هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٣

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٠

بل قد عرفت (١) أنّ مقتضى إطلاق أدلة الضمان في القيميّات هو ذلك (٢) بحسب المتعارف (*).

إلّا (٣) أنّ المتيقّن (**) من هذا المتعارف ما كان المثل فيه متعذّرا.

______________________________________________________

وأمّا دعوى كثرة أخبار ضمان القيميّ فصحيحة أيضا ، لتحقّق الكثرة بعشر روايات أو ما يقارب العشرة. ولا ريب في أنّ ما ورد فيه لفظ «الثمن أو القيمة» لا يقلّ عن هذا العدد ، كما ذكرناها بمصادرها ، فلاحظ.

(١) يعني : في الأمر الرابع ، حيث قال : «إنّ القاعدة المستفادة من إطلاقات الضمان في المغصوبات والأمانات المفرّط فيها وغير ذلك هو الضمان بالمثل .. ثم بعده قيمة التالف ..».

وهذا إشارة إلى دليل ثالث على اعتبار القيمة في المضمونات القيميّة ، وتقريبه : أنّ الأخبار المتفرّقة المشتملة على مادّتي «الضمان والغرامة» لم يتعرّض فيها لكيفيّته مع كونها واردة في مقام البيان ، فعدم تعرّض المتكلّم لبيان الكيفيّة دليل على إحالتها على العرف ، ومن المعلوم أنّهم يحكمون بأداء ما هو أقرب إلى التالف ، فإن كان مثليّا تعيّن أداء المثل ، وإن كان قيميّا تعيّن دفع القيمة.

وعليه فمناط هذا الوجه استفادة الحكم من الأدلّة العامّة في الضمانات ، سواء أكان المضمون مثليّا أم قيميّا.

(٢) خبر قوله : «ان مقتضى» والمشار إليه هو الضمان بالقيمة.

(٣) استدراك على قوله : «بل قد عرفت أنّ مقتضى إطلاق» وغرضه المناقشة في دلالة الطائفتين من الأخبار على ضمان القيميّ بالقيمة. أمّا الطائفة الأولى فسيأتي منع إطلاق دلالتها.

__________________

(*) بل مقتضى ما تقدّم هناك : أنّ القاعدة المستفادة من أدلّة الضمان هو الضمان بالمثل ، لأنّه أقرب إلى التالف من حيث المالية والصفات ، فتشمل القيميّات.

(**) هذا غير ظاهر ، لعدم تفرقة العرف ظاهرا في القيميّ ـ بالمعنى المقابل للمثليّ ـ بين تيسّر المثل وتعذّره ، فإنّ المثليّ والقيميّ ماهيّتان متباينتان ، وتعذّر أفراد.

٤٦١

 

______________________________________________________

وأمّا الطائفة الثانية ـ وهي إطلاقات الضمان ـ فيشكل الاستدلال بها على ضمان القيميّ بالقيمة مطلقا حتى مع تيسّر المثل العرفي للعين التالفة القيمية. وجه الاشكال : أنّ مناط الأخذ بالإطلاق المقامي هو عدم بيان كيفيّة خاصة ، وإحالة الأمر إلى العرف في مقام البيان. ومن المعلوم توقف الإطلاق على عدم تعارف سيرتهم على أمر آخر. مع أنّه لا ريب عندهم في كون المثل أقرب إلى التالف حتى في القيميّات.

وعليه تختص الروايات المطلقة بما إذا تعذّر المثل ، مع أنّ المدّعى عام وهو ضمان القيميّ بالقيمة سواء تيسّر المثل أم تعذّر.

__________________

إحداهما في الخارج لا يوجب انتقال ما ثبت منهما في ذمّة إلى أخرى ، ولا وجه لرفع اليد عن إطلاق ما دلّ على ضمان القيميّ بالقيمة ، الشامل لصورة تعذّر المثل كما صنعه المصنّف قدس‌سره.

وكيف كان فيحتمل ـ في مسألة ما لو كان التالف المبيع بالبيع الفاسد قيميّا ـ وجوه ثلاثة : أحدها : الضمان بالقيمة مطلقا. ثانيها : الضمان بالمثل كذلك. ثالثها : ضمان المثليّ بالمثل ، والقيميّ بالقيمة.

وقد استدلّ المصنّف قدس‌سره لضمانه بالقيمة بالإجماع والروايات المتفرّقة في كثير من القيميّات ، بحيث لا يكون للضامن والمضمون له التخلّف عن الضمان بالقيمة.

لكن الظاهر عدم استفادة كيفيّة الضمان وخصوصيّاته من نفس أدلّة الضمان ، كقاعدتي اليد والإتلاف وقاعدة احترام مال المسلم ، لعدم تعرّضها لخصوصيّات الضمان. فمقتضى الإطلاق المقاميّ هو إيكال كيفيّة الضمان إلى العرف. وبعد انقسام الأموال إلى قسمين مثليّ وقيميّ وتباينهما ماهيّة يحكم العرف بضمان كلّ منهما بالمثل ، فالمثليّ يضمن بالمثل ، لأنّه المماثل له عرفا ماهيّة وماليّة. والقيميّ يضمن بالقيمة ، لأنّها مثله عرفا.

وهذا الأمر العقلائيّ الارتكازيّ ممّا بنى عليه الشرع ، لعدم تعرّضه لكيفيّة الضمان مع كونها محلّ ابتلاء النوع ليلا ونهارا. وهذا الإهمال دليل على إحالة كيفيّة الضمان إلى العرف.

نعم ربّما يستظهر بمعونة ترك الاستفصال من بعض الروايات لزوم الغرامة

٤٦٢

.................................................................................................

__________________

بالقيمة في مطلق الضمانات ، كموثّق إسحاق بن عمّار ، قال : «سألت أبا إبراهيم عليه‌السلام عن الرجل يرهن الرهن بمأة درهم وهو يساوي ثلاثمائة درهم فيهلك [فيهلكه] أعلى الرّجل أن يرد على صاحبه مأتي درهم؟ قال : نعم ، لأنّه أخذ رهنا فيه فضل وضيّعه. قلت : فهلك نصف الرّهن؟ قال : على حساب ذلك. قلت : فيترادّان الفضل؟ قال : نعم» (١). فإنّه بسبب ترك الاستفصال ظاهر في أنّ الرّهن ـ سواء أكان مثليّا أم قيميّا وسواء أكان المثل متعذّرا أم لا ، وسواء وجد للقيميّ مثل أم لا ـ إذا هلك بالتفريط فهو مضمون بالقيمة ، لكون سقوط مائة درهم دليلا على أنّ الضمان بالقيمة ، وإلّا فلا وجه للسقوط. كما أنّ لزوم تأدية مأتي درهم دليل على أنّ الدراهم على عهدته في المثليّ والقيميّ مطلقا.

ونحوه غيره من الروايات المذكورة في الباب المذكور الدالّة على أنّ التالف مضمون بالقيمة مطلقا وإن كان مثليّا ، لأنّ معنى ترادّ الفضل أنّه إن كان الرّهن زائدا على الدّين سقط من الضمان بمقدار الدين ، وأخذ الراهن فضله. وإن كان الرّهن ناقصا عن الدّين سقط من الدين بمقداره ، وأخذ المرتهن البقيّة.

ولا معنى للسقوط والتهاتر إلّا الضمان بالقيمة ، إذ لو كان العهدة مشغولة بالمثل أو العين لم يكن وجه للتهاتر ، بل لا بدّ في المثليّ من أداء المثل ، وفي القيميّ تبقى العين على العهدة إلى زمان الأداء ، فالتهاتر القهريّ لا وجه له إلّا مع الضمان بالقيمة.

مضافا إلى : تصريح الروايات بالسقوط القهري ، ففي صحيحة أبي حمزة ، قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن قول عليّ عليه‌السلام : يترادّان الفضل؟ فقال : كان عليّ عليه‌السلام يقول ذلك. قلت : كيف يترادّان الفضل؟ فقال : إن كان الرّهن أفضل ممّا رهن به ثم عطب ردّ المرتهن الفضل على صاحبه. وإن كان لا يسوى ردّ الراهن ما نقص من حق المرتهن. قال : وكذلك قول عليّ عليه‌السلام في الحيوان وغير ذلك» (٢).

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ١٢٩ ، الباب ٧ من أحكام الرهن ، الحديث ٢.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ١٢٩ ، الباب ٧ من كتاب الرهن ، الحديث ١.

٤٦٣

.................................................................................................

__________________

وقريب منه صحيحة محمد بن قيس (١) وغيرها من الروايات الدالّة على كون الضمان بالقيمة.

وتدلّ عليه أيضا روايات متفرّقة ، كموثّقة السكونيّ عن جعفر عن أبيه عن عليّ عليهم‌السلام : «أنّه قضى في رجل أقبل بنار فأشعلها في دار قوم فاحترقت الدار ، واحترق أهلها ، واحترق متاعهم؟ قال : يغرم قيمة الدار وما فيها ثم يقتل» (٢) فإنّ تغريمه قيمة الدار وما فيها من المتاع ولو كان مثليّا ظاهر في كون الضمان مطلقا بالقيمة.

إلّا أن يقال : إنّ «ما فيها» معطوف على القيمة ، فيكون المراد حينئذ أنّه يغرم قيمة الدار ، ويغرم ما فيها ، من دون تعرّض للقيمة وغيرها. لكنّه خلاف الظاهر ، فتبعد إرادته بلا قرينة.

كبعد احتمال أنّ متاع الدار في مورد قضاء أمير المؤمنين «عليه الصلاة والسلام» كان قيميّا لا يوجد مثله ، لأنّ ظاهره أنّ ذلك من قضاياه الكلّيّة ، لا أنّه قضيّة خارجيّة.

ولو سلّم ذلك كانت حكاية أبي عبد الله عليه‌السلام كافية في إفادة الحكم ، لبعد كونه عليه‌السلام ناقلا للتاريخ. فلو كان متاع البيت قيميّا وكان حكم المثليّ غير القيميّ كان عليه بيان خصوصيّة الواقعة الدخيلة في الحكم.

وعلى كل حال يستفاد منها قاعدة كلّيّة ، وهي : أنّ إتلاف مال الغير موجب لضمان القيمة.

وموثّقة سماعة ، قال : «سألته عن المملوك بين شركاء ، فيعتق أحدهم نصيبه ، فقال : هذا فساد على أصحابه ، يقوّم قيمة ويضمن الثمن الذي أعتقه ، لأنّه أفسده على أصحابه» (٣). فإنّ موردها القيميّ والتعليل بالإفساد يدلّ على عليّة كلّ إفساد للضمان

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ١٢٩ ، الباب ٧ من كتاب الرهن ، الحديث : ٤.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٩ ، ص ٢١٠ ، الباب ٤١ من أبواب موجبات الضمان ، الحديث : ١.

(٣) وسائل الشيعة ، ج ١٦ ، ص ٢٢ ، الباب ١٨ من كتاب العتق ، الحديث ٥.

٤٦٤

.................................................................................................

__________________

وإن لم يكن عتقا. ويمكن أن تكون هذه الموثّقة من أدلّة قاعدة الإتلاف.

وصحيحة أبي ولّاد الآتية التي موردها القيميّ أيضا.

وبالجملة : فالروايات الدالّة على الضمان بالقيمة على طائفتين :

إحداهما : ما وردت في ضمان خصوص القيميّات بالقيمة كالعبد والجارية.

ثانيتهما : ما وردت في المضمون مطلقا سواء أكان مثليّا أم قيميّا كالرهن التالف واحتراق ما في الدّار وغلّة الأرض ، وغير ذلك مما يقتضي الإطلاق كون التالف المضمون بالقيمة مثليّا أو قيميّا.

والظاهر عدم التنافي بينهما ، لأنّ ما دلّ على الضمان بالقيمة في القيميّات لا تنفي ضمان المثليّات بها حتى يجب حمل المطلق ـ وهو ما دلّ على الضمان بالقيمة مطلقا وإن كان المضمون مثليّا ـ على المقيّد ، ليكون مقتضى الحمل اختصاص ضمان القيمة بالقيميّات.

فالمتحصل : أنّ مقتضى الروايات ضمان الأشياء مطلقا ـ وإن كانت مثليّة ـ بالقيمة. ولا بدّ في الخروج عن إطلاقها من دليل على التقييد. وقد ادّعي أنّه الإجماع على ضمان المثليّ بالمثل. قال في الجواهر : «انّه من قطعيّات الفقه» (١). وعن غاية المراد «أطبق الأصحاب على ضمان المثليّ بالمثل ، إلّا ما يظهر من ابن الجنيد» لكنّه أوّل كلامه أيضا.

والحقّ أن يقال : إنّ القدر المتيقن من الإجماع على ضمان المثليّ بالمثل هو صورة وجود المثل دون نادر الوجود ومتعذرة ، فإنّ إطلاقات ضمان القيمة محكّمة في غير المتيقن ، وهو وجود المثل ، لأنّه مقتضى مرجعيّة العام في المخصص المجمل.

والحاصل : أنّ الإجماع لمّا كان لبّيّا فلا بدّ في تخصيصه من الأخذ بالمتيقّن منه وهو وجود المثل ، دون نادرة ومتعذرة. وعلى هذا فالروايات وافية بكيفيّة الضمان ، فلو كان بناء العرف على غير تلك الكيفيّة كان الروايات رادعة عنها.

__________________

(١) جواهر الكلام ، ج ٣٧ ، ص ٨٥.

٤٦٥

بل (١) يمكن دعوى انصراف الإطلاقات الواردة في خصوص بعض

______________________________________________________

(١) غرضه المناقشة في دلالة عدّة من الأخبار الواردة في ضمان القيميّات ، كما ناقش في إطلاقات الضمان. وحاصلها : أنّ المدّعى عامّ ، وهو : ضمان كلّ قيميّ بالقيمة كضمان المثليّ بمثله ، مع أنّه يمكن منع إطلاق بعض الأخبار لحالة وجود مماثل عرفيّ للقيميّ المضمون ، ففي صحيحة أبي ولّاد : «قيمة بغل يوم خالفته». إذ من المحتمل كون الثابت في ذمّة الضامن بغلا غير معيّن ، وإنّما تعطى القيمة بدلا عنه ، لا بدلا عن نفس البغل التالف أو المتلف. ولا سبيل لاستفادة ضمان قيمة البغل التالف حتى مع وجود بغل مماثل له في الصفات والماليّة.

وكذا يمكن أن يكون تقويم العبد ـ وأداء قيمة ما بقي منه غير محرّر ـ لأجل

__________________

فتلخص من جميع ما ذكر أنّ القيميّات مطلقا مضمونة بالقيمة ، والمثليّات أيضا مضمونة بالقيمة ، إلّا إذا كان المثل موجودا بوجود غير عزيز. وأمّا مع عزّة وجوده فضلا عن فقدانه فضمانه بالقيمة أيضا.

ومن هنا يظهر أنّ ما أفيد في مباحث تعذّر المثل ـ سواء أكان التعذّر بدويّا أم طارئا ـ لا بدّ من تطبيقها على ما بيّناه هنا ، بأن يقال : إنّ التعذّر مطلقا يوجب الانقلاب إلى القيمة ، أخذا بإطلاق ما دلّ على الضمان بالقيمة وإن كان مثليّا ، واقتصارا على المتيقّن من الإجماع ، وهو ضمان المثليّ بالمثل إذا كان موجودا ، دون ما إذا كان مفقودا أو عزيز الوجود. فالمثل بمجرّد فقدانه أو عزّة وجوده ينتقل ضمانه إلى القيمة ، هذا.

وأمّا الروايات الدالّة على الضمان بالمثل في القيميّ فهي مختصّة بالقرض ، ولا ربط لها بما نحن فيه.

مضافا إلى : أنّها ضعيفة السند.

فروايات المقام كما عرفت منحصرة بالطائفتين المتقدمتين. وروايات القرض أجنبية عن باب الضمانات المبحوث عنها.

٤٦٦

القيميّات كالبغل والعبد ونحوهما لصورة (١) تعذّر المثل كما هو الغالب (٢). فالمرجع (٣) في وجوب القيمة في القيميّ وإن فرض تيسّر المثل له ـ كما (٤) في من أتلف عبدا من شخص باعه عبدا موصوفا بصفات ذلك العبد بعينه.

______________________________________________________

تعذّر المثل ، بحيث لو تيسّر عبد مماثل للمعتق مالية وصفة يحلّ محلّه كان مقدّما على دفع القيمة ، فتأمّل.

والحاصل : أنّ الإطلاقات المختصّة بالقيميّات تنقسم إلى طائفتين ، فما كان منها متكفّلا لضمان قيمة العبد والبغل أمكن انصرافها إلى صورة تعذّر المثل كما هو الغالب في العبد والبغل. فلا يكفي أداء القيمة مع تيسّر المثل. وما كان منها متكفّلا لضمان قيمة سائر الأمتعة يمكن إطلاقها لحالتي تيسّر المماثل وتعذّره.

(١) متعلق ب «لانصراف».

(٢) يعني : أنّ الغالب في بعض القيميّات تعذّر المثل العرفيّ.

(٣) غرضه أنّه ـ بعد انصراف إطلاقات أدلّة ضمان القيميّ بالقيمة إلى صورة تعذّر المثل ، وعدم شمولها لصورة تيسّر المثل ـ لا بدّ من القول ، بضمان القيميّ بالمثل مع وجوده ، مع أنّهم لم يلتزموا به ، بل التزموا بالقيمة حتى مع تيسّر المثل ، فدليلهم على الضمان بالقيمة في القيميّ مطلقا ولو مع وجود المثل هو الإجماع.

(٤) ذكر المصنّف قدس‌سره مثالين لتيسّر المثل ، أحدهما : أن يبيع شخص عبدا كلّيّا موصوفا بصفات تميّزه عمّن سواه بثمن معيّن ، وأتلف المشتري على البائع عبدا مملوكا له بصفات العبد المبيع ـ قبل أن يسلّمه البائع منه ـ فإنّهم لم يحكموا بالتهاتر وتساقط ما في ذمّتي البائع والمشتري ، بل قالوا باستقرار المبيع في ذمّة البائع ، وبضمان المشتري قيمة العبد الذي أتلفه على البائع. وهذا الحكم شاهد على ضمان القيميّ بالقيمة ، سواء تيسّر المثل أم تعذّر.

ثانيهما : مثال الكرباس ، فإنّ الأذرع منه متماثلة ، ولكن يجب دفع قيمة الذراع المتلف ، لا مثله.

٤٦٧

وكما لو أتلف عليه ذراعا من مائة ذراع كرباس منسوج على طريقة واحدة لا تفاوت في أجزائه أصلا ـ هو الإجماع (١) كما يستظهر.

وعلى تقديره (٢) ففي شموله لصيرورة تيسّر المثل من جميع الجهات تأمّل. خصوصا (٣) مع الاستدلال عليه (٤) كما في الخلاف وغيره بقوله تعالى (فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) بناء (٥) على أنّ القيمة مماثل للتالف في الماليّة فإنّ (٦) ظاهر ذلك جعلها (٧) من باب الأقرب إلى التالف بعد تعذّر المثل.

______________________________________________________

(١) خبر قوله : «فالمرجع».

(٢) يعني : وعلى تقدير تحقّق الإجماع ، وغرضه المناقشة في شمول الإجماع ـ على فرض ثبوته ـ للمثل الموجود المماثل للتالف القيميّ من جميع الجهات ، فالإجماع على ثبوت القيمة في هذه الصورة غير ثابت ، لأنّه دليل لبّيّ ، والمتيقّن منه غير هذه الصورة.

(٣) وجه الخصوصيّة ظهور الآية الشريفة في تعيّن المماثل للتالف من جميع الجهات وإن كان التالف قيميّا ، إلّا إذا تعذّر المثل ، فإنّ القيمة حينئذ مما يعدّ مماثلا للتالف.

(٤) أي : على وجوب القيمة في القيميّ ، وقد تقدّم في (ص ٣٣٩) نقل استدلال شيخ الطائفة قدس‌سره بالآية الشريفة على كلّ من وجوب المثل في المثليّ ، والقيمة في القيميّ ، فراجع.

(٥) هذا البناء هو استدلال شيخ الطائفة ، وليس أمرا آخر ، إذ لو لم تكن القيمة مماثلة للتالف كانت الآية الشريفة أجنبيّة عن المدّعى. وعليه فالاستدلال بها منوط بالتوسعة في المماثلة كما تقدّم مشروحا في (ص ٣٣٩).

(٦) تعليل لقوله : «خصوصا» وقوله : «ذلك» إشارة إلى «الاستدلال».

(٧) أي : جعل القيمة من باب الأقرب إلى التالف بعد تعذّر المثل ، فتكون المماثلة في الماليّة.

٤٦٨

وكيف كان (١) فقد حكي الخلاف في ذلك عن الإسكافي (٢) ، وعن الشيخ والمحقّق في الخلاف والشرائع في باب القرض (٣).

فإن أرادوا ذلك (٤) مطلقا

______________________________________________________

(١) أي : سواء أكان مقتضى إطلاقات ضمان القيميّات ضمانها بالقيمة مطلقا سواء تيسّر المثل أم تعذّر ، أم كان مقيّدا بتعذر المثل ، فقد حكي .. إلخ.

وغرضه من هذا الكلام الخدشة في الإجماع بمخالفة ابن الجنيد في مطلق المضمون ، ومخالفة شيخ الطائفة والمحقّق في خصوص باب القرض. وهل تقدح هذه المخالفة في تحقّق الإجماع على ضمان القيميّ بالقيمة أم لا؟ سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى.

(٢) أمّا أبو علي فقد تقدّم كلامه في أوّل الأمر السادس ، فراجع (ص ٢٩٥) وأمّا الشيخ والمحقّق فيظهر منهما في باب القرض ثبوت نفس مثل العين المقترضة في ذمّة المديون ، قال في الخلاف : «إذا لم يجد مال القرض بعينه وجب عليه مثله ، وعليه أكثر أصحاب الشافعيّ .. دليلنا : أنّه إذا قضى مثله برئت ذمّته ، وإذا ردّ قيمته لم يدلّ دليل على براءتها. وأيضا : فالذي أخذه عين مخصوصة ، فمن نقل إلى قيمتها فعليه الدلالة» (١).

وقال في الشرائع : «وما ليس كذلك ـ أي مثليّا ـ يثبت في الذّمّة قيمته وقت التسليم. ولو قيل يثبت مثله أيضا كان حسنا» (٢).

(٣) وأمّا في باب الغصب فوافقا المشهور من التفصيل بين المثليّ والقيميّ.

(٤) أي فإن أرادوا وجوب المثل في القيميّات. ناقش المصنّف قدس‌سره في القول بضمان القيميّ بالمثل بعدم خلوّه من شقّين ممنوعين.

توضيحه : أنّ القائلين بوجوب المثل في القيميّ إن أرادوا ذلك مطلقا سواء تيسّر المثل أم تعذّر ، ففيه : أنّه مردود بإطلاقات روايات ضمان القيميّات بالقيم في

__________________

(١) الخلاف ، ج ٣ ، ص ١٧٥ ، رقم المسألة : ٢٨٧.

(٢) شرائع الإسلام ، ج ٢ ، ص ٦٨.

٤٦٩

.................................................................................................

______________________________________________________

موارد كثيرة ، كصحيحة أبي ولّاد الآتية ، وروايات تقويم العبد المشترك الذي أعتق بعض مواليه شقصه ، وروايات سقوط الدين بتلف الرّهن ، المتقدّمة في (ص ٣٣٨) وروايات متفرّقة اخرى وردت في ضمان القيميّات. ولم يقيّد وجوب أداء القيمة فيها بتعذّر المثل حتى يستكشف منها أنّ العين التالفة تضمن بالمثل سواء أكانت مثليّة أم قيميّة كي يكون أداء القيمة ـ في القيميّات ـ بدلا عمّا اشتغلت به الذّمّة وهو المثل.

وعليه فمقتضى أصالة الإطلاق ضمان القيميّ بالقيمة ، وأنّها بدل عن العين المضمونة ، وليست بدلا عن المثل.

وإن أرادوا من ضمان القيميّ بالمثل ضمانه عند تيسّر المثل ـ لا مطلقا ـ لم يكن ذلك بعيدا ، لوجهين :

أحدهما : ظهور آية الاعتداء في اعتبار المماثلة بين التالف وبدله ، ومن المعلوم أنّ المماثل للتالف القيميّ هو المثل العرفيّ لا القيمة ، فمع تيسّره يتعيّن في البدليّة عن المضمون.

ثانيهما : قاعدة نفي الضرر الجارية في حقّ المالك ، وذلك لأنّ الجهات النوعيّة دخيلة في الضمان ، لتحقّق المماثلة فيها ، دون الجهات الماليّة المعرّاة عن الصفات النوعيّة ، لعدم تحقّق المماثلة حينئذ بين التالف وبدله. فمع تيسّر المثل يتضرّر المالك بقبول القيمة ، لفقدان الصفات النوعيّة ، فإنّ الحنطة ـ في الغرامات ـ بدل الحنطة التالفة المضمونة ، دون القيمة ، فخصوصيّة الحنطية مثلا يتضرّر المالك بفقدها. وعليه فيلزم ردّ المثل في القيميّات مع الإمكان.

هذا ما يقتضيه الوجهان. لكن المانع من القول بوجوب المثل المتيسّر ـ في ضمان القيميّات ـ هو عدم القول بالفصل ، لأنّهم بين قائل بضمان القيميّ بالقيمة مطلقا ـ كما هو المشهور ـ سواء وجد المماثل العرفي أم لا ، وبين قائل بضمانه بالمثل مطلقا ، كما يظهر من شيخ الطائفة وغيره في باب القرض ، بلا فرق ـ أيضا ـ بين تيسّر المثل

٤٧٠

حتّى (١) مع تعذّر المثل ، فتكون (٢) القيمة عندهم بدلا عن المثل حتى يترتّب عليه وجوب قيمة (٣) يوم دفعها ـ كما ذكروا ذلك (٤) احتمالا في مسألة تعيّن القيمة (٥) متفرّعا على هذا القول (٦) ـ فيردّه (٧) إطلاقات الروايات الكثيرة في موارد كثيرة.

______________________________________________________

وتعذّره ، ولم يقولوا ببدليّة القيمة عن المثل في صورة التعذّر حتى يستكشف منه الطولية ، ويكون القيمة بدلا عمّا هو بدل التالف.

والحاصل : أنّ ما ذهب إليه شيخ الطائفة والمحقّق في باب القرض ـ من ترجيح ضمان القيميّ بالمثل ـ لا سبيل للأخذ به في القرض ، فضلا عن القول به في المغصوب والمقبوض بالبيع الفاسد.

(١) بيان للإطلاق.

(٢) هذا متفرع على اشتغال الذّمّة أوّلا بالمثل ، فيكون هو بدل التالف ، ولو تعذّر كانت القيمة بدل المثل لا بدل التالف.

(٣) يعني : إذا كان وجوب دفع القيمة مترتّبا على تعذّر المثل ترتّب عليه وجوب دفع قيمة يوم الأداء ، لا يوم التلف ، ولا يوم تعذّر المثل ، ولا أعلى القيم ، ولا غير ذلك.

ووجه احتمال قيمة يوم الدفع هو : أنّ المثل ثابت في الذّمّة إلى وقت الأداء ، فقيمة يوم الدفع هي ثمن المثل المنتقل إلى القيمة.

(٤) أي : وجوب قيمة يوم الدفع.

(٥) يعني : المسألة التي وقع فيها البحث عن أنّ الواجب هل هو قيمة يوم القبض أو يوم التلف أو أعلى القيم أو غير ذلك؟ مما سيأتي التعرّض له قريبا.

(٦) أي : أنّ القول باعتبار قيمة يوم الدفع متفرّع على القول بضمان القيميّ بالمثل مطلقا ولو مع تعذّره ، فإنّ مقتضاه حينئذ قيمة يوم الدفع ، كما عرفت آنفا.

(٧) جواب الشرط في قوله : «فإن أرادوا ذلك» وهذا إشارة إلى أوّل الشّقّين ، وقد تقدم توضيحه بقولنا : «ففيه أنه مردود بإطلاقات روايات ضمان القيميّات ..».

٤٧١

منها : صحيحة أبي ولّاد الآتية (١).

ومنها : رواية تقويم العبد.

ومنها : ما دلّ على «أنّه إذا تلف الرّهن بتفريط المرتهن سقط من دينه بحساب ذلك» فلولا (٢) ضمان التالف بالقيمة لم يكن وجه لسقوط الدّين بمجرّد ضمان التالف.

ومنها : غير ذلك من الأخبار الكثيرة (٣) (*).

______________________________________________________

(١) لقوله عليه‌السلام : «قيمة بغل يوم خالفته» الظاهر في اعتبار قيمة البغل سواء وجد بغل مماثل للبغل الذي اكتراه أبو ولّاد ، أم لم يوجد. وهكذا حال الإطلاق في روايات عتق العبد.

(٢) هذا تقريب دلالة أخبار تلف العين المرهونة على ضمان القيميّ بالقيمة ، لا بالمثل. ومحصّله : أنّ العين المرهونة لو كانت مضمونة بالمثل لم يكن وجه للحكم بسقوط ما يساويه من الدّين ، بل كان المرتهن ضامنا للمثل ، وكان الدين ـ بتمامه ـ باقيا على عهدة الراهن ، ولا تهاتر في البين. مع أنّ الامام عليه‌السلام حكم بسقوط المقدار المساوي للدين عن ذمّة المديون ، ولم يفصّل بين تيسّر مثل الرهن وتعذّره. وهذا كاشف عن ضمان القيميّ بالقيمة مطلقا سواء تيسّر المماثل العرفي أم تعذّر.

(٣) يعني : من الأخبار المتفرّقة في أبواب العارية والوديعة والإجارة واللقطة

__________________

(*) كرواية السفرة المطروحة في الطريق التي تقدمت في (ص ٣٣٨). لكن الاستدلال بها مشكل ، لقوّة احتمال كونه من باب جواز التصرّف بالقيمة ، نظير التملّك بالقيمة. وباب التقويم مغاير لباب التضمين ، ولذا لا بأس بالالتزام بالتقويم حتى في المثليّ ، بل البيض واللحم اللذان هما في مورد الرواية المزبورة من المثليّات ، فلاحظ وتأمّل. فجعل رواية السكونيّ من الروايات الدالّة على ضمان التالف بالقيمة لا يخلو من تأمّل.

٤٧٢

.................................................................................................

______________________________________________________

وغيرها ، ولا بأس بالتيمّن بذكر بعضها.

فمنها : معتبرة محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «قضى أمير المؤمنين عليه‌السلام في رجل أعار جارية ، فهلكت من عنده ولم يبغها غائلة ، فقضى أن لا يغرمها المعار. ولا يغرم الرجل إذا استأجر الدابّة ما لم يكرهها أو يبغها غائلة» (١).

بتقريب : أنّ الجارية والدابّة قيميّتان ، وهما مضمونتان بالتعدّي عليهما ، ولم يقيّد عليه‌السلام الضمان بالقيمة بتعذّر المثل. فاللازم الحكم بضمانها مطلقا.

ومنها : ما رواه عليّ بن جعفر عن أخيه أبي الحسن عليه‌السلام ، قال : «سألته عن رجل استأجر دابّة فأعطاها غيره ، فنفقت ، ما عليه؟ قال : إن كان شرط أن لا يركبها غيره فهو ضامن لها. وإن لم يسمّ فليس عليه شي‌ء» (٢). وقد أطلق عليه‌السلام الضمان ، مع أنّ المضمون قيميّ ، ولم يقيّد اشتغال الذّمّة بالقيمة بتعذّر المثل.

ومنها : ما ورد في ضمان الغسّال والصّبّاغ والقصّار والصّائغ والبيطار والدلّال ونحوهم ، مع أنّ ما بأيديهم من الأعيان المضمونة قيميّات غالبا ، كمعتبرة الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «سئل عن القصّار يفسد؟ فقال : كلّ أجير يعطى الأجرة على أن يصلح فيفسد فهو ضامن» (٣).

ومنها : ما ورد في ضمان الجمّال والحمّال والمكاري والملّاح ونحوهم إذا فرّطوا أو كانوا متّهمين ولم يحلفوا ، أو شرط عليهم الضمان ، مثل ما رواه أبو بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «في الجمّال يكسر الذي يحمل أو يهريقه؟ قال : إن كان مأمونا فليس

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ٢٣٧ ، الباب ١ من كتاب العارية ، الحديث ٩ ، ونحوه سائر أحاديث الباب.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ٢٥٥ ، الباب ١٦ من أحكام الإجارة ، الحديث : ١ ، ونحوه الحديث : ٢ ، ٣ ، ٤ و ٦ من الباب ١٧ ، ص ٢٥٧ و ٢٥٨.

(٣) المصدر ، ص ٢٧١ ، الباب ٢٩ من أحكام الإجارة ، الحديث ١ ونحوه كثير من روايات الباب البالغة عشرين حديثا.

٤٧٣

وإن أرادوا (١) أنّه مع تيسّر المثل يجب المثل لم يكن (٢) بعيدا ، نظرا إلى ظاهر آية الاعتداء ونفي الضرر ، لأنّ (٣) خصوصيّات الحقائق قد تقصد.

اللهمّ (٤) إلّا أن يتحقّق إجماع على خلافه

______________________________________________________

عليه شي‌ء. وإن كان غير مأمون فهو ضامن» (١).

ومنها : ما ورد في ضمان اللقطة ، كرواية عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهما‌السلام : «سألته عن الرّجل يصيب اللقطة ، دراهم أو ثوبا أو دابّة ، كيف يصنع؟

قال : يعرّفها سنة ، فإن لم يعرف صاحبها حفظها في عرض ماله حتى يجي‌ء طالبها فيعطيها إيّاه ، وإن مات أوصى بها. فإن أصابها شي‌ء فهو ضامن» (٢).

فقد أطلق الحكم بالضمان ، مع أنّ اللقطة قد تكون قيميّة كالدابّة والثوب ، ولم يقيّد ضمان القيمة بإعواز المماثل للتالف.

ومنها : غير ذلك مما لا يخفى على المتتبّع.

(١) معطوف على قوله : «فإن أرادوا ذلك مطلقا» وهذا هو الشّقّ الثاني من المنفصلة ، وقد تقدّم توضيحه بقولنا : «وإن أرادوا من ضمان القيميّ بالمثل ضمانه عند تيسّر المثل ..» راجع (ص ٤٧٠).

(٢) جواب الشرط في قوله : «وإن أرادوا» وظاهره وإن كان تسليم كلام شيخ الطائفة والإسكافي والمحقّق ، لكنّه سيأتي منعه بقوله : «اللهم إلّا أن يتحقق إجماع على خلافه».

(٣) تعليل للضرر ، وقد أوضحناه بقولنا : «وذلك لأن الجهات النوعية دخيلة في الضمان .. إلخ» راجع (ص ٤٧٠).

(٤) هذا منع قوله : «لم يكن بعيدا» وغرضه دفع دخل خصوصيّات الحقائق في الغرامة ، وحاصل الدفع : أنّه إذا قام إجماع على عدم دخل تلك الخصوصيّات في

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ٢٧٦ ، الباب ٣٠ من أحكام الإجارة ، الحديث ٧. ونحوه كثير من روايات الباب.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٧ ، ص ٣٥٢ ، الباب ٢ من أبواب اللقطة ، الحديث ١٣. ونحوه الحديث ١٤.

٤٧٤

ولو (١) من جهة أنّ ظاهر كلمات هؤلاء (٢) إطلاق القول بضمان المثل ، فيكون الفصل بين التيسّر وعدمه (٣) قولا ثالثا في المسألة.

ثمّ إنّهم (٤) اختلفوا في تعيين القيمة في المقبوض بالبيع الفاسد ، فالمحكيّ في

______________________________________________________

الضمان لم يجب حينئذ مراعاتها.

(١) يعني : ولو كان طريق استكشاف الإجماع ـ على عدم دخل خصوصيّات الحقائق في الضمان ـ إطلاق كلمات الإسكافي والشيخ والمحقّق قدس‌سرهم. والمراد من إطلاق قولهم بضمان المثل هو الإطلاق الشامل لصورة تعذّر المثل وتيسّره.

(٢) وهم الإسكافي والشيخ والمحقّق.

(٣) يعني : فيكون الفصل ـ بضمان المثل في الأوّل والقيمة في الثاني ـ قولا ثالثا خارقا للإجماع على ضمان القيميّ بالقيمة ، من غير فرق بين تيسّر المثل وتعذّره.

هذا تمام الكلام في المقام الأوّل ، وهو إثبات ضمان القيميّ بالقيمة لا بالمثل. وسيأتي الكلام في المقام الثاني.

الأقوال في القيمة المعتبرة في ضمان القيميّ

أ : اعتبار قيمة يوم التلف

(٤) هذا شروع في المقام الثاني ، وهو تعيين حدّ القيمة المستقرّة على عهدة الضامن ، إذا اختلفت بحسب الأزمنة ، فهل يضمن قيمة يوم الغصب والقبض ، أم قيمة يوم التلف ، أم قيمة يوم الأداء أم أعلى القيم؟ أقوال.

والمحكيّ عن جماعة هو اعتبار قيمة يوم تلف العين ، لأنّ الواجب ردّ العين ، وإنّما تحقّق الانتقال إلى القيمة بالتلف ، فيوم التلف يوم اشتغال الذّمّة بالقيمة (*).

__________________

(*) والقول بأعلى القيم من حين القبض إلى حين التلف ، لأنّه كالغاصب المأخوذ بأشقّ الأحوال ، ولأنّ العين مضمونة في جميع الأوقات السالفة ، ومقتضى الاشتغال لزوم

٤٧٥

.................................................................................................

__________________

الخروج عن العهدة. نسب هذا القول إلى ابن إدريس.

وقول بضمانه بقيمته يوم قبضه ، اختاره في الشرائع ، وربّما نسب إلى الأكثر ، لأنّه زمان تعلّق الخطاب بالخروج عن العهدة ، ولصحيحة أبي ولّاد الآتية ، بعد وضوح عدم الفرق بين موردها وبين المقبوض بالعقد الفاسد.

وقول بضمانه بأعلى القيم من حين القبض إلى حين التلف بشرط أن يكون التفاوت بسبب نقص في العين أو زيادة ، فلو كان باختلاف السوق لم يضمن. واعتبر قيمة العين يوم التلف.

وهذا منسوب إلى الشهيد في المسالك. ووجهه : أنّه لا بدّ أن يكون المضمون أمرا متأصّلا ، وليس ذلك إلّا الزيادة العينيّة ، وأمّا مجرّد الزيادة السوقية فهو أمر اعتباريّ لا يضمن. مضافا إلى دلالة خبر البغل عليه (١).

وقول بضمان قيمة يوم الأداء ، وهو الذي اختاره السيد في حاشيته ، بدعوى : أنّ نفس العين باقية في العهدة ، ويجب الخروج عنها ، لكن لمّا لم يمكن ردّ نفسها وجب دفع عوضها ، فهي بنفسها باقية في العهدة إلى زمان الأداء ، فالعبرة في القيمة إنّما هي بيوم الأداء.

هذه عمدة الأقوال في المسألة ومبانيها.

وقبل الخوض في تحقيق ما ينبغي الاعتماد عليه من الأقوال لا بأس بتأسيس الأصل في المسألة حتى يكون هو المرجع إذا لم نستفد من الأدلّة شيئا ، فنقول :

إنّه قد يقال : إنّ قاعدة الاشتغال تقتضي وجوب أعلى القيم من زمان القبض إلى زمان الأداء ، فلا بدّ من دفع أعلى القيم ، لتوقّف يقين الفراغ عليه.

لكن الحقّ أنّ المقام من مجاري أصالة البراءة ، لكون الشكّ بين الأقلّ والأكثر الاستقلاليّين.

__________________

(١) مسالك الافهام ، ج ١٢ ، ص ١٨٧.

٤٧٦

غاية المراد (١) عن الشيخين وأتباعهما تعيّن قيمة يوم التلف. وعن الدروس والرّوضة نسبته إلى الأكثر.

والوجه فيه على ما نبّه عليه جماعة منهم العلّامة في التحرير : «أنّ الانتقال إلى البدل إنّما هو يوم التلف ، إذ الواجب قبله هو ردّ العين» (١).

وربّما يورد عليه (٢) : أنّ يوم التلف يوم الانتقال إلى القيمة ، أمّا كون المنتقل إليها قيمة يوم التلف فلا.

______________________________________________________

(١) قال الشهيد قدس‌سره فيه : «وأمّا الضّمان بالقيمة يوم التلف فلأنّ الواجب العين ، وإنّما تحقّق الانتقال إلى القيمة بالتلف. وهو مذهب الشيخين وأتباعهما. وخالف ابن إدريس في ذلك ، وأوجب ضمانه بأعلى القيم من حين القبض إلى حين التلف» (٢).

ونسبه في الدروس (٣) إلى الأكثر. ونقله عنه الشهيد الثاني في الرّوضة ، وهو مذهب ابن البرّاج والعلّامة في المختلف كما في المسالك (٤).

ولكن في كونه اختيار الأكثر تأمّلا ، لمعارضته بما أفاده المحقّق من جعل قول الأكثر ضمان قيمة يوم الغصب ، فراجع (٥).

كما أنّ ما نسب إلى شيخ الطائفة قدس‌سره لا يخلو من شي‌ء ، إذ في موضع من المبسوط (٦) والخلاف ضمان أعلى القيم من يوم الغصب إلى يوم التلف ، واستحسنه المحقّق.

(٢) حاصل الإيراد على كلام العلّامة قدس‌سره هو : أنّ يوم التلف وإن كان يوم انتقال ضمان العين إلى ضمان قيمتها ، ولكنّ مجرّد هذا الانتقال غير كاف في تعيين قيمة

__________________

(١) تحرير الاحكام ، ج ٢ ، ص ١٣٩.

(٢) غاية المراد ، ص ٨٦ ، السطر ١٧.

(٣) الدروس الشرعية ، ج ٣ ، ص ١١٣ ؛ الروضة البهية ، ج ٧ ، ص ٤١.

(٤) مسالك الأفهام ، ج ١٢ ، ص ١٨٦.

(٥) شرائع الإسلام ، ج ٣ ، ص ٢٤٠.

(٦) المبسوط ، ج ٣ ، ص ٧٢ و ٧٥ ؛ الخلاف ، ج ٣ ، ص ٤٩٣ ، المسألة ٩ ؛ شرائع الإسلام ، ج ٣ ، ص ٢٤٠.

٤٧٧

ويدفع (١) بأنّ معنى ضمان العين عند قبضه كونه في عهدته ، ومعنى ذلك (٢) وجوب تداركه (٣) ببدله عند التلف حتّى يكون عند التلف كأنّه

______________________________________________________

وقت التلف ، إذ ربّما يجب أداء أعلى القيم من يوم الغصب إلى التلف. وعليه فلا بدّ من التماس دليل آخر على تعيين قيمة وقت التلف.

ولا يخفى عليك أنّه لم أظفر بمن أورد ـ بهذا الإيراد ـ على القول بضمان قيمة يوم التلف. نعم أورد به المحقّق والشهيد الثانيان وغيرهما على القول بضمان قيمة يوم الغصب «من أنّه أوّل وقت دخول العين في ضمان الغاصب» فأوردوا عليه : «بأنّ معنى ضمان العين حينئذ هو أنّها لو تلفت وجب بدلها وهو القيمة ، لا بمعنى وجوب قيمتها والعين باقية ..» (١).

وهذا الاشكال يمكن تقريره بالنسبة إلى القول بضمان قيمة يوم التلف ، فيقال : إنّ يوم التلف يوم الانتقال إلى القيمة ، وأمّا ضمان خصوص قيمة هذا اليوم فغير لازم.

(١) حاصل هذا الدفع : أنّ استدلال العلّامة قدس‌سره سليم عن الإيراد المتقدّم ، وذلك لأنّ وضع اليد على مال الغير يوجب ضمانه أي دخوله في عهدته ، ويجب عليه ردّه إلى مالكه ما دام موجودا ، ويجب تداركه ببدله بردّ قيمته ـ لكونه قيميّا حسب الفرض ـ إذا تلف ، بحيث تسدّ القيمة مسدّ نفس العين التالفة ، فكأنّها لم تتلف ولم ترد خسارة على المالك أصلا. ومن المعلوم أنّ جبران خسارة المالك يكون بأداء قيمة يوم التلف ، لكون هذه القيمة مساوية في الماليّة للعين التالفة ، ومعه لا وجه لرعاية قيمة العين في المدة المتخللة بين الضمان والتلف ، إذ لم تكن تلك القيم مضمونة حال وجود العين.

وعليه فلا يرد على كلام العلّامة قدس‌سره ما أفيد ، هذا.

(٢) أي : ومعنى كون العين في عهدة الضامن وجوب تداركه .. إلخ.

(٣) الضمائر في «تداركه ، ببدله ، كأنّه ، له ، مقامه» والمستتر في «يكون ، يتلف» راجعة إلى «العين» فالأولى تأنيثها.

__________________

(١) جامع المقاصد ، ج ٦ ، ص ٢٤٦ ؛ مسالك الأفهام ، ج ١٢ ، ص ١٨٥ و ١٨٦ ؛ جواهر الكلام ، ج ٣٧ ، ص ١٠١.

٤٧٨

لم يتلف (١). وتداركه (٢) على هذا النحو بالتزام مال معادل له قائم مقامه.

وممّا ذكرنا (٣) ظهر أنّ الأصل في ضمان التالف ضمانه بقيمته يوم التلف ، فإن خرج المغصوب من ذلك (٤) مثلا فبدليل خارج.

نعم (٥) لو تمّ ما تقدّم عن الحلّيّ في هذا المقام من «دعوى الاتّفاق على كون

______________________________________________________

(١) في جبرانه من حيث الماليّة ، والجابر هو المال حين تلف العين.

(٢) هذا كالصغرى لكبرى الضمان ، فكأنّه قال : الضمان كلّية هو الجبران ، فكأنّه لم يتلف شي‌ء على المالك. والجبران يتحقّق بأداء مال معادل في الماليّة للعين التالفة قائم مقامها. والنتيجة تعيّن قيمة وقت التلف.

(٣) يعني : من وجوب تدارك التالف عند التلف ـ وكون هذا معنى الضمان ـ ظهر .. ، وغرضه تأسيس قاعدة كلّيّة في ضمان القيميّ في كافّة الموارد ، سواء أكان موجب الضمان غصبا أم قبضا بعقد فاسد أم قبضا بالسّوم ، أم عارية مشروطة بالضمان ، أم وديعة كذلك ، أم غير ذلك من أسباب الضمان. ففي جميعها ينبغي تدارك العين القيميّة بقيمتها وقت التلف ، لأنّه وقت انتقال الضمان من العين إلى القيمة.

ولو نهض دليل على ضمان المغصوب بقيمته يوم الغصب كان تخصيصا في أصالة الضمان بقيمة يوم التلف ، ولا مانع من هذا التخصيص ، ولكنه لا يلحقه سائر موارد الضمان ، إلّا إذا تمّ إجماع ابن إدريس قدس‌سره على اتّحاد المبيع بالبيع الفاسد مع الغصب في الأحكام عدا الإثم في الإمساك ، فإنّه يقتضي ضمان المقبوض بالبيع الفاسد بقيمة يوم الغصب لو ثبت ضمان المغصوب به.

(٤) أي : من الأصل المقتضي لضمان التالف ـ كلّيّة ـ بقيمة يوم التلف.

(٥) استدراك على الأصل الذي قرّره بقوله : «وممّا ذكرنا ظهر أنّ الأصل» وغرضه إخراج المبيع بالبيع الفاسد عن الأصل المزبور ، وإلحاقه بالمغصوب في كونه مضمونا بقيمة يوم القبض ، لا يوم التلف.

٤٧٩

المبيع فاسدا بمنزلة المغصوب إلّا في ارتفاع الإثم» ألحقناه (١) بالمغصوب إن ثبت فيه حكم مخالف لهذا الأصل (٢).

بل (٣) يمكن أن يقال : إذا ثبت في المغصوب الاعتبار بقيمة يوم الغصب كما هو ظاهر صحيحة أبي ولّاد الآتية كشف ذلك عن عدم اقتضاء إطلاقات الضمان لاعتبار قيمة يوم التلف ، إذ (٤) يلزم حينئذ أن يكون المغصوب ـ عند كون قيمته يوم التلف أضعاف ما كانت يوم الغصب ـ غير واجب التدارك عند التلف ، لما (٥) ذكرنا من أنّ معنى التدارك التزام بقيمته يوم وجوب التدارك.

______________________________________________________

(١) أي : ألحقنا المبيع فاسدا بالمغصوب ، وضمير «فيه» راجع إلى المغصوب.

(٢) المقتضي للضمان بقيمة يوم التلف.

(٣) غرضه إلحاق المقبوض بالعقد الفاسد بالمغصوب مع الغضّ عن الإجماع الذي ادّعاه الحلّيّ على كون المقبوض بالعقد الفاسد كالمغصوب ، فيكون استدراكا عن قوله : «نعم لو تمّ ما تقدّم .. إلخ» وحاصله : أنّ مفاد الإجماع إلحاق خصوص المبيع فاسدا ـ من موارد الضمانات ـ بالمغصوب في كون المدار على قيمة يوم القبض ، فيبقى غيره من الموارد تحت الأصل المزبور المقتضي لضمان قيمة يوم التلف.

ومفاد قوله : «بل يمكن أن يقال» إلحاق جميع موارد الضمان بالمغصوب ، إذ لو فرض كون قيمة يوم التلف أضعاف قيمته يوم القبض لزم أن يكون الغاصب أحسن حالا من غيره في هذا الفرض ، وهو زيادة قيمته يوم التلف على قيمته يوم الغصب ، وهو باطل بالضرورة ، فينقلب الأصل المزبور إلى أصالة الضمان بقيمة يوم التلف في جميع موارد الضمان ، فصحيحة أبي ولّاد تكشف عن عدم إطلاق في أدلّة الضمان يقتضي اعتبار قيمة يوم التلف.

(٤) تعليل للكشف المزبور ، وحاصله : لزوم التالي الفاسد ، وهو كون الغاصب أحسن حالا من غيره.

(٥) علّة لقوله : «يلزم» وبيان لوجه اللزوم ، يعني : يترتّب اللازم الباطل المزبور

٤٨٠