هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٣

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٠

لعموم (١) «الناس مسلطون على أنفسهم» وليس (٢) ما عنده من المال عوضا من مطلق السلطنة (٣) حتى سلطنة المطالبة ، بل (٤) سلطنة الانتفاع بها على الوجه المقصود من الأملاك. ولذا (٥) لا يباح لغيره بمجرّد بذل الغرامة.

______________________________________________________

دفعه الضامن إليه ، وبتحديد سلطنته وتضييقها لا سبيل لإثبات استحقاق مطالبة العين. وعليه فإن اختار الضامن ردّ العين إلى مالكها استردّ بدل الحيلولة منه ، وإلّا فليس لأحد منهما المطالبة.

قلت : إنّ قاعدة السلطنة تقتضي جواز مطالبة العين من الغارم. ولا يتضيّق هذا الحقّ إلّا بكون بدل الحيلولة بدلا عن سلطنة المالك المطلقة على ماله ، أو بدلا عن سلطنته على مطالبة ماله ، إذ على كلّ منهما يسقط حقّ المطالبة ولا بدّ من انتظار إقدام الضامن حينئذ بأن يردّ العين إلى المالك ويستردّ البدل. ولكنّ الصحيح احتمال ثالث ، وهو كون بدل الحيلولة بدلا عن خصوص سلطنة انتفاع المالك بالمال ، المفروض فواتها في زمان تعذّر الوصول إلى العين ، وأمّا سلطنته المطلقة على جميع أنحاء التقلّب في المال فلم تقابل ببدل الحيلولة حتى يسلب عن المالك حقّ مطالبة العين.

(١) المراد بالعموم هو الإطلاق كما مرّ غير مرّة.

(٢) هذا إشارة إلى وهم ، وجوابه قوله : «بل سلطنة الانتفاع» وقد أوضحناهما بقولنا : «فان قلت. قلت».

(٣) إذ لو كان بدل الحيلولة بدلا عن مطلق السلطنة ـ بأن كانت العين المسلوبة السلطنة عليها ملكا للمضمون له ـ لم يستحقّ المالك مطالبة العين.

(٤) يعني : يكون بدل الحيلولة عوضا عن بعض أنحاء السلطنة ، وهو سلطنة الانتفاع بالملك. وأمّا السلطنة على الجهات الأخرى فباقية للمالك ، ولم تعوّض بشي‌ء أصلا ، وبناء على هذا فله المطالبة.

(٥) غرضه إقامة الشاهد على كون بدل الحيلولة عوضا عن حيثيّة خاصّة من حيثيّات السلطنة ، أي : ولأجل عدم كون الغرامة عوضا عن مطلق السلطنة لا يباح العين لغير

٦٠١

وممّا ذكرنا (١) يظهر أنّه ليس للغاصب حبس العين إلى أن يدفع المالك ، القيمة ، كما اختاره (٢) في التذكرة والإيضاح وجامع المقاصد (١).

وعن التحرير (٢) الجزم بأنّ له ذلك (٣). ولعلّه (٤) لأنّ القيمة عوض ، إمّا عن العين ، وإمّا عن السلطنة عليه. وعلى أي تقدير فيتحقّق التّراد.

وحينئذ فلكلّ من صاحبي العوضين حبس ما بيده حتى يتسلّم ما بيد الآخر (٥).

______________________________________________________

المالك ، يعني : أنّ مالك العين لو بذل الغرامة للغاصب ـ بأن قال : «ما أريد منك الغرامة» أو ردّها إليه على وجه البذل والعطيّة بعد أخذها منه ـ لم يكن مجرّد بذلها موجبا لإباحة العين للغاصب.

ولو كانت الغرامة عوضا عن مطلق سلطنة المالك حتى سلطنة المطالبة وقد بذل العوض بعد قبضه أو قبله كان ذلك بمنزلة بذل المعوّض عنه ، وكان من اللازم سقوط سلطنة المطالبة ، بل إباحة العين للغاصب.

(١) يعني : من عدم عود الغرامة إلى ملك الغارم إلّا بعد إرجاع السلطنة على العين إلى مالكها يظهر أنّه ليس للغاصب حبس العين إلى أن يردّ مالك العين القيمة المدفوعة غرامة ، إذ ليس للغاصب حينئذ مال عند المالك حتّى يجوز له ذلك ، كما في المعاوضة.

(٢) أي : عدم جواز الحبس.

(٣) أي : الحبس.

(٤) يعني : ولعلّ وجه جزم التحرير بأنّ للغاصب حبس العين إلى دفع المالك إليه القيمة هو تحقّق المعاوضة بين العين والبدل بأحد نحوين ، فإمّا أن يكون المعوّض نفس العين ، وإمّا السلطنة المطلقة عليها.

وعلى كلّ منهما يجوز للغاصب حبس العين حتى يردّ المالك البدل إلى الغارم ، ولا يجب عليه المبادرة إلى تسليم العين إليه ، كما يجوز للمالك الحبس حتى تصل إليه العين.

(٥) كما هو الشأن في المعاوضات.

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٣٨٥ ، إيضاح الفوائد ، ج ٢ ، ص ١٧٨ ، جامع المقاصد ؛ ج ٦ ، ص ١٦١.

(٢) تحرير الأحكام ، ج ٢ ، ص ١٤٠ ، والحاكي عنه هو السيد العاملي في مفتاح الكرامة ؛ ج ٦ ، ص ٢٥٦.

٦٠٢

وفيه (١) : أنّ العين بنفسها ليست عوضا ولا معوّضا (٢) ، ولذا تحقّق للمالك الجمع بينها وبين الغرامة ، فالمالك مسلّط عليها (٣). والمعوّض للغرامة السلطنة التي هي في معرض العود بالتّراد.

اللهم إلّا أن يقال : له حبس العين من حيث تضمّنه لحبس (٤) مبدل الغرامة ، وهي السلطنة الفائتة.

والأقوى الأوّل (٥).

ثمّ لو قلنا (٦) بجواز الحبس لو حبسه فتلفت العين محبوسا ؛ فالظاهر أنّه

______________________________________________________

(١) حاصل المناقشة في جواز حبس العين هو عدم تحقّق المعاوضة بين العين والبدل. أمّا عدم كون العين عوضا فمعلوم. وأمّا عدم كونها معوّضا فلأنّ بدل الحيلولة غرامة عن سلطنة الانتفاع الثابتة لكلّ مالك على ماله. وممّا يشهد بعدم تحقّق المعاوضة اجتماع العين والبدل في ملك المضمون له ، مع أنّ قوام المعاوضة بدخول أحد العوضين في كيس من خرج منه العوض الآخر. وهذا كاشف عن كون البدل عوضا عن السلطنة الفائتة.

(٢) حتى يجوز للغارم حبس العين عن المالك إلى أن يأخذ الغرامة منه ، وكذا حبس المالك الغرامة حتى يتسلّم العين من الغارم.

(٣) أي : على الغرامة.

(٤) أي : للغاصب حبس العين ، وحاصله : أنّ حبس العين علّة لحبس السلطنة التي هي مبدل الغرامة ، فيكون من هذه الحيثيّة نظير المعاوضة.

(٥) وهو عدم جواز حبس العين للغاصب.

ل ـ لو حبس العين فتلفت ، فالعبرة بأيّ القيم؟

(٦) هذا من فروع المسألة ، وتعبيره ب «لو قلنا» ظاهر في عدم التزامه به ، لما تقدّم منه من عدم خروج الغرامة عن ملك مالك العين بمجرّد تمكن الغاصب من ردّها إليه ، إذ بناء عليه لا مجال لجواز حبس العين.

وعليه فكلامه هنا مبنيّ على مقالة العلّامة قدس‌سره في التحرير ، فأفاد المصنف قدس‌سره :

٦٠٣

لا يجري عليه حكم المغصوب ، لأنّه حبسه بحقّ (١).

نعم (٢) يضمنه ، لأنّه قبضه لمصلحة نفسه.

والظّاهر أنّه (٣) بقيمته يوم التلف (*) على ما هو الأصل في كلّ مضمون (**).

______________________________________________________

أنّ الغاصب لو حبس العين لم يجر عليها حكم المغصوب بقول مطلق ، بل ينفكّ التكليف عن الوضع ، فلا تكليف بوجوب ردّها إلى المالك ، لكون حبسها حقّا له. ولكنّه يضمنها لو تلفت في الحبس. ويتفرّع على اشتغال عهدته بها أنّ العبرة هل تكون بقيمته يوم الحبس أو يوم التلف أو أعلى القيم؟ فبناء على ضمان القيميّ بقيمته يوم التلف يضمنها الغاصب هنا.

(١) إذ كان له ذلك حتى يتسلّم الغرامة من المالك ، فكان الحبس بحكم الشارع ، فلا إثم عليه.

(٢) غرضه أنّ نفي حكم الغصب إنّما هو بالنسبة إلى الحرمة التكليفية فقط. وأمّا الحكم الوضعيّ ـ وهو الضمان ـ فهو باق ، لأنّه قبضه لمصلحة نفسه ، كما في المستام. والخارج عن عموم «على اليد» المقتضي للضمان هو خصوص اليد الثابتة على مال الغير لمصلحة المالك ، فلو لم تكن اليد لمصلحة المالك كانت مضمّنة.

(٣) أي : أنّ المغصوب مضمون بقيمته يوم التلف ، لأنّه زمان الانتقال إلى القيمة.

__________________

(*) الظاهر كما عن المحقّق الرشتي قدس‌سره منافاة العبرة بقيمته يوم التلف لما اختاره سابقا من عدم تجدّد الضمان بمجرّد التمكّن ، وأنّ العين مضمونة بالغرامة المدفوعة ، لا بما في ذمّة الغاصب حتى يكون المدار على قيمة يوم التلف.

لكن يمكن توجيه ضمان قيمة يوم التلف بابتنائه على نظر العلّامة القائل بجواز الحبس المقتضي لتجدّد الضمان عند التمكّن.

(**) هذا صحيح بناء على كون المضمون بعهدة الضامن. وأمّا في موارد بدل الحيلولة تكون الغرامة المدفوعة بدلا عن المضمون بحيث لو تلفت العين كانت مضمونة ببدل الحيلولة.

٦٠٤

ومن قال بضمان المقبوض بأعلى القيم (١) يقول به هنا من زمان الحبس (٢) إلى زمان التلف.

وذكر العلّامة في القواعد «أنّه لو حبس ، فتلف محبوسا فالأقرب ضمان قيمته الآن ، واسترجاع القيمة الأولى» (١).

والظاهر أنّ (٣) مراده بقيمة الآن مقابل القيمة السابقة بناء على زوال حكم الغصب عن العين ، لكونه (٤) محبوسا بغير عدوان ، لا خصوص (٥) حين

______________________________________________________

(١) كما هو مذهب جماعة من القدماء ، على ما سبق في الأمر السادس والسابع.

(٢) يعني : لا من زمان الغصب ، إذ المفروض أنّ الغرامة كانت بدلا عن العين. وأمّا بعد التمكّن من ردّها وجواز حبسها لاسترداد بدل الحيلولة فالمدار في ضمانها لو تلفت على أعلى القيم من زمان الحبس إلى زمان التلف ، لتجدّد الضمان بالحبس.

(٣) لمّا كان ظاهر «الآن» اعتبار قيمة وقت تلف العبد ، فتصدّى المصنّف لتوجيهه بأنّ المراد ليس خصوص القيمة الفعليّة ، بل ما يقابل القيمة السابقة ، وهي زمان غصب العبد. ولعلّ الداعي إلى هذا الحمل اختيار العلّامة ضمان أعلى القيم ، لا قيمة يوم التلف ، فيراد من «قيمته الآن» تمام زمان الحبس ، لا خصوص يوم التلف ، فلو كانت قيمته أوّل أيّام الحبس أكثر من قيمته يوم التلف لم يبعد ضمان الأكثر.

ولو أبقينا «الآن» على ظاهره ـ وهو يوم التلف ـ كان منافيا لمختار العلّامة في القواعد من ضمان أعلى القيم.

(٤) تعليل لزوال حكم الغصب ، لفرض تمكّن الغاصب من ردّ العين إلى مالكها وامتناعه عن تسلّمها ، وردّ بدل الحيلولة ، فحبس العين يكون حقّا للغاصب وإن كان ضامنا بضمان جديد ، فلو اختلفت قيمتها من يوم حبسها إلى يوم تلفها لم تتعيّن قيمة يوم التلف ، بل يرجع إلى ما أسّسه كلّ في ضمان القيمي ، من أنّ العبرة بقيمة يوم الضمان ، أو التلف ، أو الأعلى بينهما.

(٥) لمخالفته لمبنى العلّامة قدس‌سره من ضمان أعلى القيم.

__________________

(١) قواعد الاحكام ، ص ٧٩ ، السطر ٣٠ (الطبعة الحجرية).

٦٠٥

التلف وكلمات كثير منهم لا تخلو عن اضطراب (١).

ثم إنّ أكثر ما ذكرناه مذكور في كلماتهم في باب الغصب ، لكن (٢) الظاهر أنّ أكثرها ـ بل جميعها ـ حكم المغصوب من حيث كونه مضمونا ، إذ ليس في الغصب خصوصيّة زائدة.

نعم ربّما يفرّق من جهة نصّ في المغصوب مخالف (٣) لقاعدة الضمان ، كما احتمل في الحكم بوجوب قيمة يوم الضمان من جهة صحيحة أبي ولّاد ، أو أعلى القيم ، على ما تقدّم من الشهيد الثاني دعوى دلالة الصحيحة عليه (٤).

وأمّا (٥) ما اشتهر من «أنّ الغاصب مأخوذ بأشقّ الأحوال» فلم نعرف له

______________________________________________________

(١) كما يظهر بمراجعة كلام السيد العميد والمحقق الثاني (١) وما علّقه صاحب الجواهر عليه.

هذا تمام الكلام في بدل الحيلولة ، وبه تمّ الكلام في مسألة المقبوض بالعقد الفاسد.

(٢) يعني : لا في المقبوض بالبيع الفاسد. وغرضه بيان وجه ما فصّله في ضمان القيميّ والمثليّ وبدل الحيلولة مع كونها مذكورة في باب الغصب ، ووجه التّعدّي منه إلى غيره من موارد الضمان ـ كالمقبوض بالعقد الفاسد ـ هو : أنّ الغصب لمّا كان أجلى أفراد موجبات الضمان فقد ذكروا أحكام الضمان فيه ، وعليه فتكون الأحكام أحكام كلّ مضمون ، لا خصوص المضمون بالغصب.

(٣) مخالفة الغصب للقاعدة المقتضية لضمان قيمة يوم التلف مبنيّة على دلالة صحيحة أبي ولّاد على اعتبار قيمة يوم الغصب ، وذلك غير ظاهر كما سبق بيانه عند التكلّم في مفاد الصحيحة.

(٤) وقد تقدّم هناك تفصيل البحث.

(٥) غرضه أنّه قد يتوهّم دلالة ما اشتهر من «أنّ الغاصب يؤخذ بأشقّ الأحوال» على ضمان المغصوب بأعلى قيمته ، لأنّ المناسب بحاله هو جبران خسارة المضمون له بدفع الأشقّ وهو أعلى القيم. ولا بأس به دلالة ، لكن حيث إنّ هذه

__________________

(١) كنز الفوائد ، ج ١ ص ٦٦٢ جامع المقاصد ، ج ٦ ، ص ٢٦٢.

٦٠٦

مأخذا واضحا (١).

ولنختم بذلك أحكام المبيع بالبيع الفاسد ، وإن بقي منه آخر أكثر مما ذكر (٢) ،

______________________________________________________

القاعدة لم تكن مفاد رواية معتبرة ، ولا متصيّدة من نصوص متفرّقة لم يكن وجه للاعتماد عليها. فالعبرة حينئذ في المغصوب بقيمته يوم الغصب أو يوم التلف ، على ما تقدّم تفصيله في البحث عن صحيحة أبي ولّاد.

(١) قال الفقيه المامقاني قدس‌سره ما لفظه : «وجدت فيما حرّره بعض الفضلاء ممّا أفاده الشيخ الفقيه المحقّق موسى بن جعفر الغروي قدس‌سره في مجلس البحث تقييد هذه القاعدة المشهورة بما إذا كانت المشقّة في الغرامة والمؤنة ، احترازا عمّا إذا كانت المشقّة في الكيفية ، كما لو كان الرّدّ مشتملا على العسر. قال في مسألة وجوب ردّ المغصوب إلى صاحبه : ولو أدّى ردّه إلى عسر ، العسر الذي لا نضايق عنه في الإلزام بردّ العين هو ما لم يصل إلى حدّ المشقّة غير المتحمّلة عادة ، فلو وصل إلى ذلك الحدّ فهو في حكم التعذّر. بل الظاهر أنّهم كلّما يعبّرون بالتعذّر مع الإطلاق يريدون به ما يعمّ هذا النوع من التعسّر الذي كاد يكون من التعذّر الحقيقيّ العاديّ.

إن قلت : لم لا يجوز الإلزام بردّ العين وإن أدّى إلى عسر غير متحمّل ، ومن أين إلحاق هذا النوع من العسر بالتعذّر. بل الدليل على الحاقه بالعسر غير المضايق عن لزومه موجود ، وهو ما اشتهر عندهم من أنّ الغاصب يؤخذ بالأشقّ.

قلنا : المراد بقولهم المذكور إنّما هو أخذه بالأشق في الغرامة ، لا في غيرها ، والمشقّة الحاصلة في الرّد ليس ممّا ذكروا فيها الأخذ بالأشقّ ، فلو كانت للنقل مثلا مئونة فهي على الغاصب ، لما ذكر ، وهكذا ، فلا تذهل» (١).

(٢) غرضه قدس‌سره أنّا وإن فصّلنا الكلام في أحكام المبيع بالبيع الفاسد ، إلّا أنّ ما لم نتعرّض له أزيد بكثير ممّا ذكرناه ، إذ بعد اتّحاده حكما مع المغصوب يجري فيه كثير من مسائل الغصب. وما تقدّم من مباحث المثليّ والقيميّ وبدل الحيلولة قليل من كثير ، ولا تنحصر أحكام الغصب في الأبحاث السابقة. مثلا لو مزج المبيع بالعقد

__________________

(١) غاية الآمال ، ص ٣١٩.

٦٠٧

ولعلّ بعضها يجي‌ء في بيع الفضولي (*).

______________________________________________________

الفاسد بغيره ، بحيث يشقّ تمييزه كالحنطة بالشعير ، أو الدخن بالذرّة ، فهل يقال بالشركة القهريّة أو يكلّف تمييزه؟

ولو اشترى أرضا فزرعها أو آجرها من غيره ، فزرعها كان عليه ردّ الأرض وأجرة الغرس والزرع وأرش الأرض إن نقصت بالزرع ، وعليه طمّ الحفر.

ولو اشترى حبّا فزرعه ، أو بيضا فاستفرخه ، فهل الزرع والفرخ للمشتري أم للبائع؟ وغير ذلك مما هو كثير.

وبهذا ينتهي الكلام في شرح ما أفاده شيخنا الأعظم من مباحث المقبوض بالبيع الفاسد ، وسيأتي الكلام في الجزء الرابع في شرائط المتعاقدين إن شاء الله تعالى.

__________________

(*) تفصيل الكلام في بدل الحيلولة يقع في الدليل عليه ، وما يترتّب عليه من أمور ، فنقول : قد استدلّ لوجوبه بوجوه :

الأوّل : ما في المتن من الروايات الدالّة على الضمان بهذه الأمور من الضياع والسرقة والإباق ونحوها.

وفيه : أنّ موردها التلف ، لا التعذّر.

لكن فيه ما لا يخفى ، إذ المذكور فيها التلف والضياع والسرقة ، فلا تختصّ بالتلف.

الثاني : ما في حاشية السيد قدس‌سره (١) من قاعدة الضرر ، بتقريب : أنّ صبر المالك إلى حين الوصول الى ماله ضرر عليه.

أو ببيان : أنّ عدم الحكم بضمان البدل ضرر على المالك.

أو : بأنّ امتناع الضامن عن أداء البدل ضرر على المالك.

وفيه : ما قيل : من أنّ دليل نفي الضرر يرفع الحكم الناشئ عنه الضرر ، بمعنى نفي تشريع الحكم الملقي للمكلّف في الضرر. وأمّا الضرر الناشئ عن عدم تشريع الحكم فلا يشرّع حكما لا يلزم منه الضرر ، كالحكم بوجوب البدل على الضامن إلى أن يتمكّن

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ١٠٦.

٦٠٨

.................................................................................................

__________________

من دفع العين إلى المالك ، وإلّا يلزم الحكم بوجوب تدارك الضرر المتوجّه إلى مسلم من بيت المال ، ومن المعلوم عدم صحّة هذا التمسّك.

مضافا إلى : عدم وفاء قاعدة نفي الضرر بالمدّعى ، وهو لزوم بدل الحيلولة مطلقا ، سواء لزم من صبر المالك ضرر أم لا ، إذ من الواضح كون النسبة بين موارد بدل الحيلولة وبين موارد تضرّر المالك هي العموم من وجه ، إذ قد لا يتضرّر المالك بصبره إلى زمان التمكّن من الوصول إلى ماله ، ومع ذلك يحكم بلزوم أداء بدل الحيلولة. وقد يتضرّر المالك من حيلولة الغاصب بينه وبين ماله مدّة قليلة كساعة أو ساعتين ، مع أنّه ليس من موارد بدل الحيلولة ، لاعتبار الفقهاء قدس‌سرهم في ثبوت بدل الحيلولة تعذّر وصول المالك إلى ماله مدّة طويلة. وقد يتعذّر وصوله إلى المالك مع تضرّره بعدم وصوله إليه. ومع هذه النسبة لا يصحّ الاستدلال بقاعدة الضرر مطلقا.

ودعوى إقدام الضامن على ضرر نفسه فاسدة ، لأنّه لم يقدم إلّا على ضمان العين دون سائر الجهات التي منها ، بدل الحيلولة.

الثالث : ما في المتن وحاشية السيد (١) أيضا من قاعدة سلطنة الناس على أموالهم ، بتقريب : أنّ مقتضاها جواز مطالبة العين وسيلة إلى أخذ البدل الذي هو ممكن.

أو بتقريب : أنّ السلطنة على مطالبة ماليّة ماله المضمون تقتضي جواز مطالبة البدل حتى ينتفع ببدل ماله.

أو بتقريب : أنّ السلطنة على الانتفاع بماله تقتضي جواز مطالبة بدل ماله لينتفع به.

والكلّ لا يخلو من محذور. أمّا السلطنة على مطالبة العين للتوسّل إلى أخذ البدل ، فإن أريد منها صورة إمكان ردّ العين فلازمها جواز إلزام الغاصب بردّ ماله ، فيجب عليه السعي في مقدّمات تحصيله ، ولا يجب على الغاصب حينئذ دفع البدل.

وإن أريد منها صورة عدم إمكان ردّ العين وتحصيلها ـ وإن أمكن حصولها فيما بعد ـ فلا وجه لجواز مطالبة العين ، لكونه لغوا ، إذ المفروض عدم إمكان تحصيلها وردّها

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ١٠٦.

٦٠٩

.................................................................................................

__________________

إلى المالك. ومع اللغويّة وعدم تعقّل الترخيص في مطالبة العين كيف يترتّب عليه دفع البدل؟ وقد فرض المستدلّ جواز مطالبة العين وسيلة إلى أخذ البدل.

وأمّا السلطنة على مطالبة ماليّة ماله نظرا إلى كون عين ماله ذات شؤون ثلاثة ، من حيث الشخصيّة ، ومن حيث الطبيعة النوعيّة ، ومن حيث الماليّة ، وامتناع مطالبة الاولى لا يمنع عن مطالبة الباقي ، ففيها : امتناع سلطنة المالك على مطالبته. أمّا الماليّة القائمة بنفس العين فلتعذّرها. وأمّا الماليّة القائمة ببدلها فهي حصة أخرى من الماليّة ، والسلطنة عليها سلطنة على مطالبة مال الغير ، لا على مال نفسه.

وأمّا السلطنة على مطالبة السلطنة على الانتفاعات بماله ، ففيها : أنّ تلك السلطنة الشخصيّة على الانتفاع بماله متعذّرة بتعذّره ، والسلطنة على الانتفاع بالبدل المدفوع سلطنة أخرى ليس للمالك مطالبتها إلّا بعد استحقاق البدل ، وهو أوّل الكلام.

نعم بناء على مشرّعيّة قاعدة السلطنة يمكن إثبات جواز مطالبة البدل. لكنّه في حيّز المنع ، بل قاعدة السلطنة لا تقتضي إلّا جواز التصرّفات التي ثبتت مشروعيّتها.

فالمتحصّل : أنّ قاعدة السلطنة لا تصلح لإثبات جواز مطالبة البدل.

الرابع : أنّ فيه جمعا بين الحقّين ، مع فرض رجوع البدل إلى الضامن بعد ارتفاع العذر.

وفيه : أنّه مبنيّ على تعلّق حقّ للمالك على الضامن مع بقاء عين ماله ليكون ذلك جمعا بين الحقّين ، لكن لا يلتزم أحد بتعلّق حقّ للمالك بالبدل مع بقاء العين وعدم تلفها ، بل لا حقّ له إلّا على العين.

الخامس : حيلولة الغاصب بين المالك وماله.

وفيه : أنّ الحيلولة ليست من موجبات الضمان بالاستقلال ، إلّا إذا اندرجت تحت اليد أو الإتلاف ، والمفروض أنّ قاعدة اليد لا تقتضي ردّ البدل مع عدم التلف أو الإتلاف.

السادس : أنّ الغاصب فوّت سلطنة المالك ، فيجب عليه تداركها بدفع البدل. فالمراد بهذا الدليل هو قاعدة الإتلاف ، غايته أنّ متعلق الإتلاف ليس نفس العين ، بل السلطنة عليها ، فتفويت هذه السلطنة يوجب الضمان.

وفيه : أنّه ليس للمالك إلّا الملك. وأمّا السلطنة عليه فهي من أحكام الملك ،

٦١٠

.................................................................................................

__________________

ولا معنى لتعلّق الضمان بها.

وهذا مراد المحقّق الثاني قدس‌سره من قوله : «جعل القيمة في مقابل الحيلولة لا يكاد يتّضح معناه» وحاصل إشكاله : أنّ مجرّد منع الضامن عن إعمال المالك سلطنته في ماله وحيلولته بينه وبين ماله لا يوجب أن تكون القيمة واجبة عليه.

إلّا أن يقال : ليس المراد من السلطنة التي التزم المصنّف بتداركها هي الحكم الشرعيّ ، بل المراد هي الجدة الاعتباريّة ، فالبدل بدل لهذه الجدة التي هي عبارة عن كون المال تحت استيلاء المالك يتقلّب فيه ما يشاء ، ويتصرّف فيه بكلّ ما يريد.

بل قيل : هذه هي التي تقع متعلّقة للإجارة في مثل الدار والدّكان ، فإنّ الأجرة تقع بإزاء كون العين تحت يده ، فإذا كان الضامن سببا لتفويت هذه الخصوصيّة على المالك وجب عليه تداركها ، وهو لا يتحقّق إلّا بأداء ما هو بدل المال من المثل أو القيمة حتى يتصرّف المالك فيه على مشيّته.

وفيه أوّلا : أنّ مورد قاعدة الإتلاف هو المال ، وصدقه على السلطنة كما ترى.

وثانيا : أنّ مقتضى هذا الدليل هو لزوم البدل فيما إذا كان تعذّر الوصول إلى المال من جهة حبس المالك ومنعه عن التصرّف فيه أيضا.

وثالثا : أنّ مقتضى هذا الدليل إمّا ضمان المنافع ، أو التفاوت بين كون العين داخلة تحت استيلائه وبين كونها خارجة عنه.

وأمّا بدل نفس العين كما هو المبحوث عنه في بدل الحيلولة فلا يقتضيه هذا الدليل ، فإنّ المالك وإن لم يقدر على جميع أنحاء التقلّبات في ماله لأجل الحيلولة ، إلّا أنّ هذا لا يقتضي إلّا ضمان المنافع أو النقص ، فإمّا يستحقّ أجرته أو أرشه ، لا بدل نفس العين ، إذ الفائت هو السلطنة على العين بالتصرّف والتقلّب فيها ، فلا بدّ من تداركها المتوقّف على أداء الأجرة أو الأرش ، فبدل الحيلولة ـ وهو الأجرة أو الأرش ـ أجنبيّ عن بدل العين.

السابع : النبويّ المعروف «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي» بتقريب : أنّ المال بجميع خصوصيّاته الشخصيّة والنوعيّة والماليّة والسلطنة عليه في عهدة الضامن

٦١١

.................................................................................................

__________________

بمجرّد وضع اليد عليه ، خرج منه صورة ردّ العين إجماعا ، فيبقى الباقي ، فيشمل صورة التلف وما بحكمه ، وصورة التعذّر بأقسامه ، لأنّه لو كان المال بماليّته وخصوصيّاته في عهدة الغاصب مشروطا بعدم ردّه ، فإذا لم يمكن ردّ عينه فللمالك مطالبة بدله ، سواء صدق التلف أم التعذّر ، أم لم يصدق ، وسواء خرج المال عن القيمة أم لم يخرج ، كان التعذّر عقليّا أم عرفيّا ، كان زمانه قصيرا أم طويلا ، حصل اليأس من العين أم لم يحصل.

وهذا التقريب يدلّ على ضمان الغاصب سلطنة المالك على ماله ، وتدارك هذه السلطنة إنّما يكون ببذل بدل العين إلى المالك ليتسلّط عليه ويتصرّف فيه بما يشاء. وهذا بدل الحيلولة ، حيث إنّ المراد به بدل العين التي تلفت جميع الانتفاعات بها في بعض الأزمنة ، كاللوح المنصوب في السفينة الذي يخاف من نزعه على النفس المحترمة ، ولو كان هو الغاصب ، أو تلف مال غير الغاصب ممّا يكون محترما.

وليس المراد تلف العين حقيقة ، ولا جميع الانتفاعات في تمام الأزمنة ، سواء خرجت العين عن الملكيّة ، ولم يبق إلّا حق الاختصاص كصيرورة الخلّ خمرا ، وتنجّس الدهن. أم بقيت على الملكيّة كالظروف المنكسرة والمرآة كذلك.

ولا تلف بعض الانتفاعات الّذي لا يتقوّم به الملكيّة في جميع الأزمنة ، كما لو صار الحيوان غير المقصود أكل لحمه موطوءا ، فإنّه لم يتلف منه إلّا الانتفاع به دائما في بلد الوطي ، لا في سائر البلاد ، هذا.

لكن فيه : أنّ هذا التقريب لقاعدة اليد لا يقتضي خصوص البدل المثليّ إن كان المضمون مثليّا أو القيمي إن كان قيميّا ، بل يقتضي ما لا يمكن الانتفاع به في زمان يتعذّر وصول المال إلى المالك ، إذ المقصود تدارك السلطنة التي فوّتها الغاصب على المالك ، ومن المعلوم أنّها تجبر ببذل اجرة المنافع أو الأرش ، وهو التفاوت بين قيمة العين باقية تحت سلطنة المالك ، وخارجة عن حيّز سلطنته ، ولا يقتضي قاعدة اليد خصوص بدل الحيلولة. مع أنّ الظاهر تسالمهم على أنّ بدل الحيلولة هو البدل لنفس العين على تقدير التلف ، لا بدل المنافع أو الأرش بين استيلاء المالك على العين وعدمه ، كما هو قضيّة هذا الدليل ، هذا.

٦١٢

.................................................................................................

__________________

مضافا إلى : أنّ مقتضاه لزوم البدل مطلقا وإن كانت مدّة التعذّر قليلة ، مع أنّ الفقهاء لم يلتزموا بلزوم البدل في هذه الصورة ، هذا.

ويمكن تقريب الاستدلال بحديث «على اليد» بوجه آخر ، وهو أنّه ظاهر في الضمان الفعليّ للمأخوذ إلى زمان الأداء ، فكأنّه قال : إنّ غرامة المأخوذ على الآخذ إلى زمان أدائه ، وهذا بعينه ضمان بدل الحيلولة. فهذا الحديث سيق لبيان بدل الحيلولة ، لأنّ الغاية لا تناسب ضمان التلف ، فالضمان بدليل اليد ثابت إلى ردّ العين ، فلا بدّ من أداء قيمة اللوح المغصوب إلى زمان أدائه.

لكن فيه : عدم ظهور معتدّ به للنبويّ في هذا المعنى مع تطرّق احتمالات أخر فيه.

الثامن : دعوى الإجماع على ثبوت بدل الحيلولة مع تعذّر وصول المال إلى مالكه.

وفيه : أنّه ـ بعد تسليم الإجماع ـ يحتمل أن يكون مستند المجمعين بعض الوجوه المتقدّمة أو كلّها ، ومعه لا علم لنا بوجود إجماع تعبّديّ في المقام.

ولكن لا بأس بنقل بعض كلمات الفقهاء في بدل الحيلولة ، فإنّه قد وقع التنصيص في عباراتهم على سببيّة الحيلولة للضمان.

قال المحقّق قدس‌سره : «إذا تعذّر تسليم المغصوب دفع الغاصب البدل ، ويملكه المغصوب منه ، ولا يملك الغاصب العين المغصوبة. ولو عادت كان لكلّ منهما الرجوع» (١).

وقال الشهيد قدس‌سره في القواعد ـ بعد تقسيم الضمان إلى ما يكون بالقوّة وما يكون بالفعل ـ ما نصّه : «والضمان الفعليّ تارة بعد تلف العين ، ولا ريب أنّه مبرء لذمّة الضامن ، ويكون من باب المعاملة على ما في الذمم بالأعيان ، وهو نوع من الصلح. وتارة مع بقاء العين ، لتعذّر ردّها ، وهو ضمان في مقابلة فوات اليد والتصرّف ، والملك باق على ملك مالكه .. إلخ» (٢).

وهذا الذي أفاداه بيان على وجه الكلّيّة ، وقد صرّحوا بذلك في موارد مخصوصة :

__________________

(١) شرائع الإسلام ، ج ٣ ، ص ٢٤١.

(٢) القواعد والفوائد ، ج ١ ، ص ٣٤٧ و ٣٤٨.

٦١٣

.................................................................................................

__________________

منها : ما ذكره العلّامة رحمه‌الله في القواعد ، حيث قال : «ولو أبق العبد المغصوب ضمن في الحال القيمة للحيلولة ، فإن عاد ترادّا» (١).

ومنها : ما لو أقرّ إنسان بما في يده من العين لزيد مثلا ، ثم أقرّ بها لعمرو ، فإنّهم حكموا بأنّه يغرم للثاني ، للحيلولة بينه وبين العين بالإقرار (٢).

ومنها : ما لو شهدت البيّنة بالطلاق ، ثم رجعت عن الشهادة بعد حكم الحاكم بالتفريق بين المرء وزوجته ، فإنّهم حكموا بأنّ الشهود يغرمون للزوج المهر. وكذا الحال في رجوع البيّنة عن الشهادة في الماليّات (٣) ، كلّ ذلك لمكان الحيلولة المستندة إلى الشهادة.

ومنها : ما لو باع أو صالح أو وهب شيئا على أنّه له ، ثم أقرّ به لزيد ، فإنّهم حكموا بأنّه يغرم للمقرّ له عوضه مثلا أو قيمة ، لحيلولته بين المقرّ له وماله بالعقد الناقل.

ومنها : ما ذكروه من ضمان الامام عليه‌السلام المهر للزوج الكافر المهادن إذا هاجرت زوجته إلى بلد الامام عليه‌السلام أو نائبه مسلمة ، ثم طلبها الزوج ، فمنعه عنها الامام عليه‌السلام ، فإنّ أصحابنا قد أجمعوا على أنّ على الامام عليه‌السلام حينئذ غرامة المهر للزوج. واستدلّ العلّامة رحمه‌الله في المنتهى لهذا الحكم بقضيّة الحيلولة. (٤)

ومنها : ما ذكروه من : أنّ على واطئ البهيمة لمالكها القيمة ، لمكان الحيلولة. (٥)

ومنها : ما ذكروه في كتاب القصاص من : أنّ من أطلق مستحقّ القصاص من يد وليّ المقتول ، ألزم بدفع المال ، للحيلولة ، ثمّ إن تمكّن منه الوليّ لزمه ردّ المال إلى القاهر المطلق ، لأنّ أخذ المال إنّما كان للحيلولة ، وقد زالت.

إلى غير ذلك من الموارد التي تشرف الفقيه على القطع بسببيّة الحيلولة للضمان.

__________________

(١) قواعد الأحكام ، ص ٧٩ (الطبعة الحجريّة).

(٢) شرائع الإسلام ، ج ٣ ، ص ١٥٤ ؛ قواعد الاحكام ، ص ١١٥.

(٣) قواعد الاحكام ، ص ٢٤١.

(٤) منتهى المطلب ، ج ٢ ، ص ٩٧٧ و ٩٧٨ (الطبعة الحجرية).

(٥) الروضة البهية ، ج ٩ ، ص ٣١٣.

٦١٤

.................................................................................................

__________________

فلو نوقش في الأدلّة المتقدّمة لكان تسالم الفقهاء على ما يظهر بالتتبّع في كلماتهم ـ من تعليلاتهم بالحيلولة على سببيّتها للضمان ، وأنّها من موجباته ـ كافيا في إثبات ذلك.

فلو كانت الوجوه المتقدّمة المحتجّ بها على ضمان بدل الحيلولة ضعيفة وغير معتبرة عندهم ، فالتعليلات المزبورة في كلماتهم كاشفة عن تسلّم سببيّة الحيلولة عندهم للضمان.

بقي أمور ينبغي التنبيه عليها :

الأوّل : أنّ مورد بدل الحيلولة على ما يستفاد من كلمات الأعلام صرف التعذّر ، لا التلف وما بحكمه ، كما إذا خرج المال عن الماليّة شرعا كالبهيمة الموطوءة ، أو عرفا كالمال المسروق الذي لم يعرف سارقه ، أو المال الذي غرق ، فإنّهما خارجان عن موضوع بدل الحيلولة ، فيختصّ مورده بوجود العين وإمكان الانتفاع بها في نفسها ، وانحصار المانع بالتعذّر. فلو خرجت العين عن قابليّة الانتفاع شرعا كالبهيمة الموطوءة أو عرفا كغرقها لم يكن من مورد بدل الحيلولة ، بل يحكم عليه بحكم التلف.

ولو شكّ في صدق التعذّر على بعض الموارد كما إذا غرق أو سرق ، ولم يحصل اليأس من الوصول إليه ، فبناء على كون حديث «على اليد» دالّا على وقوع المال بجميع خصوصيّاته ـ الّتي منها سلطنة المالك عليه ـ في العهدة يحكم بضمان هذه السلطنة. وبناء على عدم اقتضاء «على اليد» إلّا ضمان ماليّة المال عند التلف ـ لا ضمان شخص المال فضلا عن توابعه ، حتى يجب عليه الخروج عن عهدة ذلك مع بقاء العين ـ يكون الأصل براءة ذمّة الغاصب ومن بحكمه.

الثاني : هل المدار في التعذّر على التعذّر العقليّ المسقط للتكليف بردّ العين ، أو الأعمّ منه ومن العرفيّ؟ وجهان مبنيّان على ما تقدّم من الاختلاف في تقريب الأصل في المسألة. ولكن مقتضى الأدلّة عدم الفرق بين الصورتين ، لورود الضرر على المالك ، وفوت سلطنته في كلتا الصورتين. ففي مورد التعذّر العرفيّ وإن وجب على الضامن السعي في تحصيل العين ، إلّا أنّ هذا لا ينافي وجوب البدل في زمان السعي ، وذلك لإطلاق قاعدة «على اليد» وعموم السلطنة وقاعدة لا ضرر ، وغير ذلك من الأدلة التي أقاموها على ثبوت البدل واستحقاق المالك المطالبة به.

٦١٥

.................................................................................................

__________________

كما أنّ مقتضى إطلاق الأدلة عدم الفرق أيضا بين العلم بحصول العين واليأس منه ورجائه. والتخصيص بمورد اليأس غير وجيه. إذ ليس دليل بدل الحيلولة لبّيّا حتى يكون المتيقّن منه صورة اليأس.

إلّا أن يقال : إنّ دليله هو الإجماع ، فلا بدّ حينئذ من الأخذ بالمتيقن منه من جميع الجهات ، فتأمّل.

فالمتحصّل : أنّ المدار على مطلق التعذّر ، لا خصوص العقليّ.

وأمّا زمان التعذّر فدعوى انصراف الأدلّة عن قصره جدّا قريبة ، لعدم صدق فوات السلطنة أو الانتفاع أو غير ذلك عرفا على الزمان القصير جدّا.

لكن الفقهاء أفتوا في اللوح المغصوب في السفينة بوجوب القيمة ، مع إمكان الوصول إليه ونزعه بوصول السفينة إلى الساحل. وهذا يكشف عن كون التعذّر ولو في زمان قليل موجبا لوجوب البدل.

فتلخّص : أنّ المدار على مطلق التعذّر ، وعدم دخل الياس من الوصول إلى العين فيه.

الثالث : أنّه هل للضامن إجبار المالك على أخذ بدل الحيلولة ، بأن يكون بدل الحيلولة حقّا لكلّ من المالك والضامن ، كجواز إجباره على أخذ بدل العين حين التلف أم لا؟ بأن يكون حقّا للمالك فقط.

قد يقال : إنّ الأدلّة الدالّة على وجوب بدل الحيلولة لا تدلّ على جواز إجبار الضامن المالك على قبول البدل. وليس هنا دليل آخر يدلّ على ذلك غير تلك الأدلّة.

وعليه فيتخيّر المالك بين قبول البدل وبين الصبر إلى زمان زوال العذر ، وإجبار الضامن إيّاه على قبول بدل الحيلولة خلاف سلطنته ، إذ المالك يستحقّ على الضامن نفس العين ، فإجبار الضامن إيّاه على قبول بدلها خلاف سلطنته. وهذا مراد المصنّف قدس‌سره من تمسّكه بقاعدة السلطنة في المقام.

والفرق بين التلف والتعذّر أنّه بتلف العين تسقط الخصوصيّات عن عهدة الضامن قهرا ، فلا يبقى في ذمّته إلّا الطبيعي من المثل أو القيمة ، فيكون للضامن حق إلزام المالك بقبول ذلك ، لأنّه عين ما يملكه في عهدته فعلا. بخلاف صورة التعذّر ، فإنّ

٦١٦

.................................................................................................

__________________

الخصوصيّات غير ساقطة ، وذمّة الضامن مشغولة بها ، غاية الأمر أنّ للمالك إسقاطها والإغماض عنها ، والرّضا بالطبيعيّ أو القيمة. وأمّا الضامن فلا حقّ له في إلزام المالك بإسقاط حقّه.

أقول : لا حاجة إلى غير أدلّة بدل الحيلولة في جواز إلزام الضامن المالك بأخذ البدل ، لأنّ المستفاد من تلك الأدلّة إن كان وجوب دفع البدل إلى المالك ، لاشتغال ذمّته به ، فله إلزام المالك بأخذه لتفريغ ذمّته ، لأنّ إبقاء ذمّته مشغولة بمال الغير نقص وحرج عليه.

وإن لم يكن مفاد أدلّة بدل الحيلولة إلّا ثبوت حقّ للمالك في المطالبة من دون اشتغال ذمّة الضامن به ، غايته أنّه لو طالبه المالك بالبدل وجب عليه إجابته فليس للضامن إلزام المالك بذلك ، لانتفاء الحكم الوضعيّ أعني به شغل الذّمّة ، فلا موجب للإلزام المذكور.

ولعلّ هذا هو الأظهر إن لم يكن مفاد حديث «على اليد» غرامة المأخوذ على الآخذ ، وإلّا فعليه يكون للضامن إلزام المالك.

ولو شكّ في ثبوت هذا الحقّ للضامن فالأصل عدم ثبوته ، لأنّه قبل التعذّر لم يكن هذا الحقّ ثابتا له ، فمقتضى الاستصحاب بقاؤه.

الرابع : أنّ بدل الحيلولة هل يملكه المالك أم يباح له التصرّف فقط؟ الظاهر اختلاف ذلك باختلاف المباني ، وإن ذكر المصنّف : «أنّ المال المبذول يملكه المالك بلا خلاف كما في المبسوط والخلاف والغنية والتحرير. وظاهرهم إرادة نفي الخلاف بين المسلمين».

فإن كان المستند فيه حديث «لا ضرر» فهو لا يقتضي إلّا لزوم جبر الضرر ، ومن المعلوم انجباره بإباحة التصرّف في البدل ، دون ملكيّته للمالك.

وإن كان المستند فيه دليل السلطنة بتقريب : أنّ الغاصب فوّت سلطنة المالك على ماله ، فيجب عليه تدارك هذه السلطنة له ، لم يثبت أيضا له إلّا إباحة التصرّف في البدل على النحو الذي يتصرّف في ملكه ، لانجبار السلطنة الفائتة بإباحة التصرّفات في البدل ، وعدم توقّف الانجبار على الملكيّة.

نعم مقتضى إباحة التصرّفات مطلقا حتّى المتوقّفة على الملك هو الالتزام

٦١٧

.................................................................................................

__________________

بالملكيّة الآنيّة قبل التصرّف المنوط بها ، كالمعاطاة بناء على إفادتها الإباحة المطلقة.

وبالجملة : تنجبر السلطنة الفائتة القائمة بالعين بالسلطنة على بدلها من مال الغاصب ، وهذه السلطنة لا تقتضي الملكيّة.

وإن كان المستند فيه قاعدة اليد ، فمقتضى كون البدل أداء لنفس العين المأخوذة ـ ليصدق عليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «حتى تؤدّي» بعد غضّ المالك عن خصوصيّات ماله ـ صيرورة البدل ملكا للمالك ، تحقيقا لمعنى البدليّة في الملكيّة. فكما أنّ إضافة الملكيّة قائمة بالبدل في صورة التلف ، لسقوط الخصوصيّات بسببه عن عهدة الضامن ، وبقاء الطبيعيّ على عهدته ، فكذلك في صورة التعذّر ، فبدل الحيلولة يصير قائما مقام العين حال التعذّر في الملكيّة.

والحقّ أن يقال : إنّه لو ثبت للمالك حقّ في أخذ البدل عن العين في الماليّة فهو ملك للمالك. ولو ثبت له حقّ في أخذ المال بدلا عن السلطنة الفائتة فهو غير مملوك للمالك ، بل يباح له التصرّف فيه ما دام محجورا عن التصرّف في عين ماله.

والظاهر ثبوت الحقّ ، كما يدلّ عليه ما أشار إليه المصنّف قدس‌سره من الروايات الواردة في الموارد المتفرّقة ، لظهور لفظ : «الغرامة والضمان» الواردين في تلك الروايات في الملكيّة ، فالبدل مملوك للمالك لا مباح له.

وأمّا توجيه القول بالإباحة بعدم اجتماع العوض والمعوّض في ملك المالك فغير وجيه.

أمّا أوّلا : فبإمكان التزام صيرورة العين المتعذر ردّها ملكا للضامن ، كما اختاره الجواهر (١) في بعض أقسام التعذّر كالخيط الذي بردّه يتلف المخيط ، والرطوبة الباقية على أعضاء الوضوء. واختار ذلك السيد (٢) في جميع أقسام التعذّر. وبهذا الوجه يرتفع الاشكال.

وأمّا ثانيا : فبأنّ البدل من باب الغرامة لا العوض ، فاجتماع البدل والمبدل في

__________________

(١) جواهر الكلام ، ج ٣٧ ، ص ٨٠.

(٢) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ١٠٧ و ١٠٨.

٦١٨

.................................................................................................

__________________

ملك المالك كاجتماع الأرش والعين المعيبة. هكذا قيل.

لكن فيه : أنّ الأرش بدل عن وصف الصحّة ، وليس بدلا عن العين حتى يلزم الجمع بين العوض والمعوّض.

ثمّ إنّه يترتّب الثمرة على ملكيّة البدل للمالك وإباحته له : أنّه على الأوّل يكون البدل دينا على الضامن ، فينفذ إبراؤه ، ويصحّ بيعه ، وإصداقه ، والضمان عنه ، والحوالة عليه ، وحصول التهاتر به ، والوصيّة به ، ووجوب قبوله على المالك إذا دفعه إليه الضامن. بخلافه على الثاني ، لأنّه حينئذ حكم تكليفيّ صرف ، ولا تشتغل ذمّته بشي‌ء حتى يترتب عليه آثار الملكيّة.

ولا يخفى أنّ عبارات الأصحاب مختلفة ، فبعضها ظاهر في اشتغال ذمّة الضامن بالبدل ، وبعضها ظاهر في مجرّد الوجوب التكليفيّ ، وبعضها محتمل للاحتمالين ، فلاحظها.

الخامس : هل تنتقل العين إلى الضامن بإعطاء البدل أم لا؟

قد يقال : بانتقال العين إلى الضامن ، والبدل إلى المالك ، لاستحالة بدليّة شي‌ء عن شي‌ء إلّا بقيام البدل مقام المبدل في جهة من جهاته ، وتلك الجهة في المقام هي إضافة الملكيّة.

وقد يقال : بأنّ المالك يملك البدل ، وأمّا الضامن فلا يملك المبدل ، لأنّ المأخوذ بعنوان البدليّة ليس عوضا حقيقيّا حتى تستحيل البدليّة إلّا بدخول العين المتعذّرة في ملك الضامن ، بل هو غرامة خالصة كالمبذول عند تلف العين. ومن البيّن أنّ عنوان «الغرامة» لا يستلزم خروج البدل عن ملك الضامن ، ولا دخول العين المتعذّرة في ملكه حتى يكون ذلك معاوضة قهريّة شرعيّة ، هذا.

لكن فيه : أنّه بناء على كون بدل الحيلولة ملكا للمالك ـ كما تقتضيه الروايات المشار إليها الواردة في الموارد المتفرّقة ، وكذا قاعدتا الإتلاف واليد الدّالّتان على أنّ ما يدفعه الضامن إلى المالك هو عين ماله ـ لا بدّ من الالتزام بصيرورة المبدل المضمون ملكا للضامن بالمعاوضة القهريّة الشرعيّة ، إذ لو لا ذلك لزم اجتماع العوض والمعوّض في ملك مالك العين.

ويؤيّد ذلك بل يدلّ عليه حسنة سدير المتقدّمة في التوضيح ، الدالّة على غرامة

٦١٩

.................................................................................................

__________________

الواطي قيمة البهيمة الموطوءة ، الظاهرة في صيرورتها ملكا للواطي الغارم بدفع القيمة.

نعم بناء على كون البدل مباحا للمالك ـ لا ملكا له ـ لا وجه لخروج المبدل عن ملك مالكه ودخوله في ملك الضامن.

ويترتّب على خروج المبدل عن ملك المالك وعدم خروجه عنه فروع :

أحدها : أنّه إذا توضّأ ـ جهلا أو غفلة ـ بماء مغصوب ، وعلم أو تذكّر بعد إكمال الغسلات وقبل المسح ، فعلى القول بدخول الرطوبة في ملك الضامن يجوز المسح بها. وعلى القول ببقائها على ملك المالك لا يجوز ، بل عليه الاستيناف.

إلّا أن يقال : إنّ الرطوبة بمنزلة الشي‌ء التالف ، فلا يملكها مالكها ، فلا مانع حينئذ من المسح بها.

لكنّه مشكل جدّا ، لأنّها كيف تكون كالتالف؟ مع أنّ المسح المتمّم للوضوء يتحقق بها ، ويترتّب عليها ، فتكون هذه الرطوبة ملكا ومالا ، ولذا لو قال له الغاصب : «إن أعطيتني مقدارا معيّنا من المال فأنا راض بالتصرّف الوضوئيّ» فأعطاه ورضي ، صحّ وضوؤه.

ثانيها : إنّه إذا غصب أحد خمرا محترمة لغيره ، وانقلبت خلّا فعلى القول بالمعاوضة القهريّة بين البدل والمبدل كان الخلّ بعد أداء البدل ملكا للضامن ، وإلّا فهو للمضمون له.

ثالثها : أنّه إذا خاط أحد ثوبه بخيوط مغصوبة ، فعلى القول بدخول الخيوط في ملك الغاصب بعد أداء البدل جازت له الصلاة في ذلك الثوب. وكذلك التصرفات الأخر ، وإلّا فلا.

إلّا أن يقال : إنّ تلك الخيوط بمنزلة التالف ، إذ لا يمكن ردّها غالبا إلى مالكها إلّا بعد سقوطها عن الماليّة بسبب النزع ، بل في مجمع البرهان (١) الجزم بعدم وجوب النزع ، بل قال بإمكان عدم الجواز ، لكونه بمنزلة التلف ، فيتعيّن القيمة. وحينئذ فيمكن جواز الصلاة في هذا الثوب المخيط ، إذ لا غصب فيه حتى يجب ردّه ، هذا.

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان ، ج ١٠ ، ص ٥٢١.

٦٢٠