها إلى حلب وغيرها ، وصلت فيها غرارة الحبّ إلى ثلاثمائة درهم ، وبيع البيض كل خمس بدرهم ، واللحم : الرطل بخمسة دراهم وأكثر ، والزيت : الرطل بستة أو سبعة. وفي العشر الأوسط من آذار في

__________________

(١) في الأصل «اللمحة» خطأ ، والمراد به متن «ملحة الإعراب» للحريري صاحب المقامات.

(٢) وسّطه : قطعه نصفين. وسمّره : شدّه بالمسامير أو ثبّته بها.

(٣) في تتمة المختصر : «على فرس له قيمة كبيرة» وهو أجود. وقوله بعد ذلك : «مرح بالعلافة» يريد : عبث بالعلف وبعثره جدا.

(٤) الطّرف : الجواد الأصيل.

١٥١

هذه السنة وقع بحلب وبلادها ثلج عظيم وتكرر ، فأغاث الله به البلاد واطمأنّت قلوب العباد ، وجاء عقيب غلاء الأسعار وقلة الأمطار. وفيها توفي الحاج إسماعيل بن عبد الرحمن العزازي ، كان له منزلة عند ألطنبغا الحاجب نائب حلب ، وبنى بعزاز مدرسة وساق إليها القناة الحلوة وانتفع الجامع وكثير من المساجد بهذه القناة. وله آثار غير ذلك.

وفي سنة ٧٤٩ أسقط القاضي المالكي الرياحي بحلب تسعة من الشهود ضربة واحدة فاستهجن منه ذلك ، وأعيدوا إلى عدالتهم ووظائفهم. وفيها قتل بحلب زنديقان أعجميان كانا مقيمين بدلوك. وفي ذي القعدة ظهر بمنبج ـ على قبر النبي متّى ، وقبر حنظلة بن خويلد ، أخي خديجة رضي الله عنها (وهذان القبران بمشهد النور خارج منبج) وعلى قبر الشيخ عقيل المنبجي ، وعلى قبر الشيخ ينبوب ، وهما داخل منبج ، وعلى قبر الشيخ علي ، وعلى مشهد المسيحات شمالي منبج ـ أنوار عظيمة ، وصارت الأنوار تنتقل من قبر بعضهم إلى قبر بعض وتجتمع وتتراكم ، ودام ذلك إلى ربع الليل حتى انتبه لذلك أهل منبج وكتب قاضيهم بذلك محضرا وجهزه إلى دار العدل بحلب.

طاعون كبير

وفيها كان الفناء العظيم والطاعون العميم الذي جاز البلاد والأمصار ولم يسمع به في سالف الأعصار وأخلى الديار والبيوت وأوقع الناس في علة السكوت. وكان إذا طعن به إنسان لا يعيش أكثر من ساعة رملية ، وإذا عاين ذلك ودّع أصحابه وأغلق حانوته وحضّر قبره ومضى إلى بيته ومات. وقد بلغت عدّة الموتى في حلب في اليوم الواحد نحو خمسمائة ، وبدمشق إلى أكثر من ألف ، ومات بالديار المصرية في يوم واحد نحو العشرين ألفا. هكذا ورد الخبر واستمر نحو سنة وفني به من العالم نحو ثلثيهم. وفيه يقول ابن الوردي :

سألت بارىء النّسم (١)

في رفع (٢) طاعون صدم

فمن أحسّ بلع دم

فقد أحسّ بالعدم

__________________

(١) في الأصل : «النسيم» خطأ.

(٢) في تتمة المختصر : «دفع» بالدال. والمعنى واحد.

١٥٢

وقد كثرت فيه أرزاق الجنائزية ، فهم يلهون ويلعبون ويتقاعدون على الزبون ، ولو رأيت بحلب الأعيان وهم يطالعون من كتب الطب الغوامض ، ويكثرون في علاجه من أكل النواشف والحوامض ، ويستعملون الطين الأرمني وقد بخّروا بيوتهم بالعنبر والكافور والصندل ، وتختموا بالياقوت وجعلوا الخل والبصل من جملة الأدم والقوت. قيل : إن هذا الوباء ابتدأ من الظلمات قبل وصوله إلى حلب بخمسة عشر عاما ، وهو سادس طاعون وقع في الإسلام ، وعنه قيل : إنه الموتان الذي أنذر به عليه السلام.

وفي سنة ٧٥٠ نقل الحاج أرقطاي الناصري إلى نيابة دمشق فخرج إليها فمات بعين المباركة وحمل إلى حلب ودفن بتربة سودي. وولي حلب قطليجا الحموي فمات بعد شهر من ولايته ، فوليها بعده الأمير أرغون الكاملي. وفي سنة ٧٥١ كثر طغيان العرب والتركمان في بلد سنجار وتمادى بغيهم وفسادهم ونهبوا أموال التجار وقطعوا الطريق فركب إليهم الناصري نائب حماة مع العساكر الشامية وجدّ في حصارهم بقلعة سنجار حيث تحصنوا بها وضيّق عليهم إلى أن نفذ (١) زادهم وطلبوا الأمان فأمنوهم وأنزلوهم وانقطع فسادهم ، وزيّنت حلب يوم قدوم الناصري منصورا عليهم مظفرا بهم. وفي سنة ٧٥٢ ولي نيابة حلب الأمير سيف الدين بيبغاروس القاسمي.

وفي سنة ٧٥٣ أظهر بيبغاروس العصيان وانضم إلى نائب صفد وحماة وطرابلس والأمير زين الدين قراجا بن دالغادر ، وساروا إلى دمشق وحصروها إلى أن مشى عليهم الملك الصالح فساروا عنها إلى حلب. وفي هذه السنة ولي نيابة حلب ثانية سيف الدين أرغون الكاملي. وفيها في سلخ شعبان ورد على حلب نائب صفد وحماة وطرابلس ـ ومعهم عدة عربان وتركمان ـ وكانت خالية من العسكر والنوّاب ، وذلك قبل أن يصل إليها نائبها أرغون الكاملي المذكور. وكان عسكر حلب في تجريدة (٢) فنزل النواب المذكورون بظاهر حلب من جهة القلة وعسكرهم قد أحاطوا بهم. ثم زحفوا على المدينة فقتلوا جماعة من المسلمين وأشرفوا على فتح حلب ثم انصرفوا عنها وكانت عاقبة نائبي صفد وحماة القتل في دمشق ، وعاقبة بيبغاروس القتل تحت قلعة حلب صبرا. وفيها ظهر شخص بحلب يعرف

__________________

(١) الصواب : «نفد» بالدال.

(٢) التجريدة : الطائفة من الخيل. وتطلق أيضا على الجماعة من الجند.

١٥٣

بوضاح الخياط وادعى النبوة وذكر أنه قيل له : يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا. فسجن واستتيب.

وفي سنة ٧٥٤ توجه أرغون الكاملي نائب حلب مع العساكر الحلبية إلى مدينة البستان في طلب الأمير قراجا بن دلغادر مقدم التركمان ، ليقبض عليه بسبب اتفاقه مع بيبغاروس ، فلما وصلوا إليها وجدوها مقفرة خالية وقد انهزم قراجا المذكور ، فجاسوا خلال الديار وهدموا الحصون والأسوار. وفي ذلك يقول ابن حبيب الحلبي مخاطبا لأرغون :

نازلت «أبلستين» يا ليث الشّرى

ونزيلك التوفيق والتمكين

أقوت معالمها وأقفر أهلها

وكذا ديار الظالمين تكون

ثم سار النائب المذكور يتتبع آثار المنهزمين حتى أدرك قراجا المذكور بأطراف الروم وقد التجأ إلى صاحبها ، فأمسكه وجهزه إلى السلطان بمصر فقتله. وعاد أرغون إلى حلب. وفي سنة ٧٥٥ ولي نيابة حلب الأمير سيف الدين طاز الناصري فاعتقل بعد ثلاث سنين. وفي سنة ٧٥٨ مات أرغون الكاملي بالقدس الشريف ، وهو صاحب المارستان بحلب داخل باب قنسرين ، وقد وقف عليه قرية بنّش من الغربيات. وقد سبق الكلام عليه عند ذكر محلة باب قنسرين في الجزء الثاني. وفي سنة ٧٥٩ ولي نيابة حلب سيف الدين منجك الناصري. ثم في هذه السنة وليها الأمير علاء الدين المارديني.

وفي سنة ٧٦٠ اجتمع أولاد مهنّا ومن تبعهم من العرب ، وانضم إليهم جمع من بني كلاب ، وغزوا التركمان في العمق ونهبوا منهم ما يزيد على عشرين ألف بعير. وتواترت الحروب بينهم وانقطع الطريق واضطرب الناس. وفيها ولي نيابة حلب الأمير سيف الدين بكتمر المؤمني ، ثم وليها الأمير سيف الدين بيدمر الخوارزمي.

غزو بلاد سيس

وفي سنة ٧٦١ توجه النائب المذكور صحبة العساكر الحلبية لغزو بلاد سيس فوصلوا إليها ونازلوا أكثر مدنها وأسروا وغنموا. ثم أتوا إلى طرسوس المدفون بها عبد الله المأمون ابن هارون الرشيد ففتحوها من أيدي الأرمن ومهدوها وأصلحوا جوامعها وأخذوا ما وجدوا من الخيول والأسلحة. ثم دنوا من المصيصة ـ وهي بلدة قديمة يجري بوسطها

١٥٤

نهر جيحان ـ فاستولوا عليها ، ثم فتحوا عدة قلاع في تلك البقاع ، ثم عادوا إلى حلب سالمين.

وفي هذه السنة ولي حلب الأمير شهاب الدين أحمد بن القشتمري. وفي سنة ٧٦٢ وليها سيف الدين قطلوبغا الأحمدي. وفي سنة ٧٦٣ وليها سيف الدين منكلي بغا الشمسي. وفي هذه السنة ولي قضاء المالكية بحلب أحمد بن عبد الظاهر الدّميري عوضا عن القاضي شهاب الدين الرياحي ، وبقي إلى أن توفي سنة ٧٦٩ وفي سنة ٧٦٤ وليها ثانية قطلوبغا الأحمدي المذكور فمات بها بعد ثلاثة أشهر. وفي سنة ٧٦٥ وليها الأمير سيف الدين أشقتمر المارديني.

إبطال وكلاء الدعاوي

وفيها أمر السلطان الملك الأشرف بإبطال الوكلاء المتصرفين بأبواب مصر والشام لأنهم يتغلبون على الخصوم ويؤذونهم بما هو من كتب صناعتهم ، ويقبلون على إبطال الحقوق بقواعد معلومة بينهم ، ويلجئون موكليهم إلى الإنكار فقوبل المرسوم الشريف بالطاعة وبطل ما كانوا يعملون. وفي سنة ٧٦٦ ولي حلب سيف الدين جرجى. وفي سنة ٧٦٧ توجه المذكور ومعه العساكر إلى جزيرة من ديار بكر لمنازلة صاحبها الأمير خليل بن قراجا دلغادر (١) التركماني ، وهي من أخصب الجزائر وأحسنها ، وفيها قلعة أحكمها صاحبها. فشرع جرجى في حصارها وتردد إليها مدة أربعة أشهر فلم يظفر منها بطائل. ثم إن صاحبها

__________________

(١) كلمة «دلغار» محرفة عن ذي القدر ، وهي لقب طائفة من التركمان كانت في جهات الأناضول تحت حكم الدولة السلجوقية. وقد عرفت بالسخاء والشجاعة والبطولة في محاربة أعداء الدولة. وكانت مشاغب الأرمن قد كثرت في أطراف المملكة السلجوقية وعجزت الدولة عن إخضاعها ، ولا سيما في مرعش والبستان وما إليهما من تلك الجهات. فأقطعت الدولة قراجا بن ذي القدر الجهات المذكورة ، فقهر فيها الأرمن واستفحل أمره حتى استولى على عدة بلاد هو وأعقابه من بعده وصاروا دولة مستقلة وكانت وفاته سنة ٧٨٨ وكانت مملكة ذي القدرية : مرعش ـ وهي عاصمتهم ـ والبستان وملطية وعينتاب وعزاز وخرت بورت وبهسنى ودارنده وقيرشهر وقيسارية وحصن منصور وقلعة الروم وبلاد سيس وغير ذلك. وهم ينتسبون إلى كسرى أنوشروان ويقولون إن جدهم الأعلى كان يعرف بذي القدر ، وقد استمر ملكهم هذه البلاد إلى سنة ٩٢٨ وفيها كان انقراض دولتهم عن يد بني عثمان ودخولها في ممتلكاتهم. تلقيت هذه النبذة مشافهة من متصرف مرعش المرحوم عارفي باشا الذي كان قبل تولّيه المتصرفية رئيس كتاب في مجلس إدارة الولاية. (المؤلف).

١٥٥

نزل بالأمان من السلطان وتوجه إلى الديار المصرية فقوبل بالإحسان.

وفي هذه السنة وهي سنة ٧٦٧ توجه الأمير سيف الدين منكلي بغا ـ وهو أتابك الجيوش بالديار المصرية ـ وصحبته العساكر الحلبية إلى مدينة إياس حين بلغهم أن الإفرنج قصدوها في مائة قطعة من المراكب وأقبلوا عليها ، فلما وصلوا وجدوهم قد برزوا إلى الساحل ودخلوا المدينة وانهزم أهلها ونهبوا الأمتعة والأقوات ، فتقدمت العساكر لقتا لهم ومحوا أثر من هجم على المدينة. وتواتر قدوم العساكر الإسلامية من القلاع وهرب الإفرنج إلى جهة البحر فأدركوا وقتل منهم جماعة وأخذت خيلهم وسلاحهم وتألم كل الإفرنج بسبب ذلك. واستمرت العساكر في إياس إلى أن يئسوا من عود الإفرنج. ثم رجعوا سالمين غانمين.

وفي سنة ٧٦٨ ولي منكلي بغا نيابة حلب ، وفيها تم بناء جامعه ونقش على بابه العبارة التي سبق ذكرها في الكلام عليه ، عند ذكر محلة ساحة بزّة. وفي سنة ٧٦٩ طمى نهر قويق وقلع الغراس وأخرب بيوتا كثيرة على شطه وأهلك عدة مواش ، ووصل إلى أماكن لم يصل إليها فيما مضى من الأزمان. وفي سنة ٧٦٩ ولي حلب علاء الدين طنبغا الطويل الناصري ومات مسموما في آخر هذه السنة ، دسّ إليه السمّ السلطان لما بلغه أنه يحاول السلطنة.

وفي سنة ٧٧٠ ولي حلب سيف الدين أسن بغا بن أبي بكر ، ونقل إلى مصر بعد ستة أشهر. ووليها مكانه سيف الدين قشتمر المنصوري فقتل في أواخر هذه السنة بوقعة جرت بينه وبين العرب الكلابيين وغيرهم ، حيث كثر فسادهم في البر وأخافوا السابلة ونهبوا عدة قبائل واستاقوا مواشيهم ، فقصدهم قشتمر المذكور واشتبك الحرب بينهم وانجلى عن قتله وقتل ولده وتشتت شمل العسكر ، واستولت العرب على سوادهم وقتلوا منهم جمعا كثيرا ومن سلم عاد إلى حلب بأسوإ حال. وفي سنة ٧٧١ ولي حلب سيف الدين أشقتمر المارديني.

وفي سنة ٧٧٢ في جمادى الأولى ظهر في السماء نور ساطع في لون الشفق الأحمر وضحت به مفارق الطرق واستمر من أول الليل إلى قرب الثلث الأخير. وفي سنة ٧٧٣ ولي حلب عز الدين أيدمر الدوادار الناصري ، وفيها رسم الملك الأشرف شعبان أن كل

١٥٦

شريف من أشراف الديار المصرية والشامية يسم عمامته بسمة خضراء ، توقيرا لهم ورعاية لحرمتهم وحفظا لنسبهم ، فقال في ذلك الشيخ أبو عبد الله المغربي ، محمد بن جابر الهواري الأندلسي نزيل حلب :

جعلوا لأبناء الرسول علامة

إن العلامة شأن من لهم يشهر

نور النبوة في كريم وجوههم

يغني الشريف عن الطراز الأخضر

وقال ابن حبيب :

ألا قل لمن يبغي ظهور سيادة

تملّكها الزّهر الكرام بنو الزّهرا

لئن نصبوا للفخر أعلام خضرة

فكم رفعوا للمجد ألوية حمرا

وقال محمد بن إبراهيم الدمشقي :

أطراف تيجان أتت من سندس

خضر كأعلام على الأشراف

والأشرف السلطان خصّهم بها

شرفا لتعرفهم من الأطراف

وفي سنة ٧٧٤ ولي حلب سيف الدين أشقتمر ثانية. وفيها وقع بالشام وبلاده طاعون بلغت فيه عدّة الموتى في اليوم نحو مائتي نفس. وفي سنة ٧٧٥ ولي حلب سيف الدين بيدمر الخوارزمي ، وبعد أربعة أشهر وليها مكانه سيف الدين أشقتمر ثالثة.

غزو سيس

وفي سنة ٧٧٦ وردت المراسيم الشريفة السلطانية من قبل الملك الأشرف شعبان إلى نائب حلب أشقتمر بأن يغزو سيس ويستخلصها من يد الأرمن. فتوجه النائب صحبة العساكر الحلبية حتى وصلوا إليها ونازلوها واجتهدوا في حصارها ، حتى طلب أهلها الأمان ودخلها المسلمون ورتبوا فيها نائب السلطان ، وكان فتحا عظيما طال عهد المسلمين بمثله. ثم رجع النائب المشار إليه إلى حلب ومعه تكفور صاحب سيس وجماعة من أمرائه وأجناده ، فجهزهم إلى القاهرة حسب المرسوم السلطاني. وقد عظم هذا النائب بهذا الفتح وامتدحته الشعراء بما يطول شرحه.

وفي سنة ٧٧٧ استمر الغلاء بالشام مبتدئا من سنة ٧٧٦ ففتك بأهل حلب وأهلك

١٥٧

كثيرا من الضعفاء. وقد بيع مكّوك القمح (١) بثلاثمائة درهم ، ورطل الخبز بدرهمين. فانكشف الستر وانهتك الحجاب وأقدم الناس على أكل الميتة والقطط والكلاب ، وغلت جميع الأقوات والمطعومات ، ووصلت إلى سعر لم يسمع بمثله. ولم يبرح الحال على ما ذكر حتى فرّج الله عن المخلوقات في أواخر السنة. وفي سنة ٧٨٠ ولي حلب سيف الدين منكلي بغا الأحمدي البلدي ، وعزل بعد خمسة أشهر وولي مكانه سيف الدين أشقتمر رابعة. وفي سنة ٧٨١ ولي حلب سيف الدين تمرباي التمرداشي وعزل في أواخرها.

قصد تمرباي سيس لردع التركمان :

وفيها توجه تمرباي المذكور صحبة العساكر الحلبية إلى جهة بلاد سيس لردع طائفة من التركمان عاثوا في تلك البلاد وأظهروا فيها الفساد. فلما وصل تمرباي إلى قرب مدينة إياس سمع به التركمان ففزعوا منه وهابوه وراسلوه بالأمان ، وعاهدوه بالتوبة عن جميع أفعالهم الشنيعة وأرسلوا إليه جملة من أعيانهم وأمرائهم لعقد العهد ، فلم يقبل منهم بل أمر باعتقالهم وركب إلى بيوتهم فسبى نساءهم وأخذ أموالهم وأخرب ديارهم. وعند ذلك تأثر التركمان واستوحشوا ، وأعملوا الحيلة والخديعة وكمنوا للعسكر بمضيق هناك يقال له باب الملك على شاطىء البحر ، وأوقعوا بهم وكسروهم كسرة شنيعة أتت على أكثرهم وأخذوا جميع ما معهم بعد أن فرقوهم شذر مذر. وكان ما أخذه التركمان من الحلبيين في هذه الوقعة ثلاثين ألف جمل بأحمالها ، وثلاثة عشر ألفا من الخيل المسرجة وغير ذلك.

قلت : ولاية سيف الدين تمرباي المذكور على حلب ووقوع غزوته المذكورة أخذتهما من درّة الأسلاك في دولة الأتراك لابن حبيب الحلبي ، ذكرهما في حوادث سنة ٧٨١ وذكرهما ابن الخطيب في حوادث ٧٨٠ فليحرّر.

وفي أواخر سنة ٧٨١ ولي حلب سيف الدين منكلي بغا الأحمدي البلدي. وفي سنة ٧٨٢ توفي منكلي بغا المذكور ودفن بتربة له صغيرة خارج باب المقام. وبعد سنين قليلة نبش ونقل إلى دمشق. وفي سنة ٧٨٣ ولي حلب سيف الدين إينال اليوسفي.

__________________

(١) المكّوك : مكيال قديم. وكان يعادل في حلب عصرئذ حوالي ٨٢ كيلو غراما.

١٥٨

ردع خليل بن دلغادر :

وفيها توجه إينال اليوسفي المذكور بمن معه من النواب والعساكر إلى جهة خليل بن دلغادر وإخوته ومن معهم من التراكمين الذين تجاهروا بالعصيان ببلاد مرعش وما والاها ، فوصلوا إليهم وأجلوهم عن ديارهم ونهبوا أموالهم وهزموهم وركبوا آثارهم إلى حدود الممالك العثمانية وأمّنوا السابلة من شرّهم. كل ذلك وبنو الغادر يكاتبون إينال وجماعته ويطلبون منهم الدخول في الطاعة ، وإينال لا يلتفت إليهم ، حتى ورد له المرسوم السلطاني بالعود إلى وطنه مع جماعته. وفي هذه السنة أيضا ولي حلب سيف الدين يلبغا الناصري عوضا عن إينال اليوسفي.

عزل القضاة الأربع :

وفي سنة ٧٨٥ رفع كتاب من عامل حلب إلى القاهرة أن القضاة الأربعة في حلب تخاصموا وتشاتموا ، وأرسل الأربعة كتبا تتضمن سب كل واحد منهم للآخر. فقال الملك الظاهر : لا تحلّ تولية الفسّاق. وعزلهم.

الحرب مع ابن رمضان :

وفي هذه السنة تجاهر بالعصيان أحمد بن رمضان (١) التركماني أمير التركمان بأذنة وإياس وسيس. فتوجه إلى جهته يلبغا الناصري نائب حلب ومعه العساكر الحلبية وفرقة من العساكر الشامية ، ومقدّمهم إينال اليوسفي وعسكر طرابلس ونائبها ونائب حماة بعسكرها ، ونواب القلعة ومقدّمهم على الجميع يلبغا الناصري. ولما وصلت هذه الجموع إلى بلاد ابن رمضان

__________________

(١) أول أمير تركماني أسس الدولة الرمضانية : أحمد بن رمضان. في حدود سنة ١٣٣٠ اجتمعت برجل تركماني في حلب يقول إنه بقية من الطائفة الرمضانية حضر إلى حلب وقصد مقابلتي للاستعلام عن المدرسة الرمضانية التي أسلفت ذكرها في الكلام على محلة قسطل الحرامي من الجزء الثاني ، فزعم أن الطائفة الرمضانية من سلالة التركمان الأمراء الذين قدموا مع سليمان شاه من بلاد خوارزم وأنهم لما غرق سليمان شاه في الفرات أمام قلعة جعبر فارقوا ولده الأمير أرطغرل وأوطنوا في نواحي العمق وكانت لهم فيها الرئاسة ، في حدود سنة ٦٢٢ وأن أول من استفحل أمره من هذه الطائفة في حدود سنة ٧٧٨ أحمد بن رمضان ، فملك من البلاد أذنة وسيس وإياس وتوابعها. ثم انتقلت الإمارة بعده إلى أعقابه وأنسبائه إلى أن كانت سنة ٧٩٠ فانضوت دولته تحت راية بني عثمان. قلت :هذه الدولة تكلم عليها القرماني في تاريخه فلتراجع. (المؤلف).

١٥٩

أنزل الثقل يلبغا الناصري بباب إسكندرون وأبقى عنده الأمير جلبان الحاجب بحلب والأمير شجاع الدين خالد بن كليكلدي نقيب النقباء بحلب ، وركب من ساعته بالعساكر جريدة (١) وقت العشاء فأصبح ثاني يوم قبل الظهر بالمصيصة فحشد التركمان واجتمعوا وتقاتلوا على الجسر فانكسر التركمان وتملك العسكر الجسر وأقام به إلى حين أن حضرت الأثقال وحضر مملوك نائب سيس وأخبر بأن سيده الكبير طشبغا أمسك إبراهيم بن رمضان أخا أحمد المذكور وأمه ونائبه.

فركب يلبغا الناصري مع عساكره جريدة إلى أذنة ليقرر أمرها ، فاجتمع التركمان وحشدوا واستوحشوا لجماعتهم والتقوا مع الناصري في مكان وعر وتقاتلوا فانكسر العسكر وقلعت عين الناصري ووقع عن فرسه فعرفه شخص من التركمان فأخذه وآواه وأحسن إليه. فركبت العساكر الذين كانوا مع الأثقال ومن بقي منهم واجتازوا الجسر وباتوا بالقرب من إياس وأصبحوا عليها. ثم بعد يومين أخبروا أن الناصري حي قادم عليهم ، فركبت العساكر وتلقوه وبه جراحات ولم يفقد من العساكر إلا القليل. وفي ساعة حضوره نادى بالركوب فركب العسكر وطردوا التركمان وقتلوا منهم جماعة. ثم انثنى نحو الباب الأسود وباتوا به حتى مضى الليل وحشد التركمان وجمعوا وجاؤوا من نحو الجبل عن يسار العسكر والرجّالة من وراء العسكر ، وصار اللّجى من غربيّهم ، فاشتبك بينهم القتال وكرّ الناصري بمن معه من العساكر على التركمان كرّة هائلة كسرهم بها وقتل منهم ما ينوف عن سبعمائة رجل.

ثم ركب الناصري وعساكره إلى بياس ونزلوا شط البحر واستمر القتال بينهم وبين التركمان ليلا ونهارا. وقد جاء الناصريّ نجدة من الأمير سودون صاحب الحجاب ونائب غيبته ، فانكسر التركمان كسرة قبيحة وعولوا على الفرار ، ورجع الناصري بمن معه إلى حلب. وفي سنة ٧٨٧ أمسك الناصري وحبس بالإسكندرية ، واستقر عوضه بحلب سودون المظفري وأساء السيرة في أهل حلب. وفي سنة ٧٨٨ عصى أحمد المعروف بمنطاش بملطية واتفق مع مقدّم تيمورلنك فاستضعف السلطان سودون فعزله وأعاد الناصري إلى حلب. وفي سنة ٧٨٩ توجه الناصري بعساكره إلى سيواس لإخضاع منطاش وصاحب

__________________

(١) الجريدة : الطائفة من الخيل لا رجّالة فيها.

١٦٠