هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٣

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٠

حتى يوفيه بذلك البلد» (*) ثمّ قال : «إنّ الكلام في القرض كالكلام في الغصب» (١).

وحكي نحو هذا (٢) عن القاضي أيضا ، فتدبّر (٣).

______________________________________________________

(١) بخلاف السّلم ، فليس للمشتري مطالبة المسلم فيه ـ ولا بدله ـ في غير بلد العقد ، سواء أكان لنقله مئونة أم لا. كذا أفاده شيخ الطائفة قدس‌سره تلو عبارته المتقدّمة.

(٢) أي : حكي نحو هذا التفصيل عن القاضي (١) كما حكي عن شيخ الطائفة قدس‌سرهما.

(٣) لعلّه إشارة إلى : أنّ هذا التفصيل بشقوقه أجنبيّ عن موضوع البحث ، لأنّ مورد كلامه هو صورة وجود المثل في بلدي التلف والمطالبة ، ومورد البحث هو تعذّر المثل ، فكان الأنسب نقل كلام المبسوط في ذيل الفرع المتقدّم في الأمر الخامس في قبال قول الحلّيّ والعلّامة والفخر والشهيد قدس‌سرهم القائلين بجواز مطالبة المثل عند التمكّن منه مطلقا كما صنعه في الجواهر.

مع أنّ الشقّ الأوّل من تفصيله راجع إلى جواز المطالبة في غير بلد التلف من دون تعرض فيه لتعيين القيمة. والشق الثاني راجع إلى جواز المطالبة في صورة تساوي

__________________

(*) الحق أن يقال : إنّ اعتبار زمان القيمة كاعتبار مكانها. فعلى القول ببقاء العين أو المثل على العهدة فالعبرة بقيمة بلد الأداء ، كما تقدّم في زمان الأداء. ولا فرق بين الزمان والمكان من هذه الجهة.

وعلى القول بأنّ أداء القيمة عند تعذّر المثل غرامة للعين. فالعبرة بقيمة بلد تلف العين.

وعلى القول بكون التعذّر موجبا لضمان القيمة ، فالتعذّر البدويّ موجب لضمان قيمة بلد التلف ، والتعذّر الطاري موجب لضمان قيمة بلد التعذّر. وفي جميع الصور لا بدّ من لحاظ الأوصاف الدخيلة في الرغبات والماليّة.

__________________

(١) المهذب ، للقاضي ابن البرّاج ، ج ١ ، ص ٤٤٣.

٤٤١

ويمكن أن يقال (١) : إنّ الحكم باعتبار بلد القرض ، أو السّلم (٢) ـ على القول به

______________________________________________________

القيمتين ، وهو غير محلّ الكلام. والشقّ الثالث راجع إلى عدم جواز المطالبة بالمثل في غير بلد التلف ، وموضوعه وجود المثل ، وهو غير محلّ البحث.

(١) الظاهر أنّ غرضه قدس‌سره من هذه العبارة المناقشة في تفصيل المبسوط ، وبيانه : أنّ قوله في الشّقّ الثالث : «وإلّا فالحكم أن يأخذ قيمة بلد التلف أو يصبر حتى يوفيه بذلك البلد» مشكل ، لاقتضاء أدلّة الضمان ـ كآية الاعتداء بالمثل ـ اشتغال عهدة الضامن ببدل المغصوب ، وللمالك مطالبته منه ، سواء أكانا في بلد الضمان أم في بلد آخر ، وسواء تساوت القيم في البلدين أم اختلفت. ولا مقيّد في البين حتى يختصّ جواز المطالبة بما إذا كانا في بلد الضمان ، أو تساوت القيمتان في البلدين. بل مقتضى إطلاق الدليل استحقاق المطالبة في بلد آخر حتى إذا كانت القيمة فيه أزيد من بلد الضمان. مع أنّ شيخ الطائفة قدس‌سره منع المالك من مطالبة الزيادة ، وخيّره بين مطالبة قيمة المثل في بلد الضمان وبين الانتظار حتى يؤدّي الضامن البدل في بلد الضمان.

نعم نقول باستحقاق المطالبة بالبدل في خصوص بلد القرض والسّلم ، وذلك لانصراف إطلاق العقد إليه وعدم تقييده بأداء المضمون في مكان آخر كانصراف إطلاق عقد البيع إلى نقد بلد المعاملة لا نقد بلد آخر. وأمّا الغصب وما بحكمه ـ كالمقبوض بالبيع الفاسد ـ فلا عقد حتى يختصّ استحقاق مطالبة البدل ببلد الضمان ، بل مقتضى إطلاق دليل الضمان جواز المطالبة به في بلد آخر حتى مع تفاوت القيمتين.

(٢) قد عرفت فيما نقلناه عن المبسوط أنّ شيخ الطائفة قدس‌سره ألحق القرض بالغصب ، ومقتضاه جريان الشقوق الثلاثة فيه ، ولم يحكم بتعيّن بلد القرض ، وإنّما صرّح بتعيّن بلد العقد في بيع السّلم خاصّة.

وكيف كان فالفرق بين القرض والسّلم ـ بنظر شيخ الطائفة ـ لا يدفع إشكال المصنف عليه ، لأنّ غرضه إبداء الفارق بين الغصب وما بحكمه ، وبين القرض والسّلم.

٤٤٢

مع الإطلاق ـ لانصراف (١) العقد إليه ، وليس (*) في باب الضمان ما يوجب هذا الانصراف (٢).

بقي الكلام في أنّه هل يعدّ (٣) من تعذّر المثل خروجه عن القيمة كالماء على الشاطئ إذا أتلفه في مفازة ، والجمد في الشتاء إذا أتلفه في الصيف ، أم لا؟ الأقوى ـ بل المتعيّن ـ هو الأوّل (٤) ،

______________________________________________________

(١) خبر «إنّ» وضمير «اليه» راجع إلى بلد القرض أو السّلم.

(٢) فالفارق بين الغصب والقرض والسّلم فقدان الانصراف في الأوّل ، لانتفاء موضوعه أعني به العقد. بخلاف القرض والسّلم ، فإنّ عقدهما منصرف إلى بلد العقد.

هذا ما يتعلق بالجهة السادسة.

لحوق حكم سقوط المثل عن الماليّة بتعذّره

(٣) هذه سابعة جهات البحث في الأمر السادس ، وتفترق عن الجهات الستّ المتقدّمة في أنّ الكلام في هذه الجهة ليس في إعواز المثل وعدم وجوده خارجا ، بل في إلحاق سقوطه عن الماليّة بتعذّره حتى ينقلب الضمان إلى القيمة مع تيسّر الكلّي المثليّ ، وذلك كالماء إذا أتلفه في مفازة ، فأراد أداء مقدار مساو له على شاطئ النهر ، والمفروض عدم مالية الماء عليه ، فهل يكفي ردّ المثل ، أم يجب ردّ قيمة التالف في زمان الضمان ومكانه ، أم قيمة المثل آنا قبل سقوطه عن الماليّة؟ وجوه ، ستأتي.

(٤) وهو كون سقوط المثل عن القيمة كتعذّر المثل ، لأنّ المماثلة المعتبرة في ضمان

__________________

(*) إلّا أن يقال : إنّ المنساق من أدلّة الضمانات أيضا اعتبار بلد التلف ، أو البلد الذي وصل إليه العين ، إذ مقتضى المماثلة والبدليّة المستفادة من التغريم ذلك ، فإذا اختلفت القيم باختلاف الأمكنة ، فلا بدّ من اعتبار قيمة بلد تلف العين ، أو بلد وصولها إليه ، فلا يبقى حينئذ فرق بين المقام والقرض والسّلم.

٤٤٣

بل حكي عن بعض (١) نسبته إلى الأصحاب وغيرهم ، والمصرّح (٢) به في محكيّ التذكرة والإيضاح والدروس قيمة المثل في تلك المفازة (٣).

______________________________________________________

المثل يراد بها المماثلة في الحقيقة النوعيّة والماليّة ، إذ المماثلة في الحقيقة النوعيّة فقط ـ بأن تشملهما حقيقة واحدة كصدق طبيعة الماء والجمد على الماء على الشاطئ والثلج في الشتاء مثلا ، من دون الماليّة ـ لا توجب المماثلة المقصودة في باب الضمان ، وهي المماثلة في الحقيقة والماليّة معا.

(١) الحاكي هو السيّد العاملي قدس‌سره : «وفي جامع المقاصد نسبته إلى الأصحاب وغيرهم» (١). وعبارة المحقّق الكركي قدس‌سره هذه : «فالمختار هو وجوب القيمة ، ولا محيد عن مختار الأصحاب وغيرهم في ذلك» (٢).

وظاهر نسبته إلى الأصحاب إجماعهم على الانتقال إلى القيمة.

(٢) الظاهر أنّ غرضه الخدشة في الإجماع المستفاد من كلام المحقّق الكركي قدس‌سره وذلك لأنّهم اختلفوا في القيمة المستقرّة في عهدة الضامن ، هل هي قيمة المغصوب كالثلج التالف في الصيف ، أم قيمة المثل؟ ذهب العلّامة في التذكرة والقواعد ، وفخر المحققين والشهيد (٣) إلى اعتبار قيمة المثل في مثل تلك المفازة ـ في مثال إتلاف الماء في الصيف ـ أو قيمة مثل ذلك الجمد. وذهب المحقّق الكركي إلى ضمان قيمة المغصوب (٤) ، لا المثل ، ومعه كيف يدّعى الإجماع على ضمان قيمة المغصوب؟

(٣) يعني : أنّ العبرة في تقويم المثل ـ الذي سقط عن القيمة ـ بقيمته في تلك المفازة ، أي : قيمته في المكان الذي أتلفه فيه.

بناءً على عدم ضمان إرتفاع القيمة السوقيّة وإنحطاطها. فحينئذٍ يكون

__________________

(١) مفتاح الكرامة ، ج ٦ ، ص ٢٥٢.

(٢) جامع المقاصد ، ج ٦ ، ص ٢٥٨.

(٣) تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٣٨٣ ؛ إيضاح الفوائد ، ج ٢ ، ص ١٧٧ ؛ الدروس الشرعية ، ج ٣ ، ص ١١٣.

(٤) جامع المقاصد ، ج ٦ ، ص ٢٥٥.

٤٤٤

ويحتمل آخر مكان أو زمان سقط المثل به عن الماليّة (١) (*).

______________________________________________________

المضمون آخر زمان أو مكان ماليّته ، لأنّه بعد فرض ضمان ماليّة المال المضمون كنوعيّته ـ وعدم ضمان ارتفاع القيمة السوقيّة ـ يكون المدار في الضمان آخر أزمنة وأمكنة ماليّته ، بمعنى سقوطه عن الماليّة بعد ذلك الزمان والمكان.

مثلا إذا كان قيمة إناء الماء في المفازة درهمين ، فتوجّها نحو الشاطئ ، وتنزّلت قيمته إلى نصف درهم ، لقرب المسافة إلى النهر ، ولم تقلّ عن هذا الثمن بعدها ، بل سقطت عن الماليّة بالكليّة ، كان المدار على آخر مكان الماليّة ، وهو نصف الدرهم في المثال.

وكذا الحال في إتلاف الجمد في الصيف وهو زمان ارتفاع قيمته ، وتتنزّل ماليّته في فصل الخريف شيئا فشيئا كلّما قرب الشتاء ، فالمدار على قيمته النازلة التي تسقط عنها بعد ذلك الزمان كآخر أيّام الخريف. وهكذا سائر الأشياء المثليّة.

__________________

(*) الأولى التعرّض لحكم سقوط نفس العين عن الماليّة أوّلا ، ثم التكلم في حكم سقوط المثل عن الماليّة ، فنقول : قد أفاد المحقّق الأصفهاني قدس‌سره ما لفظه : «إذا سقط العين عن الماليّة فمقتضى عموم على اليد المستفاد منه كون عهدة العين على ذي اليد كونها مغيّاة بأداء المأخوذ ، فلا ينبغي الشكّ في خروج العين عن العهدة بأدائها وإن سقطت عن الماليّة. كما لا ريب في الخروج عن عهدة العين بأدائها مع تنزّل قيمتها. فيعلم منه أنّ الواجب أداء نفس المأخوذ ، لا بما له من الصفة الاعتباريّة أعني الماليّة ، وإلّا فلا فرق بين سقوطها عن الماليّة رأسا وسقوط مقدار معتدّ به عن ماليتها. ومقتضى دليل من أتلف مال الغير فهو له ضامن ليس إلّا تدارك المال بالحمل الشائع ، لا تدارك الماليّة (١).

وهو قدس‌سره تبع شيخه المحقّق الخراساني قدس‌سره (٢) ، وحاصله : أنّ ردّ العين وإن سقطت

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٩٧.

(٢) حاشية المكاسب ، ص ٣٩.

٤٤٥

.................................................................................................

__________________

عن الماليّة ، لكنّه يصدق عليه أنّه ردّ لما أخذه.

هذا إذا كان دليل الضمان «على اليد» فإنّ إطلاق «حتى تؤديه» يقتضي خروج العين عن العهدة بأدائها مطلقا وإن سقطت عن الماليّة.

وأمّا لو كان قاعدة الإتلاف ، فالظاهر منها هو إتلاف المال ـ لا إتلاف الماليّة ـ فسقوط المأخوذ عن الماليّة لا يقدح في ارتفاع الضمان بردّها ، وليس إخراج العين من مكان إلى آخر لا ماليّة لها فيه إزالة لماليّتها ، وليس كجعل الخل خمرا بعلاج ، لأنّه إزالة لوصف الخليّة ، ويتبعه زوال الماليّة ، فضمانه من حيث إزالة الصفة ، لا من حيث إزالة الماليّة.

وفيه : ما مرّ مرارا من : أنّ الأوصاف الدخيلة في الرغبات وزيادة القيم سواء أكانت حقيقية أم اعتباريّة أم إضافيّة مضمونة ، لوقوعها تحت اليد تبعا. وهذا غير القيمة السوقيّة المختلفة زيادة ونقيصة التي هي غير مضمونة كما تقدّم سابقا.

وعليه فصفة الثلج ـ وهي كونه في الصيف ـ توجب الرغبة والماليّة ، بخلاف كونه في الشتاء ، فصفة الصيفيّة كصفة الخليّة مضمونة ، فإذا أبقى الثلج إلى زمان الشتاء لا يكفي ردّه في ارتفاع الضمان ، لبقاء ضمان صفة الصيفيّة الإضافيّة الدخيلة في قيمته في ذمّته ، من غير فرق في ذلك بين كون العين في صورة التلف على العهدة أو المثل.

ويظهر ممّا ذكرنا حال الدراهم التي يسقطها السلطان ، فإنّ الدرهم الموصوف بكونه معتبرا ورائجا مضمون على قابضه ، فلا بدّ في مقام الأداء وتفريغ الذّمّة من لحاظ هذا الوصف ، بأن تلحظ العين وتجبر موصوفة بهذا الوصف ، وإلّا فلم يؤدّ ما عليه ، فإنّ دليل الضمان يشمل العين وصفتها باعتبار واحد ، سواء سقطت العين عن الماليّة رأسا كما إذا كانت مواد الفلوس الرائجة من القرطاس ونحوه ممّا إذا أسقطه السلطان سقط عن الماليّة رأسا ، لعدم الماليّة للمادّة. أم نقصت ماليّتها ، كما إذا كانت مادّتها من الذهب أو الفضّة ، وإسقاط السلطان له أثّر في ماليّته من حيث السكّة فقط دون مادّته ، فإنّ المضمون

٤٤٦

.................................................................................................

__________________

هو العين بوصفها الدخيل في الماليّة ، فالدراهم المزبورة مضمونة بوصفها السّكيّ.

ولا بدّ من حمل إطلاق كلام الأصحاب من «أنه إذا اقترض دراهم ، ثم أسقطها السلطان ليس عليه إلّا الدراهم الاولى» (١) على الدراهم التي لم تخرج عن الماليّة.

كما كان الأمر في الدراهم كذلك ، لأنّ مادّتها كانت من الفضّة التي لها ماليّة. فلا وجه لتنظير المقام أعني به خروج المثل عن الماليّة بالدراهم التي أسقطها السلطان ، وذلك لعدم خروج موادّ الدراهم عن الماليّة.

وأمّا قاعدة الإتلاف فالظاهر أنّ التعبير في دليلها ب «مال الغير». دون «ملك الغير» إنّما هو لأجل إناطة الضمان بماليّة المتلف ، لا بمجرّد إضافة الملكيّة ، إذ لو كانت هي المدار في الضمان لزم التعبير بملك الغير ، فالماليّة ملحوظة على نحو الموضوعيّة في باب الضمان.

نعم الاستيلاء على ملك الغير وإن كان حراما أيضا ، إلّا أنّه ما لم يكن مالا ليس بمضمون ، بل الحرمة تكليفيّة محضة.

فما أفاده قدس‌سره من «عدم ضمان الماليّة ، بل المضمون نفس المال» ممّا لا يمكن المساعدة عليه ، لما عرفت من أنّ كلّ صفة لها دخل في الماليّة مضمونة تبعا للعين ، فنقل العين من مكان إلى مكان آخر لا ماليّة لها فيه إزالة لماليّتها الناشئة عن الصفة الإضافيّة ، فإنّ الثلج المضاف إلى زمان خاص ومكان كذلك صفة دخيلة في ماليّته تلزم رعايتها.

تتمّة : إذا شكّ في خروج العهدة بدفع العين المضمونة التي سقطت عن الماليّة ، فهل الأصل يقتضي الاشتغال ولزوم دفع القيمة أيضا ، أم لزوم دفع العين فقط ، أم القيمة كذلك؟ وهذا الشكّ ناش عن أنّ التدارك هل يجب أن يكون بالماليّة أو بخصوصيّة العين

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ص ٣٩.

٤٤٧

.................................................................................................

__________________

أو بكلتيهما؟ ومقتضى الأصل بقاء العين بماليّتها على العهدة ، وعدم سقوطها بأداء ما سقطت عن القيمة إلّا بأدائها وقيمتها ، فلا وجه لأن يقال : إنّ أداء العين موجب لسقوط الضمان ، واشتغال الذّمّة بخصوصيّة المال مشكوك فيه ، فينفى بالبراءة.

بل يقال : إنّ ضمان العين المتمولّة قد ثبت قطعا واشتغلت بها الذّمّة يقينا ، ودفع العين الساقطة عن الماليّة إلى المالك يوجب الشك في سقوط الضمان ، ومقتضى الاستصحاب بقاء العهدة إلى أن تؤدّى القيمة أيضا ، فاستصحاب بقاء العهدة يقضي بلزوم دفع القيمة أيضا.

وقد نوقش في هذا الأصل بما في حاشية المحقّق الأصفهاني قدس‌سره من «أنّه لا مجال لهذا الأصل ، إذ لم يثبت للعهدة أثر شرعا وعرفا إلّا وجوب دفع العين ، فلا معنى للتعبد بالقيمة من التعبد ببقاء العين إلّا بالأصل المثبت ، لأنّ بقاءها مع دفع العين ملزوم عادة أو عقلا لوجوب التدارك بالماليّة. نعم أصالة بقاء الخروج عن عهدة العين بدفعها قبل سقوطها عن الماليّة لا بأس بها» (١).

وفيه : أنّ أصالة بقاء شغل الذّمّة يستلزم عقلا وجوب الخروج عن العهدة ، وهذا اللازم أعمّ للحكم الواقعيّ والظاهريّ ، نظير وجوب الإطاعة عقلا الذي هو لازم أعمّ للحكم الواقعيّ والظاهريّ ، ووجوب مقدّمة الواجب ، فإنّهما حكمان عقليّان للوجوب الأعمّ من الواقعيّ والظاهريّ.

فإذا ثبت وجوب شي‌ء بالاستصحاب مثلا ترتّب عليه الحكمان العقليان المذكوران ، كما يترتّبان على الوجوب الواقعيّ الثابت بالعلم الوجدانيّ. ومن المعلوم أنّه لا شائبة لمثبتيّة الأصل في هذه الموارد. نظير استصحاب وجوب صلاة الجمعة مثلا ، فإنّ

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٩٧.

٤٤٨

.................................................................................................

__________________

لازمه العقليّ لزوم الإطاعة بإتيان صلاة الجمعة ، لكون الوجوب المستصحب كالوجوب المعلوم لازم الإطاعة عقلا. والمقام كذلك ، إذ العقل كما يحكم بلزوم الخروج عن عهدة مال الغير مع العلم بالاشتغال ، كذلك يحكم به مع استصحاب الاشتغال ، لكون الاستصحاب حجة كحجّيّة العلم عليه ، مع الفرق بينهما من حيث التعبد في الأوّل.

فالمتحصّل : أنّ الغرض من الاستصحاب إثبات الاشتغال فقط ، الذي هو موضوع لحكم العقل بلزوم الخروج عن العهدة بأيّ شي‌ء يمكن ، ومن المعلوم أنّ أداء العين الساقطة عن الماليّة لا يوجب العلم بالخروج عن العهدة ، بل يتوقف العلم به على أداء القيمة أيضا.

ويمكن أن يقال : بعدم الحاجة إلى الاستصحاب ، بل نفس قاعدة الاشتغال كافية في لزوم دفع القيمة أيضا ، لتوقّف اليقين بالفراغ عليه.

وأمّا ما أفاده قدس‌سره أخيرا من الأصل الآخر ـ وهو أصالة بقاء الخروج عن عهدة العين بدفعها قبل سقوطها عن الماليّة ـ ففيه : أنّه من الأصل التعليقيّ ، إذ لا معنى للتنجيزيّ مع عدم تحقّق الدفع. وحجيّة الاستصحاب التعليقيّ الراجع إلى التعليق في الموضوع ـ كالمقام ، لأنّ تقريبه حينئذ هو : أنّه لو دفع العين قبل خروجها عن الماليّة لكانت مسقطة للعهدة ، والآن كما كان ـ محلّ الاشكال ، لعدم إحراز وحدة الموضوع في حالتي اليقين والشكّ ، مع سقوط العين عن الماليّة في حال الشك.

فالاستصحاب التنجيزيّ القاضي ببقاء العهدة محكّم ، فلا يمكن الاكتفاء في سقوط العهدة بدفع العين الساقطة عن الماليّة ، بل لا بدّ من دفع كلّ من العين والقيمة. أمّا العين فلكونها بشخصها مضمونة. وأمّا القيمة فلكونها كذلك أيضا.

ثمّ إنّ الظاهر أنّ المراد بالقيمة قيمة يوم سقوط العين عن الماليّة ، لأنّه يوم الانتقال إلى القيمة ، لا قيمة يوم الأخذ ، ولا يوم الأداء ، ولا أعلى القيم من زمان الأخذ إلى زمان الأداء ، أو إلى زمان التلف.

٤٤٩

فرع (١) : لو دفع القيمة في المثل المتعذّر مثله ، ثمّ تمكّن من المثل

______________________________________________________

القدرة على المثل بعد دفع القيمة

(١) هذا فرع آخر ممّا تعرّض له المصنّف من المباحث المتعلّقة بإعواز المثل ، وهو : حكم تمكّن الضامن من أداء المثل بعد تعذّره ودفع قيمته إلى المالك ، فهل يجب عليه أداء المثل أم لا؟ ذكر المصنف مباني ثلاثة ، يقتضي اثنان منها عدم الوجوب ، ويحتمل الوجوب بناء على الثالث.

وتوضيحه : أنّه إمّا أن نقول بعدم سقوط المثل عن الذّمّة بسبب التعذّر ، وإمّا أن نقول بسقوط المثل بسبب تعذّره واستقرار القيمة. وبناء على الانقلاب نقول تارة :

إنّ المغصوب بمجرّد تعذّر مثله يصير قيميّا ، واخرى : إنّ نفس المثل بتعذّره ـ الذي هو كالتلف ـ يصير قيميّا. فهذه مبان ثلاثة.

فعلى الأوّل ـ وهو عدم سقوط المثل بالإعواز ـ لا يجب دفع المثل إلى المالك ، لأنّ ما في الذّمّة كان هو المثل إلى زمان دفع القيمة ، ولمّا كان إعطاء القيمة بالتراضي فقد سقط المثل ، لكونه من قبيل الوفاء بغير الجنس مع التراضي ـ كما في القرض ـ ومن المعلوم سقوط ما في الذّمّة به ، فلا وجه لوجوب دفع المثل بعد التمكّن منه.

وعلى الثاني ـ وهو سقوط المثل بالتعذر وصيرورة المغصوب المثليّ قيميّا ـ لا يجب أداء المثل أيضا ، لكون سقوطه بدفع القيمة أولى من الفرض الأوّل ، لأنّ نفس القيمة المدفوعة مصداق لكلّيّ القيميّ الثابت في ذمّة الضامن ، ومن المعلوم أنّ دفع مصداق الطبيعيّ رافع لما في العهدة حقيقة.

وبعبارة اخرى : إنّ نفس القيمة حقّ المضمون له واقعا ـ بناء على انقلاب المضمون المثليّ إلى قيمته ـ فأداؤها إلى المالك أداء حقّه الواقعيّ ، فيتعيّن سقوط الضمان حينئذ.

وعلى الثالث ـ وهو سقوط المثل وانقلابه بقيمته لا بقيمة العين ـ يكون السقوط لأجل كون القيمة بدل الحيلولة عن المثل. فمع التمكّن من أدائه يحتمل وجوب المثل.

٤٥٠

فالظاهر (١) عدم عود المثل في ذمّته ، وفاقا للعلّامة رحمه‌الله (٢) ومن تأخّر عنه (٣) ممّن تعرّض للمسألة ، لأنّ المثل كان دينا في الذّمّة سقط بأداء عوضه مع التراضي ، فلا يعود ، كما لو تراضيا (٤) بعوضه مع وجوده. هذا (٥) على المختار من عدم سقوط المثل عن الذّمّة بالإعواز.

وأمّا على القول بسقوطه (٦) وانقلابه قيميّا ، فإن قلنا بأنّ المغصوب انقلب

______________________________________________________

هذا حكم الشقوق الثلاثة. ومذهب الماتن هو الأوّل.

(١) هذا مختار المصنّف قدس‌سره وفاقا لجمع ، وهو مبنيّ على مذهب المشهور من عدم سقوط المثل بالتعذّر ، كما تقدّم في أوائل هذا التنبيه السادس بقوله : «إنّ المشهور أنّ العبرة في قيمة المثل المتعذّر بقيمته يوم الدفع ، لأنّ المثليّ ثابت في الذّمّة إلى ذلك الزمان ، ولا دليل على سقوطه بتعذّره».

(٢) قال في القواعد : «ولو غرم القيمة ثمّ قدر على المثل فلا تردّ القيمة ، بخلاف القدرة على العين» (١).

(٣) كالشهيدين والمحقّق الكركيّ وغيرهم قدس‌سرهم كما نسبه إليهم السيد العاملي قدس‌سره (٢).

(٤) يعني : أنّ عدم عود المثل المتعذّر إلى الذّمّة ـ بعد القدرة عليه ـ يكون نظير تراضي المالك والضامن على القيمة في صورة التمكّن من المثل ، فلو أخذها المالك لم يكن له مطالبة المثل.

(٥) أي : عدم عود المثل إلى عهدة الضامن مبنيّ على المختار .. إلخ.

(٦) مقتضى السياق رجوع الضميرين إلى «المثل المتعذّر» لكنّه في «انقلابه» لا يخلو من تكلّف. وقد تقدم نظيره في (ص ٤٠٤) فراجع.

__________________

(١) قواعد الأحكام ، ص ٧٩ ، السطر ٢٤ (الطبعة الحجرية).

(٢) مفتاح الكرامة ، ج ٦ ، ص ٢٤٣ ؛ ولاحظ : تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٣٨٣ ، السطر ٣٧ و ٣٨ ؛ الدروس الشرعية ، ج ٣ ، ص ١١٣ ؛ جامع المقاصد ، ج ٦ ، ص ٢٥٥ و ٢٥٦ ؛ مسالك الأفهام ، ج ١٢ ، ص ١٨٤.

٤٥١

قيميّا عند تعذّر مثله (١) فأولى (٢) بالسقوط ، لأنّ المدفوع نفس ما في الذّمّة.

وإن قلنا : إنّ المثل بتعذره ـ النّازل (٣) منزلة التلف ـ صار قيميّا (٤) احتمل (٥) (*) وجوب المثل عند وجوده ، لأنّ (٦) القيمة حينئذ بدل الحيلولة عن المثل ، وسيأتي (٧) أنّ حكمه عود المبدل عند انتفاء الحيلولة.

______________________________________________________

(١) هذا هو مبنى الشقّ الثاني ، المتقدّم بقولنا : «وبناء على الانقلاب فتارة نقول إنّ المغصوب بمجرّد تعذّر مثله يصير قيميّا».

(٢) هذا حكم الشقّ الثاني ، وهو أولوية سقوط المثل عن الذّمّة من الشقّ الأوّل ، لما عرفت من انتقال حقّ المضمون له من المثل إلى القيمة ، فكأنّ العين المضمونة قيميّة من أوّل ضمانها ، لا مثليّة ، فكيف يجب دفع المثل بعد أداء قيمة المضمون؟

(٣) صفة لتعذّر المثل ، يعني : أنّ تعذّر المثل يكون بمنزلة تلف جميع أفراده ، الموجب لتبدّله بالقيمة.

(٤) هذا مبنى الشقّ الثالث ، وقد عرفته بقولنا : «واخرى نقول : إنّ نفس المثل بتعذّره يصير قيميّا».

(٥) هذا حكم الشق الثالث ، وقد تقدم توضيحه بقولنا : «وعلى الثالث ..

يكون السقوط لأجل ..».

(٦) تعليل لاحتمال وجوب المثل ، يعني : أنّ القيمة بدل ماداميّ ، فإذا وجد المبدل سقط البدل عن الاعتبار ، ويرجع الحكم إلى المبدل.

(٧) يعني : في الأمر السابع بقوله : «ثم إنّه لا إشكال في أنّه إذا ارتفع تعذّر ردّ العين وصار ممكنا وجب ردّها إلى المالك».

__________________

(*) لكن هذا الاحتمال ضعيف جدّا ، لأنّه مع فرض الانقلاب يكون ما على العهدة خصوص القيمة ، لا غيرها ، فدفع القيمة رفع لمصداق ما على العهدة ، فلا معنى

٤٥٢

.................................................................................................

__________________

لرجوع المثل ، إذ لم يكن في الذّمّة مثل حتى يرجع بعد وجوده.

نعم في صورة عدم سقوط المثل عن العهدة يتّجه القول بكون القيمة من قبيل بدل الحيلولة ، بدعوى : أنّ القيمة غير جابرة لحيثيّتي النوع والماليّة ، بل جابرة لخصوص حيثيّة الماليّة ، وبدليّتها ناقصة ، فمع التمكّن من الجبران التامّ تعيّن ذلك.

وكيف كان فتفصيل الكلام في المقام : أنّه على القول ببقاء العين على العهدة إلى زمان التدارك والأداء ، وكون أداء المثل أداء ناقصا ، للعذر عن الأداء التامّ بسبب التلف ، وكون أداء القيمة عند تعذّر المثل أداء للعين بوجه أنقص من أداء المثل.

وكذا على القول بكون المثل على العهدة ، وأنّ أداء القيمة أداء ناقص للمثل ، للعذر عن الأداء التام يتعيّن القول بعود المثل ، لارتفاع العذر بوجود المثل عن الأداء التّام ، فلا يكفي الأداء الناقص ، لعدم كونه أداء عند رفع العذر.

والحاصل : أنّ أداء ما في الذّمّة بغير مصداقه أداء ناقص ، ومع التمكّن من أدائه التامّ لا يعدّ الناقص أداء له. نعم لو أسقط صاحب الحق خصوصيّة ما في الذّمّة من العين أو المثل ، وطالب الضامن بأداء غيره ، فمقتضى القاعدة سقوط حقّه عن المثل ولو مع وجوده فضلا عن إعوازه.

هذا كلّه بناء على كون القيمة أداء ناقصا للمثل.

وأمّا بناء على كونها أداء تامّا للمثل ، كما أنّ نفس المثل أداء كامل وجبران تامّ للعين في المثليّات ، فإذا تعذّر المثل ودفع القيمة كانت القيمة تمام الغرامة ومسقطة لما في العهدة ، فليست القيمة غرامة ناقصة ، بل هي تامّة ، فمع وجود المثل يكون هو تمام غرامة العين ، ومع فقده أو كون العين قيميّة تكون القيمة تمام غرامتها وجابرة لتمام الخسارة ، ومعه لا معنى لبقاء المثل على العهدة.

ولا وجه للتفصيل الذي أفاده المصنّف قدس‌سره من «أنّه مع بقاء المثل في الذّمّة لا يعود المثل ، لسقوطه بالقيمة مع التراضي ، ومع سقوط المثل وانتقاله إلى القيمة يحتمل

٤٥٣

.................................................................................................

__________________

القول بعوده بعد وجوده ، لكون القيمة حينئذ بدل الحيلولة عن المثل» وذلك لأنّ الأمر بالعكس ، فإنّ المثل إذا سقط عن الذّمّة وانتقل إلى القيمة ، فالقيمة المدفوعة حينئذ نفس ما على عهدة الضامن ، فيكون من الوفاء بالجنس ، فلا محيص عن السقوط. ولا وجه لعود المثل إلى الذّمّة بعد كون القيمة عين ما في الذّمّة. فلا بدّ في الحكم بعود المثل بعد التمكّن منه من الالتزام ببقاء المثل في العهدة ، وعدم انتقاله بسبب التعذّر إلى القيمة حتى تكون القيمة عند تعذّره من بدل الحيلولة.

ويمكن التفصيل بوجه آخر ، وهو : أنّه إذا كان دفع القيمة بعنوان الصلح عمّا في الذّمّة ، سواء أكان هو العين أم القيمة ، فيسقط ما في العهدة ، ولا يبقى مورد لبدل الحيلولة.

وإن كان بعنوان الغرامة وتدارك ما على الضامن ، فعلى القول بانتقال العين أو المثل المتعذّر إلى القيمة حقيقة فالقيمة المدفوعة عين حقّه ، فلا مورد لبدل الحيلولة حينئذ أيضا.

وعلى القول ببقاء العين أو المثل في الذّمّة إلى زمان التدارك ، وأنّ القيمة غرامة ناقصة ، فالقيمة عند تعذّر المثل تكون من بدل الحيلولة ، لأنّ البدليّة الناقصة العذرية ترتفع ، وتنتقل إلى البدليّة التامّة الاختياريّة.

ولعلّ هذا التفصيل أولى من سابقه ، لأنّه على تقدير كون العين أو المثل في الذّمّة إذا صالح المالك ما على عهدة الضامن بالقيمة فقد سقط ما عليه. ولا معنى لبدل الحيلولة حينئذ.

وعلى تقدير انقلاب العين التالفة أو المثل المتعذّر إلى القيمة تكون القيمة المدفوعة عين ما على العهدة ، لا بدلا عنه حتى يقال : إنّه بدل الحيلولة ، فلا موضوع لبحث البدليّة أصلا.

٤٥٤

السابع (١) : لو كان التالف المبيع فاسدا قيميّا (٢) فقد حكي (٣) الاتّفاق على

______________________________________________________

ضمان القيميّ بالقيمة

(١) الغرض من عقد هذا الأمر بيان جهة أخرى مما يتعلّق بالمبيع بالبيع الفاسد إذا تلف بيد المشتري ، وهي كيفيّة ضمان القيميّات ، وأنّها مضمونة بالقيمة أو بما يماثلها. فإن كانت مضمونة بالقيمة لم يكن للمالك إلزام الضامن بالمثل ، ولا للضامن كذلك. وكذا الحال لو كان القيميّ ـ كالمثليّ ـ مضمونا بالمثل. فيقع البحث في مقامين :

أحدهما : في الدليل على ضمان القيميّ بالقيمة ، لا المثل.

ثانيهما : في تعيين القيمة بحسب تفاوتها في الأزمنة من يوم القبض والتلف ، وأعلى القيم بينهما ، وغير ذلك ممّا سيظهر.

(٢) قد أشرنا إلى تعريف القيميّ في الأمر الرابع ، وأنّه ما يكون مدار ماليّته على الجهات الشخصيّة ، وهذا ممّا يحكم به العرف في باب الضمان.

(٣) هذا شروع في المقام الأوّل ، وقد استدلّ بوجوه على ضمان القيميّ بالقيمة.

الأوّل : الإجماع المنقول الذي ادّعاه الفقيه المتتبّع السيد العاملي قدس‌سره ـ بعد حكاية الشهرة عن الشهيد ـ بقوله : «لا أجد فيه في الباب خلافا ، إلّا ما يحكى عن أبي علي ، وما يظهر من قرض الخلاف ، وما لعلّه يظهر من المحقّق في باب القرض .. وكيف كان فقد اتّفقوا هنا ـ يعني في باب الغصب ـ من غير تأمّل ولا خلاف» (١).

__________________

(١) مفتاح الكرامة ، ج ٦ ، ص ٢٤٣ و ٢٤٤.

٤٥٥

كونه مضمونا بالقيمة (١). ويدلّ عليه الأخبار المتفرّقة (٢) في كثير من القيميّات ،

______________________________________________________

(١) خلافا للإسكافي والشيخ والمحقّق في باب القرض.

لكن صحّة نسبة الخلاف إلى الإسكافي لا تخلو عن إشكال ، لعدم ظهور عبارته المحكيّة فيما نسب إليه ، وتقدّم التعرّض له عند كلام المصنّف في أوّل التنبيه السادس ، وسيأتي أيضا. وأمّا مخالفة شيخ الطائفة والمحقّق قدس‌سرهما فهي مبنية على ثبوت التلازم بين القرض والمقام أعني به المقبوض بالعقد الفاسد ، المحكوم بحكم الغصب ، وهو غير ثابت.

(٢) أي : ويدلّ على ضمان القيميّ بالقيمة الأخبار المتفرّقة الواردة في كثير من القيميّات المضمونة بالإتلاف والالتقاط ونحوهما من موجبات الضمان ، وهذه الأخبار دليل ثان على المدّعى ، وقد تقدّم بعضها في (ص ٣٣٨) كرواية بيع الجارية المسروقة ، وكرواية السفرة وغيرهما ، ونذكر بعضها الآخر هنا ، فنقول وبه نستعين :

منها : رواية علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهما‌السلام ، قال : «سألته عن رجل أصاب شاة في الصحراء ، هل تحلّ له؟ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هي لك أو لأخيك أو للذئب ، فخذها وعرّفها حيث أصبتها ، فإن عرفت فردّها إلى صاحبها ، وإن لم تعرف فكلها وأنت ضامن لها ؛ ان جاء صاحبها يطلب ثمنها أن تردّها عليه» (١).

وتقريب الدلالة : أنّ الشاة المضمونة بالالتقاط قيميّة ، فتضمن بقيمتها ، لقوله عليه‌السلام : «يطلب ثمنها أن تردّها عليه».

ومنها : رواية علي بن جعفر عن أخيه عليه‌السلام ، قال : «وسألته عن الرجل يصيب اللقطة ، فيعرفها سنة ، ثم يتصدّق بها ، فيأتي صاحبها ، ما حال الذي تصدّق بها؟ ولمن الأجر؟ هل عليه أن يردّ على صاحبها أو قيمتها؟ قال : هو ضامن لها ، والأجر له ، إلّا أن يرضى صاحبها ، فيدعها والأجر له» (٢).

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٧ ، ص ٣٦٥ ، الباب ١٣ من أبواب اللقطة ، الحديث ٧.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٧ ، ص ٣٥٢ ، الباب ٢ من أبواب اللقطة ، الحديث : ١٤.

٤٥٦

فلا حاجة (١) إلى التمسّك بصحيحة أبي ولّاد الآتية في ضمان البغل (*)

______________________________________________________

والشاهد في كون الملتقط ضامنا لقيمة اللقطة ، لأنّه عليه‌السلام قرّر السائل في اشتغال عهدته بالقيمة ، وقال : «هو ضامن لها».

ومنها : ما رواه زيد بن علي عن آبائه عليهم‌السلام ، قال : «أتاه رجل تكارى دابة فهلكت ، وأقرّ أنّه جاز بها الوقت ، فضمّنه الثمن ولم يجعل عليه كراء» (١). بتقريب : أنّ الدّابة الهالكة قيميّة ، والمستأجر المفرّط ضامن لقيمتها.

ومنها : مرسلة الصدوق عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، في حديث : «وإن وجدت طعاما في مفازة فقوّمه على نفسك لصاحبه ثم كله ، فإن جاء صاحبه فردّ عليه القيمة» (٢). والتقريب كما تقدّم.

ومنها : رواية السكوني عن جعفر عن أبيه عن علي عليهم‌السلام : «أنّه قضى في رجل أقبل بنار فأشعلها في دار قوم ، فاحترقت ، واحترق متاعهم؟ قال : يغرم قيمة الدار وما فيها ثم يقتل» (٣).

والدلالة ظاهرة أيضا ، فإنّ بعض الأمتعة المحترقة قيمي عادة ، وقد حكم عليه‌السلام بضمان قيمة الدار والأثاث.

ومنها : روايات أخر وردت في تلف العين المرهونة سيأتي ذكرها عند تعرّض الماتن لها.

(١) هذا تعريض بما في الجواهر من الاستدلال ـ على ضمان القيميّ بالقيمة ـ

__________________

(*) أورد المحقّق الايرواني قدس‌سره عليه بأنّ «إظهار الاستغناء عن الصحيحة ، ثم العود إلى الاستدلال بها بعد سطرين ليس كما ينبغي» (٤).

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ٢٥٧ ، الباب ١٧ من أبواب الإجارة ، الحديث ٥.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٧ ، ص ٣٥١ ، الباب ٢ من أبواب اللقطة ، الحديث ٩.

(٣) وسائل الشيعة ، ج ١٩ ، ص ٢١٠ ، الباب ٤١ من موجبات الضمان ، الحديث ١.

(٤) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ١٠١.

٤٥٧

.................................................................................................

______________________________________________________

بصحيحة أبي ولّاد الآتية ، وبنصوص ضمان العبد المشترك المعتق بعضه ، قال صاحب الجواهر قدس‌سره : «نعم للمصنّف ـ وهو المحقّق ـ في كتاب القرض ضمان القيميّ بمثله ، وقد سمعت الكلام فيه هناك. كما أنّك سمعت الكلام في المحكيّ عن ابن الجنيد المحتمل لإرادة ما لا ينافي المشهور منه. وعلى تقديره فلا ريب في ضعفه ، لظهور صحيح أبي ولّاد وغيره ممّا دلّ على ضمان الحيوان عبدا كان أو غيره في كون الكلام القيمة ، ومنه نصوص العتق لشريك ، المقتضي للسراية المأمور بها بالتقويم ، فليس للمتلف دفع المثل العرفي إلّا مع رضا المالك. كما أنّه ليس للمالك اقتراحه» (١).

والمستفاد منه : الاستدلال على اعتبار القيمة في ضمان القيميّات بطائفتين من الأخبار.

الأولى : صحيحة أبي ولّاد ، الظاهرة في ضمان البغل بالقيمة ، لقوله عليه‌السلام : «نعم قيمة بغل يوم خالفته» ولمّا كانت البغال والحمير والدّوابّ معدودة من القيميّات ، فلو تلفت اشتغلت الذّمّة بأثمانها لا بأمثالها. وعليه فالصحيحة دليل على تعيّن القيمة في بدليّتها عن العين القيميّة المضمونة.

الثانية : ما ورد من أنّه لو كان عبد مشتركا بين جماعة ، فأعتق أحدهم نصيبه ،

__________________

والأمر كما أفاده ، إذ لو كانت الصحيحة وافية بإثبات ضمان القيميّ بقيمة يوم الغصب أو التلف لم يكن وجه في الاشكال على صاحب الجواهر قدس‌سره المستدلّ بها. وإن لم تكن وافية به لم يبق مجال لقوله بعد سطرين «فيردّه إطلاقات الروايات الكثيرة في موارد كثيرة : منها صحيحة أبي ولّاد الآتية.

ويتأكد الإشكال بناء على ما عن نسخة التهذيب ـ التي عوّل عليها المصنّف ـ من تعريف «بغل» الظاهر في إرادة البغل المعهود ، لا بغل كلّيّ حتى يحتمل ضمان القيميّ بالمثل ، بأن تكون القيمة بدلا عن البدل.

__________________

(١) جواهر الكلام ، ج ٣٧ ، ص ١٠٠.

٤٥٨

.................................................................................................

______________________________________________________

تعيّن عليه دفع قيمة سائر حصصه إلى شركائه ، حتّى يتحرّر العبد كاملا بالسراية. ومن المعلوم أنّ العبيد والإماء قيميّات وليست مثليّة ، فضمان قيمة العبد دليل على أنّ القيميّ لا يضمن إلّا بالقيمة.

وهذه النصوص جمعها الشيخ الحرّ قدس‌سره في باب عنوانه «أنّ من أعتق مملوكا له فيه شريك ، كلّف أن يشتري باقيه ويعتقه إن كان موسرا مضارّا ، وإلّا استسعى العبد في باقي قيمته ، وينعتق ، فإن لم يسع خدم بالحصص» (١).

ففي معتبرة محمّد بن قيس عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : «قضى أمير المؤمنين عليه‌السلام في عبد كان بين رجلين ، فحرّر أحدهما نصفه ، وهو صغير ، وأمسك الآخر نصفه حتى كبر الذي حرّر نصفه. قال : يقوّم قيمة يوم حرّر الأوّل ، وأمر الأوّل أن يسعى في نصفه الذي لم يحرّر حتى يقضيه» (٢).

ونحوه سائر أخبار الباب.

وتقريب الدلالة : أنّ تحرير العبد إتلاف لمال الشريك. وحيث إنّ المضمون قيميّ ـ وهو العبد ـ كان ضمانه بالقيمة ، لقوله عليه‌السلام : «يقوّم قيمة». هذا توضيح نظر الجواهر.

وناقش المصنّف فيه بمنع دلالة صحيحة أبي ولّاد ونصوص تحرير العبد المشترك على ضمان القيميّ بالقيمة. أمّا الصحيحة فلظهورها في ضمان القيميّ بالمثل لا بالقيمة ، فإنّ كلمة «بغل» في قوله عليه‌السلام : «قيمة بغل يوم خالفته» نكرة ، وهي ظاهرة في كون ذي القيمة بغلا غير معيّن ، ويتّجه مذهب القائل بأنّ الثابت في الذّمّة بغل غير معيّن ، وأنّ القيمة بدل عنه ، لا أنّ المضمون قيمة البغل التالف.

وأمّا نصوص العتق فلأنّ الأمر بتقويم العبد ـ المعتق بعضه ـ غير ظاهر في

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٦ ، ص ٢٠ ، الباب ١٨ من أبواب كتاب العتق.

(٢) المصدر ، ص ٢١ ، الحديث ٤.

٤٥٩

ولا بقوله عليه‌السلام : «من أعتق شقصا من عبد قوّم عليه» (١). بل الأخبار كثيرة (٢).

______________________________________________________

ما نحن فيه من ضمان القيميّ بالقيمة ، لاحتمال كون التقويم معاوضة شرعيّة قهريّة ، رعاية لحرّيّة العبد المبعّض.

والمتحصل : أنّ صحيحة أبي ولّاد وأخبار تحرير بعض العبد غير وافية بإثبات المدّعى ، وهو تعيّن القيمة في ضمان القيميّات.

(١) لم أظفر بهذا المتن في جوامع الأخبار من الوسائل وغيره ، فلعلّ المصنّف نقله بالمعنى ، أو اعتمد على ما رواه شيخ الطائفة مرسلا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١).

(٢) يعني : أنّ الأخبار الكثيرة ظاهرة في ضمان القيميّ بالقيمة ، وهي سليمة عن المناقشة ، ومعها لا حاجة إلى الصحيحة ونصوص العتق اللّتين استند إليهما صاحب الجواهر قدس‌سره ، مع ما فيهما من الخدشة كما عرفت آنفا.

ثم إنّه لا بأس بالإشارة إلى نكتة ، وهي : أنّ المصنّف قدس‌سره ادّعى هنا كثرة الأخبار الدالّة على اعتبار القيمة في القيميّات ، لقوله : «الأخبار المتفرّقة في كثير من القيميّات» وقوله : «بل الأخبار كثيرة». وهذا ربّما ينافي ما نبّه عليه في الأمر الرابع من جعل الأخبار المتكفّلة للضمان بالقيمة نادرة جدّا ، حيث قال هناك : «إلّا ما شذّ وندر». فإن كانت هذه الأخبار شاذّة لم يتّجه قوله هنا من : «أنّها كثيرة» وإن كانت كثيرة لم يتجه رميها بالندرة والشذوذ في التنبيه الرابع.

قلت : الظاهر عدم التنافي بين التعبيرين ، فإنّ ندرتها تكون بالقياس إلى النصوص المشتملة على مادّة الضمان والتغريم بصيغ عديدة في مطلق المضمونات. سواء أكانت مثليّة أم قيميّة ، وهي أزيد من مائة رواية قطعا كما لا يخفى على المتتبّع ، وقد ادّعى المصنف هناك انصراف إطلاقها إلى الأقرب إلى المضمون ، وهو المثل ثم القيمة.

__________________

(١) الخلاف ، ج ٣ ، ص ٣٩٦ ، المسألة : ٢ من كتاب الغصب ، وقريب منه بزيادة «وله مال» في عوالي اللئالي ، ج ٣ ، ص ٢٩٨ ، الحديث ٢٤.

٤٦٠