هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٣

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٠

نعم (١) لو فرض دلالة الصحيحة على وجوب أعلى القيم أمكن جعل التزام الغاصب بالزائد (٢) على مقتضى التدارك مؤاخذة له بأشقّ الأحوال.

فالمهمّ حينئذ (٣) صرف الكلام إلى معنى الصحيحة بعد ذكرها ليلحق به البيع الفاسد ، إمّا لما ادّعاه الحلّيّ (٤) ، وإمّا لكشف الصحيحة عن معنى التدارك والغرامة في المضمونات (٥) ، وكون العمدة في جميعها بيوم الضمان كما هو أحد الأقوال فيما نحن فيه من البيع الفاسد.

______________________________________________________

على كون ما ذكر من معنى التدارك.

(١) استدراك على وجوب التدارك بقيمة يوم التلف. وحاصله : أنّه لو فرضنا دلالة الصحيحة على وجوب أعلى القيم ـ كما استفاده الشهيد الثاني قدس‌سره ـ اختصّ ذلك بالغصب ، لكون الغاصب مأخوذا بأشقّ الأحوال.

(٢) المراد بالزائد على مقتضى التدارك هو التفاوت بين أعلى القيم وقيمة يوم التلف أو يوم الغصب ، وهذا التفاوت عقوبة مختصّة بالغاصب ، لكونه مأخوذا بأشقّ الأحوال ، ولا يجري في سائر الضّمناء.

(٣) أي : حين تفاوت مقتضى الأصل في باب الضمان بتفاوت الاستظهار من الصحيحة.

(٤) من إجماع المحصّلين على كون المقبوض بالعقد الفاسد كالمغصوب إلّا في ارتفاع الإثم على إمساكه.

ب : ضمان القيميّ بقيمة يوم الضمان

(٥) سواء أكان موجب الضمان هو الغصب أم القبض بالبيع الفاسد أم العارية المشروطة أم اللقطة أم غيرها.

٤٨١

وحيث (١) إنّ الصحيحة مشتملة على أحكام كثيرة وفوائد خطيرة (٢) فلا بأس بذكرها جميعا (٣) ، وإن كان الغرض متعلّقا ببعضها.

فروى الشيخ في الصحيح (٤) عن أبي ولّاد ، قال : «اكتريت بغلا الى قصر بني هبيرة (٥) ذاهبا وجائيا بكذا وكذا ، وخرجت في طلب غريم لي ، فلمّا صرت قرب قنطرة الكوفة خبّرت أنّ صاحبي توجّه إلى النيل (٦) ، فتوجّهت نحو النّيل ،

______________________________________________________

الاستدلال بصحيحة أبي ولّاد على اعتبار قيمة يوم الضمان

(١) غرضه من هذه الجملة توجيه نقل جميع الصحيحة ، مع أنّ محلّ الاستدلال بها على ضمان يوم التلف أو يوم الغصب جملتان منها.

ومحصّل التوجيه : اشتمال الصحيحة على أحكام كثيرة ، والوقوف على جهل أئمّة الضلال بأحكام الشريعة الغرّاء ، وتلاعبهم بدين الله ، وما يستتبعه ذلك من حبس قطر السماء وبركات الأرض ، فالحمد لله الذي هدانا لولاية أوليائه عليهم‌السلام وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

(٢) سيأتي ذكر جملة من هذه الأحكام في التعليقة بعد الفراغ من توضيح كلمات المصنّف فيما يتعلّق بمورد الاستدلال بها.

(٣) لكنّه قدس‌سره لم يف بما وعده من ذكر تمام الصحيحة ، وسنذكر تتمّتها.

(٤) وكذا رواها ثقة الإسلام قدس‌سره بسند صحيح ، فالسند صحيح بطريقيه ، ولا تختصّ الصحّة بطريق شيخ الطائفة قدس‌سره ، لكن لا مفهوم لتعبير المصنّف ، وإنّما غرضه وجود طريق صحيح لهذا الخبر الشريف.

(٥) هذا الموضع يسمّى في عصرنا الحاضر بالهاشميّة ، وهو من أقضية محافظة بابل [الحلّة] يبتعد عن الحلّة قرابة عشرين كيلومترا. وأمّا القصر فلم يبق منه سوى أطلال. وأمّا ابن هبيرة فهو من عمّال بني أمية ـ لعنهم الله ـ في أواخر عهدهم وسلطنتهم. كذا قيل.

(٦) وهو قرية بين كوفة وبغداد ، ففي اللّسان : «ونيل : نهر بالكوفة ، وحكى الأزهري ، قال : رأيت في سواد الكوفة قرية يقال لها : النيل ، يخرقها خليج كبير يتخلّج

٤٨٢

فلمّا أتيت النيل خبّرت أنّه توجّه إلى بغداد ، فاتّبعته وظفرت به وفرغت ممّا بيني وبينه (١) ، ورجعت إلى الكوفة ، وكان ذهابي ومجيئي خمسة عشر يوما. فأخبرت (٢) صاحب البغل بعذري ، وأردت أن أتحلّل منه فيما [ممّا] صنعت وأرضيه ، فبذلت له خمسة عشر درهما ، فأبى أن يقبل (٣) ، فتراضينا بأبي حنيفة وأخبرته بالقصّة ، وأخبره الرّجل.

فقال لي : ما صنعت بالبغلة؟

قلت : رجّعته سليما. فقال (٤) : نعم بعد خمسة عشر يوما.

قال : فما تريد من الرجل؟

قال (٥) : أريد كراء بغلي ، فقد حبسه عليّ خمسة عشر يوما.

______________________________________________________

من الفرات الكبير» (١).

(١) هذا الضمير وضمائر «أنّه ، توجّه ، فاتّبعته ، به» راجعة إلى «الغريم» المراد به المديون.

(٢) الوجه في إخبار صاحب البغل هو مخالفة أبي ولّاد لعقد الإجارة ، لأنّ السير من الكوفة إلى قصر بني هبيرة ـ ذاهبا وجائيا ـ يقلّ عن عشرة أيّام ، فكان تصرّفه وركوبه على البغل مخالفا لمقتضى الإجارة ، فأراد أبو ولّاد استرضاء صاحب البغل والاستحلال منه.

(٣) يعني : أنّ صاحب البغل لم يقنع بخمسة عشر درهما ، وزعم استحقاقه اجرة أزيد منها.

(٤) يعني : فقال صاحب البغل : إنّ أبا ولّاد وإن أرجع البغل سليما ، لكنّه أرجعه بعد خمسة عشر يوما ، وهو أكثر من مدّة الإجارة المتعارفة للذهاب من الكوفة إلى قصر ابن هبيرة والرجوع منها إلى الكوفة.

(٥) يعني : قال صاحب البغل : أريد كراء البغل في مدّة خمسة عشر يوما ، وهو أكثر من خمسة عشر درهما التي اقترحها أبو ولّاد.

__________________

(١) لسان العرب ، ج ١١ ، ص ٦٨٦.

٤٨٣

فقال (١) : إنّي ما أرى لك حقّا ، لأنّه اكتراه إلى قصر بني هبيرة ، فخالف (٢) ، فركبه إلى النيل وإلى بغداد ، فضمن قيمة البغل وسقط الكراء ، فلمّا ردّ البغل سليما وقبضته لم يلزمه الكراء.

قال (٣) : فخرجنا من عنده وأخذ صاحب البغل يسترجع فرحمته ممّا أفتى (٤) به أبو حنيفة ، وأعطيته (٥) شيئا وتحلّلت منه. وحججت تلك السنة ، فأخبرت أبا عبد الله عليه‌السلام بما أفتى به أبو حنيفة.

فقال (٦) : في مثل هذا القضاء وشبهه تحبس السماء ماءها ، وتحبس الأرض بركاتها.

______________________________________________________

(١) يعني : فقال أبو حنيفة للمكاري : لا أرى لك حقّا على أبي ولّاد أصلا ، لا خمسة عشر درهما ، ولا أزيد منها ، بل تستحقّ الدراهم التي تراضيتما عليها ـ أوّلا ـ حين اكتراء البغل من الكوفة إلى قصر بني هبيرة.

(٢) يعني : فخالف أبو ولّاد مقتضى الإجارة ، وعدل بطريقه من قرب قنطرة الكوفة إلى النيل ، ولم يذهب إلى قصر بني هبيرة.

(٣) يعني : قال أبو ولّاد : فخرجنا من عند القاضي وأخذ صاحب البغل يقول :

إنّا لله وإنّا إليه راجعون. لكون قضائه جائرا مخالفا للعدل والانصاف الذي تدعو دين الفطرة إليه ، ولم يخف بطلانه على عقل أبسط الناس ـ وهو المكاري ـ وإن خفي على عقل فقيه العراق بحسب زعمه.

(٤) التعبير بالفتوى ـ مع أنّهما ترافعا إلى القاضي ـ لأجل أنّ النزاع في الحكم الكلّيّ ، فكان فصل الخصومة بالفتوى ، لا ببيان حكم قضيّة شخصية.

(٥) ضمير الفاعل من هنا إلى «فأخبرت» راجع إلى أبي ولّاد ، وضمير المفعول والمجرور في «منه» راجع إلى صاحب البغل.

(٦) أي : فقال أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام : في مثل هذا القضاء ـ المخالف لما أنزله الله تعالى ـ تحبس السماء ماءها .. إلخ.

٤٨٤

فقلت (١) : لأبي عبد الله عليه‌السلام : فما ترى أنت جعلت فداك؟

قال عليه‌السلام (٢) : أرى له عليك مثل كراء (٣) بغل ذاهبا من الكوفة إلى النيل ، ومثل كراء بغل راكبا من النيل إلى بغداد ، ومثل كراء بغل من بغداد إلى الكوفة ، توفيه (٤) إيّاه.

قال (٥) : فقلت : جعلت فداك ، قد علّفته بدراهم ، فلي عليه علفه؟

فقال (٦) : لا ، لأنّك غاصب.

______________________________________________________

(١) أي : قال أبو ولّاد لأبي عبد الله عليه‌السلام : ما هو حكم الله في هذه المسألة؟

(٢) أي : قال الإمام أبو عبد الله عليه‌السلام : أرى لصاحب البغل عليك .. إلخ.

(٣) يعني : عليك مثل أجرة بغل ذاهبا من الكوفة إلى النيل ، ومثل كراء بغل راكبا من النيل الى بغداد ، ومثل كراء بغل من بغداد إلى الكوفة.

(٤) أي : تعطي صاحب البغل هذا الكراء ، والظاهر أنّ المراد قنطرة الكوفة لا نفس المدينة ، لأنّ أبا ولّاد لم يخالف مقتضى الإجارة قبل بلوغه قنطرة الكوفة ، وإنّما خالفه من القنطرة إلى النيل ، ثمّ منه إلى بغداد ، ومنه عائدا إلى الكوفة.

والوجه في هذه المحاسبة كون المسافة ومدّة الركوب على البغل أزيد من السير المتعارف من كوفة إلى بغداد ، ثم منه إلى كوفة ، لكون القصر والنيل خارجين عن الجادّة المعمولة بين كوفة وبغداد ، فلأجل ذلك تزداد اجرة المثل ـ في الطريق التي سلكها أبو ولّاد ـ على اجرة السير المتعارف ، فيكون ضامنا لمنفعة البغل المستوفاة.

(٥) يعني : قال أبو ولّاد : قد علّفت البغل بدراهم في مدّة ركوبي عليه. وغرض أبي ولّاد من هذا الكلام : التخلّص من بعض الأجور ـ التي حكم الامام عليه‌السلام بضمانها ـ بأنّ استيفاء ركوب البغل في المسافة المذكورة وإن لم يكن بعقد إجارة ، إلّا أنّه صرف دراهم في تعليف البغل ، فينبغي حطّ بعض اجرة المثل بإزاء التعليف ، هذا.

(٦) يعني : قال الامام الصادق عليه‌السلام : لا تستحقّ على المكاري مئونة التعليف لأنّك غاصب ، وليس تصرّفك في البغل مستندا إلى إذن مالكيّ أو شرعيّ حتى يكون

٤٨٥

قال (١) : فقلت : أرأيت ، لو عطب (٢) البغل ونفق أليس كان يلزمني (٣)؟

قال (٤) : نعم ، قيمة بغل يوم خالفته.

قلت (٥) : فإن أصاب البغل

______________________________________________________

مئونته على المالك.

(١) يعني : قال أبو ولّاد : فقلت للإمام عليه‌السلام : أرأيت .. إلخ. والظاهر أنّ أبا ولّاد استغرب من حكمه عليه‌السلام بضمان اجرة المثل وبوجوب الإنفاق على البغل ، وذلك لما سمعه من قاضي الكوفة من أنّه لمّا صار ضامنا لرقبة البغل بالغصب كانت منفعته ـ كالركوب ـ مملوكة له ، فلذا استفهم أبو ولّاد منه عليه‌السلام ، وقال : لو هلك البغل في المدّة التي كانت عنده غصبا ، فهل يكون مضمونا؟ وهل يجب دفع قيمته إلى المكاري أم لا؟

فأجاب عليه‌السلام : نعم ، لو هلك البغل عندك كنت ضامنا لقيمته ، لأنّك غاصب وكذلك تكون ضامنا لاجرة المثل ، ووجب عليك تعليفه. ولا وجه لحكم القاضي الجائر اعتمادا على حديث : «الخراج بالضمان» لعدم كون مورده الغصب أصلا ، كما تقدّم تفصيله في الأمر الثاني.

(٢) من باب «تعب» بمعنى : هلك. كذا في المصباح (١). وفيه أيضا : «ونفقت الدابّة نفوقا من باب قعد : ماتت» (٢). والظاهر أنّ المراد من «العطب» هنا هو الموت عن الكسر ، والنفوق هو الموت حتف الأنف.

(٣) بالتخفيف ، أي : هل تكون القيمة لازمة عليّ ومضمونة لو هلك البغل؟

(٤) يعني : قال الامام عليه‌السلام : لو هلك البغل لزمك قيمته يوم خالفت عقد الإجارة.

(٥) هذا قول أبي ولّاد. وهو سؤال أيضا عن ضمان البغل ، لكن الفارق بينه وبين سابقه أنّ السؤال الأوّل كان عن ضمان الرقبة لو مات البغل. وهذا سؤال عن

__________________

(١) المصباح المنير ، ص ٤١٦.

(٢) المصدر ، ص ٦١٨.

٤٨٦

كسر أو دبر (١) أو عقر [غمز].

فقال : عليك قيمة ما بين الصحّة والعيب يوم تردّه.

فقلت (٢) : من يعرف ذلك؟

______________________________________________________

ضمان الطرف والأعضاء من كسر أو قرحة أو عرج. فأجاب عليه‌السلام : بضمانها أيضا كالرقبة.

وطريق معرفته تقويم البغل صحيحا من كلّ عيب ، وتقويمه مع ذلك الكسر أو العرج أو القرحة ، فالتفاوت بين القيمتين هو المضمون. كما إذا قوّم سليما بعشرة دنانير ، ومعيبا بثمانية ، فالأرش ديناران يجب دفعهما إلى المكاري.

(١) قرحة الدابّة ، و «العقر» بمعنى الجرح. وفي بعض النسخ «غمز» وهو ميل الدابّة من رجلها والعرج الضعيف. وأمّا «الغمر» بالراء فلم يظهر له معنى يناسب المقام.

(٢) هذا قول أبي ولّاد ، وهو استفهام عن طريق معرفة الأرش ـ الذي يضمنه لو اعتلّ البغل عنده ـ بعد معرفة أصل ضمان العيب. وأجابه عليه‌السلام بأنّ لمعرفة أرش العيب طرقا.

فإن توافق المكاري وأبو ولّاد على قيمة البغل صحيحا ومعيبا ، فيدفع الأرش إليه.

وإن اختلفا في القيمة ، بأن ادّعى صاحب البغل زيادة قيمته ، وأنكرها أبو ولّاد ، حتّى يكون أرش ما بين الصحّة والعيب أقلّ ، كما إذا ادّعى المكاري أنّ قيمة الصحيح عشرة دنانير ، وقيمة المعيب ثمانية ، فيطالب بدينارين. وادّعى أبو ولّاد أنّ قيمة البغل السليم عشرة وقيمة المعيب تسعة ، فيكون ضامنا لدينار. فيحلف المكاري على ما يدّعيه. أو يأتي بشهود على أنّ قيمة البغل يوم الاكتراء عشرة دنانير مثلا.

فإن لم يأت المكاري بشهود ولم يحلف على دعواه بأن وجّه اليمين إلى منكر زيادة القيمة حلف أبو ولّاد على الثمن القليل وثبت دعواه.

٤٨٧

قال عليه‌السلام : أنت وهو ، إمّا أن يحلف هو (١) على القيمة فيلزمك فإن ردّ اليمين عليك فحلفت على القيمة (٢) لزمك ذلك. أو (٣) يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون أنّ قيمة البغل حين اكتري كذا وكذا ، فيلزمك.

فقلت (٤) : إنّي كنت أعطيته دراهم ورضي بها وحلّلني.

فقال : إنّما رضي بها وحلّلك حين قضى عليه أبو حنيفة بالجور والظلم. ولكن ارجع إليه ، فأخبره بما أفتيتك به ، فإن جعلك في حلّ بعد معرفته فلا شي‌ء عليك بعد ذلك» الخبر (٥).

______________________________________________________

(١) يعني : صاحب البغل ، فيحلف على القيمة العليا ، فتثبت في ذمّة أبي ولّاد.

(٢) يعني : على القيمة الدّنيا ، فتلزمك وتستقرّ على عهدتك.

(٣) هذا عدل لقوله : «إمّا أن يحلف» يعني : أنّ للمكاري إثبات دعواه بإحدى طريقين : الحلف والبيّنة.

(٤) هذا قول أبي ولّاد ، وغرضه من هذا السؤال حطّ مقدار من اجرة المثل التي حكم الامام عليه‌السلام باستقرارها في ذمّته ، فقال : إنّي أشفقت على المكاري بعد حكم قاضي الكوفة ، وأعطيته دراهم وتحلّلت منه ، فهل يجوز احتسابها من اجرة المثل ، أم أنّها لا تحسب منها ويجب أداء أجرة المثل كاملة؟

فأجاب عليه‌السلام : بأنّ رضى المكاري بتلك الدراهم وتحلّلك منه كان ناشئا من جهله بما يستحقّه عليك واقعا ، فرضي بما أعطيته إيّاه. ولكن أخبره بالحكم الواقعيّ وما يستحقه عليك من اجرة المثل ، فإن حلّلك من اجرة المثل ورضي بما أعطيته سابقا فهو ، وإلّا فادفع إليه ما يستحقه من اجرة المثل كاملة.

(٥) ذيل الصحيحة : «فلمّا انصرفت من وجهي [حجّتي] ذلك لقيت المكاري ، فأخبرته بما أفتاني به أبو عبد الله عليه‌السلام ، وقلت له : قل : ما شئت حتى أعطيكه. فقال : قد حبّبت إليّ جعفر بن محمّد عليهما‌السلام ووقع له في قلبي التفضيل ، وأنت في حلّ ،

٤٨٨

ومحلّ الاستشهاد فيه فقرتان :

الأولى : قوله : «نعم قيمة بغل يوم خالفته» إلى ما بعد ، فإنّ الظاهر (١)

______________________________________________________

وإن أحببت أن أردّ عليك الذي أخذته منك فعلت» (١).

والمراد بالموصول في «بما أفتاني به» هو اشتغال ذمّة أبي ولّاد بأجرة مثل البغل من الكوفة إلى النيل ، ومنه إلى بغداد ، ومنه عائدا إلى الكوفة ، وقد حكم أبو حنيفة بعدم استحقاق المكاري لهذه الأجرة. فلمّا سمع المكاري فتوى الامام الصادق عليه‌السلام باستحقاقها فرح بها وطابت نفسه من أبي ولّاد ، وأسقط ماله في ذمّته ، بل لم يكتف المكاري بهذا الاسقاط ، فقال : لو شئت يا أبا ولّاد أرجعت إليك الدراهم التي أعطيتنيها بعد قضاء أبي حنيفة.

واعلم أنّ هذه الصحيحة قد يستدلّ بها تارة على اعتبار قيمة يوم الغصب. كما عليه جماعة ومنهم المصنّف في بادئ الأمر. واخرى على ضمان يوم التلف كما عليه آخرون ، وثالثة على ضمان أعلى القيم من الغصب إلى التلف كما عليه الشهيد الثاني ، وسيأتي التعرّض لجميع ذلك إن شاء الله تعالى.

(١) استدلّ المصنّف قدس‌سره بجملتين من هذه الصحيحة المباركة على مدّعاه من ضمان المغصوب بقيمة يوم الغصب ، كما أفاده ـ قبل ذكر الصحيحة بأسطر ـ بقوله : «بل يمكن أن يقال : إذا ثبت في المغصوب الاعتبار بقيمة يوم الغصب كما هو ظاهر صحيحة أبي ولّاد الآتية».

الجملة الأولى : قوله عليه‌السلام في جواب أبي ولّاد : «نعم قيمة بغل يوم خالفته».

وحاصل تقريب الاستدلال بها : أنّ «اليوم» قيد للقيمة بأحد وجهين : إمّا بإضافة «القيمة» المضافة إلى «البغل» إليه ، بأن يضاف القيمة أوّلا إلى البغل ، وثانيا

__________________

(١) وسائل الشيعة ، الباب ١٧ من كتاب الإجارة ، الحديث ١ ، الا أنّه أسقط ذيله ، وذكر تمامه في الكافي ج ٥ ، ص ٢٩٠ و ٢٩١. ثمّ إنّ الرواية على طريقة الكافي صحيحة ، وكذا على طريقة الشيخ ، لأنّه رواها بإسناده إلى أحمد بن محمد وطريقه إليه صحيح ، فلا إشكال في الصحيحة من حيث السند ، فلاحظ.

٤٨٩

أنّ «اليوم» قيد للقيمة ، إمّا بإضافة القيمة المضافة إلى البغل (*)

______________________________________________________

إلى اليوم ، فيكون المتحصّل من هذه الإضافة : أنّ المضمون قيمة يوم المخالفة ، يعني : قيمة البغل الثابتة له يوم الغصب ، وهو زمان الميل عن قنطرة الكوفة إلى النيل.

وإمّا بجعل «اليوم» قيدا للاختصاص الحاصل من إضافة القيمة إلى البغل ،

__________________

(*) لا يخفى أنّه قد اختلفت نسخ الحديث ، ففي الكافي والوسائل ومرآة العقول نقلها بتنكير «البغل» في كلام أبي عبد الله عليه‌السلام الدالّ على ضمان الكراء وضمان البغل. وفي الوافي والتهذيب نقله معرّفا باللام في جميع الموارد. وفي غصب الوسائل نقله منكّرا في بعض الموارد ومعرّفا في بعضها الآخر.

وكيف كان فالظاهر أنّ أبا حنيفة تمسّك فيما حكم به من عدم ضمان أجرة المثل بحديث «الخراج بالضمان» بزعم أنّ الخراج ـ أي المنافع ـ بإزاء ضمان العين ، فكأنّ قيمة العين عوض منافعها ، لأنّ ماليّة العين إنّما هي بإزاء منافعها ، فالقيمة المبذولة بإزائها إنّما هي قيمة فوائدها ، لأنّ العين المجرّدة عن المنافع لا ماليّة لها. وهذا شي‌ء لا تستبعده العقول ، فيما إذا تلفت العين تحت يد من استوفى خراجها.

لكن ما حكم به أبو حنيفة مخالف للعقل والعدل الإسلاميّ ، ولذا استرجع صاحب البغل ، وتحلّل منه أبو ولّاد ، إذ المفروض بقاء العين واستيفاء المنافع ، فلو لم يضمن من استوفاها كان ظلما على المالك ، هذا.

ثمّ إنّ الظاهر عدم الفرق في صحة الاستدلال بالصحيحة بين تنكير البغل وتعريفه في مقدار الكراء ، لما مرّت إليه الإشارة سابقا من عدم دخل الهويّة بما هي في القيم والرغبات. وإنّما الدخيل فيها هو الخواصّ والأوصاف الموجبة لاختلاف القيم والرّغبات ، مثل كون البغل قويّا سريع السير مرتاضا غير شموس ، فقوله عليه‌السلام : «له عليك كراء بغل ذاهبا من الكوفة إلى النيل» يراد به البغل المماثل لبغله بحسب فهم العرف وارتكاز العقلاء ، لا كراء كلّ بغل شاء ، سواء كان مخالفا لبغله أم لا. ومع المماثلة لا فرق بين كراء شخص بغله وكراء مماثله ، كما لا يخفى.

٤٩٠

إليه (١) ثانيا ، يعني : قيمة يوم المخالفة للبغل ، فيكون إسقاط حرف التعريف (٢) من البغل للإضافة (*)

______________________________________________________

حيث إنّ الإضافة إمّا تفيد التعريف إن أضيف إلى المعرفة ، أو الاختصاص إن أضيف إلى النكرة. فالقيمة بعد أن أضيفت إلى البغل أفادت الاختصاص ، أي : اختصاص القيمة بالبغل لا غيره.

وحاصل هذا التقريب : أنّ القيمة المختصّة بالبغل هي قيمته يوم الغصب ، في مقابل قيمته يوم التلف. أو أعلى القيم أو غيرهما من القيم التي تنسب إلى البغل.

وقد أشار إلى هذا التقريب بقوله : «وإمّا بجعل اليوم قيدا .. إلخ».

(١) أي : إلى اليوم ، بأن أضيفت القيمة مرّة إلى البغل ، وثانية إلى اليوم كما ذكرناه آنفا. ولكن صريح كلامه في السطر الآتي إضافة «البغل» إلى «يوم المخالفة» ولذا سقط اللام من «البغل» ومعنى هذا الكلام : إضافة «القيمة» إلى «بغل» وإضافة «بغل» إلى «يوم المخالفة» إذ لو كانت «القيمة» مضافة مرّتين إحداهما إلى «البغل» والأخرى إلى «يوم المخالفة» لم يكن وجه لسقوط حرف التعريف من «بغل» لعدم كونه مضافا إلى «يوم» كي يحذف منه اللام.

(٢) وهو الألف واللام من «البغل» لأجل إضافة «البغل» إلى «يوم خالفته» وغرضه من هذا الكلام دفع ما يتوهّم من : أنّ تنكير «البغل» إنّما هو للإشارة إلى أنّ ذا القيمة ليس خصوص البغل الذي هو مورد البحث ، بل المضمون قيمة بغل مماثل لهذا البغل ، فتكون الرواية دليلا لمذهب من جعل القيميّ مضمونا بالمثل.

ومحصّل دفع هذا التوهّم : أنّ البغل ليس نكرة ، بل هو معرّف باللام ، غاية الأمر أنّ اللام سقط لأجل الإضافة ، فالمراد بالبغل هو خصوص البغل الذي اكتراه أبو ولّاد.

__________________

(*) لا يخفى أنّ اللام يسقط عن المضاف لا المضاف إليه كالبغل في الصحيحة. كذا قيل. ولكن نفس «البغل» مضاف إلى اليوم ، فيسقط عنه حرف التعريف ، وإن كان «البغل» مضافا إليه أيضا ل «قيمة» مثل : جاءني عبد سلطان بلدكم.

٤٩١

لا (١) لأنّ ذا القيمة بغل غير معيّن ، حتى توهم الرواية مذهب من جعل القيميّ مضمونا بالمثل (٢) ، والقيمة إنّما هي قيمة المثل (٣).

وإمّا (٤) بجعل «اليوم» قيدا للاختصاص الحاصل من إضافة القيمة إلى البغل (*).

______________________________________________________

(١) أي : ليس منشأ إسقاط حرف التعريف هو كون البغل الذي يجب دفع قيمته كلّيّا غير معيّن حتى يكون المضمون هو البغل المماثل للتالف ـ الذي اكتراه أبو ولّاد ـ وتكون القيمة بدل البدل.

(٢) كالاسكافيّ ومن وافقه من كون المضمون مضمونا بمثله ، ولا تستقرّ القيمة في ذمّة الضامن إلّا بتعذر المثل.

(٣) لا قيمة نفس التالف ، فإنّها غير مضمونة بناء على ضمان القيميّ بالمماثل عرفا.

(٤) هذا هو الشقّ الثاني من شقّي الاستدلال بالجملة الاولى من الصحيحة على ضمان يوم الغصب ، وقد أوضحناه بقولنا : «وإمّا بجعل اليوم قيدا للاختصاص ..» راجع (ص ٤٩٠).

وقد تحصّل من كلام المصنف قدس‌سره إلى هنا : وفاء الجملة الاولى من الصحيحة ـ بطريقين ـ لإثبات ضمان المغصوب القيميّ بقيمة يوم غصبه ، لا بقيمة يوم التلف.

__________________

(*) لا يخفى أنّ الاستدلال بقوله عليه‌السلام : «نعم قيمة بغل يوم خالفته» على كون الضمان بقيمة يوم الغصب مبنيّ على رجوع القيد أعني به «يوم خالفته» إلى القيمة ، بأحد وجوه :

الأوّل : إضافة القيمة إلى البغل ، والبغل إلى اليوم بنحو تتابع الإضافات كقول الشاعر : «وليس قرب قبر حرب قبر» بناء على تنكير البغل ، إذ مع تعريفه لا تصحّ إضافته معنى ، وإنّما تصح إضافته لفظا.

٤٩٢

.................................................................................................

__________________

الثاني : إضافة القيمة إلى البغل واليوم معا.

الثالث : إضافة المتحصّل من المضاف والمضاف إليه ـ وهو القيمة المتخصصة بالبغل ـ إلى اليوم.

الرابع : كون اليوم ظرفا للقيمة من دون إضافة شي‌ء إليه ، فيكون اليوم منصوبا بالاختصاص سواء أكان البغل منكّرا منوّنا بإضافة القيمة إليه ، كما في نسختي الكافي والوسائل ومرآة العقول ، فإنّ البغل مذكور فيها بالتنكير. فالبغل حينئذ مجرور منوّنا بإضافة القيمة إليه. أم كان البغل معرّفا باللام كما في التهذيب والوافي ، يعني : قيمة البغل المعهود يوم المخالفة. فتدلّ على أنّ المضمون قيمة يوم الغصب ، هذا.

أمّا الوجه الأوّل فلا يصار إليه في المقام ، لأنّ البغل من الذوات غير القابلة للتقييد بالزمان ، لعدم اختلاف الأعيان باختلاف الأزمان ، كما هو شأن التقييدات ، فلا يصلح الزمان لأن يكون قيدا. كما لا يصح تقييد الدار والدّكّان ونحوهما بالزمان ، فلا يقال : «دار أو دكّان أو خان يوم» كما لا يقال : «بغل يوم الغصب ، أو يوم الجمعة» إلّا باعتبار قيمتها التي هي معنى حدثيّ. بخلاف قوله : «وليس قرب قبر حرب قبر» لصحّة كون «حرب» قيدا للقبر.

وأمّا الوجه الثاني ـ وهو إضافة القيمة إلى كلا الأمرين عرضا ـ فهو غير معهود في الاستعمالات ، إذ يتوقف ذلك على لحاظين مستقلّين متباينين ، وذلك في استعمال واحد ممتنع.

مضافا إلى : أنّه على فرض صحّته في نفسه لا يمكن المصير إليه في المقام ، إلّا بناء على تنكير البغل. وأمّا مع تعريفه باللام فلا يصحّ ذلك ، لأنّ البغل لإضافته إلى «يوم» لا بدّ من تجريده عن اللام.

وبالجملة : فإشكال هذا الوجه الثاني ـ مضافا إلى امتناع تعدّد اللحاظين ـ عدم معهوديّته في الاستعمالات الشائعة.

٤٩٣

.................................................................................................

__________________

وأمّا الوجه الثالث ـ وهو إضافة المجموع المتحصّل من المضاف والمضاف إليه إلى اليوم ـ فلا بأس به.

ومحصّله : أنّه يلزمك الحصّة الخاصّة من القيمة أعني بها قيمة البغل الثابتة له في يوم المخالفة ، فهذه القيمة الخاصة مضمونة على الغاصب. فالظرف ـ وهو اليوم ـ متعلّق بالثابت. ومثل هذا كثير في الاستعمالات العرفيّة ، فيقال : ماء رمان زيد ، وحبّ رمان عمرو.

وأمّا الوجه الرابع ـ وهو كون اليوم منصوبا على الظرفيّة وظرفا للقيمة ـ فهو أيضا ممّا لا بأس به ، لأنّ «القيمة» بمعنى ما يتقوّم به ، وهو معنى حدثيّ قابل للتقيّد بالزمان.

لكن يحتمل رجوع القيد ـ أعني يوم المخالفة ـ إلى قوله عليه‌السلام : «نعم» الذي بمعنى يلزمك ، يعني : «يجب عليك في يوم المخالفة قيمة البغل» فيدلّ على أن حدوث الضمان يكون يوم المخالفة ، ولا يدلّ على تعيين القيمة ، وأنّها قيمة يوم المخالفة أو يوم الغصب.

ومع هذا الاحتمال تكون الصحيحة مجملة ، فلا يصح الاستدلال بها على ثبوت قيمة يوم الغصب. فيرجع في تعيين القيمة إلى القواعد. وقد تقدّم سابقا أنّ مقتضاها ضمان قيمة يوم التلف ، هذا ما احتمله جمع منهم صاحب الجواهر ، وسيأتي نقل كلامه في التوضيح ان شاء الله تعالى.

لكن يبعّده أمران :

أحدهما : ما يستفاد من كلام المصنّف من لغويّة ذكر القيد ـ أعني يوم المخالفة ـ الذي هو راجع إلى قوله عليه‌السلام : «نعم» لأنّه يبيّن حينئذ مبدء الضمان وهو يوم الغصب ، وذلك معلوم عند السائل.

ثانيهما : أنّ لازم رجوع القيد إلى قوله : «نعم» انتقال العين إلى القيمة قبل تلفها ، لأنّ السائل فرض المخالفة مع بقاء العين. وقد حكم الامام عليه‌السلام بضمان قيمة البغل. وهذا ممّا لم يقل به أحد. فلا بدّ من ترجيح احتمال رجوع القيد ـ أعني به يوم المخالفة ـ إلى

٤٩٤

.................................................................................................

__________________

القيمة بأحد الوجهين المتقدمين ، فتكون الصحيحة على هذا دليلا على ضمان قيمة يوم الغصب كما هو مدّعى من ادّعى ذلك.

لكن يمكن أن يقال : إنّها دليل على ضمان قيمة يوم التلف. تقريبه : أنّ أبا ولّاد يسأل عن الضمان إذا عطب أو نفق ، ومن المعلوم أنّ الذهن غير المشوب بالمناقشات ينقدح فيه من قوله : «لو عطب أو نفق أليس يلزمني» أنّه يلزمني قيمة البغل حال تلفه ، لأنّها قيمته الفعليّة ، لا قيمته في الزمان الماضي أو المستقبل.

ولمّا كان ضمان التلف تحت يده موهما لضمانه مطلقا ولو لم يكن التلف في حال الغصب فقد دفع هذا التوهّم بقوله عليه‌السلام : بأنّ ضمان التلف ليس ثابتا مطلقا ، بل في خصوص حال الغصب. فتلف البغل قبل الغصب ـ وهو في المثال من الكوفة إلى قنطرتها ـ لا يوجب الضمان. فيوم المخالفة قيد لضمان التلف ، يعني : أنّ التلف يوجب الضمان إذا وقع في حال الغصب ، لا مطلقا ، ففي جوابه عليه‌السلام تصديق لقول أبي ولّاد وردع له.

أمّا تصديقه فمن جهة لزوم القيمة عند التلف التي هي في ارتكازه وارتكاز العقلاء قيمتها حال التلف ، لأنّها قيمتها الفعليّة.

وأمّا ردعه فمن جهة أنّ إطلاق ضمان التلف يقتضي ثبوت الضمان من وقت الأخذ ، فردعه الامام عليه‌السلام بأنّ الضمان على فرض التلف ثابت من وقت الغصب. فقوله عليه‌السلام : «يوم خالفته» قيد لقوله عليه‌السلام : «نعم» أو للفعل المدلول عليه به كما هو ظاهر التركيب اللغويّ. والقيمة التي ورد عليها التصديق هي قيمة يوم التلف. فكأنّه قيل : إذا مات البغل حال الغصب والمخالفة ضمن قيمته ، ومن المعلوم أنّ قيمته الفعلية هي قيمته يوم التلف.

ولا فرق في هذا الاستظهار بين تنكير البغل وتعريفه ، لما تقدّم سابقا من عدم دخل الهويّة بما هي في القيم والرغبات ، وأنّ الدخيل فيها هي الخواصّ والأوصاف ، كقوّة البغل وسرعة سيره وكونه مرتاضا غير شموس ، هذا.

٤٩٥

.................................................................................................

__________________

والّذي ينبغي أن يقال : إنّ قول السائل : «أيلزمني» المترتّب على العطب والنفوق ، إمّا بمعنى عهدة العين ، وإمّا بمعنى لزوم دفع البدل فعلا ، وإمّا بمعنى لزومه على تقدير التلف ، وهو الضمان بالقوّة في كلام المشهور.

أمّا الأوّل فهو غير مرتّب على العطب ، لأنّه مترتّب على مجرّد الغصب ، فلا يصحّ جعل العطب في كلام السائل شرطا للزوم ضمان القيمة ، ولا جعل اللزوم جزاء لقوله : «فلو عطب» لفقدان الترتّب المعتبر بين الشرط والجزاء ، حيث إنّ العهدة مضافة إلى العين ، لأنّ فاعل «أيلزمني» هو البغل ، لا بدله أعني به القيمة ، فلا بدّ من الاقتصار على قوله : «نعم» لأنّه يسأل عن ضمان العين ، فيكفيه قوله : «نعم» فلا يتعلّق اللزوم المستفاد منه بقيمة البغل.

وأمّا الثاني ـ وهو لزوم دفع البدل فعلا ـ فهو قابل لترتّبه على العطب ، إذ المترتّب عليه هو القيمة لا العين ، لفرض تلفها ، فيتعيّن حينئذ أن يكون «يوم خالفته» قيدا للقيمة ، لا لقوله : «يلزمني» لعدم اللزوم الفعليّ للقيمة من يوم المخالفة ، بل لزوم القيمة فعلا مترتّب على العطب الواقع في ظرف المخالفة.

لكن يشكل إرادة اللزوم الفعليّ للقيمة في يوم المخالفة مع إمكان إرادة اللزوم التقديريّ وإرادة العهدة منه ، إذ المفروض بقاء العين.

وأمّا الثالث ـ أعني به لزوم دفع البدل على تقدير التلف ، وهو الضمان بالقوّة ـ فهو مترتّب على فرض وجود العطب ، لا على العطب الفعليّ ، ومن المعلوم أنّ قوله : «أرأيت لو عطب البغل .. إلخ» بيان لمعنى الضمان بالقوّة ، أعني به لزوم البدل على تقدير التخلّف بجعل العطب مقدّما ، وجعل لزوم البدل تاليا. وهذا اللزوم التقديريّ هو الذي سمعه من أبي حنيفة ، لا اللزوم الفعليّ ، إذ لم يكن في الواقعة عطب فعليّ.

ومنه ظهر أنّه لا وجه لاستفادة اللزوم الفعليّ ، فإنّه مرتّب على العطب الفعليّ ، لا على فرضه بجعله واقعا موقع الفرض والتقدير الذي هو مفاد مدخول أداة الشرط.

٤٩٦

وأمّا ما احتمله جماعة (١) من «تعلّق الظرف بقوله : نعم ، القائم مقام قوله عليه‌السلام : يلزمك يعني : يلزمك يوم المخالفة قيمة بغل»

______________________________________________________

(١) هذا الاحتمال مذكور في مفتاح الكرامة والمستند والجواهر (١) ، عارضوا به دلالة الفقرة على ضمان المغصوب بقيمة يوم غصبه. والفاضل النراقي قدس‌سره وإن رجّح الضمان بقيمة يوم الغصب ، إلّا أنّه استفاده من الفقرة الثانية الآتية ، وهي قوله عليه‌السلام : «أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون أن قيمة البغل حين اكترى كذا وكذا ..».

قال في الجواهر في ردّ استظهار ضمان قيمة يوم الغصب ـ ما لفظه : «وفيه : احتمال تعلّق الظرف بالفعل المدلول عليه بقوله : نعم ، فيكون المراد : يلزمك يوم المخالفة قيمة البغل لو عطب ، بمعنى أنّها تتعلّق بك ذلك اليوم. وحينئذ فحدّ القيمة غير مبيّن فيه ، فلا ينافي ما دلّ على القيمة يوم التلف الذي ستعرف أنّه الأصحّ. ودعوى أنّ الأوّل ـ وهو ضمان قيمة يوم الغصب ـ أظهر ممنوعة».

__________________

وعليه فيتردّد الأمر بين أن يكون «يوم المخالفة» قيدا للقيمة ، وأن يكون قيدا للزوم التقديري المستفاد من قوله عليه‌السلام : «نعم» فتكون الرواية ساكتة عن وقت القيمة. فالنتيجة : أنّ الصحيحة لا تكون ظاهرة في اعتبار قيمة يوم الغصب ، كما ادّعاه القائل باعتبار قيمة يوم المخالفة ، لتطرّق احتمال قيديّة يوم المخالفة لكلّ من القيمة واللزوم. فعلى الأوّل يكون المدار على قيمة يوم الغصب وعلى الثاني يكون المدار على قيمة يوم التلف ، لأنّ معناه حينئذ : يلزمك يوم المخالفة قيمة البغل ، ومن المعلوم أنّ قيمته الفعليّة عند التلف هي قيمته حال التلف.

فتلخّص : أنّ الصحيحة إمّا ظاهرة في اعتبار قيمة يوم التلف ، أو مجملة ، ولا ظهور لها في اعتبار يوم الغصب.

__________________

(١) راجع : مفتاح الكرامة ، ج ٦ ، ص ٢٤٤ ؛ مستند الشيعة ، ج ٢ ، ص ٣٦٨ ؛ جواهر الكلام ، ج ٣٧ ، ص ١٠١ و ١٠٢.

٤٩٧

فبعيد (١) جدّا (*) ،

______________________________________________________

والوجه في تعلّق الظرف ـ وهو : يوم ـ بفعل «يلزم» هو اعتبار تعلّق الظرف بفعل أو شبه فعل ، ولا يصلح تعلّقه ب «نعم» وإنّما يتعلّق بفعل «يلزمك» الذي دلّ عليه كلمة «نعم».

وعليه فبناء على احتمال تعلّق الظرف ب «يلزمك» لا تدلّ هذه الجملة على ضمان يوم الغصب ، وإنّما تدلّ على استقرار قيمة المضمون بمجرّد الغصب ، وأمّا حدّ قيمة المضمون فغير مدلول عليه ، فلا يعلم أنّها قيمة يوم الغصب أو يوم التلف أو غيرهما. هذا. وسيأتي إيراد المصنّف قدس‌سره على هذا الاحتمال.

(١) جواب «وأما ما احتمله».

__________________

(*) بل قريب جدّا ، لأنّ الظاهر أنّ أبا ولّاد يسأل عن أصل الضمان ، وإلّا كان المناسب أن يقول : أيّ شي‌ء يلزمني يوم المخالفة؟

ولا يبعد أن يكون منشأ السؤال ما قاله أبو حنيفة من : أنّ ضمان الأصل لا يلائم ضمان الكراء ، لأنّ الخراج بالضمان ، فلمّا رأى السائل أن الامام عليه‌السلام أثبت الكراء ، أراد أن يستفسر منه أنّه مخالف لأبي حنيفة في الكراء ، وضمان الأصل ، أو في الكراء فقط.

وبتقريب آخر : أنّ أبا حنيفة ادّعى الملازمة بين ضمان البغل وسقوط الكراء ، لكون الخراج بالضمان ، وحيث إنّه عليه‌السلام ردّ عليه بأن الكراء ثابت ، زعم أبو ولّاد ـ أو احتمل ـ أنّ ثبوت الكراء كاشف عن عدم ضمان الأصل ، للملازمة بين ثبوت الضمان ونفي الكراء ، على ما أفتى به أبو حنيفة ، فسأل أنّه مع ثبوت الكراء هل يثبت الضمان؟ وقال : «أرأيت لو عطب .. إلخ».

وبالجملة : سأل أبو ولّاد عن ضمان الأصل ، باحتمال سقوطه مع ثبوت الكراء. فأجاب عليه‌السلام بثبوت الضمان التعليقيّ ، يعني : لو عطب أو نفق ، لكن ـ لا مطلقا ـ بل يوم المخالفة ، فكأنّه قال : يلزمك يوم المخالفة وغصب مال الغير قيمة بغل إذا عطب أو نفق.

٤٩٨

بل غير ممكن ، لأنّ (١) السائل إنّما سأل عمّا يلزمه بعد التلف بسبب المخالفة ، بعد العلم بكون زمان المخالفة زمان حدوث الضمان ، كما يدلّ عليه (٢) : «أرأيت لو عطب البغل أو نفق ، أليس كان يلزمني؟» فقوله : «نعم» يعني : يلزمك بعد

______________________________________________________

(١) تعليل لعدم الإمكان ، توضيحه : أنّ ملاحظة السؤال تقتضي علم السائل بأنّ لزوم القيمة وضمانها يكون بعد تلف البغل ، لأنّ أبا ولّاد علّق لزوم القيمة على العطب والنفوق ، فلو كان ظرف اللزوم هو التلف امتنع أن يكون «يوم خالفته» قيدا له ، إذ يلزم حينئذ أن يكون ظرف اللزوم يوم المخالفة أيضا. وهذا ينافي تعليق اللزوم على العطب والنفوق ، فلا بدّ أن يكون «يوم المخالفة» قيدا لغير اللزوم.

هذا مضافا إلى : أنّ ظاهر السؤال هو السؤال عن المقدار اللازم بالتلف بعد العلم بثبوت الضمان بالتلف ، فلا بدّ من حمل الجواب على إرادة بيان المقدار ، وذلك يقتضي تعليق الظرف بغير اللزوم ، وإلّا لم يكن جوابا عن السؤال ، لفرض علم أبي ولّاد بأصل لزوم القيمة.

(٢) هذه الدلالة مبنيّة على كون الاستفهام تقريريّا لا حقيقيّا ، فبناء على الاستفهام التقريريّ تدلّ كلمة «يلزمني» على علم أبي ولّاد بأنّ ضمان القيمة يكون بعد تلف البغل.

__________________

فهذا المعنى التعليقيّ ثابت بالفعل يوم الغصب كما قيل بذلك أيضا في خبر «على اليد» فمضمون الصحيحة موافق لخبر «على اليد» مع اختلاف غير جوهريّ ، وهو ذكر القيمة ، لكون المورد من القيميّات ، فلاحظ.

فالمتحصّل : أنّ نتيجة هذا الاحتمال هي ضمان قيمة البغل على فرض التلف. والضمان يكون من يوم المخالفة والغصب ، يعني : يحدث الضمان المعلّق على موت البغل من يوم الغصب. وأمّا كون القيمة قيمة يوم الغصب أو يوم التلف أو غيرهما فالصحيحة ساكتة عنها ، ومقتضى القواعد كما تقدّم سابقا هو قيمة يوم التلف.

٤٩٩

التلف بسبب المخالفة قيمة بغل يوم خالفته (١).

وقد أطنب بعض (٢) من جعل الفقرة ظاهرة في تعلّق الظرف بلزوم القيمة عليه ، ولم يأت بشي‌ء يساعده التركيب اللغويّ ، ولا المتفاهم العرفيّ.

الثانية (٣) : قوله : «أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون أنّ قيمة البغل

______________________________________________________

(١) فيكون المضمون قيمة يوم المخالفة لا يوم التلف.

(٢) لعلّه إشارة إلى ما حكاه في الجواهر عن بعض بقوله : «نعم ربّما قيل : إنّه ظاهر فيه ـ يعني في تعلّق الظرف بالفعل المدلول عليه بقوله عليه‌السلام : نعم ـ باعتبار أنّ سؤال الراوي عن الضمان بسبب التلف ، لا بسبب المخالفة. فمطابقة الجواب للسؤال تقتضي أن يكون المراد منه : نعم يلزمك يوم خالفته هذا الحكم ، يعني : يصير حكمك في هذا اليوم لزوم قيمة البغل إن هلك. والمتبادر منه بعد معلوميّة أنّه ليس المراد قيمته ميّتا هو أقرب زمان حياته إلى الموت ، وهو قبيل التلف. وهذا معنى قيمته يوم التلف. بل لعلّ تنكير ـ بغل ـ يومي إلى ذلك أيضا ، إذ هو إشارة إلى أنّه يفرض الميّت حيّا ، وإلّا فلا ريب أنّه لا يكفي قيمة أيّ بغل يكون. وهو مناسب لكون الظرف لغوا متعلّقا بقوله : يلزمك. وإلّا فلا يناسب التنكير ، إذ البغل يوم المخالفة حيّ بالفرض والاستصحاب ، فالأولى تعريفه» (١).

(٣) يعني : الفقرة الثانية ـ من صحيحة أبي ولّاد ـ الظاهرة في ضمان المغصوب بقيمة يوم الغصب ، لا يوم التلف ولا أعلى القيم ، وهي قوله عليه‌السلام : «أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون .. إلخ».

بتقريب : أنّ البغل لو أصابه كسر أو دبر كان على أبي ولّاد دفع أرش ما بين الصحيح والمعيب إلى المكاري. والمناط في تقويم البغل صحيحا هو يوم الاكتراء. والظاهر أنّ مراد الامام عليه‌السلام من يوم الاكتراء هو يوم مخالفة أبي ولّاد لمقتضى عقد الإجارة ، وذلك لكون البغل في يوم الاكتراء أمانة بيد أبي ولّاد لاستيفاء المنفعة منه.

__________________

(١) جواهر الكلام ، ج ٣٧ ، ص ١٠٢ و ١٠٣.

٥٠٠