هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٣

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٠

.................................................................................................

__________________

الحكم الضرريّ ، ولا تثبت حكما يلزم من عدم ثبوته الضرر كالمقام ، فإنّ قاعدة الضرر لا تثبت الضمان الذي يلزم من عدم جعله الضرر على المالك.

الثالث : أنّ الغاصب باستيلائه على مال الغير اشتغلت ذمّته به ، فلو أدّى المغصوب بعينه أو قيمتها العليا مع تلفها برئت ذمّته قطعا. وأمّا لو أدّى قيمتها المتوسّطة أو السّفلى ، فلا يعلم بصدق التأدية وبفراغ ذمّته ، فيستصحب اشتغال ذمّته إلى أن يؤدّي القيمة العليا.

وفيه : أنّ المورد من صغريات الأقلّ والأكثر الاستقلاليّين ، فيؤخذ بالأقلّ ، لأنّه المتيقّن ، وتجري البراءة في الزائد عليه ، فالشكّ إنّما هو في حدوث الاشتغال بالأكثر ، لا في البقاء حتى يجري فيه الاستصحاب.

ولو سلّم ، فإن جرى الاستصحاب في ضمان نفس العين في الذّمّة فلازمه دفع الغاصب قيمة يوم الرّدّ ، لا أعلى القيم. وإن جرى في ضمان القيمة فيرد عليه : أنّ المتيقّن هو اشتغال ذمّته بالقيمة النازلة ، وأمّا الزائد عليها فهو مشكوك فيه ، فتجري فيه البراءة. فما هو المتيقّن قد ارتفع قطعا ، وغيره لم يتعلّق به اليقين من الأوّل.

والحاصل : أنّ الاستصحاب إمّا لا يجري أصلا ، وإمّا يجري ولكن الثابت به هو قيمة يوم الرّدّ ، لا أعلى القيم.

الرابع : ما أفاده المحقّق الايرواني قدس‌سره من قوله : «فالأحسن في الاستدلال على ضمان أعلى القيم أنّه يصدق عنه صعود القيمة أنّ الغاصب معتد يوم صعود القيمة بماليّة صاعدة ، ومقتضى (فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى) جواز أخذ تلك الماليّة منه بعد التلف مجازاة لاعتدائه» (١).

وفيه : ما تقدّم سابقا من عدم دلالة الآية على الضمان ، فضلا عن الضمان بأعلى القيم.

الخامس : ما أفاده المصنّف من استصحاب الضمان.

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ١٠٢.

٥٤١

.................................................................................................

__________________

وفيه : أنّه إن أريد به ضمان نفس العين حتى بعد تلفها بأن تكون العين على العهدة إلى يوم الأداء ، ففيه : أنّ مقتضاه اعتبار قيمة يوم الأداء ، سواء أكانت أعلى القيم أم غيره. وإن أريد به ضمان القيمة فالثابت منها هو الأقلّ ، لكون الزائد منفيّا بالبراءة.

نعم إذا شكّ في أنّ الثابت على العهدة عند تلف العين هو المثل أو القيمة ـ وحيث إنّهما متباينان ـ فاللازم دفع القيمة العليا ، لتوقّف العلم بالفراغ عليه.

والحاصل : أنّ العلم بأداء ما في الذّمّة منوط بإعطاء القيمة العليا ، سواء أكان ما في الذّمّة نفس العين أم القيمة أم المثل ، فإنّ استصحاب ما في الذّمّة جار إلى دفع أعلى القيم إلى زمان الأداء ، هذا.

تكملة : لا يخفى أنّ ما ذكر من ضمان ارتفاع القيمة إنّما هو بحسب الأزمنة. وأمّا بحسب الأمكنة ، فعلى القول باعتبار يوم التلف ـ كما ربّما يستفاد من صحيحة أبي ولّاد وسائر أدلّة الضمان ـ لا ينبغي الإشكال في ضمان مكان التلف أيضا ، لأنّ ظاهر أدلّة ضمان القيمة في القيميّات التالفة هو القيمة الفعليّة ، وهي قيمة حال التلف في مكان التلف ، لدخل المكان في القيمة. وأمّا قيم سائر الأمكنة فهي تقديريّة ، كتقديريّة سائر الأزمنة ، إذ يقال : لو كان هذا الشي‌ء في مكان كذا كانت قيمته كذا. وهذا خلاف ظاهر أدلّة الضمان.

وعلى القول باعتبار زمان الغصب ـ كما استظهره الشيخ وغيره من صحيحة أبي ولّاد ـ فيشكل الالتزام بقيمة مكان التلف ، لأنّ اعتبار قيمة يوم الغصب في مكان يقع فيه التلف بعد ذلك ممّا لا يستظهر من الأدلة ، فإنّه تقييد في الأدلّة من غير دلالة فيها عليه ، بل تعيين قيمة يوم الغصب يدفع اعتبار قيمة مكان التلف.

لا يقال : إنّ مقتضى الجمع بين الضمان بيوم التلف كما هو قضية إطلاق أدلّة الضمان ، وبين صحيحة أبي ولّاد الدالة على اعتبار يوم الغصب هو ضمان قيمة يوم الغصب في مكان التلف.

٥٤٢

.................................................................................................

__________________

فإنّه يقال : مضافا إلى عدم دلالة صحيحة أبي ولّاد على ضمان قيمة يوم الغصب كما تقدم إنّه ليس جمعا عرفيا ، لأنّ الصحيحة على فرض دلالتها على ضمان يوم الغصب ظاهرة في ضمان ذلك المكان أيضا ، لا المكان الآخر ، فإنّ اعتبار المكان الآخر قيد زائد ينفيه إطلاق أدلّة الضمانات.

وبالجملة : فالمضمون هو القيمة الفعليّة حال التلف المنوطة بلحاظ مكان التلف.

وأمّا بناء على اعتبار قيمة يوم الغصب فالمدار على قيمته في مكان الغصب كزمانه ، لأنّ حدوث ضمان القيمة كان بزمان الغصب المستلزم لدخل خصوصيّة مكان الغصب فيه ، لدخل ذلك المكان في القيمة المقدّرة بيوم الغصب.

وينبغي التعرّض للفوائد التي تظهر من صحيحة أبي ولّاد.

الأولى : أنّ الافتراء على الله سبحانه وتعالى يوجب الحرمان من فضله ، واستحقاق عذابه وغضبه ، لقوله عليه‌السلام ـ بعد ما قصّ عليه أبو ولّاد الواقعة ـ : «في مثل هذا القضاء وشبهه تحبس السماء ماءها وتمنع الأرض بركتها» بل المستفاد منه حرمان الآخرين أيضا ، وإحاطة البلاء بهم ، وعدم اختصاص العقوبة الدنيويّة بالمفتري عليه جلّ وعزّ ، لأنّ حبس قطر السماء وبركة الأرض ضيق على الجميع ، حتى الصبيان والحيوانات ، فيلزم احتراق الكلّ بنار أشعلها المفتري ، نعوذ بالله من شرور أنفسنا.

الثانية : ضمان المنافع المستوفاة بأجرة المثل ، حيث إنّ أبا ولّاد استوفى منفعة البغل ، فركبه إلى النيل ثمّ إلى بغداد ، ثمّ منه إلى الكوفة. لقوله عليه‌السلام : «أرى له عليك مثل كرى البغل ذاهبا من الكوفة إلى النيل .. توفيه إياه».

والمستفاد منه أمور :

الأوّل : ضمان كراءات ثلاثة ، لاختلاف المسافات بين كلّ بلدين ، ولا يكفي دفع أجرة واحدة للسير من كوفة إلى بغداد ثم العود إلى كوفة. وذلك لعدم السّير من الطريق المتعارف ، وعدم كون «النيل» في الجادّة المستقيمة بين كوفة وبغداد. ولا ريب حينئذ

٥٤٣

.................................................................................................

__________________

في اختلاف أجور المثل ، فتكون كلّها مضمونة.

الثاني : أنّ الغاصب يضمن اجرة مثل المنفعة المستوفاة ، فلا تفرغ الذّمّة بدفع أقلّ منها ، ولا يجوز للمغصوب منه مطالبة زيادة عليها. نعم يستحقّ المالك الأجرة المسمّاة أيضا. ولا ينافيه عدم استيفاء المنفعة الخاصة التي وقع العقد عليها بين المكاري وأبي ولّاد.

والوجه في عدم المنافاة : أنّ المكاري سلّمه البغل ليسير عليها إلى قصر بني هبيرة ، فخالفه أبو ولّاد بإرادته واختياره بعد أن أخبر بخروج الغريم إلى النيل.

الثالث : نفي قاعدة «الخراج بالضمان» التي استند إليها قاضي الكوفة ، فإنّ الإمام عليه‌السلام ضمّن أبا ولّاد اجرة المنافع مع كونه ضامنا لنفس العين ، كما ورد في فقرتين من الصحيحة. وعليه فقاعدة «الخراج بالضمان» إمّا ساقطة من أصلها ، وإمّا مخصوصة بالعقد الصحيح كما تقدّم شطر من الكلام حولها في الأمر الثالث ، فراجع (ص ٢٣٦ الى ٢٥٠).

الرابع : عدم ضمان المنافع الفائتة ، لأنّ الصحيحة تكون في مقام بيان تمام الوظيفة ، فسكوتها عن المنافع غير المستوفاة دليل على عدم ضمانها. وهذا ربّما يعارض القول بضمانها كما مرّ تفصيله في الأمر الثالث.

ويمكن الجواب عنه بعدم كون الصحيحة في مقام بيان جميع ما يضمنه أبو ولّاد ، لأنّ السؤال كان عن خصوص المنافع المستوفاة ، فتدبّر.

أو يقال : بالاعراض عن هذا السكوت ، فلا معارض للقول بالضمان.

الثالثة : عدم احترام مال يصرفه الغاصب في حفظ العين المغصوبة ، حيث إنّه عليه‌السلام أجاب السائل ـ عن الدراهم التي صرفها في تعليف البغل ـ بقوله : «لا لأنك غاصب».

ويستفاد منه أيضا أنّ مخالفة مقتضى عقد الإجارة توجب تبدل اليد الأمانيّة بالعادية الضمانيّة ، وإلّا فالعين المستأجرة أمانة بيد المستأجر لا يضمنها لو تلفت بنفسها.

٥٤٤

.................................................................................................

__________________

الرابعة : ضمان القيميّ بالقيمة ، لقوله عليه‌السلام : «قيمة بغل يوم خالفته» بناء على إرادة البغل المغصوب ، لا قيمة بغل مثله ، وإلّا دلّت على ضمان المغصوب بالمثل وإن كان قيميّا. وقد تقدّم تفصيله في الأمر السابع.

كما يستفاد من هذه الفقرة ضمان قيمة يوم القبض بناء على استظهار المصنّف قدس‌سره أوّلا ، أو قيمة يوم التلف كما قال به آخرون.

الخامسة : صحّة ضمان الأعيان الخارجيّة ، لأنّ ضمان قيمة يوم الغصب يكشف عن صيرورة العين مضمونة في يوم الغصب. لكن الضمان في صورة وجود العين تعليقيّ ، وفي صورة تلفها تنجيزيّ ، ضرورة أنّ العين ما دامت موجودة وجب ردّها لا قيمتها ، فضمان قيمتها معلّق على تلفها ، فتبدّل اليد الأمانيّة بالعدوانيّة يوجب ضمانا تعليقيّا لم يكن قبل التبدّل المزبور ، إذ مع فرض أمانيّة اليد لا ضمان أصلا لا فعليّا ولا تعليقيّا كما لا يخفى ،

السادسة : ضمان التفاوت بين الصّحّة والعيب.

وبعبارة أخرى : ضمان وصف الصّحّة في العين المغصوبة. وذلك لقوله عليه‌السلام ـ في جواب سؤال أبي ولّاد عن إصابة كسر وشبهه بالبغل ـ : «عليك قيمة ما بين الصّحّة والعيب يوم تردّه عليه». وظاهره اعتبار الأرش بقيمة يوم الرّدّ ، لا يوم حدوثه.

السابعة : أنّه يستفاد من قوله عليه‌السلام : «أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون أنّ قيمة البغل حين اكتري كذا وكذا ، فيلزمك» اعتبار الاستصحاب ، حيث إنّ قيمة يوم الاكتراء تستصحب إلى زمان الغصب ، فإنّ إطلاق اعتبار قيمة يوم الاكتراء يقتضي اعتبارها ولو مع تخلّل زمان بين زماني الاكتراء والغصب يمكن تغيّر القيمة فيه ، فإنّ قول المالك بعدم تنزّل القيمة من يوم الاكتراء إلى يوم الغصب يكون موافقا للأصل أعني به الاستصحاب.

٥٤٥

.................................................................................................

__________________

ومنه يظهر تقدّم قول المالك أيضا في صورة اتّفاقهما على قيمة معيّنة في يوم الاكتراء ، واختلافهما في التنزّل وعدمه ، حيث إنّ قول المالك بعدم التنزّل موافق للأصل.

والحاصل : أنّ الجملة المزبورة تدلّ ولو بالالتزام على اعتبار الاستصحاب في قيمة يوم الاكتراء.

الثامنة : أنّ الجملة المزبورة تدلّ على حجّيّة الاستصحاب في مؤديات الطرق والأمارات ، وأنّ مؤدّى الأمارات كالمعلوم في جريان الاستصحاب فيها إذا شكّ في بقائها ، فإنّ هذه الجملة تصلح لإثبات أعمّيّة اليقين المعتبر في الاستصحاب من الوجدانيّ والتعبّديّ ، فلا حاجة إلى إثبات أعمّيّة اليقين إلى التّشبّث بأدلّة حجّيّة الأمارات ، ودعوى : أنّها تنزّل غير العلم منزلة العلم ، كما هو ظاهر.

التاسعة : إن المناط في الخروج عن العهدة بإحلال صاحب الحق هو كون الداعي إلى الإحلال أمرا واقعيّا ، لا الأعمّ منه ومن الاعتقاديّ وإن خالف الواقع. وهذه الفائدة يكثر نفعها في الفقه جدّا.

وتستفاد هذه من جوابه عليه‌السلام لكلام أبي ولّاد : «إني أعطيته دراهم ورضي بها وحلّلني» حيث قال عليه‌السلام : «إنّما رضي فأحلّك حين قضى عليه أبو حنيفة بالجور والظلم ، ولكن ارجع إليه وأخبره بما أفتيتك به ..».

العاشرة : إنّ الإبراء إيقاع ، فلا يتوقّف على القبول ، لقوله عليه‌السلام : «فإن جعلك في حلّ بعد معرفته فلا شي‌ء عليك».

هذا ما استفدناه من الصحيحة ، وقد أشار الشيخ الأعظم قدس‌سره إلى تضمّنها لها بقوله : «مشملة على أحكام كثيرة وفوائد خطيرة» ولعلّه أراد منها ما ذكرناه من الفوائد ، أو أراد ما هو أزيد منها ، ممّا ربّما تظهر بالتأمل فيها. وفّقنا الله تعالى للاستنارة بكلمات أوليائه الأئمّة المعصومين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

٥٤٦

ثمّ إنّه (١) حكي عن المفيد والقاضي والحلبي : الاعتبار بيوم البيع في

______________________________________________________

د : ضمان المقبوض بالبيع الفاسد بقيمة يوم البيع

(١) هذا إشارة إلى قول رابع في ضمان المقبوض بالبيع الفاسد ، ذهب إليه الشيخ المفيد والقاضي ابن البرّاج وأبو الصلاح الحلبي قدس‌سرهم على ما نقله عنهم العلّامة في المختلف في بيع الغرر والمجازفة (١).

وهذا القول يختصّ به حكم المبيع فاسدا ، ولا يشمله حكم المغصوب ، فلا يضمن المبيع بيوم قبضه ولا بيوم تلفه ولا بأعلى القيم بينهما ، بل يضمن بقيمة يوم البيع سواء قبضه المشتري فيه أم لا. كما أنّ ظاهر هذا القول التفصيل في فساد البيع بين أن يستند إلى جهالة الثمن وعدم تعيينه في العقد ، فيضمن المبيع بقيمة يوم البيع ، وبين غيرها من اختلال شرط الصّحّة ، فيضمن بقيمة القبض والأخذ.

وكيف كان فهذه الفتوى تظهر من النهاية أيضا ، حيث قال : «ومن اشترى شيئا بحكم نفسه ، ولم يذكر الثمن بعينه كان البيع باطلا ، فإن هلك الشي‌ء في يد المبتاع كان عليه قيمته يوم ابتاعه .. إلخ» (٢). والشاهد في هذه الجملة الأخيرة ، حيث أوجب على المشتري قيمة يوم البيع ، لا قيمة يوم القبض.

ولعلّ نظرهم في هذا الحكم إلى صحيحة رفاعة الخنّاس ، قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ساومت رجلا بجارية فباعنيها بحكمي ، فقبضتها منه على ذلك ، ثمّ بعثت إليه بألف درهم ، فقلت : هذه ألف درهم حكمي عليك أن تقبلها ، فأبى أن يقبلها منّي. وقد كنت مسستها قبل أن أبعث إليه بالثمن ، فقال : أرى أن تقوّم الجارية قيمة عادلة ، فإن كان قيمتها أكثر ممّا بعثت إليه كان عليك أن تردّ عليه [إليه] ما نقص من القيمة. وإن كان ثمنها أقلّ ممّا بعثت إليه فهو له. قلت : جعلت فداك : إن وجدت بها عيبا بعد ما مسستها؟ قال : ليس لك أن تردّها ، ولك أن تأخذ قيمة ما بين الصّحّة

__________________

(١) مختلف الشيعة ، ج ٥ ، ص ٢٤٣ و ٢٤٤ ؛ المقنعة ، ص ٥٩٣ ؛ الكافي لأبي الصلاح ، ص ٣٥٣ ، ولم أظفر بالمطلب في جواهر الفقه لابن البرّاج.

(٢) النهاية ونكتها ، ج ٢ ، ص ١٤٥ و ١٤٦.

٥٤٧

ما كان فساده من جهة التفويض (١) إلى حكم المشتري.

ولم يعلم له (٢) وجه. ولعلّهم (٣) يريدون به يوم القبض ، لغلبة اتّحاد زمان

______________________________________________________

والعيب منه» (١).

والشّاهد في قوله عليه‌السلام : «أرى أن تقوّم الجارية قيمة عادلة» وذلك بناء على تماميّة أمور ثلاثة :

الأوّل : فساد البيع الذي فوّض فيه تعيين الثمن إلى المشتري ـ كما هو مورد الرواية ـ على ما هو المشهور ، بل قيل بعدم خلاف فيه إلّا من صاحب الحدائق. فلو قيل بصحّته خرجت المسألة عن المقبوض بالبيع الفاسد.

الثاني : صيرورة الجارية بعد المسّ أم ولد ، حتى تصير بمنزلة التالف ، ويتّجه حينئذ ضمان قيمتها ، لامتناع ردّها إلى بائعها شرعا.

الثالث : أن يكون المراد من قوله عليه‌السلام : «قيمة عادلة» قيمة يوم البيع.

فإن تمّت هذه الأمور الثلاثة كانت الصحيحة دليلا تعبّديّا على لزوم قيمة يوم البيع فيما كان منشأ فساده تفويض الثمن إلى تعيين المشتري بعد العقد ، ويختصّ بمورده. وإن لم تتم ـ كما هو الظاهر ـ كان المقبوض بالبيع الفاسد محكوما بحكم الغصب.

(١) يعني : إيكال تعيين الثمن إلى المشتري ، بأن يقول البائع له : «بعتك هذا بما حكمت به من الثمن» أو : «بعتك هذا بأيّ ثمن شئت». وهو باطل عندهم ، لفقد الشرط وهو معلوميّة العوضين.

(٢) أي : ولم يعلم لاعتبار قيمة يوم البيع وجه. بل المناط في ضمان المبيع فاسدا بيوم القبض ، وصحيحة رفاعة غير ظاهرة في اعتبار قيمة يوم البيع من حيث إنّه يوم البيع ، لظهورها في تحقّق القبض في يوم العقد ، فلو اعتبر تقويم الجارية بقيمة يوم البيع احتمل أن يكون لاتّحاده مع يوم القبض ، فيتحد مفادها مع قول المشهور من ضمان يوم القبض.

(٣) غرضه توجيه كلامهم حتى لا يخرج عن حيّز الأقوال المذكورة في ضمان

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٢ ، ص ٢٧١ ، الباب ١٨ من أبواب عقد البيع وشروطه ، الحديث : ١.

٥٤٨

البيع والقبض ، فافهم (١).

ثمّ إنّه (٢) لا عبرة بزيادة القيمة بعد التلف

______________________________________________________

المغصوب ، إذ بناء على ظاهر كلمات هؤلاء ينفرد المقبوض بالبيع الفاسد ـ بضمان قيمة يوم البيع ـ عن المغصوب ، فالمصنّف احتمل إرادة يوم القبض من «يوم البيع» حتى لا ينفرد المقبوض بالبيع الفاسد بحكم يخصّه.

(١) لعلّه إشارة إلى بعد هذا التوجيه ، لأنّه خلاف الظاهر من دون قرينة.

وقد تحصّل من الأبحاث المتقدّمة في الأمر السابع : أنّ القيميّ يضمن بقيمته يوم تلفه ، لا بقيمة يوم القبض والغصب ، ولا بأعلى القيم بين الغصب والتلف ، من دون فرق بين المغصوب والمقبوض بالبيع الفاسد. ولا بين كون منشأ الفساد تفويض الثمن إلى حكم المشتري ، أو اختلال شرط آخر.

وسيأتي لبحث ضمان القيمي تتمّة تتضمّن أمورا ثلاثة :

أحدها : حكم زيادة قيمة القيميّ بعد تلفه.

ثانيها : اختلاف قيمة القيميّ بحسب الأمكنة في ما كان بلد الغصب مغايرا لبلد التلف.

ثالثها : ضمان ارتفاع القيمة لو كان لزيادة في العين.

حكم زيادة ثمن القيميّ بعد التلف

(٢) هذا شروع في الأمر الأوّل ، وتوضيحه : أنّ محطّ الأقوال المتقدّمة ـ من ضمان قيمة يوم الغصب أو التلف أو الأعلى بينهما ـ إنّما هو زيادة قيمة العين المضمونة في المدّة التي كانت عند الضامن ، فلو لم ترتفع قيمتها عنده حتى تلفت ، وزادت قيمة أمثالها بعده لم تكن هذه الزيادة مضمونة ، لما عرفت من أنّ موضوع الأقوال المتقدّمة بقاء العين حتى يدّعى ضمان أعلى قيمها ، لوقوع العين في حالة زيادة القيمة تحت يد الضامن ، ومن المعلوم فقد هذا المناط لو كان ارتفاع القيمة بعد التلف.

٥٤٩

على جميع الأقوال (*) إلّا أنّه تردّد فيه (١) في الشرائع.

______________________________________________________

وهذا وإن كان واضحا ، إلّا أن المحقق قدس‌سره تردّد فيه ، وقال : «ولا عبرة بزيادة القيمة ولا بنقصانها بعد ذلك ـ أي التلف ـ على تردّد» (١).

ووجّهه الشهيد الثاني بقوله : «نعم لو قلنا بأنّ الواجب في القيميّ مثله ـ كما ذهب إليه ابن الجنيد مخيّرا بين دفع المثل والقيمة ، ومال إليه المصنّف في باب القرض ـ اتّجه وجوب ما زاد من القيمة إلى حين دفعها ، كما في المثليّ. والمصنّف رحمه‌الله تردّد في ذلك ، لما ذكرناه من الشك في كون الواجب في القيميّ المثل أو القيمة» (٢).

ونحوه كلامه في الرّوضة فراجع. ومحصّله : أنّ الشك في المبنى يستلزم الشكّ في الفروع المبتنية عليه.

(١) أي : في عدم العبرة بزيادة القيمة بعد التلف.

__________________

(*) بل ينافيه القول باعتبار قيمة يوم الأداء ، لكونها قيمة للتالف بعد مراعاة قيمته في أزمنة تلفه. ويشهد له آية الاعتداء وقاعدة نفي الضرر بناء على صحّة التمسّك بهما في الضمانات ، فيكون ما بعد التلف كما قبله.

إلّا أن يريد المصنف من قوله : «جميع الأقوال» خصوص الأقوال الثلاثة التي تعرّض لها في الأمر السابع ، وهي اعتبار قيمة يوم الغصب والتلف والأعلى بينهما ، إذ لا عبرة بزيادة القيمة بعد التلف على هذه الأقوال الثلاثة.

وما في بعض الكلمات من «توجيه عدم ضمان زيادة القيمة بعد التلف حتى على

__________________

(١) شرائع الإسلام ، ج ٣ ، ص ٢٤٠.

(٢) مسالك الأفهام ، ج ١٢ ، ص ١٨٨ ؛ الروضة البهية ، ج ٧ ، ص ٤٠ ونحوه في جواهر الكلام ، ج ٣٧ ، ص ١٠٥.

٥٥٠

ولعلّه (١) ـ كما قيل (٢) ـ من جهة احتمال كون القيميّ مضمونا بمثله ، ودفع القيمة إنّما هو لإسقاط المثل (٣).

وقد تقدّم (٤) أنّه مخالف لإطلاق النصوص والفتاوى.

______________________________________________________

(١) أي : ولعلّ تردّد المحقّق قدس‌سره. وقوله : «من جهة» خبر قوله : «ولعلّه».

(٢) القائل ـ كما عرفت ـ هو الشهيد الثاني وغيره.

(٣) فيكون المثل مستقرّا في الذّمة إلى زمان دفعه أو دفع قيمته ، فلم ينتقل الضمان من المثل إلى القيمة بمجرّد تلف العين المضمونة حتى لا يضمن ارتفاع القيمة بعد التلف.

(٤) هذا ردّ مبنى تردّد المحقّق قدس‌سره وقد نبّه عليه المصنّف قدس‌سره في أوائل هذا التنبيه بقوله : «فإن أرادوا ذلك مطلقا حتى مع تعذّر المثل فتردّه إطلاقات الروايات الكثيرة في موارد كثيرة .. إلخ».

وحاصله : مخالفة كلام ابن الجنيد لإطلاق نصوص ضمان القيميّات ، وفتاوى الأصحاب بضمان القيميّ بالقيمة سواء وجد المثل أم لم يوجد.

واقتصر في الجواهر في ردّه على قوله : «وهو كما ترى».

__________________

القول بأنّ القيميّ مضمون بالمثل ، لأنّ عمدة دليل الضمان قاعدة اليد ، وهي لا تشمل المثل الذي على العهدة ولو قلنا بضمان ارتفاع القيم ، وذلك لأنّ موضوع دليل اليد هو الاستيلاء على مال الغير ، وكون الشي‌ء على العهدة غير كونه تحت اليد والاستيلاء ، فما في العهدة خارج عن دليل اليد موضوعا» (١) لا يخلو من غموض ، لأنّه بعد صدق اليد يصدق الأداء ـ الذي جعل غاية للعهدة ورافعا لها ـ على كلّ من العين وبدلها ، فلا بدّ من إرادة معنى من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «على اليد» ينطبق على كلّ ممّا تحت اليد وفوق العهدة.

__________________

(١) كتاب البيع ، ج ١ ، ص ٤٣٠.

٥٥١

ثمّ إنّ ما ذكرنا (١) من الخلاف إنّما هو في ارتفاع القيمة بحسب الأزمنة.

وأمّا إذا كان بسبب الأمكنة كما إذا كان في محلّ الضمان بعشرة ، وفي مكان التلف بعشرين ، وفي مكان المطالبة بثلاثين ، فالظاهر اعتبار محلّ التلف (٢) ، لأنّ (٣) ماليّة الشي‌ء تختلف بحسب الأماكن ، وتداركه بحسب (٤) ماليّته.

______________________________________________________

ارتفاع القيمة بسبب الأمكنة

(١) هذا هو الأمر الثاني المذكور في تتمّة مباحث ضمان القيميّ ، وحاصله : أنّ ما تقدّم من الخلاف ـ في كون القيميّ مضمونا بقيمة يوم الغصب أو يوم التلف أو الأعلى بينهما ـ ناظر إلى اختلاف قيمة المضمون بحسب الأزمنة. وقد تحقّق عدم ضمان ارتفاع القيمة ما دامت العين باقية. وأمّا إذا نقل الغاصب العين إلى بلد آخر فتلفت فيه ، وطالبه المالك بها في بلد ثالث ، وتعدّدت الأسعار في البلاد الثلاثة ، فهل يقال بضمان أعلاها أم تتعيّن قيمة بلد الغصب أم بلد التلف؟

اختار المصنف قدس‌سره اعتبار قيمة مكان التلف ، لأنّ اشتغال الذّمّة بالبدل حصل فيه. ولا مجال للقول بضمان أعلى القيم ، ولا مكان الغصب ، وإن قيل بكلّ منها فيما اختلفت القيم بحسب الأزمنة ، هذا.

(٢) هذا بناء على اعتبار قيمة يوم التلف. وأمّا بناء على اعتبار يوم الغصب فلا كما ذكرناه في التعليقة ، فراجع.

(٣) توضيحه : أنّ وجود المال في مكان يكون من الصفات الدخيلة في الرغبات والماليّة التي تكون مضمونة على الضامن ، ومن المعلوم أنّ تدارك الشي‌ء يكون بماليّته المختلفة بصفاته ، فالمتعيّن ماليّة محلّ التلف.

(٤) خبر «وتداركه».

٥٥٢

ثمّ (١) إنّ جميع ما ذكرنا من الخلاف إنّما هو في ارتفاع القيمة الناشئة من تفاوت رغبة الناس. وأمّا إذا كان حاصلا من زيادة العين (٢)

______________________________________________________

ضمان ارتفاع القيمة بسبب الزيادة العينيّة

(١) هذا هو الأمر الثالث ، وهو ناظر إلى تحديد موضوع البحث ـ في ضمان القيميّ ـ من جهة أخرى. وحاصله : أنّ ما ذكرناه من عدم ضمان ارتفاع القيمة ـ خلافا للقائل باعتبار أعلى القيم ـ ناظر إلى ارتفاع القيمة السوقية مع بقاء العين على حالها ، وعدم حدوث تغيير فيها.

فلو ارتفعت القيمة عند الغاصب لأجل زيادة عينيّة كسمن الشاة ، أو تعلّم صنعة ككتابة العبد المغصوب وخياطته ـ ثم عادت العين إلى ما كانت عليه حين الغصب حتّى تلفت عند الغاصب ـ كانت هذه الزيادة أو الصفة مضمونة ، كضمان العين المغصوبة ، لوضوح دخل تلك الصفة في رغبات الناس التي هي مدار ماليّة الأشياء.

ومثّل له الشهيد الثاني قدس‌سره بقوله : «حتى لو غصب جارية قيمتها مائة ، فسمنت وبلغت القيمة ألفا ، وتعلّمت صنعة فبلغت ألفين ، ثم هزلت ونسيت الصنعة ، فعادت قيمتها إلى مائة ، ردّها وغرم ألفا وتسعمائة. ولو علّم العبد المغصوب سورة من القرآن أو حرفة فنسيها ، ثم علّمه حرفة أو سورة أخرى فنسيها أيضا ضمنهما» (١).

(٢) يعني : حصلت زيادة في العين المغصوبة عند ما كانت بيد الغاصب ، ثم زالت ـ كما تقدّم آنفا في كلام المسالك ـ كانت الزيادة مضمونة ، فإن ردّ العين إلى المغصوب منه لزمه ردّ قيمة الزيادة الفائتة معها. وإن تلفت العين لزمه ردّ القيمة العليا ، وهي قيمة العين حال تلك الزيادة. ولا يكفي ردّ قيمة يوم التلف. قال المحقق قدس‌سره : ـ فيما زادت القيمة لزيادة صفة ثم زالت ـ : «أمّا لو تجدّدت صفة غيرها ، مثل أن سمنت فزادت قيمتها ، ثم هزلت فنقصت قيمتها ، ثم تعلّمت صنعة فزادت قيمتها ، ردّها

__________________

(١) مسالك الأفهام ، ج ١٢ ، ص ٢٢٠.

٥٥٣

فالظاهر كما قيل (١) عدم الخلاف في ضمان أعلى القيم. وفي الحقيقة (٢) ليست قيم التالف مختلفة ، وإنّما زيادتها في بعض أوقات الضمان لأجل الزيادة العينية الحاصلة فيه (٣) ، النازلة (٤) منزلة الجزء التالف.

نعم (٥) يجري الخلاف المتقدم في قيمة هذه الزيادة الفائتة ، فإنّ العبرة بيوم فواتها أو يوم ضمانها أو أعلى القيم؟

______________________________________________________

وما ضمن بفوات الأولى» (١).

(١) القائل صاحب الجواهر قدس‌سره ، قاله بعد عبارة المحقّق المتقدّمة : «بلا خلاف أجده فيه ، بل الإجماع بقسميه عليه ..» (٢).

(٢) غرضه أنّ ضمان أعلى القيم للصفة الزائلة مغاير للقول بضمان نفس المغصوب بأعلى القيم بين الغصب والتلف. والفارق بينهما : أنّ القيمة السوقيّة للعين المغصوبة لم تختلف من حين غصبها إلى حين تلفها لو بقيت بحالها ، بشهادة عدم زيادة قيمة أمثالها. فارتفاع قيمتها في حال سمنها أو تعلّم الصنعة يكون في مقابل هذه الزيادة أو الصفة ، وحيث إنّهما بمنزلة جزء المغصوب كان زوالهما بمنزلة نقص جزء من العين المغصوبة ، فتكون مضمونة. كما إذا غصب دابة فعرجت عنده ، فإنّه يضمن الأرش على ما تقدّم مفصّلا في صحيحة أبي ولّاد.

(٣) أي : في التالف ، وهو العين المغصوبة.

(٤) صفة للزيادة العينيّة.

(٥) استدراك على قوله : «ففي الحقيقة ليست قيم التالف مختلفة» الذي ملخصه : أنّ العبرة بضمان قيمة يوم التلف مع تلك الزيادة التالفة.

ومحصّل الاستدراك : أنّه إذا غصب عبدا قيمته ألف درهم ، وبقي عنده سنة وتعلّم الخياطة عنده ، فإن لم تتغير قيمة هذه الصنعة بأن كانت ألف درهم كان ضامنا

__________________

(١) شرائع الإسلام ، ج ٣ ، ص ٢٤٥.

(٢) جواهر الكلام ، ج ٣٧ ، ص ١٧٣.

٥٥٤

ثمّ (١) إنّ في حكم العين في جميع ما ذكر من ضمان المثل أو القيمة

______________________________________________________

للألفين ، فإن ردّ العبد ردّ معه ألفا لو نسي الخياطة.

وإن تغيّرت قيمة الخياطة بأن كانت تسعمائة في شهر ، وألفا في شهر آخر ، وثمانمائة في شهر ثالث ، ثم نسي الخياطة فيه ، جرت هنا الأقوال الثلاثة في ضمان نفس العين.

فإن قلنا : إنّ العبرة بيوم التلف ضمن القيمة النازلة ، وهي ثمان مائة درهم ، لكون نسيان الصنعة بمنزلة تلف العين.

وإن قلنا بضمان العين بأعلى القيم ، ضمن ألف درهم.

وإن قلنا بضمان يوم الغصب ضمن تسعمائة درهم ، لأجل الخياطة المنسيّة ، فيردّ هذا الأرش مع العبد إن كان موجودا ، أو مع قيمته إن كان تالفا.

مباحث بدل الحيلولة

(١) هذا أوّل مباحث بدل الحيلولة ، وموضوعه وجود العين ، لكن مع تعذّر الوصول إليها لإباق أو ضياع أو غيرهما.

وتوضيحه : أنّ ضمان مال الغير لا يخلو من إحدى حالات ثلاث ، لأنّه إمّا أن تكون العين موجودة ، وإمّا أن تكون تالفة ، وعلى الأوّل إمّا أن يتمكّن من ردّها إلى المالك ، لكونها بمتناول يده ، وإمّا أن يتعذّر ، لضياعها أو سرقتها.

فإن كانت موجودة عنده وأمكن ردّها إلى المالك فقد تقدّم في الأمر الثاني وجوب ردّها فورا إليه ، والضمان في هذه الصورة تقديريّ ، بمعنى أنّه لو هلكت وجب دفع بدلها.

وإن كانت تالفة وجب ردّ بدلها من المثل أو القيمة ، وقد تقدّمت مباحثه مفصّلة في الأمر الرابع إلى السابع.

وإن كانت العين موجودة لم تنعدم بعد ، إلّا أنّ الضامن عاجز عن ردّها فعلا

٥٥٥

حكم (١) تعذّر الوصول

______________________________________________________

إلى المالك كما إذا سرقت منه ، فهل يلحق هذا بالتلف حتى يضمن بدلها من المثل أو القيمة ، أم لا يلحق بالتلف؟ لرجاء القدرة على ردّها. وهذا هو البحث المعروف ببدل الحيلولة. وقد تعرّض له المصنّف قدس‌سره تبعا للأصحاب. قال المحقق قدس‌سره : «إذا تعذّر تسليم المغصوب دفع الغاصب البدل ، ويملكه المغصوب منه ، ولا يملك الغاصب العين المغصوبة ، ولو عادت كان لكلّ منهما الرجوع» (١). ويبحث فيه عن جهات :

منها : الدليل على وجوب بدل الحيلولة.

ومنها : تحديد الموضوع ، وانّه يعتبر العلم بعدم الظفر بالعين ، أو يكفي الظنّ به ، أو غير ذلك.

ومنها : أنّ المالك يملك بدل الحيلولة أو يباح له التّصرّف؟

ومنها : أنّه يضمن ارتفاع قيمة العين بعد دفع بدل الحيلولة أو لا؟

ومنها : وجوب ردّ العين فورا لو تمكّن منه بعد أداء البدل ، وعدمه.

ومنها : أنّ العين تدخل في ملك الغاصب أو لا؟

ومنها : حكم تصرف المالك في البدل بما يخرجه عن الملك.

ومنها : حكم تمكن المالك من أخذ العين ، وعجز الغاصب عن أدائها إليه.

ومنها : غير ذلك مما سيظهر إن شاء الله تعالى.

وممّا ذكرنا ظهر أنّ البحث عن بدل الحيلولة ليس من فروع خصوص التنبيه السابع الباحث عن حكم ضمان القيميّ ، بل يتفرّع على الأمر الرابع أيضا ، إذ لو كان المضمون مثليّا وتعذّر ردّه إلى مالكه وجب على الضامن ردّ بدل الحيلولة ، وهو المثل ، لاتّحاد التلف والحيلولة حكما ، هذا.

(١) يعني : أنّه كما يجب في صورة تلف العين دفع البدل ، كذلك في صورة تعذّر الوصول إلى العين لغرق أو ضياع أو سرقة أو نحوها ، إذ لا ينعدم المال حقيقة في هذه

__________________

(١) شرائع الإسلام ، ج ٣ ، ص ٢٤١.

٥٥٦

إليه (١) وإن لم يهلك ، كما لو سرق أو غرق أوضاع أو أبق ، لما دلّ (٢) على الضمان بهذه الأمور في باب الأمانات المضمونة.

وهل يقيّد ذلك (٣) بما إذا حصل اليأس من الوصول

______________________________________________________

الموارد ، وإنّما يتعذّر الوصول إليه.

(١) الضمير راجع إلى العين فالأولى تأنيثه. كما أن الأولى أن يقال : «تهلك» مؤنّثا لا مذكّرا.

(٢) هذا إشارة إلى الدليل الأوّل على وجوب دفع بدل الحيلولة ، وهو النصوص الواردة في ضمان الودعيّ والمستبضع والمستعير والمستأجر ، الدالّة بمفهومها أو منطوقها على ضمان العين ، إذا لم يتمكّن من ردّها إلى المالك ، سواء أكان بسبب التلف الحقيقيّ ، أم بعدم الظفر بها كما إذا أبق العبد ، أو سرق المتاع ، أو ضاعت الوديعة ونحوها.

وقد تقدّم نقل جملة من هذه النصوص في (ص ١٨٩ و ٣٣٤ ـ ٣٣٦) فراجع ونقتصر هنا بذكر واحدة منها تبرّكا ، وهي معتبرة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام «قال : سألته عن العارية يستعيرها الإنسان ، فتهلك أو تسرق؟ فقال : إن كان أمينا فلا غرم عليه» (١). فإنّ مفهومه الضمان بدون الأمانة ، بلا فرق بين التلف الحقيقيّ المعبّر عنه بالهلاك ، وبين الحكميّ ، لتعذّر الوصول إليها لسرقة وضياع ، كما هو مورد البحث في بدل الحيلولة.

أ ـ مورد بدل الحيلولة

(٣) أي : الضمان ، وغرضه قدس‌سره بيان مورد بدل الحيلولة ، والمذكور في العبارة صور أربع تشترك في أمرين ، أحدهما : بقاء العين وعدم ذهاب صورتها النوعيّة ، والثاني : عدم كونها بمتناول اليد حتى تردّ إلى المالك. وحينئذ فيحتمل وجوه :

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ٢٣٧ ، الباب ١ من كتاب العارية ، الحديث ٧.

٥٥٧

.................................................................................................

______________________________________________________

الأوّل : تقييد وجوب بدل الحيلولة باليأس من الوصول إلى العين ، أي الاطمئنان بعدم الظفر بها. فلو لم يطمئنّ بعدم الظفر بها لم يجب البدل ، سواء حصل له الظن بعدم الوصول أم لم يحصل بأن شكّ فيه.

الثاني : تقييد وجوب البدل بعدم الظنّ بوجدان العين ، ولا يعتبر اليأس الذي هو العلم أو الاطمئنان بعدم الوصول ، بل يكفي عدم رجاء الوجدان في وجوب بدل الحيلولة.

فالفارق بين الوجهين أمران :

أحدهما : اعتبار حصول اليأس من الوصول إلى العين في الوجه الأوّل ، وعدم اعتباره في الثاني.

ثانيهما : أنّ المناط في الأوّل هو اليأس عن الوصول ، وظاهره الوصول بنفسه. وفي الثاني هو الوجدان ، وظاهره إعمال مقدمات تنتهي إلى الظفر بالعين.

ويمكن انطباق كلّ واحد من الوجهين على موارد بدل الحيلولة من الضياع والسرقة والإباق والغرق ، وان قيل بأنّ المال المسروق والغريق ممّا ييأس وصوله ، بخلاف الضائع الذي لا يأس عن الظفر به وإن لم يظنّ وجدانه.

ولعلّ الوجه الأوّل يختصّ بما إذا تعذّر إعادة العين وإن كان عودها بنفسها مرجوّا ، كطائر فرّ من عشّه ، ولكنّه يرجى عوده بنفسه إليه ، لأنسه به.

الثالث : القول بالتفصيل في ضمان البدل بين المدّة القصيرة والطويلة ، وبين التضرّر وعدمه ، فيقال بعدم الضمان فيما لو علم بوجدان العين في مدة قصيرة ، سواء تضرّر فيه المالك أم لا. وكذا لو علم به في مدّة طويلة مع عدم تضرّر المالك بالانتظار. ويقال بالضمان في ما لو علم بوجدانها في أمد بعيد مع تضرّر المالك بالصبر إلى التمكّن من العين.

الرابع : القول بضمان البدل مطلقا بمجرّد تعذّر العين ، سواء أكانت مدّة الوصول إليها طويلة أم قصيرة.

٥٥٨

إليه (١) ، أو بعدم رجاء وجدانه (٢) ، أو يشمل (٣) ما لو علم وجدانه في مدّة طويلة يتضرّر المالك من انتظارها ، أو (٤) ولو كانت قصيرة؟ وجوه (٥). ظاهر أدلّة ما ذكر من الأمور الاختصاص بأحد الأوّلين (٦).

لكن ظاهر إطلاق الفتاوى الأخير (٧) كما يظهر (٨) من إطلاقهم أنّ اللوح

______________________________________________________

هذا ما يحتمل ثبوتا في تحديد موضوع الحكم.

وأفاد المصنّف قدس‌سره في مقام الإثبات أنّ مفاد أدلّة وجوب أداء بدل الحيلولة يختلف عن ظاهر الفتاوى ، إذ مقتضى الأدلّة اختصاص الوجوب بأحد الوجهين الأوّلين ، وهما اليأس من الوصول وعدم رجاء الوجدان ، لكونهما قدرا متيقّنا من «تعذّر الوصول» الذي هو بحكم التلف الحقيقيّ. ولكن مقتضى إطلاق الفتاوى وجوب بدل الحيلولة حتى لو تمكّن الضامن من الظفر بالعين في مدّة قصيرة كي يردّها إلى المالك ، وسيأتي نقل فتواهم إن شاء الله تعالى.

(١) هذا هو الاحتمال الأوّل.

(٢) هذا هو الاحتمال الثاني ، وقد عرفت الفرق بينه وبين الاحتمال الأوّل.

(٣) هذا هو الاحتمال الثالث ، وهو معطوف على قوله : «يقيّد» ومقابل له ، وغرضه التعميم وبيان احتمال عدم اختصاص التعذّر بصورة اليأس عن الوصول أو اليأس عن الوجدان ، بل «تعذّر الوصول» أعمّ منهما وممّا علم وجدانه في مدّة طويلة.

(٤) معطوف على «مدّة طويلة» يعني : يصدق «التعذّر» حتّى في صورة العلم بوجدان العين في مدّة قصيرة ، وهذا هو الاحتمال الرابع.

(٥) مبتدء مؤخّر لمحذوف ، وهو «فيه».

(٦) أي : حصول اليأس من الوصول إليه ، أو عدم رجاء الوجدان.

(٧) وهو قوله : «أو ولو كانت قصيرة».

(٨) قال في الجواهر : «وإن كانت ـ أي السفينة التي أدرج فيها لوح مغصوب ـ في اللّجة ، وخيف من النزع غرق حيوان محترم ـ آدميّ أو غيره ـ أو مال كذلك لغير الغاصب الجاهل بالغصب ، ففي القواعد والتذكرة وجامع المقاصد والمسالك

٥٥٩

المغصوب في السفينة إذا خيف من نزعه غرق مال لغير الغاصب (١) انتقل إلى قيمته إلى أن يبلغ الساحل.

ويؤيّده (٢) أنّ فيه جمعا بين الحقّين ، بعد فرض رجوع القيمة إلى ملك الضامن (٣) عند التمكّن من العين ، فإنّ (٤) «تسلّط النّاس على مالهم» الذي فرض

______________________________________________________

والروضة وظاهر غيرها عدم وجوب النزع ، بل في مجمع البرهان : لا خلاف فيه ، جمعا بين الحقّين ، ولاحترام روح الحيوان ، سواء كان الغاصب أو للغاصب أو غيره ..» (١).

وقوله : «جمعا بين الحقّين» شاهد على أنّهم أطلقوا الحكم بالانتقال إلى القيمة ، أعني بها قيمة اللوح المتعذّر أخذه فعلا لخوف غرق مال غير الغاصب مع كون اللوح معلوم الوصول والوجدان ، ولم يفرّقوا بين كون مدة الوصول إلى الساحل طويلة أو قصيرة.

(١) إذ لو كان المال الموجود في السفينة ملكا للغاصب أو لمن يعلم بغصبيّته وجب نزع اللوح المغصوب فورا ، لعدم احترام مثل هذا المال ، ولم تصل النوبة إلى انتقال الضمان من العين إلى بدل الحيلولة.

(٢) يعني : يؤيّد هذا الإطلاق أنّ الانتقال إلى القيمة إلى زمان وصول العين جمع بين حقّي المالك والغاصب ، لأنّ مقتضى سلطنة المالك على ماله جواز مطالبته عينا أو بدلا ، ومقتضى عدم تضرّر الغاصب هو أن يدفع المالك إليه بدل الحيلولة الذي أخذه منه ، بعد وصول العين المغصوبة إلى مالكها.

والتعبير بالتأييد لعدم إحراز ثبوت حقّ للمالك مع فرض بقاء العين ووصولها إليه في مدّة قصيرة.

(٣) لقولهم بترادّ العين وبدل الحيلولة ، كما نقلناه عن المحقق في (ص ٥٥٦).

(٤) تعليل لثبوت حقّ للمالك يقتضي جواز مطالبة بدل الحيلولة من الضامن.

__________________

(١) جواهر الكلام ، ج ٣٧ ، ص ٧٧.

٥٦٠