هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٣

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٠

لكن عن مجمع البرهان في هذه (١) المسألة اختيار عدم وجوب النزع ، بل قال : «يمكن أن لا يجوز ، ويتعيّن القيمة ، لكونه بمنزلة التلف (٢). وحينئذ (٣) يمكن جواز الصلاة في هذا الثوب المخيط ، إذ لا غصب فيه يجب ردّه. كما قيل بجواز المسح (٤) بالرطوبة الباقية من الماء المغصوب الذي حصل العلم به بعد (٥) إكمال الغسل وقبل المسح» (١) انتهى.

واستجوده بعض المعاصرين (٦) ترجيحا (٧) لاقتضاء ملك المالك للقيمة خروج المضمون عن ملكه ، لصيرورته (٨) عوضا شرعا.

______________________________________________________

(١) يعني : مسألة الخيوط المغصوبة.

(٢) يعني : فلا مال له حتى يكون سلطانا على مطالبته ، فلو طالبه كان نزع الخيوط ضررا على صاحب المخيط ، فلا يجوز له مطالبة الخيوط ، بل له مطالبة القيمة.

(٣) أي : حين كونه بمنزلة التلف ودخول الخيوط في ملك الغاصب يمكن جواز الصلاة في هذا الثوب.

(٤) جواز الصلاة في الثوب المخيط بالخيوط المغصوبة ـ وجواز المسح بالرطوبة الباقية من الماء المغصوب ـ لأجل كون الخيوط والرطوبة المذكورتين بمنزلة الشي‌ء التالف.

(٥) التقييد ببعديّة إكمال الغسلتين للاحتراز عن العلم بغصبيّة الماء قبل إكمالهما ، لبطلان الوضوء حينئذ.

(٦) وهو صاحب الجواهر ، ووافقه السيّد في الحاشية (٢).

(٧) يعني : ترجيحا لاقتضاء ملك المالك .. إلخ على استصحاب ملك المالك للمضمون.

(٨) علّة للاقتضاء ، وضميره راجع إلى المضمون ، والمراد بالمعوّض هو القيمة.

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان ، ج ١٠ ، ص ٥٢١.

(٢) جواهر الكلام ، ج ٣٧ ، ص ٨٠ ؛ حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ١٠٨.

٥٨١

وفيه : أنّه لا منشأ لهذا الاقتضاء (١). وأدلّة الضمان قد عرفت أنّ محصّلها يرجع إلى وجوب تدارك ما ذهب من المالك ، سواء كان الذاهب نفس العين كما في التلف الحقيقيّ ، أو كان الذاهب السلطنة عليها التي بها قوام ماليّتها ، كغرق المال ، أو كان الذاهب الأجزاء أو الأوصاف التي يخرج بذهابها العين عن التقويم مع بقاء ملكيّته (٢).

______________________________________________________

(١) أي : اقتضاء ملك المالك للقيمة خروج العين المضمونة عن ملكه ، ودخولها في ملك الضامن ، لصيرورتها عوضا شرعا عن القيمة التي دفعها الضامن إلى المالك.

وحاصله : أنّه لا منشأ للاقتضاء المزبور أصلا ، لأنّ ما يتوهّم أن يكون منشأ له هو أدلّة الضمان ، وهي غير صالحة لذلك ، لأنّ المستفاد من تلك الأدلة هو وجوب تدارك ما فات عن المالك ، سواء أكان الفائت نفس العين كما في التلف الحقيقيّ ، أم كان الفائت السلطنة عليها مع بقاء عين المال كغرقها ، فيما لم يكن الماء معدما لها ، كالأحجار الكريمة التي تبقى في الماء ، أم كان الفائت الأجزاء أو الأوصاف التي تخرج العين بذهابها عن القيمة مع بقاء الملكيّة.

ومن المعلوم أنّ العين على التقدير الأوّل تخرج عن الملكيّة عرفا ، فلا تقبل إضافة الملكيّة حتى يقال : إنّ طرف الإضافة هو المالك أو الضامن.

وعلى التقدير الثاني تكون السلطنة المطلقة على البدل بدلا عن السلطنة المنقطعة عن العين. وهذا معنى بدل الحيلولة ، لا بدلا عن نفس العين ، حتى يدّعى صيرورتها ملكا للضامن ببذل البدل.

وعلى التقدير الثالث يكون البدل المبذول بدلا عن ماليّة المال ، إذ المفروض خروجه عن الماليّة مع بقاء عينه ، فليس البدل المبذول بدلا عن نفس العين حتى يكون ملك المالك للقيمة مقتضيا لخروج العين المضمونة عن ملكه ، ودخولها في ملك الضامن ، لصيرورتها شرعا عوضا عن البدل المبذول للمالك.

(٢) الأولى «ملكيّتها» لرجوع الضمير إلى العين.

٥٨٢

ولا يخفى أنّ العين على التقدير الأوّل (١) خارج (٢) عن الملكيّة عرفا.

وعلى الثاني (٣) السلطنة المطلقة على البدل بدل عن السلطنة المنقطعة عن العين. وهذا معنى بدل الحيلولة.

وعلى الثالث (٤) فالمبذول عوض عمّا خرج المال بذهابه عن التقويم ، لا عن نفس العين ، فالمضمون في الحقيقة هي تلك الأوصاف التي تقابل بجميع القيمة ، لا نفس العين الباقية ، كيف؟ (٥) ولم تتلف هي ، وليس لها على تقدير التلف أيضا عهدة ماليّة ، بل الأمر بردّها مجرّد تكليف لا يقابل بالمال (٦). بل لو استلزم ردّه ضررا ماليّا على الغاصب أمكن سقوطه (٧) ، فتأمّل (٨).

______________________________________________________

(١) وهو تقدير تلف العين حقيقة ، فإنّ العين التالفة لا تعدّ ملكا ولا مالا.

(٢) الأولى «خارجة».

(٣) وهو تقدير فوت السلطنة ، مع بقاء العين في مكان لا تنالها اليد فعلا.

(٤) وهو كون الذاهب الأجزاء والأوصاف المقوّمة لماليّة العين.

(٥) يعني : كيف يكون المبذول بدلا عن نفس العين؟ مع أنّها باقية غير تالفة.

(٦) حتى يقال : إنّ بدل الحيلولة بدل عن العين ، فملك المالك للبدل يقتضي خروج المبدل عن ملكه ، ودخوله في ملك الضامن. بل الحكم بوجوب ردّ العين حينئذ تكليف محض لا يستتبع الوضع.

وبالجملة : فعلى جميع التقادير لا يكون البدل بإزاء نفس العين حتى يدّعى اقتضاؤه لملكيّة المبدل للضامن.

(٧) أي : سقوط التكليف. والوجه في سقوطه حكومة قاعدة نفي الضرر عليه ، وليست معارضة بضرر المالك مالا ، لفرض خروج العين عن الماليّة ، التي استوفاها بالغرامة.

(٨) لعلّه إشارة إلى : منع جريان قاعدة الضرر هنا ، لأنّها في مقام الامتنان ، فلا تجري في حقّ الغاصب ، فيبقى إطلاق ما دلّ على وجود الرّد بحاله.

٥٨٣

ولعلّ (١) ما عن المسالك من «أنّ ظاهرهم عدم وجوب إخراج الخيط المغصوب عن الثوب ، بعد خروجه عن القيمة بالإخراج ، فتعيّن القيمة فقط»

______________________________________________________

(١) غرضه توجيه ما في المسالك من : «أن ظاهر الفقهاء عدم وجوب إخراج الخيط المغصوب عن الثوب ، والخشبة عن البناء».

وحاصل التوجيه : أنّ عدم وجوب الرّدّ في هذين الموردين إنّما هو لأجل استلزام الرّد الضرر على مالك الثوب والبناء.

ثم لا يخفى أنّ ما نسبه المصنف قدس‌سره إلى المسالك وإن كان في محلّه ، إلّا أنّ العبارة المنقولة ليست نصّ كلامه ، بل هي تلفيق بين كلماته في مسألتين كما نبّه عليه الفقيه المامقاني قدس‌سره. (١)

ولتوضيح الأمر ننقل أوّلا عنوان المسألة في الشرائع ، ثمّ ما في المسالك.

قال المحقّق قدس‌سره : «يجب ردّ المغصوب ما دام باقيا ولو تعسّر ، كالخشبة تستدخل في البناء ، أو اللوح في السفينة ، ولا يلزم المالك أخذ القيمة .. ولو خاط ثوبه بخيوط مغصوبة ، فإن أمكن نزعها الزم ذلك ، وضمن ما يحدث من نقص ، ولو خشي تلفها بانتزاعها لضعفها ضمن القيمة» (٢).

وظاهره وجوب الرّدّ مطلقا ، سواء فسدت الخشبة بالنزع من البناء أم لم تفسد ، وعلى تقدير عدم الفساد لا فرق بين تضرّر المالك وعدم تضرّره. وسيأتي من المصنّف إمكان حمل هذا الإطلاق على صورة عدم تضرّر مالك البناء بنزع الخشبة ، فلو تضرّر لم يجب النزع ، بل وجب دفع قيمتها.

وقال الشهيد الثاني قدس‌سره في حكم الخشبة المغصوبة : «إذا غصب خشبة وأدرجها في بنائه أو بنى عليها لم يملكها الغاصب ، بل عليه إخراجه من البناء وردّه إلى المالك .. إلى أن قال : ثمّ إذا أخرجها وردّها لزمه أرش النقص إن دخلها نقص.

__________________

(١) غاية الآمال ، ص ٣١٨.

(٢) شرائع الإسلام ، ج ٣ ، ص ٢٣٩.

٥٨٤

محمول على صورة تضرّر المالك (١) بفساد الثوب المخيط ، أو البناء المستدخل فيه الخشبة ، كما لا يأبى عنه (٢) عنوان المسألة (٣) ، فلاحظ.

وحينئذ (٤) فلا تنافي ما تقدّم عنه سابقا من بقاء الخيط على ملك مالكه ،

______________________________________________________

ولو بلغت حدّ الفساد على تقدير الإخراج بحيث لا يبقى لها قيمة فالواجب تمام قيمتها. وهل يجبر على إخراجها حينئذ؟ نظر من فوات الماليّة ، وبقاء حقّ المالك في العين. وظاهرهم عدم الوجوب ، وأنّها تنزّل منزلة المعدومة. ولو قيل بوجوب إعطائها المالك لو طلبها كان حسنا ، وإن جمع بين القيمة والعين» (١).

وقال في مسألة خياطة الثوب بخيط مغصوب : «الخيط المغصوب إن خيط به ثوب ونحوه فالحكم كما في البناء على الخشبة ، فللمالك طلب نزعه ، وإن أفضى إلى التلف. ويضمن الغاصب النقص إن اتّفق. وإن لم يبق له قيمة ضمن جميع القيمة ، ولا يخرج بذلك عن ملك المالك كما سبق ، فيجمع بين العين والقيمة» (٢).

وقد اتّضح من هذا أن قول الماتن قدس‌سره : «ما عن المسالك من أن ظاهرهم عدم وجوب إخراج الخيط المغصوب عن الثوب» غير مذكور في مسألة الخيط ، بل ذكره في حكم الخشبة ، ولكن حيث قال الشهيد الثاني قدس‌سره : «كما سبق ، فيجمع بين العين والقيمة» صحّت النسبة المزبورة ، لاتّحاد حكم الخيط والخشبة المغصوبين.

(١) أي : مالك الثوب.

(٢) أي : كما لا يأبى كلام المحقّق ـ في عنوان المسألة ـ عن الحمل على صورة تضرّر المالك .. إلخ.

(٣) يعني : مسألة البناء المستدخل فيه خشبة مغصوبة.

(٤) أي : وحين حمل فتواهم بتعيّن القيمة ـ في مسألتي الخيط والخشبة المغصوبين ـ على صورة تضرّر المالك فلا تنافي ما تقدّم .. إلخ.

__________________

(١) مسالك الأفهام ، ج ١٢ ، ص ١٧٦.

(٢) مسالك الأفهام ، ج ١٢ ، ص ١٧٨.

٥٨٥

وإن وجب بذل قيمته.

ثمّ إنّ هنا قسما رابعا (١) وهو ما لو خرج المضمون عن الملكيّة مع بقاء حقّ الأولويّة فيه ، كما لو صار الخلّ المغصوب خمرا. فاستشكل في القواعد وجوب

______________________________________________________

وجه المنافاة : أنّ بقاءه على ملك مالكه يقتضي وجوب ردّه ، فيجب إخراجه مقدّمة لردّه. وهذا الحكم ينافي حكمهم بعدم وجوب الإخراج ، لكشفه عن عدم وجوب الرّدّ.

وأمّا وجه عدم المنافاة فهو : أنّ وجوب الرّدّ مقيّد بعدم استلزامه الضرر على الرادّ.

والحاصل : أنّ المنافاة ناشئة من الملازمة بين الملكيّة ووجوب الرّدّ ، فالملازمة منحصرة بعدم تضرّر الرادّ بالرّد ، لا مطلقا حتى في صورة التضرّر به ، فيمكن ان يكون مالكا ، ولا يحب على الغاصب ردّه لتضرّره به ، هذا.

لكن كلام المسالك آب عن هذا الحمل ، لأنّه قال ـ فيما لو خيف من نزع الخشبة هلاك مال غير الحيوان أو هلاك نفس السفينة ، والمال له أو لمن يعلم أن فيها لوحا مغصوبا ـ بأنّ فيه وجهين : «أحدهما ، وهو الذي يقتضيه إطلاق المصنّف ، وصرّح به الأكثر : أنّه ينزع أيضا ، كما يهدم البناء لردّ الخشبة ، ولا يبالي بما صنع ، لأنّ دفع المغصوب إلى المالك واجب على الفور ، ولا يتمّ إلّا بهذا. وعدوان الغاصب لا يناسبه التخفيف ، وهو الذي أدخل الضرر على نفسه ..» (١).

(١) غرضه أنّ الأقسام والتقادير الثلاثة المتقدّمة كانت بالنسبة إلى العين المملوكة ، الّتي خرجت عن الملكيّة أو الماليّة رأسا. ويبقى حكم قسم آخر ، وهو خروج العين عن الملكيّة ، وتعلّق حق الأولويّة بها ، كما إذا غصب خلّا فانقلب عنده خمرا ، فإنّه يجب دفع قيمة الخلّ إلى المالك ، وهل يجب ردّ الخمر إليه ـ أيضا ـ أم لا؟ استشكل العلّامة فيه.

فالوجه في وجوب ردّها هو استصحاب الحكم قبل انقلابها خمرا ، للشكّ في

__________________

(١) مسالك الأفهام ، ج ١٣ ، ص ١٧٧.

٥٨٦

ردّها مع القيمة (١).

ولعلّه (٢) من استصحاب وجوب ردّها. ومن (٣) أنّ الموضوع في المستصحب ملك المالك ، إذ لم يجب إلّا ردّه ، ولم (٤) يكن المالك إلّا أولى به.

______________________________________________________

انتفاء وجوب الرّدّ بمجرّد الانقلاب.

والوجه في عدم وجوب الرّدّ منع جريان الاستصحاب هنا ، لأنّ متعلّق الحكم هو «مال الغير وملكه» وحيث إنّ المفروض زوال إضافة الملكيّة عن هذا المائع لم يبق مجال لاستصحاب الوجوب المتعلّق بمال الغير.

ثم تأمّل المصنّف في هذا الوجه ، بأنّ المستصحب وجوب ردّ المائع الذي طرأ عليه حالتا الخلية والخمرية ، وليستا مقوّمتين للموضوع حتى يقطع أو يشكّ في ترتّب الحكم عليه. ولهذا ذهب جمع إلى وجوب ردّها ، لأنّ المرجع في تعيين معروض المستصحب ـ أي الموضوع ـ هو العرف. ويتأيّد المطلب بما تقرّر من أنّه لو عادت الخمر خلّا وجب ردّه إلى المغصوب منه قطعا ، ولو كان الموضوع متعدّدا لم يكن وجه لوجوب الرّدّ.

(١) قال في القواعد : «ولو غصب عصيرا فصار خمرا ضمن المثل ، وفي وجوب الدفع إشكال .. فإن صار خلّا في يد الغاصب ردّه مع أرش النقصان إن قصرت قيمة الخلّ» (١).

(٢) أي : ولعلّ الاستشكال ينشأ من الاستصحاب ، والمحقّق الثاني جعل منشأ وجوب الرّدّ بقاء الأولويّة ، ثمّ قال : «وفي وجوب الدفع قوّة» (٢).

(٣) هذا وجه عدم وجوب الرّدّ ، لتعدّد الموضوع المانع عن الاستصحاب.

(٤) يعني : والحال أنّه ليس للمالك إلّا حقّ الأولويّة لا الملك ، وموضوع وجوب الرّد هو الملك.

__________________

(١) قواعد الاحكام ، ص ٨٠ ، السطر ٢٩ (الطبعة الحجرية).

(٢) جامع المقاصد ، ج ٦ ، ص ٢٩٢.

٥٨٧

إلّا أن يقال : (١) إنّ الموضوع في الاستصحاب عرفيّ. ولذا (٢) كان الوجوب مذهب جماعة ، منهم الشهيدان والمحقّق الثاني (٣). (١)

ويؤيّده أنّه لو عاد خلّا ردّت إلى المالك بلا خلاف ظاهر (٤).

______________________________________________________

(١) غرضه ترجيح وجوب الرّدّ ، وقد عرفت تقريبه.

(٢) أي : ولأجل جريان الاستصحاب ـ لوحدة الموضوع عرفا ـ كان الوجوب مختار جماعة.

(٣) نعم ، لكن لا للاستصحاب الذي وجّه المصنّف الحكم به ، بل لوحدة موضوع دليل الضمان ، فراجع كلام المحقّق والشهيد الثانيين.

(٤) كما نقله صاحب الجواهر قدس‌سره حيث قال شارحا للمتن : «ولو غصب عصيرا فصار خمرا ثم صار خلّا في يد الغاصب قبل أن يدفع بدله ، بل وبعده إذا كان على وجه كدفع الحيلولة كان للمالك ، على ما صرّح به غير واحد ، بل عن رهن غاية المرام والمسالك نفي الخلاف فيه ، لأنّه عين ماله» (٢).

والظاهر عدم الإشكال في وجوب ردّه إلى المالك قبل دفع البدل. وأما بعد دفعه فقد استشكل فيه غير واحد على ما يظهر من عباراتهم ، لكنّه لا ينافي نفي ظهور عدم الخلاف.

ثمّ إنّ الوجه في جعله مؤيّدا لا دليلا هو عدم الملازمة بين ملك المالك له لو صار خلّا وبين ثبوت الحقّ ، لجواز أن يكون دخوله في ملكه لأجل كون أصله ملكا له حين كان خلّا ، فهو نظير الملك بالتبعيّة.

__________________

(١) الدروس الشرعية ، ج ٣ ، ص ١١٢ ؛ جامع المقاصد ، ج ٦ ، ص ٢٩٢ ؛ مسالك الافهام ، ج ١٢ ، ص ٢٣٧.

(٢) جواهر الكلام ، ج ٣٧ ، ص ١٩٩ و ٢٠٠.

٥٨٨

ثمّ إنّ (١) مقتضى صدق الغرامة على المدفوع خروج الغارم عن عهدة العين وضمانها ، فلا يضمن ارتفاع قيمة العين بعد الدفع (٢) ، سواء كان (٣) للسوق أو للزيادة المتصلة (٤) ، بل (٥) المنفصلة كالثمرة ، ولا يضمن منافعه (٦) ، فلا يطالب الغارم بالمنفعة بعد ذلك (٧).

______________________________________________________

ح : عدم ضمان ارتفاع القيمة والزيادة بعد دفع البدل

(١) هذا فرع آخر ممّا يتعلّق ببدل الحيلولة ، وهو عدم ضمان الغاصب ارتفاع قيمة العين بعد دفع البدل ، وقد سبق في الأمر السابع عدم ضمان ارتفاع قيمة العين التالفة على جميع الأقوال ، ومقتضى إطلاقه عدم الفرق بين أن يكون ارتفاعها قبل دفع القيمة وبعدها. وفصّل هناك بين كون ارتفاع القيمة للسوق فلا يضمن ، وبين الزيادة العينيّة فتضمن. هذا في التلف الحقيقيّ.

وأمّا زيادة القيمة في بدل الحيلولة فلا تضمن مطلقا.

وملخّص تقريب عدم الضمان : أنّ الغارم يخرج عن عهدة ضمان العين بدفع البدل ، ولازمه عدم ضمانه لزيادة قيمة العين مطلقا وإن كانت للزيادة في العين. وكذا لا يضمن منافعه ، لخروج العين عن عهدته وضمانها بدفع البدل ، فلا ارتباط للعين بالضامن.

(٢) أي : دفع بدل الحيلولة.

(٣) أي : كان ارتفاع القيمة.

(٤) كالسمن في الحيوان ، وتعلّم الصنعة في العبيد والإماء.

(٥) الإتيان بكلمة الإضراب لأجل أنّ ضمان الزيادة المنفصلة كالثمرة لا يخلو من وجه ، لكونها عينا اخرى يحتمل ضمانها ، لكن حيثيّة كونها نماء للعين المضمونة التي دفع بدلها إلى مالكها توجب عدم ضمانها.

(٦) في ضمان المنافع بعد دفع بدل الحيلولة قولان : أحدهما ذلك ، والآخر العدم كما سيأتي في المتن.

(٧) يعني : بعد دفع البدل. ووجه عدم ضمان المنافع حينئذ واضح ، إذ المفروض

٥٨٩

وعن التذكرة وبعض آخر (١) ضمان المنافع ، وقوّاه (٢) في المبسوط بعد أن

______________________________________________________

خروج العين ـ بدفع البدل ـ عن ضمان الغاصب ، فلا مجال لقاعدة تبعيّة المنافع للعين في الملكيّة.

(١) الحاكي لكلام العلّامة وغيره هو السيّد العاملي وغيره ، قال قدس‌سره : «وقد قرّب في التذكرة اللزوم والوجوب ، وقال : إنّه أصحّ وجهي الشافعيّة ، لأنّ حكم الغصب باق ، وإنّما وجبت القيمة للحيلولة ، فيضمن الأجرة .. ومال إليه في المسالك ، وكأنّه قال به في مجمع البرهان وهو الأصحّ» (١). وجعله في الجواهر ـ بعد ما نسبه إلى جماعة ـ موافقا للتحقيق «لبقاء العين المغصوبة على ملك المالك ، وعلى وجوب ردّها على الغاصب مع التمكّن ، وعلى ضمانها وضمان نمائها ، وأنّ القيمة للحيلولة غرامة شرعيّة ثبتت بالأدلّة ، وهي لا تقتضي براءة ، ولا تغييرا للحال الاولى» (٢).

وفيه : أنّ القيمة المدفوعة اقتضاها الضمان على نحو اقتضائه لها في التلف على أن تكون تداركا لما فات ، فكأنّه لم يفت ، من غير فرق بين أن تكون بدلا عن العين أو عن الحيلولة ، فكأنّ العين في يده ، فكيف تكون حينئذ مضمونة؟

(٢) أي : قوّى ضمان المنافع ، قال شيخ الطائفة قدس‌سره : «وأجرتها ـ أي العين ـ من حين دفع القيمة إلى حين الرّدّ على وجهين ، أحدهما : لا اجرة عليه .. وهو الأقوى. والثاني : عليه أجرتها .. وهذا قويّ أيضا» (٣). فما نسبه المصنّف قدس‌سره إليه لا يخلو من مسامحة ، إذ الأقوى بنظر الشيخ هو عدم ضمان المنافع ، والقويّ ضمانها ، والأمر سهل.

__________________

(١) مفتاح الكرامة ، ج ٦ ، ص ٢٤٩ (أواخر الصفحة) ؛ تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٣٨٢ ؛ مسالك الأفهام ، ج ١٢ ، ص ٢٠١ ؛ مجمع الفائدة والبرهان ، ج ١٠ ، ص ٥٣٨.

(٢) جواهر الكلام ، ج ٣٧ ، ص ١٣٩.

(٣) المبسوط ، ج ٣ ، ص ٩٦.

٥٩٠

جعل الأقوى خلافه. وفي موضع من جامع المقاصد «أنّه موضع توقّف» (١) وفي موضع آخر : رجّح الوجوب (٢).

ثم (٣) إنّ ظاهر عطف التعذّر على التلف في كلام بعضهم (١) ـ عند التعرّض لضمان المغصوب بالمثل أو القيمة ـ يقتضي عدم ضمان ارتفاع القيمة السوقيّة

______________________________________________________

(١) قال بعد بيان وجهي الإشكال ـ في ضمان منافع العبد الآبق السابقة على الغرم ـ ما لفظه : «والمسألة موضع توقّف» (٢).

(٢) حيث قال بعد بيان وجهي الإشكال في ضمان النماء المتّصل والمنفصل ـ إذا تجدّد بعد دفع البدل ـ ما لفظه : «والأصحّ استحقاق الرجوع به أيضا على الغاصب ، استصحابا لما كان إلى أن يعلم المزيل» (٣).

ط : ضمان ارتفاع قيمة العين والنماء قبل دفع البدل إلى المالك

(٣) ما تقدّم بقوله : «ثمّ إن مقتضى الغرامة» إلى هنا كان حكم ارتفاع قيمة العين بعد أداء بدل الحيلولة ، وكذا منافعها المتجدّدة. وغرضه الآن بيان حكم ارتفاع القيمة قبل أداء البدل إلى المالك ، فأفاد قدس‌سره : أنّ مقتضى تنزيل التعذّر منزلة التلف في كلام مثل المحقّق قدس‌سره هو ترتيب آثار التلف على التعذر ، التي منها عدم ضمان ارتفاع القيمة السوقيّة المتحقّق بعد التعذّر وقبل الدفع ، كالارتفاع الحاصل بعد التلف.

لكن مقتضى القاعدة ضمانه له ، وذلك لأنّ التلف يوجب تعيّن القيمة ، ولذا يجب على المالك قبولها ، وليس له الامتناع عن أخذها. بخلاف تعذّر العين ، إذ لا يتعيّن به القيمة ، بل للمالك الصبر إلى زمان التمكّن من العين ، وتبقى العين في عهدة الضامن في مدّة التعذّر. ولو تلفت كان للمالك قيمتها من حين التلف أو أعلى القيم أو يوم الغصب ، على الخلاف السابق.

__________________

(١) كالمحقق في المختصر النافع ، ج ٢ ، ص ٢٩٦ ؛ والعلامة في تحرير الاحكام ، ج ٢ ، ص ١٣٩.

(٢) جامع المقاصد ، ج ٦ ، ص ٢٥١.

(٣) المصدر ، ص ٢٧٣.

٥٩١

الحاصل بعد التعذّر وقبل الدفع ، كالحاصل بعد التلف (١).

لكن مقتضى القاعدة (٢) ضمانه له (٣) ، لأنّ (٤) مع التلف يتعيّن القيمة (٥) ، ولذا ليس له الامتناع من أخذها. بخلاف تعذّر العين ، فإنّ القيمة غير متعيّنة ، فلو صبر المالك حتى يتمكّن من العين كان له ذلك ، ويبقى العين في عهدة الضامن في هذه المدّة ، فلو تلفت كان له قيمتها من حين التلف ، أو أعلى القيم إليه ، أو يوم الغصب على الخلاف.

والحاصل : أنّ قبل دفع القيمة يكون العين الموجودة في عهدة الضامن ، فلا عبرة بيوم التعذّر.

والحكم (٦) بكون يوم التعذّر بمنزلة يوم التلف مع الحكم بضمان الأجرة

______________________________________________________

والحاصل : أنّ العين الموجودة قبل دفع بدلها تكون في عهدة الضامن. وعليه فلا عبرة بيوم التعذّر ، والحكم بكون يوم التعذّر بمنزلة يوم التلف.

(١) على ما صرّح به في الأمر السابع بقوله : «ثم إنّه لا عبرة بزيادة القيمة بعد التلف على جميع الأقوال» ومراده بالقيمة هي السوقيّة ، لا لزيادة عينيّة ، كما صرّح به هناك أيضا ، فراجع (ص ٥٤٩).

(٢) يعني : قاعدة كون بدل الحيلولة غرامة ، لا بدلا عن العين المتعذّرة.

(٣) أي : ضمان الغاصب لارتفاع القيمة.

(٤) هذا بيان الفارق بين التلف والتعذّر في عدم ضمان الارتفاع في الأوّل ، وضمانه في الثاني.

(٥) يعني : لا يملك مالك العين التالفة ـ في عهدة الضامن ـ إلّا القيمة.

(٦) غرضه تضعيف كون يوم التعذّر بمنزلة يوم التلف ، وحاصله : أنّ الالتزام بذلك يوجب التناقض. توضيحه : أنّ لازم كون يوم التعذّر كيوم التلف عدم ضمان الأجرة والنماء بالتعذر وقبل أداء البدل ، فالحكم بضمان الأجرة والنماء بعد التعذّر وقبل أداء البدل مناف لذلك ، فمقتضى القاعدة ضمان ارتفاع القيمة إلى يوم دفع البدل.

وأمّا بعده فلا.

٥٩٢

والنماء إلى دفع البدل وإن تراخى (١) عن التعذّر مما لا يجتمعان ظاهرا ، فمقتضى القاعدة ضمان الارتفاع إلى يوم دفع البدل ، نظير دفع القيمة (٢) عن المثل المتعذّر في المثليّ.

ثم (٣) إنّه لا إشكال في أنّه إذا ارتفع تعذّر ردّ العين وصار ممكنا وجب ردّها (٤) إلى مالكها ـ كما صرّح به في جامع المقاصد ـ فورا (٥) وإن كان في إحضارها

______________________________________________________

(١) أي : تراخى دفع البدل. وغرضه أنّه لا فرق في التنافي بين الحكمين ـ وهما كون يوم التعذّر بمنزلة يوم التلف ، ووجوب دفع بدل المنفعة قبل دفع بدل الحيلولة ـ بين أن يدفع بدل الحيلولة عقيب تعذّر ردّ العين فورا ، أم بعده تراخيا.

والوجه في عدم الفرق كون التعذّر بمنزلة التلف ، فكما لا موضوع لضمان ارتفاع قيمة التالف ، فكذا لا مجال لضمان ارتفاع قيمة العين المتعذّر إيصالها إلى المالك. فالقول بضمان الارتفاع منوط برفع اليد عن المبنى ، وهو وحدة حكم التلف والتعذّر.

(٢) يعني : نظيره في ضمان ارتفاع القيمة إلى يوم دفعها في المثليّ المتعذّر مثله.

ي : وجوب ردّ العين فورا بارتفاع العذر

(٣) هذا فرع آخر من فروع بدل الحيلولة ، وهو وجوب ردّ العين إلى مالكها بمجرّد ارتفاع التعذّر والتمكّن منه ، ولو توقّف إحضار العين على مئونة وجب على الضامن بذلها ، كما وجب بذلها قبل التعذّر ، يعني : لو وضع يده على مال الغير وأمكن إيصاله إليه وجب ردّه فورا ، سواء توقّف على بذل مئونة أم لم يتوقّف عليه. لكون البذل مقدّمة للرّد الواجب ، على ما سبق تفصيله في الأمر الثاني ، فلاحظ (ص ٢٠١).

(٤) لأنّه عين ماله ، ومع إمكان دفعها لا تصل النوبة إلى بدلها ، والغرامة المدفوعة إلى المالك إنّما تكون بدلا دائميّا في صورة تلف العين ، لا في صورة وجودها ، إذ البدليّة حينئذ ماداميّة.

(٥) قال قدس‌سره في الظفر بالعبد الآبق المغصوب : «بل يجب على الغاصب ردّ العبد

٥٩٣

مئونة كما كان قبل التعذّر ، لعموم (١) «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي» (٢). ودفع (٣) البدل لأجل الحيلولة إنّما أفاد خروج الغاصب عن الضمان ، بمعنى انّه لو تلف لم يكن عليه قيمته بعد ذلك (٤) ، واستلزم ذلك (٥) [ولازم ذلك]

______________________________________________________

مطلقا على الفور» (١). وتقدم كلام آخر منه (في ص ٢٠٢) دالّ على كون مئونة الرّدّ على المشتري ، فراجع.

(١) تعليل لوجوب ردّ العين.

(٢) لأنّ الغاية لا تصدق حقيقة إلّا بردّ نفس العين لا بدلها.

هذا بناء على دلالة الحديث على خصوص الحكم التكليفيّ أو الأعمّ منه ومن الوضعيّ. وأمّا بناء على ظهوره في الوضع ـ كما تقدّم في أوّل مسألة المقبوض بالبيع الفاسد ـ فقد يشكل استظهار وجوب الرّد من الحديث ، فتأمّل.

(٣) مبتدء ، خبره «إنما أفاد» تعرّض المصنّف قدس‌سره لدفع توهّمين قد يردا على وجوب ردّ العين المضمونة بعد زوال التعذّر.

الأوّل : أنّه لا يجب ردّ العين إلى مالكها ، إذ الضامن دفع الغرامة إلى المالك ، وهي ماليّة العين ، ومقتضى التدارك عدم وجوب ردّ العين بعد ارتفاع العذر.

ودفعه المصنف قدس‌سره بأنّ بدل الحيلولة لا يرفع التكليف بردّ العين ، وإنّما يفيد أمرين ، أحدهما : خروج الضامن عن عهدة قيمة العين لو تلفت بعد أداء البدل ، فيصير البدل المحدود دائميّا ، ولا يجب شي‌ء آخر.

ثانيهما : عدم ضمان المنافع الحاصلة في العين بعد دفع الغرامة.

ومن المعلوم أنّ هذين الحكمين المترتّبين على أداء بدل الحيلولة لا يمنعان عن فعليّة وجوب ردّ العين عند التمكّن منه.

(٤) أي : بعد التلف.

(٥) أي : خروج الغاصب عن الضمان ، وهو إمّا فاعل «يستلزم» وإمّا مضاف

__________________

(١) جامع المقاصد ، ج ٦ ، ص ٢٦١.

٥٩٤

على ما اخترناه (١) عدم ضمان المنافع والنماء المنفصل والمتّصل بعد دفع الغرامة.

وسقوط (٢) وجوب الرّدّ حين التعذّر للعذر العقليّ ، فلا يجوز استصحابه ، بل مقتضى الاستصحاب (٣) والعموم هو الضمان المدلول عليه بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي».

______________________________________________________

إليه لقوله : «ولازم» بناء على ما في بعض النسخ ، وقوله : «عدم ضمان» إمّا مفعول ل «يستلزم» وإمّا خبر ل «لازم».

وعلى كلّ فعدم ضمان المنافع ـ بعد أداء بدل الحيلولة ـ حكم آخر ، وهو يترتّب على الحكم الأوّل أعني به خروج الغاصب عن عهدة العين

(١) من قوله : «ثمّ إنّ مقتضى صدق الغرامة على المدفوع خروج الغارم ..».

(٢) مبتدء ، خبره قوله : «للعذر العقليّ». وهذا إشارة إلى التوهّم الثاني ، وحاصله : أنّه لا يجب ردّ العين بعد التمكّن منه ، وذلك لاستصحاب عدم وجوب ردّها حال التعذّر ، ومع هذا الأصل المحرز لا مجال لتكليف الضامن بردّ العين عند القدرة عليه.

وقد دفعه المصنف قدس‌سره بمنع جريان الاستصحاب هنا ، لانتفاء قيد المستصحب ، توضيحه : أنّ سقوط وجوب دفع العين كان مقيّدا عقلا بالتعذّر المسقط للتكليف ، وحيث إنّ المفروض زوال العذر ، فلو أريد تسوية الحكم إلى ما بعد التعذّر كان إثبات حكم موضوع لموضوع آخر ، ولا معنى للاستصحاب حينئذ.

(٣) بأن يقال : إنّ المتيقن في السابق هو الضمان مطلقا في حالتي التعذّر والتمكّن ، ودفع الغرامة في حال التعذّر يوجب الشك في أنّ المرتفع به أصل الضمان أو خصوص الضمان في حال التعذّر وما دام متعذّرا ، فلا يحصل القطع بارتفاع الضمان بالمرّة ، بل هو مشكوك فيه ، لاحتمال ارتفاع الضمان الخاصّ لا أصله ، فلا مانع من استصحاب أصل الضمان في حال التمكّن. ويترتّب عليه وجوب الرّدّ ، لوجود المقتضي وهو الضمان ، وعدم المانع عنه وهو التعذّر.

٥٩٥

وهل الغرامة (١) المدفوعة تعود ملكه إلى الغارم بمجرد طروء التمكّن ،

______________________________________________________

ثم إنّ الجمع بين الاستصحاب والعموم خلاف ما قرّره قدس‌سره في الأصول من حكومة الثاني على الأوّل.

ك : هل ينتقل البدل إلى الغارم بتمكّن دفع العين؟

(١) هذا فرع آخر من فروع بدل الحيلولة ، وهو أنّه : إذا تمكّن الغاصب من ردّ العين إلى المالك بعد دفع بدل الحيلولة ، ولكنّه لم يوصل العين إلى المالك ، ففي خروج بدل الحيلولة من ملك المضمون له ، وعدمه وجهان :

الأوّل : أنّ التمكّن من العين يوجب خروج البدل عن ملك المضمون له ، ودخوله في ملك الضامن ، وحيث إنّه لم يوصل العين إلى مالكها يصير ضامنا لها بضمان جديد. ويترتب عليه أنّه لو تلفت عنده اعتبرت قيمتها الفعليّة ، لا قيمتها السابقة في حال التعذّر. فبناء على ضمان القيميّ بقيمة يوم الضمان تتعيّن قيمتها يوم التمكّن منها ، أي حين ارتفاع العذر.

وبناء على ضمانه بقيمة يوم التلف تعتبر قيمتها فيه.

وبناء على ضمان أعلى القيم بين وقت الضمان والتلف يتعيّن أعلاها.

الثاني : أنّ مجرّد التمكّن من العين لا يقتضي انتقال بدل الحيلولة إلى ملك الغارم ، فلو لم يوصلها إليه وتلفت عنده لم يضمنها بضمان جديد ، بل يصير بدل الحيلولة بدلا دائميّا مستقرّا ، بعد أن كان بدلا محدودا مغيّا بوصول العين أو تلفها. وحينئذ ينتفي احتمال ضمان يوم القبض أو وقت التلف أو الأعلى بينهما.

واستظهر المصنّف قدس‌سره هذا الاحتمال ، واستدلّ عليه بالاستصحاب ، بتقريب : أنّ بدل الحيلولة كان ملكا لمالك العين حين التعذّر ، ولو شك في زواله بمجرّد تمكّن الضامن من ردّ العين جرى استصحاب ملكه له.

٥٩٦

فيضمن (١) العين من يوم التمكّن ضمانا جديدا (٢) بمثله أو قيمته يوم (٣) حدوث الضمان ، أو (٤) يوم التلف ، أو أعلى القيم. أو أنّها باقية على ملك مالك العين ، وكون (٥) العين مضمونة بها لا بشي‌ء آخر في ذمّة الغاصب ، فلو تلفت (٦) استقرّ ملك المالك على الغرامة ، فلم (٧) يحدث في العين إلّا حكم تكليفيّ بوجوب ردّه ، وأمّا الضمان وعهدة جديدة فلا؟ وجهان (٨) ، أظهرهما الثاني (٩) لاستصحاب كون العين مضمونة بالغرامة ، وعدم طروء ما يزيل ملكيّته عن الغرامة ، أو يحدث (١٠) ضمانا جديدا.

______________________________________________________

(١) هذا متفرّع على عود بدل الحيلولة ـ الذي هو بدل محدود بالتعذّر ـ إلى ملك الغارم ، واشتغال ذمّته بقيمة أخرى كما عرفت.

(٢) في قبال بدل الحيلولة الذي كان ضمانا قديما في حال تعذّر ردّ العين.

(٣) متعلّق ب «قيمته» أي : قيمته يوم حدوث الضمان ، أو قيمته يوم التلف أو أعلى القيم ، على الخلاف المتقدّم في الأمر السادس والسابع.

(٤) هذا عدل قوله : «تعود» يعني : هل الغرامة تعود ملكا إلى الغارم أم هي باقية على ملك مالك العين؟ وقد أوضحناه آنفا بقولنا : «الثاني : أن مجرّد التمكّن من العين ..».

(٥) بالجرّ معطوف على «ملك» المجرور ب «على». والواو بمعنى «مع» أي : مع كون العين مضمونة بتلك الغرامة لا بغيرها. وضمير «بها» راجع إلى الغرامة.

(٦) أي : فلو تلفت العين ـ بيد الغاصب بعد التمكّن من ردّها إلى المالك ـ صار بدل الحيلولة ملكا مستقرّا لمالك العين ، ولم يحدث ضمان جديد.

(٧) هذا متفرّع على بقاء ملك الغرامة لمالك العين ، وعدم انتقالها إلى الغارم بمجرّد تمكّنه من ردّ العين إلى مالكها.

(٨) خبر قوله : «وهل الغرامة المدفوعة».

(٩) وهو بقاء الغرامة على ملك المغصوب منه.

(١٠) معطوف على «يزيل» و «يحدث» بصيغة الفاعل من باب الافعال ، يعني :

٥٩٧

ومجرّد (١) عود التمكّن لا يوجب عود سلطنة المالك حتى يلزم من بقاء مالكيّته على الغرامة الجمع بين العوض والمعوّض.

غاية ما في الباب (٢) قدرة الغاصب على إعادة السلطنة الفائتة المبدلة عنها بالغرامة ، ووجوبها عليه.

وحينئذ (٣) فإن دفع العين فلا إشكال في زوال ملكيّة [مالكية] المالك للغرامة.

وتوهّم (٤) أنّ المدفوع كان بدلا عن القدر الفائت من السلطنة في زمان

______________________________________________________

وعدم طروء ما يزيل ملكيّته من الغرامة ، أو ما يحدث ضمانا جديدا ، فمجرّد تمكّن الغاصب من ردّ العين إلى المالك لا يجدي في رفع الضمان ، بل الضمان باق على حاله.

(١) غرضه قدس‌سره بيان عدم طروء ما يزيل ملكيّة مالك العين لبدل الحيلولة ، إذ قد يتوهّم : اختصاص البدل بحال التعذّر ، فلو فرض تمكّن الغاصب من إيصال العين إلى مالكها لزم خروج بدل الحيلولة إلى ملك الغارم حتى لا يجتمع العوض والمعوّض عند واحد.

وأجاب عنه المصنف بعدم عروض ما يزيل ملكيّة المضمون له للبدل ، وبقاء ملاك تغريم الضامن ، وذلك لأنّ فوات سلطنة المالك على ماله اقتضى دفع البدل ، ولا فرق فيه بين تمكّن الغاصب من ردّ العين وبين تعذّره عليه. فخروج البدل عن ملك مالك العين منوط بوصولها إليه. وعليه فلا موضوع للجمع بين العوض والمعوّض عند واحد.

(٢) يعني : غاية ما يلزم من عود تمكّن الغاصب من ردّ المغصوب إلى المغصوب منه هو قدرته على إعادة ما فات عن المالك من السلطنة الّتي أبدلت بالغرامة.

(٣) يعني : وحين قدرة الغاصب على إعادة السلطنة ، فإن دفع العين فلا إشكال في زوال مالكيّة المالك للغرامة.

(٤) غرض المتوهّم منع عود بدل الحيلولة إلى الغاصب بعد دفع العين إلى

٥٩٨

التعذّر فلا يعود ، لعدم عود مبدله ، ضعيف في الغاية. بل كان (١) بدلا عن أصل السلطنة يرتفع (٢) بعودها ، فيجب دفعه أو دفع بدله مع تلفه ، أو خروجه (٣) عن ملكه بناقل لازم بل جائز.

ولا يجب (٤) ردّ نمائه المنفصل.

______________________________________________________

المالك. وتقريبه : أنّ بدل الحيلولة لمّا كان عوضا عن السلطنة الفائتة في زمان تعذّر ردّ العين إلى مالكها لم يكن موجب لإعادته إلى الغاصب ، ضرورة أنّ محذور اجتماع العوض والمعوّض غير لازم في المقام ، لأنّ بدل الحيلولة كان بدلا عن السلطنة الفائتة التي يستحيل عودها إلى المالك. والسلطنة الحادثة بعد ردّ العين لم تكن في قبال بدل الحيلولة. وعليه فلا وجه لأن يقال : «فلا إشكال في زوال ملكيّته للغرامة ، بل يبقى البدل على ملكيّة المضمون له».

ودفعه قدس‌سره بقوله : «ضعيف في الغاية» وبيانه : أنّ الغرامة التي دفعها الضامن كانت بدلا عن أصل السلطنة ، بحيث تكون البدليّة ملحوظة بين البدل والسلطنة حدوثا وبقاء. ففي زمان التعذّر يكون البدل بدلا عن السلطنة في ذلك الزمان ، وفي زمان التمكّن لو بقي البدل ملكا للمالك كان ملكا له بلا مبدل منه ، لعدم فوات السلطنة في ذلك الزمان حتى يكون مبدلا منه.

(١) أي : بل كان المدفوع بدلا عن أصل السلطنة.

(٢) يعني : يرتفع البدل عن البدليّة بعود السلطنة ، فيجب حينئذ دفع البدل إلى الضامن ، أو دفع بدله مع تلفه ، أو خروجه عن ملك المغصوب منه بناقل لازم بل جائز ، لكون النقل كالتلف.

(٣) معطوف على «تلفه» يعني : أنّ وجوب دفع البدل ثابت في التلف وفي الخروج عن الملك بناقل.

(٤) لأنّه نماء ملكه بما أنّه ملكه ، لا بما أنّه بدل عن السلطنة حتى يجري عليه حكم العين من الرجوع إلى ملك الغارم. وأمّا النماء المتّصل فهو تابع للعين عرفا ،

٥٩٩

ولو لم يدفعها (١) لم يكن له مطالبة الغرامة أوّلا ، إذ ما لم يتحقق السلطنة لم يعد الملك إلى الغارم ، فإنّ الغرامة عوض السلطنة ، لا عوض قدرة الغاصب على تحصيلها للمالك ، فتأمّل (٢).

نعم (٣) للمالك مطالبة عين ماله ،

______________________________________________________

فينتقل إلى الغارم ، كما أنّ العين تنتقل إليه.

(١) معطوف على قوله : «فإن دفع العين» يعني : ولو لم يدفع الغارم العين المغصوبة إلى المالك لم يكن له مطالبة الغرامة من المالك ، لأنّ الغرامة عوض السلطنة الفائتة ، لا عوض قدرة المالك على تحصيل السلطنة. نعم يجوز للمالك المطالبة بالعين كما سيأتي.

(٢) الظاهر أنّه إشارة إلى تثبيت ما ذكره ، ودفع توهم كون المقام نظير البيع ، وأنّ لكلّ من البائع والمشتري امتناع تسليم ماله حتى يتسلّم مال الآخر.

ووجه الاندفاع هو الفرق بين باب الغرامة وباب المعاوضة ، إذ لا ريب في عوضيّة كلّ من الثمن والمثمن عن الآخر. بخلاف المقام ، فإنّ الغرامة عوض ، والسلطنة معوّض ، فما لم يرتفع المعوّض ـ بمعنى تحقّق السلطنة للمالك وعودها إليه ـ لم يرجع الغرامة إلى الغارم.

(٣) غرضه بيان الفارق بين الضامن والمضمون له في مطالبة كلّ منهما ما له ، فالضامن ليس له مطالبة الغرامة قبل تسليم العين إلى المالك كما عرفت آنفا. وأمّا المالك فيجوز له مطالبة عين ماله من الضامن ، وذلك لإطلاق قاعدة السلطنة ، فإن طالبه وردّ الضامن العين اتّجه ردّ بدل الحيلولة إليه ، وإلّا فلا.

فإن قلت : كما يجوز للغارم مطالبة البدل ، فكذا ليس للمالك مطالبة العين ، فهما سواء من هذه الجهة. والوجه في عدم استحقاق المالك المطالبة بالعين هو : أنّ الغرامة التي دفعها الضامن تكون بدلا عن سلطنته التامة على ماله ، فالسلطنة المطلقة للملّاك على أموالهم غير ثابتة في المقام ، لفرض تدارك سلطنته على العين ببدل الحيلولة الذي

٦٠٠