هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٣

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٠

.................................................................................................

______________________________________________________

والمراد بالأفراد هو أشخاص العقود التي تقع خارجا بإنشاء المتعاقدين.

إذا اتضح هذان الأمران ، فنقول : إن أريد بلفظ «كل عقد» العموم بلحاظ الأنواع كان معناه : أنّ جميع أفراد نوع ـ كالبيع ـ إن كان في صحيحها ضمان ، ففي فاسدها الضمان أيضا. وأنّ جميع أفراد نوع كالوديعة إن لم يكن في صحيحها ضمان فلا ضمان في فاسدها أيضا.

وعلى هذا ينحصر مصداق أصل قاعدة «ما يضمن» في البيع والإجارة اللذين يضمن بصحيحهما ، ولا يندرج في هذه القاعدة عقد آخر ، لعدم مضمّنية جميع أفراد العقود ـ بنحو الإطلاق ـ غير البيع والإجارة ، فكأنّ القاعدة أسّست لبيان حكم الضمان في خصوص هذين العقدين.

وإن أريد العموم بلحاظ أصناف كل واحد من العقود كان معنى القاعدة : أنّ كل صنف من أصناف العقود إن كان في صحيحه ضمان فكذا في فاسد ذلك الصنف ، سواء أكان في سائر أصنافه ضمان أم لا. ومعنى عكس القاعدة : أنّ كل صنف ليس في صحيحه ضمان فكذا في فاسده ، سواء أكان في سائر أصناف ذلك العقد ضمان أم لم يكن.

وعلى هذا الاحتمال تتكثّر العقود المندرجة في الأصل ، ولا تنحصر في البيع والإجارة المقتضيين للضمان ، فيقال : إنّ العارية بنوعها مثلا لا ضمان في صحيحها فكذا في فاسدها. ولكن أقسام العارية مختلفة ، ففي بعضها الضمان كعارية النقدين ، فيمكن أن تندرج في أصل القاعدة ، فإذا كانت عارية النقدين فاسدة ـ لاختلال بعض شروطها ـ ثبت فيها الضمان ، لأنّ «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» مع أنّ نوع عقد العارية غير مضمّن.

وكذا تندرج الهبة المشروطة بالعوض في أصل القاعدة ـ بناء على تعميم اقتضاء العقد للضمان لما إذا كان بالذات أو بالعرض ـ مع عدم الضمان في نوع الهبة.

٨١

ليس (١) باعتبار خصوص الأنواع ، لتكون أفراده مثل البيع (٢) والصلح والإجارة ونحوها ، لجواز (٣) كون نوع لا يقتضي بنوعه الضمان ، وإنّما المقتضي له بعض أصنافه ، فالفرد الفاسد من ذلك الصنف يضمن به ، دون الفاسد من غير ذلك

______________________________________________________

والحاصل : أنّه بناء على كون العموم بلحاظ الأصناف يلزم دخول بعض أقسام عقد في أصل القاعدة ، وبعضها في العكس ، ولا مانع منه.

وإن كان العموم بلحاظ الأفراد ـ لا الأنواع ولا الأصناف ـ كانت مصاديق أصل القاعدة وعكسها في غاية الكثرة ، لأنّ كل عقد يقع في الخارج فهو بنفسه ـ لا بما أنّه فرد للنوع أو الصنف ـ إن كان مقتضيا للضمان على تقدير صحته كان مقتضيا له على تقدير فساده. وإن لم يكن مقتضيا له على فرض صحته فكذا على فرض فساده.

هذا كلّه في مقام الثبوت والاحتمالات المتطرقة في المراد بالعموم. وأمّا في مقام الإثبات فقد استظهر المصنف الاحتمال الثاني وهو العموم بلحاظ الأصناف ، وسيأتي بيانه.

(١) غرضه استظهار كون العموم بلحاظ الأصناف ، لا الأنواع ولا الأفراد. والمذكور فعلا نفي العموم النوعي ، وأمّا العموم الأفرادي فسيأتي ـ بعد فصل ـ الخدشة فيه.

(٢) هذه الأنواع مثال للعموم في كلّ من أصل القاعدة وعكسها ، وذلك بقرينة ذكر «الصلح» فإنّه بنوعه مما لا يضمن بصحيحه فكذا بفاسده. نعم البيع والإجارة مثالان للنوع في أصل القاعدة لاطّراد الضمان في جميع أصنافهما وأفرادهما.

(٣) تعليل لعدم كون العموم في القاعدة بلحاظ خصوص الأنواع. ومحصّله : أنّه لو كان العموم بلحاظها لزم عدم اطّراد عكس القضية ، مثلا لا يكون الصلح الجامع بين المعاوضي والمحاباتي مقتضيا للضمان ، كما إذا كان مفيدا للهبة أو الإبراء ، فيندرج في عكس القضية ، في أنّ صحيحه لا يقتضي الضمان فكذا فاسده. وكذا الهبة الجامعة بين المشروطة بالعوض وغيرها ، مع أنّ الصلح قد يقتضي الضمان كما إذا كان معاوضيا.

فالمتعيّن كون العموم بلحاظ الأصناف لا الأنواع ، فصنف من الصلح ـ وهو

٨٢

الصنف. مثلا الصلح بنفسه لا يوجب الضمان ، لأنّه (١) قد لا يفيد إلّا فائدة الهبة غير المعوّضة ، أو الإبراء. فالموجب للضمان هو المشتمل على المعاوضة. فالفرد الفاسد من هذا القسم موجب للضمان أيضا (٢). ولا يلتفت إلى أنّ نوع الصلح الصحيح من حيث هو لا يوجب ضمانا (٣) ، فلا يضمن (٤) بفاسده. وكذا (٥) الكلام

______________________________________________________

المعاوضي ـ يقتضي صحيحه الضمان ، وكذا فاسده. وصنف منه وهو المحاباتي لا يقتضي صحيحه الضمان وكذا فاسده.

وهكذا العارية ، فصنف منها يندرج في الأصل وهو «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» وصنف آخر من ذلك النوع يندرج في العكس وهو «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده».

(١) هذا تعليل لعدم اقتضاء الصلح ـ بما هو نوع من أنواع العقود ـ للضمان ، إذ قد يكون أثره تمليك عين مجّانا وهو الهبة غير المعوّضة ، أو إبراء المديون عمّا في ذمته ، وهو إيقاع ، وربّما يخلو من العوض.

وعلى هذا فلو كان العموم في القاعدة بلحاظ النوع لزم اندراج الصلح ـ بجميع أقسامه ـ في العكس. مع أنّ الصحيح هو التفصيل بين أصنافه ، فبعضها المشتمل على المعاوضة مندرج في الأصل ، وبعضها في العكس. فلا بدّ من كون العموم بلحاظ الأصناف ، وأنّ كل صنف عنوان مستقل ، فإن اقتضى الضمان كان من أفراد الأصل ، وإلّا فمن العكس.

(٢) يعني : كإيجاب الفرد الصحيح من الصلح ـ المشتمل على المعاوضة ـ للضمان.

(٣) يعني : مطلقا ، سواء أفاد فائدة البيع أم الإجارة مما يشتمل على معاوضة بين المصالح والمتصالح ، أم لم يشتمل عليها كالمفيد فائدة الهبة غير المعوّضة ، والإبراء.

(٤) هذا متفرّع على كون العموم بلحاظ أنواع العقود ، ولازمه خروج عنوان الصلح عن قاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده».

(٥) هذا مثال ثان لظهور الثمرة بين كون العموم نوعيا وصنفيا ، فبناء على إرادة الأنواع لا ضمان في الهبة المشروطة بالعوض ، لأنّ جميع أفراد الهبة ـ بما هي مصاديق

٨٣

في الهبة المعوّضة. وكذا (١) عارية الذهب والفضة.

نعم (٢)

______________________________________________________

لعنوان الهبة ـ غير مضمونة ، فلا تندرج في الأصل. وبناء على إرادة الصنف يتعيّن التفصيل بين الهبة المعوّضة باندراجها في الأصل ، وبين الهبة غير المعوّضة باندراجها في العكس.

(١) هذا مثال ثالث للثمرة بين إرادة النوع والصنف ، فبناء على النوع تندرج العارية بجميع أقسامها في العكس. وبناء على الصنف يفصّل بين عارية الذهب والفضة ـ وعارية الحيوان بناء على ما حكي عن ابن الجنيد ـ فتكون مضمونة سواء في صحيحها وفاسدها. وبين عارية سائر الأشياء فلا ضمان فيها.

(٢) هذا استدراك على إرادة الصنف ، وحاصله : أنّ مقتضى تمسكهم بقاعدة «ما لا يضمن» في استعارة المحرم صيدا هو إرادة النوع ، يعني : حيث إنّه لا ضمان في نوع العارية فلازمه عدم ضمان المستعير ، لفرض فساد العارية ، وبه يشكل إرادة الصنف.

وتوضيحه : أنّ جمعا ذكروا : أنّ المحرم إذا استعار الصيد من المحلّ وجب عليه إرسال الصيد ، وعاريته فاسدة ، ولا يضمن للمعير الصيد الذي أتلفه بإرساله. والدليل على الضمان هو تبعية العارية الفاسدة لصحيحها في عدم الضمان. قال في المسالك : «وأمّا مع فسادها ـ أي العارية ـ فلأنّ حكم العقد الفاسد حكم الصحيح في الضمان وعدمه كما أسلفناه في مواضع ـ قاعدة كليّة» (١). ومن المعلوم ظهور هذا التعليل في أنّ المدار في الضمان وعدمه هو نوع العقد ، فيشكل مختار المصنف قدس‌سره من إرادة الصنف.

ولكنّه قدس‌سره وجّهه بأنّ مقصودهم بالاستدلال بقاعدة «ما لا يضمن» هو الصنف ، بقرينة تصريحهم في كتاب العارية بضمان عارية الذهب والفضة ، والعارية

__________________

(١) مسالك الأفهام ، ج ٥ ، ص ١٣٩.

٨٤

ذكروا (١) في وجه عدم ضمان الصيد الذي استعاره المحرم : أنّ صحيح العارية لا يوجب الضمان ، فينبغي أن لا يضمن بفاسدها. ولعلّ (٢) المراد عارية غير الذهب والفضّة وغير (٣) المشروط ضمانها.

______________________________________________________

المشروطة بالضمان ، إذ لو كان المدار نوع العارية لزم التنافي بين إدراجها في «ما لا يضمن» وبين حكمهم بالضمان في القسمين المذكورين ، ورفع التهافت منوط بالالتزام بالصنف ، فيكون صنف من العارية مشمولا للأصل وهو «ما يضمن» وصنف منها للعكس ، وهو «ما لا يضمن» هذا.

(١) الأولى أن يقال : «ذكر بعضهم» إذ المسألة خلافية ، ففي الشرائع : «ولا يجوز للمحرم أن يستعير من محلّ صيدا ، لأنّه ليس له إمساكه. ولو أمسكه ضمنه ، وإن لم يشترط عليه» (١). نعم رجّح الشهيد الثاني عدم الضمان ، لقاعدة «ما لا يضمن» فراجع ، والتفصيل في محله.

(٢) هذا توجيه استدلال مثل الشهيد الثاني بقاعدة «ما لا يضمن» وقد عرفته آنفا.

(٣) الأولى إسقاط «غير المشروط ضمانها» بناء على ما سيأتي منه قريبا في تفسير القاعدة من كون المقتضي للضمان نفس العقد الصحيح ، ومن المعلوم عدم كون الضمان في العارية المشروطة به من مقتضيات نفس العقد ، بل هو اقتضاء عرضي ناش من الشرط.

إلّا أن يكون غرض المصنف قدس‌سره الاستشهاد بكلام القوم لإثبات العموم الأصنافي لا الأنواعي ، فلا بأس حينئذ بذكر العارية المشروطة بالضمان بعد تصريحهم بضمانها صحيحة وفاسدة.

__________________

(١) شرائع الإسلام ، ج ٢ ، ص ١٧٢.

٨٥

ثمّ المتبادر (١) من اقتضاء الصحيح للضمان اقتضاؤه له

______________________________________________________

المبحث الرابع : اعتبار كون الضمان مقتضى العقد لا الشرط

(١) هذا شروع في المبحث الرابع من مباحث الجهة الأولى ، وهو تحقيق أنّه هل يعتبر كون الضمان مقتضى نفس العقد أم يكفي كونه مقتضى الشرط؟ ولا يخفى أنّ المناسب تأخير هذا البحث عن المقام ، لعدم تماميّة البحث الثالث بعد ، فإنّ المصنف وإن رجّح العموم بلحاظ الصنف على النوع ، إلّا أنّ احتمال كونه بلحاظ أشخاص كلّ صنف باق بحاله ، وسيأتي بعد أسطر إبطاله. كما أنّ البحث الخامس وهو أن الباء سببية أو ظرفية مقدّم رتبة على البحث عن اختصاص اقتضاء الضمان بنفس العقد ، أو تعميمه إلى اقتضاء الشرط أيضا.

وكيف كان فتوضيح ما أفاده : أنّ اقتضاء العقد الصحيح للضمان تارة يكون بذاته كالبيع ، وأخرى يكون بالشرط النافذ بأدلة الشروط ، كقوله عليه‌السلام : «المؤمنون عند شروطهم» كما إذا شرط في عقد الإجارة أن يكون المستأجر ضامنا للعين ـ مع عدم اقتضاء ذات الإجارة ضمانها ، وأنّ يده على العين أمانيّة لا تضمنها لو تلفت بآفة سماوية لا بتعدّ وتفريط ـ فلو تلفت كان المستأجر ضامنا لها ، لوجوب الوفاء بالشرط الجائز في نفسه ، كوجوب الوفاء بنفس العقد.

وكذا الكلام في ضمان العين المعارة لو شرط المعير ضمانها على المستعير.

ولا إشكال في هذا. إنّما الكلام في ما إذا شرط الضمان في مثل عقد الإجارة والعارية ، ثم تبين بطلان العقد لاختلال بعض شرائط صحته ، فهل تقتضي قاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» تبعية الفاسد للصحيح في هذا الضمان العرضي الناشئ من الشرط ، أم لا تقتضيه؟ في المسألة قولان :

أوّلهما : الاقتضاء ، وهو ظاهر صاحب الرياض قدس‌سره في العارية المضمونة تبعا للمسالك.

وثانيهما : عدم الاقتضاء ، وهو مختار المصنّف قدس‌سره. واستدلّ عليه بأنّ المتبادر من قولهم : «كل عقد يقتضي صحيحه الضمان ففي فاسده كذلك» هو اقتضاء العقد

٨٦

بنفسه (١) (*) ، فلو (٢) اقتضاه الشرط المتحقق في ضمن العقد الصحيح ، ففي الضمان

______________________________________________________

بطبعه للضمان ، لا بالشرط الذي هو أجنبي عن العقد وخارج عنه ، وإنّما يرتبط به بعناية الاشتراط. وعلى هذا فلا ضمان في الإجارة والعارية الفاسدتين المشروط فيهما ضمان العين.

(١) أي : بذاته ، لا بالعرض كالشرط في ضمن العقد.

(٢) هذا متفرع على اختصاص اقتضاء العقد الصحيح للضمان بنفسه ، لا مطلقا ولو بالشرط.

__________________

(*) كما أن المتبادر أو المتيقن ضمان نفس متعلق العقد ، دون توابعه. ففي الإجارة مثلا المتعلق هو المنفعة ، والعين تابعة ، وفي البيع هو العين ، والمنافع تابعة. فالقاعدة ساكتة عن ضمان غير مؤدى العقد من التوابع. ويظهر أثر هذا التفسير في المنافع غير المستوفاة ، فإنّها غير مضمونة في العقد الصحيح ، مع أنّها مضمونة في العقد الفاسد. وقد جعله المصنف نقضا على القاعدة ، لكنّه يندفع بالتفسير المزبور ، لسكوت القاعدة عن ضمان التوابع التي منها المنافع غير المستوفاة ، فتأمل جيدا.

ثمّ إنّ السيّد قدس‌سره عمّم الفساد إلى العرضي بدعوى : أنّ العقد المقرون بالشرط والمجرد عنه صنفان متغايران ، والمفروض إرادة الصنف من عموم مدخول (كلّ) ولذا لا يبقى إشكال في التمسك بهذه القاعدة (١).

وفيه : أنّ الضمان لمّا كان مستندا الى العقد وكان الشرط خارجا عنه ، لأنّ العقد المشتمل عليه عقد وشرط ، ولا يصدق العقد على المركب من العقد والشرط الذي هو التزام خارج عن الالتزام العقدي ، فيكون المراد من صنف العقد في قبال نوعه وشخصه حصص العقد بما هو عقد ، فالقيود الخارجة عن العقد أجنبيّة عن نفس العقد ، وخارجة عن ماهيّته.

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ص ٩٤.

٨٧

بالفاسد من هذا الفرد المشروط فيه الضمان ـ تمسّكا بهذه القاعدة (١) ـ إشكال (٢). كما لو استأجر إجارة فاسدة ، واشترط فيها ضمان العين (٣) ، وقلنا (٤) بصحة هذا الشرط ، فهل يضمن بهذا الفاسد ، لأنّ (٥) صحيحة يضمن به ولو لأجل الشرط أم لا؟ وكذا الكلام في الفرد الفاسد من العارية المضمونة.

ويظهر من الرّياض اختيار الضمان بفاسدها (٦) مطلقا (٧)

______________________________________________________

(١) أي : ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده.

(٢) فلا وجه لمضمّنية العقد الفاسد المتضمن لشرط صحيح في نفسه ، لعدم كون الضمان مقتضى ذات العقد.

(٣) تقدّم آنفا توضيح هذا الفرع بقولنا : «فلا ضمان في الإجارة والعارية الفاسدتين .. إلخ».

(٤) غرضه من هذه الجملة الحاليّة : أن التنظير بالإجارة الفاسدة ـ المتضمّنة لشرط ضمان العين ـ للاقتضاء العرضي يتوقف على الفراغ من صحة هذا الشرط في نفسه ، فلو تأمّلنا في أصل جوازه كان مثال الإجارة أجنبيّا عن اقتضاء الشرط للضمان ، لوضوح أنّ اقتضاءه له منوط بمشروعية الشرط في نفسه حتى يجب الوفاء به لاشتراطه في ضمن العقد.

(٥) هذا تعليل للضمان بالفاسد فيما إذا كان المقتضي للضمان هو الشرط لا ذات العقد.

(٦) أي : بفاسد العارية المضمونة.

(٧) يعني : حتى إذا كان الضمان باقتضاء الشرط ، الذي هو مورد البحث من حيث الاندراج في قاعدة «ما يضمن» فيظهر من ذلك ذهاب صاحب الرياض قدس‌سره إلى تعميم الضمان إلى الاقتضاء الشرطي أيضا ، إذ لا مدرك للضمان في فاسد العارية المضمونة إلّا هذه القاعدة.

٨٨

.................................................................................................

______________________________________________________

قال في الرياض ـ في ما لو استعار من الغاصب ، وتلفت العين بيد المستعير ، فرجع المالك على الغاصب ـ ما لفظه : «لم يرجع ـ يعني الغاصب ـ على المستعير ، إلّا مع علمه أو كون العين مضمونة ، فيرجع عليه فيهما ، لاستقرار الضمان عليه في الأوّل ، وإقدامه في الثاني على الضمان ، مع صحة العارية. فكذا عليه الضمان مع الفساد ، للقاعدة الكلية : أنّ كل عقد يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» (١).

وتوضيح المراد من عبارة الرياض بحيث تكون شاهدة لما استظهره المصنف منها ـ من أنّ الضمان في العقد الصحيح إن كان للشرط الضمني كان كذلك في العقد الفاسد ـ هو : أنّ السيد قدس‌سره حكم بأنّ الغاصب لو أعار العين المغصوبة حتى ينتفع المستعير بها وتلفت عنده رجع المالك على الغاصب ، وأخذ بدل ماله منه ، ولا يجوز للغاصب الرجوع على المستعير ، إلّا في صورتين :

إحداهما : علمه بأنّ العين المعارة مغصوبة ، وليست ملكا للمعير ، مع عدم إذن المالك في التصرف فيها ، فيستقرّ الضمان على المستعير ، لأنّه من تعاقب الأيدي.

ثانيتهما : جهله بالغصب ، لكن كانت العين مضمونة ، إمّا لكونها من الذهب والفضة ، وإمّا لأنّ الغاصب شرط على المستعير ضمان العين.

ففي كلتا الصورتين يضمن المستعير من جهة إقدامه على الضمان. وبهذا تندرج المسألة في قاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» لأنّ العارية الصحيحة التي أقدم المستعير فيها على الضمان تكون مضمونة ، فكذا يثبت الضمان في فاسدتها ، كما في عارية الغاصب. ووجه فسادها انتفاء شرط الصحة وهو ملك العين والانتفاع ، أو الاذن.

__________________

(١) رياض المسائل ، ج ١ ، ص ٦٢٥.

٨٩

تبعا لظاهر المسالك (١).

ويمكن (٢) جعل الهبة المعوّضة من هذا القبيل ، بناء على

______________________________________________________

(١) قال الشهيد الثاني قدس‌سره ـ في شرح قول المحقق : «ولو استعاره من الغاصب وهو لا يعلم كان الضمان على الغاصب .. وكذا لو تلفت العين في يد المستعير» وأنّ في المسألتين قولين ـ ما لفظه : «والحاصل : أنّ المالك مخيّر في الرجوع على كلّ منهما ، فإن رجع على المستعير رجع على الغاصب إن لم تكن العارية مضمونة ، وإلّا رجع عليه بغير ما قدم على ضمانه. وربّما احتمل هنا ضعيفا رجوعه ـ أي رجوع المستعير على الغاصب ـ مطلقا ـ يعني سواء كانت العارية مضمونة أم لا ـ لأنّ استحقاق العين أوجب فساد العارية ، فلا تكون مضمونة ، وهو مغرور مع الغصب ، فيرجع على من غرّه.

ويضعّف بأنّ غروره في الغصب لا مدخل له هنا في الضمان ، لأنّا لم نضمّنه من حيث الغصب ، بل من حيث كونها عارية مضمونة ، ودخوله على ذلك ، فإذا تبيّن فسادها لحق حكم الفاسد بالصحيح كما سلف من القاعدة. وإن رجع المالك على الغاصب لم يرجع على المستعير ، إن لم تكن مضمونة ، وإلّا رجع عليه بما كان يضمنه لو كانت صحيحة» (١).

ودلالتها على تبعية الفاسد للصحيح في الحكم بالضمان ـ حتّى إذا كان للشرط ـ أظهر من عبارة الرياض ، لتصريحه بأنّ ضمان المستعير لا يستند إلى الغصب ، بل إلى كون العارية مضمونة ، لأنّه أقدم على ضمانها ، ومن المعلوم أنّ التعليل بالاقدام ـ مع جهله بالغصب ـ إمّا أن يكون لشرط الضمان في هذه العارية الفاسدة ، وإمّا لكون العين المعارة ذهبا أو فضّة ، هذا.

(٢) غرضه قدس‌سره بيان فرد ثالث لما إذا كان ضمان العوض مستندا إلى الشرط لا باقتضاء ذات العقد ، وذلك كالهبة المشروط فيها العوض ، كما إذا وهب زيد كتابه لعمرو على أن يهبه عمرو دينارا. ففي هذه الهبة المشروطة احتمالان :

__________________

(١) مسالك الأفهام ، ج ٥ ، ص ١٤١ و ١٤٢.

٩٠

أنّها هبة مشروطة ، لا معاوضة (١).

وربّما يحتمل (٢) في العبارة أن يكون معناه : أنّ كلّ شخص من العقود

______________________________________________________

الأوّل : أنّ عقد الهبة يفيد تمليك عين مجّانا ، ولا يقتضي بنفسه ضمان العوض ، فأخذ العوض من المتهب يستند إلى الشرط. فتكون الهبة المشروط فيها العوض نظير العارية المشروط فيها الضمان ، في أنّ منشأ الضمان هو الشرط لا ذات العقد. وهذا الاحتمال قوّاه المصنّف قدس‌سره في أوائل البيع عند تعرّضه للنقوض الواردة على تعريف البيع ب «إنشاء تمليك عين بمال» فراجع (١).

الاحتمال الثاني : أنّ الهبة المعوّضة معدودة من المعاوضات كالبيع والإجارة والصلح المعاوضيّ ونحوها. وعلى هذا يستند ضمان العوض إلى ذات العقد لا إلى الشرط.

(١) إذ لو كانت معاوضة كان اقتضاؤها للضمان ذاتيّا لا شرطيّا ، ضرورة أنّ المقتضي للضمان حينئذ نفس العقد ، لا الشرط المجعول فيه. هذا تمام الكلام في البحث الرابع ، وهو أنّ اقتضاء الضمان مختصّ بذات العقد ، أو يعمّ الشرط.

(٢) هذا رجوع إلى البحث الثالث ، وهو تحقيق أنّ العموم هل هو نوعيّ أم صنفيّ أم فرديّ ، وقد تقدّمت الخدشة في إرادة العموم بلحاظ الأنواع ، وبقي التعرض لاحتمال العموم الأفرادي.

وكيف كان فاحتماله مذكور في الجواهر ـ وإن لم يظهر أنّ المحتمل هو أو غيره ـ بقوله : «بل قد يقال : بشمول هذه القاعدة للفرض ـ أي : فساد الإجارة ـ بناء على إرادة أشخاص العقود منها ، لا أصنافها ، ولا ريب في عدم الضمان في المقام لو فرض صحة العقد المزبور ، فكذا لا يضمن به على الفساد ، للقاعدة المزبورة .. إلخ» (٢).

__________________

(١) هدى الطالب ، ج ١ ، ص ٢٤١ ـ ٢٤٥.

(٢) جواهر الكلام ، ج ٢٧ ، ص ٢٤٧.

٩١

يضمن به لو كان صحيحا ، يضمن به مع الفساد.

______________________________________________________

وتوضيحه : أنّهم حكموا في الإجارة الفاسدة بوجوب أجرة المثل ، مع فرض استيفاء المنفعة كلّا أو بعضا ، سواء زادت على المسمّى أم نقصت عنه. واستثنى الشهيدان قدس‌سرهما صورة واحدة ، فحكما بعدم ضمان اجرة المثل فيها ، وهي ما إذا كان منشأ الفساد اشتراط عدم الأجرة ، أو عدم ذكرها في العقد بنحو يستفاد منه إرادة عدم بذل الأجرة. والوجه في عدم وجوب اجرة المثل على من استوفى المنفعة هو : إقدام العامل على العمل مجّانا وبلا عوض.

هذا ما أفاده الشهيدان قدس‌سرهما. ووجّه صاحب الجواهر قدس‌سره هذه الفتوى بجعلها من مصاديق قاعدة «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده» بتقريب : أنّ «كلّ عقد يضمن .. إلخ» عنوان مشير إلى أشخاص العقود المنشئة في الخارج ، ويفرض لكلّ عقد حالتان إحداهما الصحة ، والأخرى البطلان. فالمراد بالعقد في أصل القاعدة ـ أعني به «ما يضمن بصحيحه» ـ هو : أنّ كل شخص من العقود مقتض للضمان لو كان صحيحا ، فهو مقتض له لو كان فاسدا. مثلا : بيع الكتاب بالدينار موجب لضمان كلا المتبايعين ، لكونه عقدا معاوضيّا ، فهذا الفرد من البيع إن كان فاسدا ـ لاختلال بعض شرائطه ـ كان مضمّنا أيضا.

والمراد بالعكس أعني «ما لا يضمن» هو : أنّ كل ما صدر مجّانا ـ كالهبة الخالية عن العوض والصلح المفيد للإبراء ـ ممّا لا يفيد الضمان إذا كان صحيحا ، فكذا لا يفيده إذا وقع فاسدا. وعلى هذا فالإجارة الفاقدة للأجرة باطلة شرعا ، لأنّ حقيقة الإجارة «تمليك منفعة بعوض معلوم» أو «التسليط على العين لاستيفاء منفعتها بعوض» فخلوها عن الأجرة مناف لحقيقتها. إلّا أنّ هذه الإجارة مندرجة في «ما لا يضمن» لأنّها لو وقعت صحيحة شرعا لما كانت مضمّنة لمن يستوفي المنفعة ، فكذا لا تكون مضمّنة له على تقدير فسادها.

والحاصل : أنّ المدار في كون عموم القاعدة بلحاظ أشخاص العقود وأفرادها هو فرض حالتين لكل عقد خارجي ، فنفس هذا الفرد إن اقتضى الضمان على تقدير

٩٢

ورتّب (١) عليه عدم الضمان في ما لو استأجر بشرط أن لا أجرة ، كما اختاره الشهيدان (٢) ، أو باع بلا ثمن (٣)

______________________________________________________

الصحة اقتضاه على تقدير الفساد. وإن لم يقتض الضمان على فرض صحته لم يقتضه على فرض فساده.

وبهذا يندرج مثال الإجارة الفاسدة ـ من جهة خلوّها عن الأجرة ـ في قاعدة «ما لا يضمن». هذا توضيح ما نسبه المصنف إلى بعضهم من إرادة العموم الأفرادي ، وما يترتب عليه من الثمرة.

(١) يعني : ورتّب هذا المحتمل ـ وهو صاحب الجواهر ـ على أنّ معنى العموم هو كل شخص .. إلخ عدم الضمان في ما لو استأجر بشرط عدم الأجرة ، فلا يلاحظ أنّ نوع الإجارة أو كلّ صنف منها مضمّن أو غير مضمّن ، بل المدار على شخص الإجارة الواقعة بين الطرفين ، فإن كان صحيحها مؤثّرا في الضمان فكذا فاسدها ، وإن لم يكن صحيحها مؤثّرا في الضمان فكذا فاسدها.

(٢) قال الشهيد الثاني قدس‌سره ـ في ضمان أجرة المثل لو استوفى المنفعة وكانت الإجارة باطلة ـ ما لفظه : «واستثنى الشهيد رحمه‌الله من ذلك ما لو كان الفساد باشتراط عدم الأجرة في العقد ، أو متضمّنا له كما لو لم يذكر أجرة ، فإنّه حينئذ يقوى عدم وجوب الأجرة ، لدخول العامل على ذلك. وهو حسن» (١).

ولكن المحقق الثاني اعترض على إطلاق كلام الشهيد ، وفصّل بين العمل وبين سكنى الدار ، فراجع (٢).

(٣) هذا المثال غير مذكور في كلام الشهيدين قدس‌سرهما ، وإنّما أضافه المحقق الثاني في ما فصّله في كلاميهما ، فراجع.

__________________

(١) مسالك الأفهام ، ج ٥ ، ص ١٨٤.

(٢) جامع المقاصد ، ج ٧ ، ص ١٢٠ و ١٢١.

٩٣

كما هو أحد وجهي العلّامة في القواعد (١).

ويضعّف (٢) بأنّ الموضوع هو العقد الذي وجد له

______________________________________________________

وأما العلّامة قدس‌سره فاقتصر على احتمال الضمان وعدمه ، فقال : «وكذا لو قال : بعتك بلا ثمن ، أو : على أن لا ثمن عليك ، فقال : قبلت. ففي انعقاده هبة نظر ، ينشأ من الالتفات إلى المعنى ، واختلال اللفظ. وهل يكون مضمونا على القابض؟ فيه إشكال ، ينشأ من كون البيع الفاسد مضمونا. ودلالة اللفظ على إسقاطه» (١).

وكيف كان فتقريب انتفاء الضمان في البيع بلا ثمن هو : أنّ شخص هذا البيع لو كان صحيحا لم يكن المشتري ضامنا للثمن ، لأنّ البائع أسقطه ، وحيث كان بيعا فاسدا لحقه حكم الصحيح في عدم الضمان.

(١) والوجه الآخر في كلام العلّامة هو الضمان ، لأنّ نوع البيع الصحيح يفيده ، فكذا فاسده ، فيندرج في أصل القاعدة ، لا في عكسها.

(٢) يعني : يضعّف احتمال إرادة الاستغراق بلحاظ الأشخاص والأفراد ، على ما تقدّم في كلام الجواهر. وحاصل التضعيف : أنّ الموضوع في قاعدة «كل عقد يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» هو العقد ، وأنّ له قسمين أحدهما صحيح والآخر فاسد ، ويكون الفاسد تابعا للصحيح في الضمان ، ومن المعلوم ظهور التقسيم في فعلية أقسامه ، فلا بدّ من أن يكون للعقد فردان ، أحدهما صحيح فعلا وهو الموجود خارجا جامعا للشرائط ، والآخر فاسد فعلا ، لاختلال شرائطه الشرعيّة وإن كان عقدا عرفيّا.

والتحفّظ على ظهور الموضوع الجامع للقسمين في فعليّتهما يتوقف على كون الاستغراق بحسب النوع أو الصنف ، ولا وجه لإرادة الشخص ، ضرورة عدم تحمّل الفرد الشخصي ـ الموجود خارجا ـ للاتصاف فعلا بوصفين متقابلين وهما الصحة والفساد ، بل يوجد إمّا صحيحا وإمّا فاسدا. ويتوقف الاتّصاف على التقدير والفرض

__________________

(١) قواعد الأحكام ، ص ٥١ ، الشرط الأول من شرائط بيع السلف (الطبعة الحجرية).

٩٤

بالفعل (١) صحيح وفاسد ، لا ما (٢) يفرض تارة صحيحا وأخرى فاسدا. فالمتعيّن (٣) بمقتضى هذه القاعدة (٤) الضمان في مسألة البيع (٥) ، لأنّ البيع الصحيح

______________________________________________________

بأن يقال : لو اقتضى هذا الفرد الخارجي ـ كالإجارة بلا أجرة والبيع بلا ثمن ـ الضمان على فرض صحته ، لاقتضى الضمان على فرض فساده. ومن المعلوم أنّ الفرد الواحد من كل عقد له حكم فعلي واحد ، ولا يتعدّد حكمه الشرعي بمجرّد الفرض.

والحاصل : أنّ ظهور القاعدة في فعلية القسمين يمنع عن الحمل على الأشخاص ، وقد سبق أيضا امتناع حمل العموم على الأنواع ، فتعيّن مختار المصنف وهو الحمل على الصنف ، لصحة أن يقال : إنّ الإجارة إن كانت صحيحة ـ لاجتماع الشرائط فيها من ذكر الأجرة وغيرها ـ ففيها وفي فاسدها الضمان ، فالإجارة بلا أجرة فاسدة ، وهي تابعة للإجارة الصحيحة في الضمان. وكذا البيع بلا ثمن ، فإنّه بيع فاسد مضمّن ، لكون نوع البيع وصنفه مقتضيا لضمان المتبايعين.

هذا بناء على صدق عنواني البيع والإجارة عرفا على المثالين. وأمّا إذا قيل بالتجوز في الصيغة ـ وأنّ البيع بلا ثمن إنشاء للهبة ، وأنّ الإجارة بلا أجرة إنشاء للعارية ـ كانا أجنبيّين عن المقام ، لصحتهما هبة وعارية ، ولا ضمان فيهما ، فلاحظ.

(١) يعني : أنّ العقد الصحيح فرد ، والعقد الفاسد فرد آخر ، وكلّ منهما يمكن وجوده خارجا.

(٢) يعني : ليس موضوع القاعدة فردا واحدا من العقد يفرض تارة صحيحا على تقدير اجتماع شرائطه ، وأخرى فاسدا على تقدير اختلالها.

(٣) هذا نتيجة بطلان كون العموم والاستغراق بحسب أشخاص العقود ، كما احتمله صاحب الجواهر قدس‌سره.

(٤) أي : قاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده».

(٥) أي : البيع بلا ثمن. وقد عرفت وجه الضمان فيها آنفا ، وأنّها مورد لأصل القاعدة لا عكسها.

٩٥

يضمن به (١).

نعم (٢) ما ذكره بعضهم من التعليل لهذه القاعدة «بأنّه أقدم على العين مضمونة عليه» (٣) لا يجري في هذا الفرع (٤). لكن الكلام في معنى القاعدة ، لا في مدركها.

______________________________________________________

(١) فكذا فاسد البيع ، لانطباق عنوان «البيع» عليه.

(٢) هذا استدراك على قوله : «فالمتعين .. الضمان في مسألة البيع» وحاصله : أنّ الشهيد الثاني قدس‌سره استدلّ ـ في كلامه الآتي في المتن ـ بالاقدام على الضمان على قاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» ومن المعلوم أنّ هذا التعليل لا يجري في «البيع بلا ثمن» ضرورة تحقق الإقدام المجّاني فيه ، المضادّ للإقدام الضماني في البيع مع الثمن. وهكذا سائر العقود المعاوضية.

وعليه فلا ينطبق دليل القاعدة على البيع بلا ثمن ، والإجارة بلا اجرة. فيندرج البيع المزبور في الهبة المجانية التي هي من صغريات العكس ، وهو «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده» وكذا تندرج الإجارة المزبورة في العارية. وبهذا يشكل حكم المصنف بضمان المشتري للثمن الواقعي في مثال البيع بلا ثمن.

لكنّه قدس‌سره تخلّص عن هذا الإشكال بأنّ الكلام فعلا في معنى القاعدة وتفسير مفرداتها ، لا في مدركها ، حتى يقال : بأنّ الإقدام على الضمان مخصوص بالعقد المتضمن للعوض ، ولا يجري في العقد العاري عنه ، ومن المعلوم أنّ معنى القاعدة شامل للبيع بلا ثمن ، والإجارة بلا أجرة ، هذا.

لكن ينبغي الاهتمام في البحث عن مدرك القاعدة ومقدار دلالته ، ثم حملها على ما يساعد عليه دليلها.

(٣) سيأتي قريبا استفادة هذا التعليل من كلام شيخ الطائفة ، وكذا ورد التصريح به في كلام الشهيد الثاني وغيره.

(٤) وهو البيع بلا ثمن ، والمناسب ذكر مسألة الإجارة بلا أجرة أيضا ، لارتضاعهما من ثدي واحد. هذا تمام الكلام في البحث الثالث ، المتكفل لإثبات كون العموم بحسب الأصناف ، لا الأنواع ولا الأفراد.

٩٦

ثمّ (١) إنّ لفظة «الباء» في «بصحيحه وبفاسده» إمّا بمعنى «في» بأن يراد : كلّما تحقّق الضمان في صحيحه تحقّق في فاسده (٢).

______________________________________________________

المبحث الخامس : حرف «الباء» ظرفيّة أو سببيّة

(١) هذا شروع في البحث الخامس من مباحث الجهة الاولى ، وهو أنّ «الباء» في «بصحيحه وبفاسده» ظرفية أو سببيّة ، وغرضه قدس‌سره عدم التفكيك في الضمان بين العقد الصحيح والفاسد ، وأنّ كون الباء للظرفية أو السببيّة لا يوجب التفكيك المزبور.

توضيحه : أنّ الباء يستعمل في الظرفية كقوله تعالى (نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ) ويستعمل في السببيّة كقوله عزّ من قائل (إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ) وقوله (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ). فعلى الظرفية لا يلزم تفكيك في معنى «الباء» ، فإنّ المعنى حينئذ : أنّ الضمان يكون في كلّ من العقد الصحيح والفاسد.

وعلى السببيّة المطلقة الشاملة لكلّ من العلّة التامّة والناقصة لا يختلف الضمان فيهما أيضا ، لكون العقد في كليهما سببا ناقصا للضمان.

أمّا في الصحيح فلأنّه لو لم يتحقق فيه القبض لم يتحقق الضمان ، لقولهم : «وبالقبض ينتقل الضمان». وأمّا في الفاسد فلكون العقد سببا للقبض الذي هو منشأ للضمان. فللعقد دخل في الضمان في الصحيح والفاسد ، فالسببيّة ملحوظة في كليهما ومصحّحة لاستعمال الباء فيهما في السببيّة.

وبالجملة : فالعقد سبب ناقص للضمان والقبض متمّم له. ولذا لو تلف المبيع قبل القبض كان من مال بائعه ، بل وكذا الثمن. هذا في العقد الصحيح. وفي الفاسد يكون العقد مع الاقدام على القبض مصداقا لليد ، وسيأتي توضيحه.

(٢) وبناء على الظرفية لا يستفاد من القاعدة كون الضمان مقتضى العقد أو هو

٩٧

وإمّا لمطلق السببيّة الشامل للناقصة (١) ، لا العلّة التامّة ، فإنّ (٢) العقد الصحيح قد لا يوجب الضمان إلّا بعد القبض كما في السّلم والصّرف (*) ، بل مطلق البيع ، حيث إنّ المبيع قبل القبض مضمون على البائع

______________________________________________________

مع القبض ، وهذا بخلاف كون «الباء» سببيّة ، إذ يجري البحث عن السببية التامّة والناقصة ، كما عرفت.

(١) يعني : لا خصوص السببيّة التامّة حتّى لا يكون القبض مؤثّرا في الضمان.

(٢) هذا تقريب عدم كون العقد الصحيح علّة تامّة للضمان.

__________________

(*) لا يخلو هذا التمثيل من المناقشة ، لأنّ القبض شرط صحة بيعي الصرف والسّلم ، فعدم الضمان فيهما قبله لعدم صحة العقد ، بمعنى عدم وجود العقد الصحيح.

وكيف كان فالأولى أن يكون «الباء» لمطلق السببيّة ، فيكون العقد سببا ناقصا للضمان ، والقبض جزء أخيرا لعلّة الضمان. كما أنّ العقد سبب تام لقلب اليد المالكية إلى غيرها ، ضرورة أنّه بنفس العقد يصير المبيع ملكا للمشتري والثمن ملكا للبائع.

وعليه فالاستيلاء على كلّ من العوضين قبل العقد استيلاء على مال نفسه ، وبعده على مال الغير بدون إذن مالكي ، أو استيمان شرعي أو مالكي يوجب عدم الضمان ، لإطلاق «على اليد» فالعقد جزء السبب للضمان ، وتمام السبب لقلب اليد المالكية.

وأمّا جعل «الباء» للظرفية فغير ظاهر ، لأنّ الظرفية الحقيقية غير حاصلة ، بداهة عدم كون العقد ظرفا حقيقة للضمان ، فلا بدّ من التأويل بجعل استعمالها في الظرفية بمناسبة السببية ، وهو تعسّف كما هو ظاهر. وكذا الظرفية الاعتبارية ، فإنّ الظرف الاعتباري للضمان هو العهدة ، كما هو واضح.

نعم العقد سبب لثبوت الضمان في العهدة. فكلّ من الظرفية الحقيقية والاعتبارية مفقود في العقد ، فلا معنى لجعل الباء للظرفية.

٩٨

بمعنى أنّ دركه عليه (١) ، ويتداركه (٢) بردّ الثمن ، فتأمّل (٣).

وكذا (٤) الإجارة والنكاح والخلع ، فإنّ المال في ذلك كلّه مضمون على من انتقل عنه إلى أن يتسلّمه من انتقل إليه.

وأمّا (٥) العقد الفاسد فلا يكون علّة تامّة

______________________________________________________

(١) خبر «أنّ» والضمير راجع إلى البائع. وضمير «دركه» راجع إلى المبيع.

(٢) أي : يتدارك البائع المبيع بردّ الثمن إلى المشتري.

(٣) لعلّه إشارة إلى : أنّ الضمان ـ بمعنى تدارك مال الغير ـ أجنبي عن تلف المبيع قبل القبض ، لأنّ البيع ينفسخ حينئذ ، فيتلف المبيع في ملك مالكه وهو البائع ، وهذا ليس من الضمان في شي‌ء ، لأنّ التالف ملكه ، لا أنّ عليه تداركه من ماله.

وعلى هذا فما أفاده بقوله : «بل مطلق البيع» ـ من جعل عقد البيع في جميع موارده جزء السبب المضمّن وجزءه الآخر هو القبض ـ غير ظاهر ، وذلك لأنّ كون العقد سببا تامّا لضمان المشتري ـ في غير بيع الصرف والسّلم ـ لا ينافي كون المبيع في ضمان البائع قبل قبضه ، لفرض انفساخ هذا السبب التام بتلفه بيد البائع ، ومعه لا يبقى العقد الموجب لضمان المشتري. وهذا بخلاف القبض في بيع الصرف والسّلم ، لدخله في سببيّة العقد للضمان المعاوضي.

(٤) في كون الضمان على من انتقل عنه ما لم يتسلّمه المنتقل إليه. فإذا تلفت الأجرة بيد المؤجر ـ في إجارة الأعمال ـ تلفت منه لا من مال الأجير. وكذا الحال في تلف المهر بيد الزوج ، وتلف عوض الخلع بيد الزوجة ، فالقبض في هذه الثلاثة جزء السبب المضمّن للطرف الآخر.

(٥) هذا في قبال قوله : «فإنّ العقد الصحيح قد لا يوجب الضمان» وغرضه توجيه سببيّة العقد الفاسد للضمان ، بناء على كون «الباء» سببيّة ، فإنّ العقد الفاسد يكون بحكم العدم فكيف يوجب الضمان؟ ولذا تصدّى لتوجيه سببيّته بأحد وجهين :

٩٩

أبدا (*) بل يفتقر في ثبوت الضمان إلى القبض ، فقبله لا ضمان. فجعل الفاسد سببا إمّا (١) لأنّه المنشأ للقبض على (٢) وجه الضمان

______________________________________________________

الأوّل : أنّ الضمان في العقد الفاسد وإن كان منوطا بالقبض ، إلّا أنّ الموجب للإقدام على القبض هو العقد الفاسد ، فهو سبب السبب ، ومن المعلوم صحة إسناد الضمان إلى سبب السبب كصحة إسناده إلى نفس السبب أي القبض.

الثاني : أنّ العقد الفاسد بنفسه سبب ناقص للضمان ، وتتوقف عليّته التامّة على تحقق الشرط ، وهو القبض على وجه الضمان لا مجانا. وعليه فالسبب مؤلّف من العقد الفاسد والقبض. وهذا نظير بيع الصرف والسّلم ، إذ يتوقف الضمان ـ في العقد الصحيح ـ على قبض الثمن في السّلم ، والتقابض في الصّرف.

والحاصل : أنّ مطلق السببيّة الجاري في بعض العقود الصحيحة يجري في العقد الفاسد أيضا ، فلا مانع من جعل «الباء» سببيّة ، هذا.

(١) هذا هو الوجه الأوّل لتوجيه جعل «الباء» سببيّة في العقد الفاسد كالصحيح.

(٢) قيد للقبض ، يعني : القبض المبني على ضمان المقبوض بالعقد الفاسد ، في قبال القبض المبني على المجّانية ، كما في الهبة والعارية الفاسدتين ، لعدم إقدام المتهب والمستعير على ضمان ما قبضاه بالعقد الفاسد.

__________________

(*) هذه العبارة توهم كون العقد الصحيح دائما أو غالبا أو نادرا علّة تامّة للضمان ، وهذا ينافي قوله : «فان العقد الصحيح قد لا يوجب الضمان. الى قوله : بل مطلق البيع» حيث إنّ المبيع قبل القبض مضمون على البائع ، إلى آخر ما أفاده ، فإنّ ظاهره عدم كون العقد الصحيح علّة تامّة للضمان أبدا ، فالمناسب أن يقول : وأمّا العقد الفاسد فكذلك أيضا في عدم عليّته التامّة أبدا.

١٠٠