هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٣

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٠

وهذا (١) يدلّ على العكس المذكور.

ولم أجد (٢) من تأمّل فيها عدا الشهيد (٣) في المسالك فيما لو فسد عقد السبق ، فهل يستحق السابق أجرة المثل ، أم لا (٤)؟

______________________________________________________

(١) يعني : قول الشيخ : «انّ صحيحه لا يوجب الضمان فكيف فاسده» يدلّ على العكس المذكور.

(٢) مقصوده من هذه الجملة : أنّ ظاهرهم الاتفاق على الأصل والعكس المذكورين ، إلّا أنّ المخالف هو الشهيد الثاني قدس‌سره حيث تأمّل في أصل القاعدة أي : «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» في كتاب السبق والرماية ، وهذا التأمّل قادح في دعوى الإجماع على الأصل المذكور.

(٣) وكذا المحقق الأردبيلي في ضمان المقبوض بالسوم وبالعقد الفاسد ، حيث ناقش في دليل الضمان ـ من حديث على اليد وقاعدة ما يضمن ـ بقوله : «وصحتهما غير ظاهر ، والأصل يقتضي العدم» (١).

(٤) توضيحه : أن المحقق قدس‌سره فصّل ـ في ما لو تبيّن بعد المسابقة فساد العقد ـ بين كون منشأ الفساد اختلال شرط ممّا يتوقف عليه صحة العقد كتعيين مبدأ المسافة ومنتهاها ، وتعيين ما يسابق عليه ، وتساوي ما به السباق ، وغير ذلك ، وبين كونه مغصوبية العوض وعدم مملوكيته لمن عليه بذله ، فإنّ العقد يقع صحيحا ويتوقف على إجازة المالك ، ولو لم يجز وجب على الباذل مثله أو قيمته.

وأمّا إن كان الفساد من الجهة الأولى فقد نقل الشهيد الثاني قولين في المسألة :

أحدهما : أنّه لا شي‌ء للسابق ، وهو اختيار الشيخ والمحقق «ووجهه : أنّه لم يعمل له شيئا ، ولا فوّت عليه عمله ، ولا عاد نفع ما فعله إليه ، وإنّما فائدة عمله راجعة إليه. بخلاف ما إذا عمل في الإجارة والجعالة الفاسدتين ، فإنّه يرجع إلى أجرة مثل عمله ، لأنّ فائدة العمل للمستأجر والجاعل».

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان ، ج ٨ ، ص ١٩٢.

٦١

وكيف كان (١) فالمهمّ بيان معنى القاعدة أصلا وعكسا ، ثم بيان المدرك فيها ، فنقول ومن الله الاستعانة :

______________________________________________________

والقول الآخر للعلّامة وجماعة من المتأخرين ، وهو وجوب أجرة المثل ، قال قدس‌سره : «لأنه عقد استحق المسمّى في صحيحه ، فإذا وجد المفقود عليه في الفاسد وجب عوض المثل. ولا نسلّم أنّ وجه وجوب اجرة المثل في العقدين ونظائرهما رجوع عمل العامل إلى من يجب عليه العوض ، لأنّ العمل في القراض قد لا ينتفع به المالك ، ومع ذلك يكون مضمونا».

ثمّ ناقش الشهيد الثاني في استدلال العلّامة مفصّلا إلى أن قال : «وقاعدة : أنّ كل ما كان صحيحه موجبا للمسمّى ففاسده موجب لأجرة المثل لا دليل عليها كلّيّة ، بل النزاع واقع في بعض مواردها ، فكلّ ما لا إجماع ولا دليل صالح يدلّ على ثبوت شي‌ء فالأصل يخالف مدّعي القاعدة» (١).

والشاهد في قوله : «لا دليل عليها كلّية» وهذا مقصود المصنّف من نسبة التأمّل في قاعدة «ما يضمن» إلى الشهيد الثاني.

ولا يخفى اختلاف كلماته ، فيظهر من مواضع من المسالك وبيع الرّوضة تسليم القاعدة وكلّيّتها ، كقوله في عدم ضمان المحرم المستعير للصيد : «أما مع صحته فالأصل في العارية أن تكون عندنا غير مضمونة .. وأمّا مع فسادها فلأنّ حكم العقد الفاسد حكم الصحيح في الضمان وعدمه ، كما أسلفناه في مواضع قاعدة كلّيّة» (٢).

(١) أي : سواء وجدت هذه العبارة في كلام من تقدّم على العلّامة أم لا؟ وسواء تمّ تأمّل الشهيد الثاني في عمومها أم لا؟ فالمهمّ .. إلخ. وهذا شروع في تحقيق أصل القاعدة الذي عدّ دليلا على ضمان المقبوض بالعقد الفاسد ، والكلام يقع في مقامين ، أحدهما في ما يتعلق بالأصل ، والثاني في ما يتعلق بالعكس.

__________________

(١) مسالك الأفهام ، ج ٦ ، ص ١٠٩ و ١١٠.

(٢) مسالك الافهام ، ج ٥ ، ص ١٣٩.

٦٢

إنّ المراد بالعقد (١) أعمّ من الجائز واللازم ، بل ممّا كان فيه شائبة الإيقاع أو كان أقرب اليه.

______________________________________________________

والكلام في المقام الأوّل يقع في جهات :

الجهة الأولى : في معاني ألفاظ القاعدة ، وهي متضمنة لأبحاث :

الأوّل : في شمول العقد للعقد الجائز وعدم اختصاصه بالعقد اللازم.

الثاني : في معنى الضمان.

الثالث : في أنّ عموم «كل عقد» يكون بلحاظ الأنواع أو الأصناف أو الأفراد.

الرابع : في أنّ اقتضاء العقد الصحيح للضمان هل يختص بذات العقد أم يعم الاقتضاء العرضي الناشئ من الشرط في ضمن العقد؟

الخامس : في أنّ الباء في قولهم : «بصحيحه» سببية أو ظرفية.

الجهة الثانية : في مدرك القاعدة ومستندها.

الجهة الثالثة : في أنّ ضمان المقبوض بالعقد الفاسد هل يختص بحال جهل الدافع بالفساد أم يعمّ صورة علمه به أيضا؟ وسيأتي الكلام في هذه المباحث بترتيب المتن إن شاء الله تعالى.

المبحث الأول : المراد بالعقد ما يشتمل على المعاوضة

(١) هذا شروع في البحث الأوّل من الجهة الأولى ، ومحصل ما أفاده : أنّ المراد بالعقد في قولهم : «كل عقد يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» كلّ ما يشتمل على المعاوضة ، سواء أكان عقدا لازما كالبيع والصلح ، أم جائزا كالجعالة بناء على كونها عقدا لا إيقاعا ، وكالهبة المشروطة بالعوض. والوجه في الشمول وجود ملاك الضمان في كلّ من العقد اللازم والجائز.

بل يندرج في القاعدة بعض العناوين الاعتباريّة مما يحتمل كونه إيقاعا أو كان أقرب إلى الإيقاع ، وذلك كالجعالة والطلاق الخلعي ، فإنّه وإن ذهب جمع الى كونهما

٦٣

.................................................................................................

______________________________________________________

من العقود ، إلّا أنّ القائل بكونهما من الإيقاعات موجود أيضا.

أمّا الجعالة فهي عند جمع كابن إدريس والعلّامة والشهيد والمحقق الثاني وغيرهم قدس‌سرهم عقد جائز. قال العلّامة : «الجعالة عقد جائز من الطرفين إجماعا ، لكلّ منهما فسخها قبل التلبّس بالعمل ، وبعده قبل تمامه ، لأنّ الجعالة تشبه الوصيّة من حيث إنّها تعليق بشرط ، والرجوع عن الوصية جائز ، وكذا ما يشبهها. وأمّا بعد تمام العمل فلا معنى للفسخ ، ولا أجر ، لأنّ الجعل قد لزم بالعمل» (١) هذا.

ولكن استظهر صاحب الجواهر ـ تبعا للشهيد الثاني ـ من عبارة الشرائع كونها إيقاعا ، قال المحقق : «أمّا الإيجاب فهو أن يقول : من ردّ عبدي أو ضالّتي أو فعل كذا فله كذا ، ولا يفتقر إلى قبول .. ويصح على كل عمل مقصود محلّل ، ويجوز أن يكون العمل مجهولا ، لأنّه عقد جائز كالمضاربة» (٢).

قال الشهيد الثاني قدس‌سره في شرحه : «قد اختلف كلام الأصحاب وغيرهم في الجعالة هل هي من قسم العقود أو الإيقاعات؟ والمصنف جعلها من الإيقاع وضعا وحكما ، حيث صرّح بعدم افتقارها إلى القبول ، وهو المطابق لتعريفهم لها ، حيث جعلوها التزام عوض على عمل. ويؤيّده عدم اشتراط تعيين العامل ، وإذا لم يكن معيّنا لا يتصور للعقد قبول ، وعلى تقدير قبول بعض لا ينحصر فيه إجماعا. ومنهم من جعلها من العقود ، وجعل القبول الفعلي كافيا فيها كالوكالة ، والمنفي هو القبول اللفظي. وهو ظاهر كلام المصنف فيما سيأتي حيث جعله عقدا جائزا. والظاهر أنّه تجوّز في ذلك ، إذ لو كان عقدا عنده حقيقة لذكره في قسم العقود لا في قسم الإيقاعات .. إلخ» (٣).

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٢٨٨.

(٢) شرائع الإسلام ، ج ٣ ، ص ١٦٣.

(٣) مسالك الأفهام ، ج ١١ ، ص ١٤٩ و ١٥٠.

٦٤

.................................................................................................

______________________________________________________

واختار صاحب الجواهر كونها إيقاعا بقوله : «ولعلّه الأصح ، لما تسمعه من صحة عمل المميّز بدون إذن وليّه بعد وضعها ـ بل قيل في غير المميّز والمجنون وجهان ـ ومن المعلوم عدم صحة ذلك مع فرض اعتبار القبول فيها ولو فعلا ، لسلب قابلية الصبي والمجنون قولا وفعلا عن ذلك ، ولذا لا يجوز معه عقد من العقود الجائزة .. إلخ» (١).

وكأنّ هذه الوجوه أوجبت تردّد المصنّف في كون الجعالة عقدا جائزا ، واحتمل كونها إيقاعا ، ولذا قال : «ممّا كانت فيه شائبة الإيقاع».

وتظهر الثمرة بين كونها عقدا وإيقاعا في ما إذا صدر العمل من العامل خاليا عن قصد العوض والتبرّع مطلقا ، سواء اطّلع على الإيجاب أم لا ، فإنّه يستحق مال الجعالة على الإيقاعية دون العقدية ، هذا.

وأمّا الطلاق الخلعي ففيه أيضا احتمالان بل قولان ، أحدهما كونه عقدا ، والآخر كونه إيقاعا.

والأوّل هو المشهور كما يستفاد من كلام الشهيد الثاني في شرح قول المحقق : «وهل يصح ـ أي بذل الفداء ـ من المتبرّع؟ فيه تردّد ، والأشبه المنع». والثاني هو الذي رجّحه الشهيد الثاني مدّعيا مخالفته لمذهب جميع الأصحاب ، ووافقه الفاضل الأصفهاني قدس‌سره.

ولا بأس بنقل جملة من عبارة المسالك ، فقال : «وأمّا بذله من المتبرّع عنها ، بأن يقول للزوج : طلّق امرأتك بمائه من مالي ، بحيث يكون عوضا للخلع ، ففي صحته قولان ، أظهرهما بين الأصحاب ـ وهو الذي اختاره المصنّف والشهيد وغيرهما من الأصحاب ـ العدم ، فلا يملك الزوج البذل ، ولا يقع الطلاق إن لم يتبع به ، لأنّ الخلع من عقود المعاوضات ، فلا يجوز لزوم العوض لغير صاحب المعوّض ، كالبيع ، لو قال :

__________________

(١) جواهر الكلام ، ج ٣٥ ، ص ١٨٩.

٦٥

.................................................................................................

______________________________________________________

بعتك كذا بمائة في ذمة فلان» إلى أن قال : «وقول بالصحة لا يعلم قائله من الأصحاب ، لكنّه مذهب جميع من خالفنا من الفقهاء إلّا من شذّ منهم.

ومبنى القولين على أنّ الخلع فداء أو معاوضة ، أو على أنّه طلاق أو فسخ. فعلى الأوّلين يصح من الأجنبي ، لجواز الافتداء منه ، وبذل مال له ليطلّقها ، كما يصحّ التزام المال ليعتق عبده. وقد يتعلّق به غرض بأن كان ظالما بالإمساك ، وتعذّر إزالة يده بالحجة ، أو كان يسي‌ء العشرة ويمنع الحقوق ، فأراد المختلع تخليصها.

وعلى تقدير كونه طلاقا فالطلاق يستقل به الزوج ، فجاز أن يسأله الأجنبي على مال ، كما إذا قال : ألق متاعك في البحر وعليّ كذا» إلى أن قال : «ويرجّح جانب الفداء : الآية الدالة عليه ، إلّا أنّ مفهوم خطابها اختصاصها بها ، لكن مفهوم الخطاب ليس بحجة» (١).

وهذه الجملة الأخيرة تشهد بنفي كون الطلاق الخلعي عقدا ، وأنّه إيقاع ، ويتفرع عليه جواز تبرّع الأجنبي ببذل الفداء ، فراجع تمام كلامه.

واقتصر قدس‌سره في شرح اللمعة على بيان وجهي المنع والصحة ، وإن أمكن استفادة ترجيح كون الخلع إيقاعا «لأنه افتداء ، وهو جائز من الأجنبي».

ونحوه كلام الفاضل الأصفهاني قدس‌سره (٢).

والحاصل : أنّ بذل الفداء في الخلع لا يوجب صيرورته عقدا مؤلّفا من بذل الزوجة وطلاق الزوج ، بل الغرض من البذل إحداث الداعي في نفس الزوج على الطلاق. نظير ما لو التزم رجل لرجل آخر مالا ليعتق عبده أو يطلق زوجته طلاقا رجعيا أو بائنا ، بأن يقول له : «أعتق عبدك أو طلّق زوجتك وعليّ ألف دينار» فإنّ الألف ليس عوضا ، وإنّما يقصد به حصول الرغبة لمن بيده الأمر فيما يراد منه من العتق والطلاق.

__________________

(١) مسالك الأفهام ، ج ٩ ، ص ٣٩٢ و ٣٩٣.

(٢) كشف اللثام ، ج ١ ، (القسم الثاني) كتاب الطلاق ، ص ١٥١.

٦٦

والمراد (١) بالضمان في الجملتين هو كون درك المضمون

______________________________________________________

المبحث الثاني : المراد بالضمان في العقد الصحيح والفاسد

(١) هذا هو المبحث الثاني من مباحث الجهة الاولى ، وهو بيان معنى الضمان بحيث يكون جامعا للعقد الصحيح والفاسد ، بأن يراد من الضمان في جملتي «ما يضمن بصحيحه» و «يضمن بفاسده» معنى واحد. وقد فسّره المصنّف قدس‌سره بوجهين :

أحدهما : ما اختاره من أن الضمان كون درك المضمون عليه.

والثاني : ما نقله عن بعض من أنّه «كون تلفه عليه بحيث يتلف مملوكا له».

وتوضيح المعنى الأوّل هو : أنّ الضمان في الجملتين عبارة عن كون درك المضمون وخسارة تلفه على الضامن ، بأن يجب عليه تداركه بأداء بدله من ماله ، فتلف المال المضمون يوجب نقصان مال الضامن ، للزوم تداركه منه.

والضمان بهذا المعنى جامع للضمان في موارد ثلاثة :

أحدها : الضمان المعاوضي في العقود الصحيحة.

ثانيها : ضمان التالف في العقود الفاسدة.

ثالثها : ضمان العين الموهوبة ـ بشرط التعويض ـ إذا تلفت بيد المتهب.

والوجه في جامعية الضمان بهذا المعنى هو : أنّ خسارة تلف المال تكون على عهدة الضامن ، سواء أكانت الخسارة بدفع البدل المسمّى كما في العقد الصحيح ، أم بدفع البدل الواقعي كما في غيره.

مثلا إذا باع زيد كتابه من عمرو بدينار ، فالكتاب هو المال الأصلي المملوك لزيد قبل العقد ، والدينار ماله الفعلي الذي حصّله ببيع كتابه. وبالعكس بالنسبة إلى المشتري ، فالدينار ماله الأصلي والكتاب ماله الفعلي. فإن كان العقد صحيحا اقتضى ضمان كلّ من الطرفين لمال صاحبه بالضمان المعاوضي ، يعني أنّ البائع يتعهّد بالكتاب قبل تسليمه للمشتري بحيث لو تلف بيده التزم بخسارته ودركه من ماله ، لا من مال المشتري. وكذا يتعهّد المشتري بالدينار بحيث لو تلف بيده كانت خسارته عليه لا على البائع.

٦٧

عليه (١) ، بمعنى (٢) كون خسارته ودركه (٣) في ماله الأصلي (٤) ، فإذا (٥) تلف (٦)

______________________________________________________

وإن كان العقد المعاوضي فاسدا وترتّب عليه القبض ـ فصار الكتاب بيد المشتري ، والدينار بيد البائع ـ كان المشتري ضامنا للكتاب بحيث لو تلف بيده كانت خسارته عليه لا على البائع ، ولو تلف الدينار كان على عهدة البائع لا المشتري.

والدليل على ضمان كلّ منهما لمال الآخر هو الملازمة المستفادة من قاعدة «ما يضمن» بين صحيح العقد المعاوضي وفاسده. هذا توضيح نظر المصنف في أصل معنى الضمان. وأمّا كونه جامعا بين موارد الضمان فسيأتي.

(١) خبر «كون» والضمير راجع إلى «الضامن» المستفاد من كلمة «الضمان».

ثمّ إن تفسير الضمان بهذا الوجه لعلّه لمراعاة قرينة السياق المقتضية لوحدة الضمان في العقد الصحيح والفاسد ، لصدق «تدارك المضمون على الضامن» سواء أكان التدارك بعوض المسمّى كما في الصحيح ، أم بالبدل الواقعي كما في الفاسد. ولا يلزم استعمال لفظ «الضمان» في أكثر من معنى ، وسيأتي تقريبه.

(٢) هذا تفسير لقوله : «كون درك المضمون عليه» وقد عرفته.

(٣) هذا الضمير وضمير «خسارته» راجعان إلى المال المضمون.

(٤) قد عرفت المراد بما هو مال أصلي للضامن ، في قبال ماله الفعلي الذي حلّ محلّ المال الأصلي بالمعاوضة.

(٥) لا يخفى أنّ الضمان المعاوضي يحصل بنفس العقد ، ولا يتقيّد هذا الضمان بتلف أحد العوضين أو كليهما ، فذكر «التلف» إنّما هو لبيان موضوع الخسارة الواردة في المال الأصلي ، إذ لو لا التلف لم ترد خسارة على المتبايعين ، لوضوح أنّ بائع الكتاب يتدارك خروج كتابه عن ملكه بالدينار ، وكذا المشتري يتدارك نقصان ماله بدخول الكتاب في ملكه ، فورود الخسارة على كل منهما يتوقف على تلف مال الآخر بيده.

(٦) يعني : فإذا تلف المضمون وقع نقصان في ماله الأصلي ، لوجوب تدارك المضمون من ماله الأصلي.

٦٨

وقع نقصان فيه ، لوجوب تداركه منه.

وأمّا مجرّد كون تلفه في ملكه (١)

______________________________________________________

(١) أي : في ملك الضامن ، وهذا إشارة إلى معنى آخر للضمان نسبه الفقيه المامقاني قدس‌سره إلى العالم الجليل الشيخ علي في حواشي الروضة ، قال فيما حكاه عنه : «معنى قولهم في القاعدة : كلّ عقد يضمن بصحيحه يضمن بفاسده : كل عقد يضمن المال أو الشي‌ء فيه بسبب كونه صحيحا يضمن بسبب كونه فاسدا ، بمعنى : أنّ صحة العقد إن كانت سببا للضمان كان الفساد كذلك. فالبيع الصحيح مثلا سبب في كون المبيع إذا تلف كان من مال المشتري فكذا البيع الفاسد. وما لا يضمن بصحيحه كالعارية ومال المضاربة والوديعة ونحو ذلك ، فإن صحيح مثله لا يوجب الضمان ، فكذا فاسده» (١).

وقد ينسب هذا التفسير إلى صاحب الرياض قدس‌سره في مسألة تقدير الثمن (٢) ، لكن في النسبة تأمّل ، فراجع الرياض. ونسبه المحقق النائيني إلى العلّامة فيما احتمله في الأواني المكسورة وإلى صاحب المقابس (٣). لكنه لا يخلو من تأمل أيضا ، فإنّه نقل عن المحقق التستري دخول المضمون ـ في مطلق موارد الضمان ـ في ملك الضامن آنا ما قبل التلف حتى يقع التلف في ملكه ، وهذا أجنبي عمّا يكون المصنف بصدده من تحديد معنى «الضمان» الوارد في قاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده».

وكيف كان فتوضيح تعريف الضمان بأنّه «يتلف مملوكا له» هو : أنّ الضمان بمعنى الخسارة الواردة على مال الضامن ، ووقوع التلف في ملكه. مثلا إذا باع زيد كتابا من عمرو بدينار ، فإن كان العقد صحيحا وسلّم البائع الكتاب إلى عمرو ، وتسلّم الثمن

__________________

(١) غاية الآمال ، ص ٢٧٧ ، لكن لم أعثر على هذه العبارة في هامش النسخة المطبوعة من الروضة ، وهي طبعة عبد الرحيم ، فراجع ، ج ١ ص ٣٢٣.

(٢) حاشية السيد الاشكوري على المكاسب ، ص ٤١.

(٣) منية الطالب ، ج ١ ، ص ١١٨ ؛ المكاسب والبيع ، ج ١ ، ص ٣٠٣.

٦٩

.................................................................................................

______________________________________________________

منه ، ثمّ تلف الكتاب بيد المشتري ، كان هو الضامن لماله ، لورود الخسارة عليه بتلف الكتاب.

وإن كان العقد فاسدا وتلف المبيع بيد المشتري فهذا البيع الفاسد يقتضي وقوع التلف في ملك المشتري ، بأن يقدّر دخوله في ملكه قبل التلف آنا مّا ، ويكون دفع البدل خسارة واردة عليه بسبب التلف عنده.

والوجه في العدول عن تفسير الضمان بما أفاده المصنّف ـ من «تدارك المضمون ببدله» ـ إلى تقييد المضمون بكونه مملوكا للضامن هو : أنّ الضمان ـ بمعنى تدارك المضمون ـ مخصوص بالعقد الفاسد ، إذ المقبوض به لو تلف بيد المشتري كانت خسارته عليه ، ووجب عليه دفع بدله إلى البائع. وأمّا في العقد الصحيح فلا يتصور معنى للضمان ـ بمعنى تدارك مال الغير ـ وذلك لأنّ المبيع إذا تلف عند المشتري لم يلزمه شي‌ء أصلا ، لأنّ المال تلف من ملكه ، لا من ملك البائع حتّى يجب على المشتري تداركه ، وحينئذ لم يتضح المراد من كلمة «الضمان» الواردة في قولهم : «ما يضمن بصحيحه».

ولذا عدل هذا القائل إلى تعريف الضمان بنحو ينطبق على مورد العقد الصحيح أيضا ، وقال : «إنّه الخسارة الواردة على الشخص حال كونها مملوكة له» فإنّ هذا المعنى ينطبق على المأخوذ بالعقد الصحيح ، كما تقدم آنفا في مثال الكتاب المقبوض بالبيع الصحيح إذا تلف بيد المشتري ، إذ يصدق عليه أنّ المشتري ضامن بهذا العقد ، ووجه ضمانه هو وقوع التلف في ملكه.

واعترض المصنّف قدس‌سره على هذا التفسير بأنّه أجنبيّ عن معنى الضمان لغة وعرفا ، إذ لا يصدق على «تلف المال المملوك لشخص» أنّه ضامن لماله التالف ، بل المناط في صدقه تدارك الخسارة الواردة على المالك إذا تلف ماله عند غيره بلا إذن المالك ، أو أتلفه ذلك الغير.

٧٠

بحيث يتلف مملوكا له (١) ـ كما يتوهّم ـ فليس (٢) هذا معنى للضمان أصلا فلا يقال (٣) : إنّ الإنسان ضامن لأمواله.

ثمّ (٤) تداركه من ماله

______________________________________________________

وأمّا ما زعمه هذا القائل من أنّ تصور معنى صحيح لجملة «ما يضمن بصحيحه» يتوقف على تفسير الضمان بأنّه «بحيث يتلف مملوكا له» فممنوع ، إذ المقصود بالضمان في العقود الصحيحة هو الضمان المعاوضي ، بمعنى أنّه بمجرّد العقد يصير المبيع ملكا للمشتري فيضمنه البائع لو تلف عنده ، ويصير الثمن ملكا للبائع ، ويضمنه المشتري بحيث لو تلف وجب عليه بدله. وأمّا إذا تسلّم المشتري المبيع ، وتسلّم البائع الثمن ، ثم تلف فلا ضمان ، لوقوع التلف في ملكه. ولم يعهد صحة إطلاق أنّ كل شخص ضامن لأموال نفسه حتّى يتجه تعريف الضمان بالخسارة الواردة في ملك نفسه ، هذا.

(١) أي : مملوكا للضامن ، يعني : أنّ الجامع بين ضمان المال في العقد الصحيح والفاسد هو وقوع التلف في ملك الضامن.

(٢) هذا جواب قوله : «وأمّا» وردّ تفسير الضمان المنقول عن بعضهم.

(٣) هذا متفرع على قوله : «فليس» والوجه في فساد تعريف الضمان بأنّه «يتلف مملوكا له» هو : أنّه لو كان هذا المعنى صحيحا لزم صدق ضمان الشخص لأموال نفسه التي قد تتلف منه ، مع أنّه لا يصحّ الصدق المذكور ، ويستكشف من عدم صدقه بطلان التعريف المذكور.

(٤) بعد أن اختار المصنّف قدس‌سره تعريف الضمان بأنّه «كون درك المال المضمون على عهدة الضامن» أراد إثبات جامعية هذا التعريف ، وعدم كون الضمان مشتركا لفظيا ، وعدم لزوم التفكيك في معنى الضمان بين جملة «ما يضمن بصحيحه» و «ما يضمن بفاسده».

وتوضيحه : أنّه قد يتوهم اختلاف معنى الضمان في الجملتين ، لأنّه في العقد

٧١

تارة يكون بأداء عوضه الجعلي الذي تراضى (١) هو والمالك على كونه عوضا ، وأمضاه الشارع ، كما في المضمون بسبب العقد الصحيح. وأخرى بأداء عوضه

______________________________________________________

الصحيح يكون بالبدل الجعلي المسمّى في العقد كبدلية الدينار عن الكتاب. ولكن الضمان في العقد الفاسد يكون بالبدل الواقعي من المثل أو القيمة. فإذا قبض المشتري الكتاب وتلف عنده وتبيّن فساد العقد كان اللازم تداركه بعوضه الواقعي لا الجعلي. وبهذا يتفاوت معنى الضمان الذي أفاده المصنّف ، لاختلاف نحوي تدارك مال الغير ، هذا.

وقد دفعه قدس‌سره بأنّ للضمان في جميع موارده مفهوما وحدانيا ، وهو التدارك بمال الضامن ، إلّا أنّ الاختلاف يكون فيما يتدارك به ، إذ هو تارة بدل واقعي ، وأخرى بدل جعليّ ، وثالثة أقلّ الأمرين من البدل الواقعي والجعلي كما سيأتي بيانه في الهبة المعوّضة التالفة قبل دفع العوض ، فللمتّهب الاقتصار في تدارك العين الموهوبة على أقلّ البدلين قيمة ، فإن كان العوض المشترط أقل اكتفى به ، وإن كانت القيمة الواقعية أقلّهما اكتفى به.

والحاصل : أنّ الضمان في جميع موارده بمعنى «تدارك المال المضمون وتحمّل خسارته» ويراد به عند الإطلاق أداء العوض الواقعي ، وفي خصوص العقد الصحيح يراد به أداء البدل الجعلي ، وذلك من باب تعدّد الدال والمدلول وقيام القرينة على إرادة التدارك بالعوض المسمّى ، وهي تعيين البدل في العقد المعاوضي الذي أمضاه الشارع ، كجعل الدينار ـ بالبيع ـ بدلا عن الكتاب.

(١) كتراضي مالك الكتاب ومالك الدينار على كون كلّ منهما عوضا عن الآخر. وكتراضي مالك الدار والمستأجر على كون عشرة دنانير عوضا عن منفعتها مدة شهر مثلا. وهذا التراضي إنّما يترتب عليه الأثر بعد إمضاء الشارع لهذين العقدين وحكمه بصحتهما.

٧٢

الواقعي ـ وهو المثل أو القيمة ـ وإن لم يتراضيا عليه (١). وثالثة بأداء أقلّ الأمرين من العوض الواقعي والجعلي ، كما ذكره بعضهم (٢) في بعض المقامات ، مثل تلف الموهوب بشرط التعويض قبل دفع العوض.

______________________________________________________

(١) كما في صورة فساد العقد وتلف المال ، فإنّ الضمان يكون حينئذ بالبدل الواقعي من المثل أو القيمة.

(٢) كالشهيد الثاني ، حيث قال : «وحاصل الأمر : أنّ العين الموهوبة المشروط فيها الثواب لو تلفت في يد المتهب أو عابت قبل دفع العوض المشروط وقبل الرجوع ، سواء أكان ذلك بفعله كلبس الثوب ، أم لا ، فهل يضمن المتهب الأرش أو الأصل أم لا؟ قولان : أحدهما عدم الضمان ، وهو الذي اختاره المصنف ، ثم تردّد فيه. وجزم به العلّامة في التذكرة وولده في الشرح .. والثاني : الضمان ، جزم به ابن الجنيد من المتقدمين وبعض المتأخرين ، لعموم على اليد ما أخذت حتّى تؤدّى ، ولأنّه لم يقبضها مجّانا بل ليؤدّي عوضها فلم يفعل ، ولأنّ الواجب أحد الأمرين ، ردّها أو دفع العوض ، فإذا تعذّر الأول وجب الثاني. وهذا هو الوجه.

إذا تقرّر ذلك وقلنا بالضمان مع التلف ، فهل الواجب مثل الموهوب أو قيمته أو أقلّ الأمرين من ذلك ومن العوض؟ وجهان أجودهما الثاني ، لما عرفت من أنّ المتهب مخيّر بين الأمرين ، والمحقّق لزومه هو الأقل ، لأنّه إن كان العوض الأقلّ فقد رضي به الواهب في مقابلة العين. وإن كان الموهوب هو الأقل فالمتهب لا يتعين عليه العوض ، بل يتخيّر بينه وبين بذل العين ، فلا يجب مع تلفها أكثر من قيمتها. وهذا هو الأقوى. ووجه اعتبار القيمة مطلقا أنّ العين مضمونة حينئذ على القابض ، فوجب ضمانها بالقيمة.

وفيه : أنّه مسلّط على إتلافها بالعوض ، فلا يلزمه أزيد منه لو كان أنقص» (١).

__________________

(١) مسالك الأفهام ، ج ٦ ، ص ٦٣ الى ٦٥.

٧٣

فإذا ثبت هذا (١) فالمراد بالضمان بقول مطلق (٢) هو لزوم تداركه بعوضه الواقعي ، لأنّ هذا (٣) هو التدارك حقيقة ، ولذا (٤) لو اشترط ضمان العارية

______________________________________________________

(١) يعني : فإذا ثبت أنّ معنى الضمان هو كون تدارك المضمون على عهدة الضامن وأنّ التدارك إمّا بالعوض المسمّى وإمّا بالواقعي وإمّا بأقل الأمرين ، فالمراد .. إلخ. وغرضه قدس‌سره أنّ الضمان وإن كان هو التدارك بأحد الأنحاء الثلاثة ، إلّا أنه عند الإطلاق وعدم تقييده بالعوض الواقعي أو الجعلي أو أقلّ الأمرين يحمل على التدارك الحقيقي الذي هو جبر الخسارة بالبدل الواقعي من المثل أو القيمة.

وأمّا أداء البدل المسمّى أو أقلّ الأمرين فيحتاج إلى دليل على جوازه ، مثل ما دلّ على صحة عقد البيع والإجارة ، المقتضي لضمان كلّ منهما بالضمان المعاوضي ، لا الواقعي ، فلو ثبت الضمان في مورد ولم يقترن معه ما يقيّده بالبدل الجعلي تعيّن تداركه بالعوض الواقعيّ. لما عرفت من أنّ جبران خسارة مال الغير لا يكون إلّا بأداء عوضه الحقيقي ، ولأجله يحمل «الضمان» الوارد في أدلّة ضمان المغصوب مثل «الغاصب ضامن» وغير المغصوب مثل «من أتلف مال الغير فهو له ضامن» على التعهّد بالبدل الواقعي ، لا غير.

ولا يخفى أن قوله قدس‌سره : «فالمراد بالضمان .. إلخ» تمهيد لردّ ما احتمله بعضهم من حمل الضمان في العقود الفاسدة على العوض الجعلي لا الواقعي ، وسيأتي بيانه.

(٢) يعني : لم يقيّد الضمان بالمسمّى ، ولا بالواقعي ولا بأقلّ الأمرين ، بل ورد قوله «فهو ضامن» فإنّه ينصرف إلى الواقعيّ خاصة.

(٣) أي : لأنّ التدارك بالعوض الواقعيّ هو التدارك الحقيقي ، وغيره منوط بقرينة تدلّ عليه.

(٤) يعني : ولأجل كون الضمان بقول مطلق هو لزوم التدارك بعوضه الواقعي لزم غرامة مثلها أو قيمتها.

٧٤

لزم غرامة مثلها أو قيمتها (١). ولم يرد (٢) في أخبار ضمان المضمونات ـ من المغصوبات (٣) وغيرها (٤) ـ عدا لفظ الضمان بقول مطلق (٥).

______________________________________________________

(١) فإن كانت العين المعارة مثلية كان ضمانها بمثلها ، وإن كانت قيمية فبقيمتها.

(٢) غرضه قدس‌سره أنّه لم يفسّر لفظ الضمان ـ في أخبار المضمونات ـ بشي‌ء من الواقعي والجعلي وغيرهما ، بل الوارد فيها لفظ «الضمان» فينصرف إلى المعهود منه ، وهو الواقعي من المثل أو القيمة.

(٣) مثل ما في مرسل حمّاد بن عيسى عن العبد الصالح عليه‌السلام : «لأنّ الغصب كلّه مردود» (١).

(٤) مثل ما ورد في ضمان المستودع مع التفريط في الحفظ من قوله عليه‌السلام : «هو ضامن لها إن شاء ..» (٢).

وما ورد في عدم ضمان المستعير من قوله عليه‌السلام : «ليس على مستعير عارية ضمان ، وصاحب العارية والوديعة مؤتمن» (٣).

وما روي في ضمان عارية النقدين ، والعارية المشروط فيها الضمان من قوله عليه‌السلام : «لا تضمن العارية إلّا أن يكون قد اشترط فيها ضمان» (٤) الحديث. وقوله عليه‌السلام في ضمان المستعير : «إذا استعيرت عارية بغير إذن صاحبها فهلكت فالمستعير ضامن» (٥).

وغيرها من الأخبار الواردة في ضمان الصّنّاع ، والمستأجر المفرّط في العين المستأجرة ، فإنّ الضمان فيها ينصرف إلى التدارك بالبدل الواقعي ، لا غير.

(٥) يعني : غير مقيّد بالبدل الواقعي ولا المسمّى.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٧ ، ص ٣٠٩ ، الباب ١ من أبواب الغصب ، الحديث ٣

(٢) المصدر ، ج ١٣ ، ص ٢٢٩ ، الباب ٥ من أبواب الوديعة ، الحديث ١

(٣) المصدر ، ج ١٣ ، ص ٢٣٧ ، الباب ١ من أبواب العارية ، الحديث ٦

(٤) المصدر ، ج ١٣ ، ص ٢٣٩ ، الباب ٣ ، الحديث ١

(٥) المصدر ، ج ١٣ ، ص ٢٤٠ ، الباب ٤ ، الحديث ١

٧٥

وأمّا (١) تداركه بغيره فلا بدّ من ثبوته من طريق آخر ، مثل تواطئهما عليه بعقد صحيح يمضيه الشارع. فاحتمال (٢) «أن يكون المراد بالضمان في قولهم : ـ يضمن بفاسده ـ هو وجوب أداء العوض المسمّى ، نظير الضمان في العقد الصحيح»

______________________________________________________

(١) أي : وأمّا تدارك المضمون بغير البدل الحقيقي من المثل أو القيمة فلا يستفاد من نفس دليل الضمان ، بل لا بدّ من دليل آخر عليه ، وهو مؤلّف من أمرين :

أحدهما : توافق المتعاقدين على أن يضمن كلّ منهما مال الآخر بالعوض المعيّن في المعاملة.

ثانيهما : إمضاء الشارع هذا التراضي حتى يترتب عليه الأثر ، كإمضاء البيع بآية حلّ البيع ، وإمضاء الإجارة والصلح المعاوضي بأدلّة صحّتهما ، وهكذا سائر الموارد.

فإن كان العقد صحيحا كانت صحّته قرينة على إرادة الضمان بالبدل الجعلي ، وإن كان فاسدا تعيّن حمل الضمان في قولهم : «يضمن بفاسده» على التدارك بالبدل الواقعي.

(٢) يعني : بعد كون الضمان حقيقة في الضمان الواقعي أو منصرفا إليه يظهر ضعف احتمال إرادة العوض المسمّى من «الضمان» في جملة «يضمن بفاسده».

والمحتمل ـ كما أفاده الفقيه المامقاني قدس‌سره ـ هو الشيخ الفقيه كاشف الغطاء قدس‌سره في شرح القواعد ، حيث قال بعد ذكر قاعدة «ما يضمن» ما لفظه : «وهي صريحة في أصل الضمان ، إلّا أنّها يحتمل فيها وجهان : أحدهما : الضمان بمقدار ما أقدم عليه من المقابل. وثانيهما : قيمته بلغت ما بلغت ، وهو الظاهر ، لأنّ التقييد غير مفهوم منها» (١).

وهو قدس‌سره وإن احتمل الضمان بالمسمّى ، إلّا أنّه رجّح الضمان بالبدل الواقعي. وعلى هذا فلا بدّ أن يكون غرض المصنف من الاشكال عليه هو : أنّ أصل إبداء احتمال الضمان بالبدل المسمّى في العقد المعاوضي الفاسد ممّا لا ينبغي صدوره من فقيه خصوصا مثل كاشف الغطاء قدس‌سره.

__________________

(١) غاية الآمال ، ص ٢٧٩.

٧٦

ضعيف (١) في الغاية ، لا لأنّ (٢) ضمانه بالمسمّى يخرجه عن فرض الفساد ، إذ (٣)

______________________________________________________

(١) خبر قوله : «فاحتمال» ودفع له ، وقد ذكر في دفع الاحتمال وجهان :

أحدهما : ما تكرّر في كلام المصنف من أنّ الضمان بقول مطلق يحمل على التدارك بالبدل الحقيقي.

وثانيهما : ما أفاده بعضهم وهو لزوم الخلف ، توضيحه : أنّ الضمان في العقد الفاسد بمقدار ما أقدم عليه ـ أي المسمّى ـ يوجب خروج العقد الفاسد عن فرض الفساد ويجعله صحيحا ، إذ الضمان بالمسمّى يتوقّف على توافق المتعاوضين وإمضاء الشارع له ، وحيث إنّ المفروض فساد العقد لم يكن توافقهما ممضى شرعا ولا موضوعا للأثر ، فلا وجه لرفع اليد عن الضمان الواقعي الذي هو مقتضى إطلاق «الضمان» والالتزام بالضمان الجعلي.

(٢) فكأنّ هذا القائل فهم استلزام صحة العقد لتعيّن المسمّى ، فإذا فسد كان تعيّن المسمّى بلا معيّن.

(٣) تعليل لقوله : «لا» وهذه مناقشة المصنف في جواب الاحتمال ، وحاصلها : منع توقف الضمان بالعوض المسمّى على صحّة البيع من حين العقد ، بل يمكن تعيّنه بعد تلف أحد العوضين.

توضيحه : أنّه إذا كان العقد فاسدا لم ينتقل المبيع إلى المشتري ، ولا الثمن إلى البائع ، ويحرم التصرف في كل منهما. ولو كان لأحدهما نماء كان لمالكه الأصلي ، هذا مع بقاء العينين. وأمّا إذا تلف أحدهما ـ كما إذا تلف المبيع بيد المشتري ـ فنقول بأنّ الثمن المسمّى في ذلك العقد الفاسد هو الذي يضمنه المشتري ، ويجب عليه تسليمه إلى البائع ، ولا يتعيّن البدل الواقعي من المثل أو القيمة للعوضيّة.

ولا استيحاش من هذا ، لوجود نظيره في الفقه وهو المعاطاة بناء على الإباحة ، لما تقدّم في التنبيه السادس المعقود لبيان الملزمات من : أنّ تلف أحد العوضين ملزم للمعاطاة ، ويتعيّن العوض الجعليّ للعوضية ويتملّكه مالك التالف ،

٧٧

يكفي في تحقق فرض الفساد بقاء كلّ من العوضين على ملك مالكه (١) وإن كان عند تلف أحدهما يتعيّن الآخر للعوضيّة ، نظير المعاطاة على القول بالإباحة (٢). بل (٣) لأجل ما عرفت من معنى الضمان ، وأنّ التدارك بالمسمّى في الصحيح

______________________________________________________

مع أنّه لم يدخل في ملكه من حين التعاطي المفيد للإباحة.

وعلى هذا فلا ملازمة بين الصحة وتعيّن المسمّى ، حتى يكون ضمان المسمّى في العقد الفاسد مخالفا لفرض الفساد. بل يمكن القول بضمان المسمّى في العقد الفاسد أيضا بعد تلف أحد العوضين.

فالنتيجة : أنّ الاحتمال الذي أبداه كاشف الغطاء قدس‌سره لا يندفع بما أفيد من اختصاص ضمان المسمّى بالعقد الصحيح ، هذا.

(١) بأن كان المالان باقيين على ملك مالكيهما إلى أن يتلف أحدهما ، فحينئذ ينتقل التالف منهما عند التلف ـ آنا ما ـ إلى ملك من تلف عنده ، وبالعكس.

(٢) فإنّ العوضين باقيان على ملك مالكيهما ـ وهما المتعاطيان ـ ولا يتعيّن أحدهما للعوضيّة إلّا بعد تلف الآخر.

ولا يخفى أنّ تنظير المقام بالمعاطاة ـ بناء على الإباحة التي لا يقول بها المصنف ـ إنّما هو لمجرّد دفع الاستبعاد عن تغيير الضمان في العقد الفاسد من الواقعي إلى الجعلي حين تلف أحد المالين ، إذ القائل بالإباحة يلتزم بانتقال التالف قبل التلف آنا ما إلى من تلف عنده ، ويتعيّن العوض الآخر للعوضيّة.

وإلّا فيرد على المصنف قدس‌سره أنّ قياس المقام بالمعاطاة في غير محلّه ، لكون العقد الفاسد فاسدا إلى الأبد ، بخلاف المعاطاة ، فإنّها صحيحة ، ولأجل صحتها ـ بالإجماع المدّعى على الإباحة ـ يتعيّن المالان للعوضية عند التلف ، هذا.

(٣) معطوف على قوله : «لا لأن» وغرضه بيان وجه ضعف الاحتمال الذي أفاده الفقيه كاشف الغطاء قدس‌سره. وقد عرفته ، ومحصّله : أنّ الضمان بقول مطلق يراد به التدارك بالعوض الواقعي ، وأنّ التدارك بالمسمّى يتوقف على أمرين ، أحدهما توافق

٧٨

لإمضاء الشارع ما تواطئا على عوضيّته ، لا لأنّ (١) معنى الضمان في الصحيح مغاير لمعناه في الفاسد حتى يوجب ذلك تفكيكا في العبارة (٢) ، فافهم (٣).

______________________________________________________

المتعاملين ، والآخر إمضاء الشارع لما تواطئا عليه ، وهذا الأمر الثاني مفقود في العقد الفاسد ، فلا وجه للضمان بالمسمّى فيه.

(١) هذا قد استفيد من قوله قبل أسطر : «ولم يرد في أخبار ضمان المضمونات .. إلخ» وكأنّه قدس‌سره يريد دفع توهّم ، حاصله : أنّ الضمان في العقد الصحيح إن كان بالمسمّى وفي الفاسد بالواقعي لزم التفكيك في مدلول كلمة «ما يضمن بصحيحه» بحمله على ما يضمن بمسمّاه ، وكلمة «ما يضمن بفاسده» بحمله على ضمانه الواقعي ، وهذا التفكيك مخالف لظهور الكلام في إرادة معنى واحد من كلمة «الضمان» في الجملتين.

ومحصّل دفعه : عدم لزوم التفكيك في معنى الضمان ، لأنّه بمعنى تدارك مال الغير بحيث لو تلف كانت خسارته في ماله الأصلي. وهذا جار في كلّ من العقد الصحيح والفاسد ، إلّا أنّ مصداق المال الأصلي مختلف ، فقد يكون ما عيّن في العقد ، وقد يكون هو المثل أو القيمة ، ومن المعلوم أنّ اختلاف مصاديق التدارك لا يوجب تعدّد المفهوم حتى يتوهم التفكيك بين الضمان في صحيح العقد وفاسده.

(٢) أي : التفكيك في الضمان بين جملة «ما يضمن بصحيحه» وجملة «يضمن بفاسده».

(٣) لعلّه إشارة إلى أنّ التفكيك في مفهوم الضمان ممّا لا بدّ منه ، سواء أكان من باب استعمال لفظ الضمان في الواقعي تارة ، وفي المسمّى أخرى ، أم من باب استفادة التدارك الواقعي من إطلاق اللفظ وعدم تقييده بشي‌ء ، والتدارك الجعلي من قرينة تواطؤ المتعاقدين وإمضاء الشارع. هذا تمام الكلام في ثاني أبحاث الجهة الاولى ، وهو معنى الضمان الوارد في القاعدة.

٧٩

ثمّ (١) العموم في العقود

______________________________________________________

المبحث الثالث : عموم «كل عقد» هل يكون بلحاظ الصنف أو غيره؟

(١) هذا شروع في المبحث الثالث من مباحث الجهة الأولى ، وهو بيان المراد من العموم المدلول عليه بكلمة «كلّ» في قولهم : «كل عقد يضمن ..» أو بكلمة «ما» الموصولة في قولهم : «ما يضمن».

والوجه في عقد هذا المبحث هو : أنّ في العموم احتمالات ثلاثة ، بل أقوالا كذلك ، وتتفاوت الآثار المترتبة على كلّ منها ، فلا بدّ من تحقيق المسألة ، وينبغي الإشارة إلى أمرين مقدمة لتوضيح كلام المصنف قدس‌سره ، فنقول وبه نستعين :

الأوّل : أنّ هذا البحث لا يختص بأصل القاعدة ـ أعني به «كل عقد يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» ـ بل يجري في العكس أيضا ، إذ الموضوع فيه «كل عقد لا يضمن بصحيحه» أو «ما لا يضمن» فيجري فيه احتمال نوع العقد أو صنفه أو أشخاص العقود التي ينشئها المتعاقدان.

الثاني : في بيان المراد بالنوع والصنف والفرد ، فنقول : إنّ «العقود» عنوان مشير إلى المعاملات القائمة بطرفين ، سواء تضمّنت معاوضة أم لا ، كالبيع والصلح والإجارة والهبة والجعالة والسبق والرماية والمضاربة والعارية والوديعة والوكالة والرّهن ونحوها ممّا هو معهود في الكتب الفقهية. ويعدّ كلّ منها نوعا ، فالبيع ـ بما له من الأقسام ـ نوع واحد ، لصدق تعريفه من «مبادلة مال بمال ، أو تمليك عين بعوض» على جميعها. وكذا الإجارة نوع واحد ، والصلح نوع ، وهكذا سائر العقود.

ثمّ إنّ لكلّ من هذه الأنواع أقساما هي أصناف ذلك النوع ، كبيع الصّرف والسّلم والحيوان والثمار والنسيئة والمعاطاة ، وبيع الدين وغيرها من الأقسام. وللإجارة أيضا صنفان ، هما إجارة الأعيان والأعمال. وكذلك للصلح أصناف ، فإنّه إمّا يفيد فائدة البيع أو الإجارة أو العارية أو الهبة أو الإبراء. وهكذا العارية ، فإنّها إمّا عارية النقدين وإمّا غيرهما ، والثاني إمّا مشروط بالضمان وإمّا غير مشروط به.

٨٠