هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٣

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٠

.................................................................................................

__________________

بكون المنفعة هي الحيثية القائمة بنفس العين التي تستوفى تارة ولا تستوفى اخرى. وليس الاستيفاء الذي هو معنى مصدري دخيلا في مفهوم المنفعة التي هي من الحيثيات القائمة بالعين كالدار ، هذا.

ثمّ إنّه لو شكّ في دخل فعل المنتفع في حقيقة المنفعة القائمة بالعين ـ التي وقعت تحت اليد ـ بحيث رجع الى الشبهة المفهومية بأن يدّعى إجمال مفهوم المنفعة ، لم يمكن التمسك بالحديث المزبور ، لعدم جواز التمسك بالدليل مع عدم إحراز موضوعه. كما إذا شك في أنّ مفهوم العالم الواجب إكرامه هل له سعة يشمل العالم الفلسفي أم لا؟ فلا يجوز التمسك لحكمه بدليل وجوب إكرام العالم كما لا يخفى.

القسم الثالث : الحقوق

القسم الثالث : وهو أخذ الحقوق ، والحكم فيه عند جماعة منهم العلّامة المامقاني قدس‌سره هو حكم المنفعة في عدم تناول حديث اليد لها ، لعدم صدق أخذ اليد عليها (١). وعند جماعة أخرى شمول الحديث لها كشموله للمنافع على ما عن غير واحد ، فغصب الحقوق كالتحجير وحقّ السبق إلى المشتركات كالسوق والمسجد والخان ونحوها كغصب الأعيان والمنافع ، فإنّها تدخل تحت اليد ، لصدق الاستيلاء عليها عرفا. ولا يراد من الأخذ القبض حتى يختص المأخوذ بالأعيان. ولا يشمل غيرها من المنافع والحقوق.

وبالجملة : فغصب العين المتعلّقة للحق كغصب العين المتعلقة للملك في شمول النبوي لها ، وأداء الحق بأداء موضوعه ، فأداء حق التحجير والسبق إلى المشتركات بأداء متعلقّه كالأرض والمسجد وغيرهما.

والحاصل : أنّه بناء على ظهور الأخذ باليد والتأدية في العين خاصّة لا يشمل

__________________

(١) غاية الآمال ، ص ٢٧٢.

٤١

.................................................................................................

__________________

النبوي المنافع والحقوق كما عليه غير واحد على ما تقدم آنفا.

القسم الرابع : ما ليس بملك ولا حقّ

القسم الرابع : أعني به ما لا يدخل تحت التسلط بالتملك أو الاستحقاق كالحرّ والخمر والخنزير بالنسبة إلى المسلم. وحكمه على ما ذكره غير واحد من الأصحاب عدم دخوله تحت الحديث الشريف ، لما مرّ من ظهور النبوي في الضمان ، ولا ضمان في غير المملوك بمجرد اليد. ولأنّ غاية الضمان هو الأداء إلى من يجب الدفع إليه كالمالك ونحوه ، ولا تأدية في غير المملوك ، لعدم وجود المؤدّى إليه ، فخروجه عن الرواية واضح.

ولا فرق في غير المملوك بين أن لا يكون قابلا للتملك من أصله كالحرّ المسلم والخنزير وغيرهما ، فإنّ ذلك غير مضمون باليد ، وبين أن يكون قابلا له ولكن لم يجر عليه ملك أحد كالمباحات ، فإنّه لا ضمان في أخذه.

وعن جماعة تعليل الحكم في الحرّ بأنّه لا يدخل تحت اليد.

فإن أرادوا بذلك أنّه لا يدخل تحت اليد شرعا فهو حسن ، إذ ليس الحرّ مالا مملوكا شرعا حتى يدخل تحت اليد ويكون مضمونا على آخذه. لكن مقتضى القواعد هو الأخذ بالمعنى العرفي. وهو الاستيلاء ، ولا مدخل للشرع في ذلك. بل إرادة اليد الشرعية تنتج عكس المدّعى ، إذ يلزم حينئذ عدم ضمان الغاصب ، لأنّه لا يدله شرعا على المال. ويلزم ضمان من له يد على المال شرعا كالأولياء. وهذا عكس المدّعى.

وإن أرادوا بقولهم : «إنّه لا يدخل تحت اليد» عدم دخوله عرفا تحت اليد ، ففيه منع ، ضرورة أنّ الحريّة والرقّيّة أمران اعتباريّان لا مدخل لهما في الصدق العرفي ، بداهة أنّ كل من تسلّط على إنسان بحيث يتصرّف فيه كيف يشاء يقال : إنّه مستول عليه ، وهو في يده ، من غير فرق فيه بين كونه حرّا ومملوكا.

فالأولى أن يقال في عدم ضمانه : إنّ دليل الضمان لا يشمله إذ المتبادر منه هو

٤٢

.................................................................................................

__________________

المملوك ، خصوصا بقرينة قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «حتى تؤدّي» ونحو ذلك ، لظهوره في تأدية المأخوذ إلى مالك أمره ، وإلّا فلا معنى للتأدية ، لقيام التأدية بالمؤدّي والمؤدّى والمؤدّى إليه ، فللتأدية إضافات ثلاث ، فلا يشمل ما لا يقبل الملك كالحرّ والخمر للمسلم ، لعدم من يؤدي إليه المأخوذ.

اللهم إلّا أن يقال : إنّ المملوكية مما لا دخل له في صدق الأخذ والأداء العرفيّين ، فلا يعتبر في الضمان كون المأخوذ مملوكا شرعا. فالقول باعتبار كون المأخوذ ملكا شرعا في صدق الأخذ والأداء خال عن الدليل ، ومناف لأوضاع الألفاظ العربية ، ولا إشعار للأخذ والأداء باعتبار كون المأخوذ مملوكا شرعا.

وعليه فخمر المسلم وخنزيره من جملة مصاديق الحديث ، لثبوت الإضافة العرفية إلى المسلم الموجبة لصدق الأداء إليه المجعول غاية في الكلام.

وكذا الحال في الأوقاف العامة والخاصة ، لثبوت الإضافة إلى الموقوف عليهم المستلزم لتحقق الأخذ والأداء إذا استولى عليها غيرهم.

نعم يخرج الحرّ ، لعدم قابليته للأداء ، لعدم وجود من يؤدّي إليه ولو عرفا ، إذ لا يضاف الحرّ إلى أحد بالمملوكية والاستحقاق. ولولا التقييد بالغاية لقلنا بأنّ من استولى على الحرّ وأثبت يده عليه ضمنه لو تلف تحت يده ، لصدق قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «على اليد ما أخذت» بالمعنى الذي تقدّم ، وهو كون ضمانه وعهدته عليه لو تلف.

والحاصل : أنّ الحر يخرج عن مقتضى الحديث من جهة عدم قابليّته للأداء لأجل عدم وجود من يؤدّي إليه المأخوذ ولو عرفا ، إذ لا يضاف الحرّ إلى أحد بالمملوكية والاستحقاق عرفا أيضا.

وأمّا الخمر والخنزير فلخروجهما عن مفاد الحديث ، لما دلّ على عدم احترامهما ، وإلّا فلا إشكال في صدق الأخذ والأداء عليهما عرفا ، وفي ثبوت الإضافة العرفية لهما إلى المسلم الموجبة لصدق الأداء إليه المجعول غاية في الكلام ، كصدق الأخذ عليهما.

فالمتحصل : أنّ الحرّ خارج عن حيّز الحديث تخصّصا ، لعدم إضافته إلى أحد حتى

٤٣

.................................................................................................

__________________

يصدق الأداء عليه وأنّ الخمر والخنزير اللذين هما تحت يد المسلم خارجان عن حيّز الحديث بالتخصيص ، لصدق الأخذ والأداء عرفا عليهما ، فالخروج حينئذ يكون بالتخصيص الناشئ عمّا دلّ على عدم احترامهما. وعدم كونهما معنونين بعنوان من الملكية والوقفية والزكاة وغيرها حتى يكون بدلهما حافظا لذلك العنوان ، فإنّ من أتلف الغنم التي هي زكاة ، كان بدلها المضمون على المتلف معنونا أيضا بعنوان الزكاة ، ويقال : إنّه زكاة كما كان مبدلها زكاة. وهذا بخلاف الخمر والخنزير المضافين إلى المسلم. هذا.

ثم إنّ ما تقدّم في الحرّ كان بالنسبة إلى نفسه. وأمّا بالإضافة إلى منافعه ، فإن استوفاها الآخذ ضمنها ، لأنّ استيفاء عمل الغير يوجب الضمان ، لقاعدة الاستيفاء. وإن لم يستوفها فضمانها مشكل إلّا أن يتمسك فيه بقاعدة الإتلاف. وقد تقدم شطر من الكلام فيه في بحث عمل الحرّ ، فراجع. (١)

وأمّا حديث «على اليد» فلا يشمل منافع الحرّ ، لأنّ اليد على نفس الحرّ كالعدم فضلا عن منافعه ، فلا بدّ من التمسك فيها بقاعدة الإتلاف ، كما تقدم.

٧ ـ المراد من الأداء المجعول غاية للضمان

بقي الكلام في ارتفاع الضمان المدلول عليه بالحديث. اعلم : أنّه قد جعل في الحديث رافع الضمان التأدية ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «حتّى تؤدي» ومحصل ما يستفاد من هذه الغاية أنّ الغاصب ضامن للمغصوب ، ولا يرتفع ضمانه بمجرّد إذن المالك له في إبقائه تحت يده ، بل المترتب على الاذن ليس إلّا ارتفاع الإثم الذي نشأ عن عدوانية يده ، ولا ملازمة بين ارتفاع الإثم وبين بقاء الحكم الوضعي الثابت إلى أن يتحقق الأداء بتسليمه إلى المالك كما هو قضيّة قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «حتّى تؤدي» فلا يرتفع الضمان إلّا بالأداء.

__________________

(١) هدى الطالب ، ج ١ ، ص ٧١ الى ٨٥.

٤٤

.................................................................................................

__________________

نعم إذا وكّله المالك في التسلّم من قبله ، فتسلّم الغاصب ما غصبه وكالة عن مالكه أمكن القول بارتفاع الضمان حينئذ ، لتبدّل يده العادية باليد الأمانية. فالغاصب لصيرورته وكيلا فعلا صار قبضه وتسلّمه كتسلّم المالك موجبا لارتفاع الضمان عنه ، هذا.

وقد استشكل بعض الفقهاء في ذلك بأنّ ظاهر الحديث هو الضمان ما لم يحصل التسليم والتأدية إلى المالك ، خرج عنه التسليم الى يد الوكيل إذا كان غير الغاصب بالإجماع ، وأمّا الغاصب الوكيل فخروجه غير معلوم ، والأصل يقضي بالعدم ، هذا.

لكنه مندفع بأنّ أدلة الوكالة ـ على فرض تماميتها ـ حاكمة على أدلة الضمان ، لكونها موجبة لتبدل الموضوع الموجب للضمان ، فإنّ موجبه وهو اليد العدوانية يتبدل بسبب الوكالة بالأمانية ، فإذا صارت يد الغاصب أمانيّة ارتفع الضمان. ولا فرق في الحكم بارتفاع الضمان بين الوكيل الغاصب وغيره كما هو مقتضى إطلاق أدلة الوكالة. وإلّا لم يكن وجه لخروج الوكيل غير الغاصب أيضا ، لعدم كونه بالخصوص مورد الإجماع حتى يمتاز به عن الغاصب كما لا يخفى.

ثمّ الظاهر أنّ المراد بالتأدية إلى المالك هو جعله مستوليا عليه. فكما أنّ مجرّد وضع اليد على ثوب الغير ليس غصبا له ، فكذلك مجرّد وضع المالك يده على ما غصب منه من دون استيلائه عليه ـ كما إذا وضع يده على ثوبه الذي غصبه غاصب ـ ليس رافعا للغصب ومصداقا للتأدية الرافعة للضمان. فإذا غصب شخص نقدا من صرّاف ثم دفعه إلى ذلك الصرّاف لينقده لم يكن هذا الدفع ضدّا للغصب وتأدية للمغصوب حتّى يرتفع الضمان ، بل الغاصب ضامن له إذا تلف بآفة سماوية أو أخذه ثالث من يده ، لعدم حصول التأدية الرافعة للضمان.

والحاصل : أنّه لا يصدق التأدية إلى أحد إلّا إذا استولى عليه. ألا ترى أنّ تسليم النقد إلى الصرّاف لينقده لا يسمّى تأدية إليه.

هذا مضافا الى الإجماع المستنبط من تتبّع كلماتهم.

٤٥

.................................................................................................

__________________

وإلى الأصل مع الإغماض عن دلالة الحديث ، فإنّ الاستصحاب يقضي ببقاء الضمان ما لم يحصل استيلاء المالك على المغصوب.

فتلخص : أنّ براءة ذمة الغاصب عن المغصوب منوطة باستيلاء المالك أو من يقوم مقامه عليه ولو قهرا وبدون اطّلاع الغاصب وإذنه ، كما إذا أخذه المالك بالقهر والغلبة واستولى عليه. فالمدار في حصول البراءة ـ وسقوط الضمان ـ على وصول المال إلى مالكه على وجه يكون مستوليا عليه. وهذا المعنى يتحقق قطعا بما إذا دفع المغصوب الى المغصوب منه بعنوان أنّه ماله وملكه ليتصرّف فيه كتصرف سائر الملّاك في أملاكهم كما اختاره الشهيد الثاني قدس‌سره قائلا : «بأنّ التسليم التام إلى المالك الموجب لارتفاع الضمان هو التسليم بهذا النحو» (١).

وأمّا إذا دفع إليه بنحو آخر كعنوان الأمانة المضمونة كالعارية المضمونة ، أو عارية الذهب والفضة مطلقا ، أو غير المضمونة كالوديعة ، أو بعنوان التمليك الضماني كالبيع منه ، أو الهبة المعوّضة أو الإجارة أو الصلح غير المحاباتي أو نحو ذلك أو التمليك المجّاني كالهبة غير المعوّضة ، ففي كونه رافعا للضمان إشكال.

والتحقيق أن يقال : إنّ رافع الضمان هو التأدية التي هي أمر عرفي ، فلا بدّ من تحقق التأدية عرفا. والظاهر تحققا باستيلاء المالك على التصرفات في العين ، بحيث يكون تصرّفه فيها مستندا إلى مالكيّته لها ولو بزعم ملكية جديدة. فالاختلاف في موجبات الملكية لا يمنع عن صدق التأدية ، فإذا دفع المغصوب إلى مالكه بعنوان التمليك الضماني أو المجّاني كان ذلك ردّا للمال إلى مالكه ، لأنّ التأدية مقدمة للوصول إلى المالك بنحو يكون مستوليا عليه ومتصرفا فيه تصرف الملّاك في أملاكهم ، كما كان متصرفا فيه قبل غصب الغاصب. فالتأدية مقدّمة لعود السلطنة التامة التي كانت ثابتة للمالك ، فلا تصدق التأدية على ردّ المال إلى مالكه بعنوان الوديعة أو العارية ، لعدم كونهما موجبين لعود سلطنة المالك ، إلّا إذا علم بالحال. فحينئذ لا يكون قبول المالك

__________________

(١) مسالك الأفهام ، ج ١٢ ، ص ٢٠٥ ؛ الروضة البهية ، ج ٧ ، ص ٥٥.

٤٦

.................................................................................................

__________________

قبولا للوديعة والعارية ، فلا يتحقق عقداهما.

وعلى كلّ حال إذا شك في كون الرّدّ تأدية رافعة للضمان فالاستصحاب يقضي ببقاء الضمان كما لا يخفى.

واعلم أنّ في حكم التأدية الرافعة للضمان إتلاف المالك لما غصب منه إذا كان موجبا لضمانه لو تعلّق بغير ماله.

توضيحه : أنّ إتلاف المالك تارة يكون بنحو يوجب الضمان لو كان المال لغيره ، كما إذا اعتقد أنّ المتاع الفلاني مال زيد ، فغصبه وأتلفه ، ثم تبيّن أنّه له.

وأخرى بنحو لا يوجب الضمان ، كإتلاف الضيف ما قدّمه المضيف إليه من الطعام بالأكل ، فإنّ هذا الإتلاف لا يوجب الضمان ، فلو غصب زيد شاة عمرو ثم أطعمه إيّاها بعنوان الضيافة ، فحينئذ وإن استولت يد المالك على ماله وأتلفه بالأكل ، لكنّه لا يوجب سقوط ضمان الغاصب ، لتغريره للمالك. بل يتأكد الضمان بقاعدة الغرور ، ولذا يستقر الضمان على الغارّ لو أكل المغرور مال ثالث بتغريره.

واتّضح ممّا ذكرنا سرّ ما أفاده الشهيد قدس‌سره في اللمعة وغيره من الفقهاء من : أنّه لو غصب شاة فأطعمها المالك مع جهل المالك بكونها شاته ضمنها الغاصب (١).

فالمتحصل : أنّ إتلاف المالك على الوجه الأوّل ـ وهو اعتقاد المالك بكون المال لغيره ، فأتلفه بقصد الإضرار بمالكه ـ يرفع ضمان الغاصب. بخلاف ما إذا كان على الوجه الثاني ، فإنّه لا يرفعه.

ولو باع المغصوب من مالكه وشرط عليه إتلافه اليوم ، فاشتراه وأحرقه ، فهل يعدّ هذا من الغرور حتى لا يسقط الضمان ، أم لا؟ فيه وجهان ، أظهرهما صدق الغرور عليه عرفا.

هذا تمام الكلام فيما يتعلّق بالنبويّ المشهور. وقد علم مما ذكر وجه دلالته على الحكم الوضعي أعني به ضمان المقبوض بالعقد الفاسد ، والله العالم.

__________________

(١) راجع الروضة البهية ، ج ٧ ، ص ٥٤ ؛ مسالك الأفهام ، ج ١٢ ، ص ١٥٧ و ٢٠٥ ؛ شرائع الإسلام ، ج ٣ ، ص ٢٤٢.

٤٧

ويدلّ على الحكم المذكور (١)

______________________________________________________

الدليل الثالث : أخبار ضمان منفعة الأمة المسروقة

(١) وهو ضمان المقبوض بالبيع الفاسد ، وهذا دليل ثالث على المدّعى ، ومحصّله استظهار الحكم بضمان الأصل بالأولوية من ضمان المنافع غير المستوفاة ، توضيحه : أنّه ورد في عدّة روايات (١) السؤال عن حكم شراء جارية من السوق ، وأنّه استخدمها أو استولدها المشتري ، ثم تبيّن كونها مسروقة ، وقد ظفر بها مالكها. فأجاب عليه‌السلام بأنّ المشتري يأخذ ولده ، ويردّ الجارية وقيمة الولد إلى مالكها.

وتقريب الاستدلال بها على ضمان المقبوض بالعقد الفاسد هو : أنّ جواب الامام عليه‌السلام متضمن لحكمين ، أحدهما : وجوب ردّ الجارية ، وهو مقتضى فرض فساد البيع ، وثانيهما : ـ وهو محل الشاهد ـ كون المشتري ضامنا لقيمة الولد.

والاستدلال بهذا الحكم على ضمان المقبوض بالعقد الفاسد يتوقف على مقدمتين :

الأولى : إثبات كون موجب الضمان هو اليد ، لا غيرها من موجباته كالإتلاف والاستيفاء والتسبيب.

الثانية : إثبات أولويّة ضمان الجارية من ضمان نمائها.

أمّا الأولى فبيانها : أنّ الضمان مستند إلى التلف الحكمي لا إلى الإتلاف والتسبيب والاستيفاء ، وذلك لوضوح أنّ الجارية ومنافعها مملوكة لسيّدها ، ومن منافعها قابليتها للاستيلاد ، فمن استوفى شيئا من منافعها من كنس وطبخ وخياطة ووطي كان ضامنا لبدلها للمالك ، كضمان من يلقي البذر في أرض الغير ويزرعه فيها ، فإذا استولدها المشتري كان الولد منفعة لها ، لكنّه لم يستوف هذه المنفعة ، لأنّ الولد ينعقد حرّا بحكم الشارع تبعا لأبيه ، ولا ينعقد رقّا حتى يقابل بالمال. وعليه فحكمه عليه‌السلام بضمان نمائها ـ وهو الولد ـ إنّما هو لتلفه على مالك الجارية بسبب حرّيّته

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٤ ، ص ٥٩٢ ـ ٥٩٠ ، الباب ٨٨ من أبواب نكاح العبيد والإماء.

٤٨

أيضا (١) قوله عليه‌السلام في الأمة المبتاعة ـ إذا وجدت مسروقة ، بعد أن أولدها المشتري ـ «أنّه يأخذ الجارية صاحبها ، ويأخذ الرجل ولده بالقيمة» (٢)

______________________________________________________

التي هي بحكم التلف السماوي.

فإن قلت : إنّ المشتري بمباشرته للجارية ألقى نطفة الحرّ في رحمها وأتلف على مالكها قابليّتها لأن تصير حاملة بالرّق ، فيكون ضمان قيمة الولد مستندا إلى إتلاف نماء الأمة لا إلى التلف ، لأنّه نظير منع المستأجر أو المالك عن السكنى في الدار ، فإنّ المانع ضامن لاجرة المثل.

قلت : الإتلاف هو إعدام الموجود عن صفحة الوجود ، وهذا غير صادق في المقام ، إذ المشتري بمباشرته معها أحدث نماء لها غير قابل للتملّك ، وعدم تملكه لا يستند إليه ، بل إلى حكم الشارع بحرّيّة الولد تبعا لأبيه في الحرّية ، فلم يبق إلّا أن يكون ضمان قيمة الولد لأجل تلف النماء حكما ، وهو كالتلف الحقيقي السماوي في اقتضائه للضمان.

ويشهد له أن المضمون هو قيمة الولد ، لا قيمة منفعة الجارية وهي قابليّتها للاستيلاد. هذا تقريب كون الضمان للتلف لا الإتلاف.

وأمّا الثانية ـ وهي أولوية ضمان العين من ضمان النماء ـ فواضحة ، لأنّ اليد على المنفعة تابعة لليد على العين ، فإذا حكم الشارع بضمان اليد التابعة فاليد المتبوعة المتأصلة أولى بالضمان قطعا.

هذا بيان الاستدلال بهذه الطائفة على ضمان المقبوض بالعقد الفاسد.

(١) يعني : كما دلّ الإجماع وحديث «على اليد» على ضمان المقبوض بالعقد الفاسد.

(٢) هذا مفاد مرسلة جميل بن درّاج عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «في رجل اشترى جارية فأولدها ، فوجدت مسروقة ، قال : يأخذ الجارية صاحبها ، ويأخذ الرجل

٤٩

فإنّ (١) ضمان الولد بالقيمة ـ مع كونه (٢) نماء لم يستوفه المشتري ـ يستلزم ضمان

______________________________________________________

ولده بقيمته» (١).

وبهذا المضمون روايات أخرى ، منها معتبرة جميل بن درّاج عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «في الرّجل يشتري الجارية من السوق ، فيولدها ، ثم يجي‌ء مستحقّ الجارية ، قال : يأخذ الجارية المستحقّ ، ويدفع إليه المبتاع قيمة الولد ، ويرجع على من باعه بثمن الجارية وقيمة الولد التي أخذت منه» (٢). وكان الأولى الاستدلال بهذه المعتبرة لا بالمرسلة ، ولعلّ نظر المصنف إلى وحدة المضمون المتضافر نقله ، لا إلى خصوصيّة الخبر المتكفّل للحكم ، فتأمّل.

(١) هذا تقريب الاستدلال ، وقد تقدم آنفا ، ومحصّله : أنّ ضمان المنفعة ـ غير المستوفاة ـ للمقبوض بالبيع الفاسد يستلزم بالأولويّة ضمان الجارية لو تلفت بيد المشتري.

(٢) أمّا كون الولد نماء ومنفعة للجارية فواضح ، لأنّه قد تكوّن في رحمها. وأمّا أنّ المشتري لم يستوف هذه المنفعة الخاصة كما استوفى سائر خدماتها من كنس وطبخ وخياطة وشبهها فلأنّ الولد تابع لوالده في الحرّيّة ، فهو من حين انعقاد نطفته يتكوّن حرّا ، ومن المعلوم أنّ الحرّ لا يقوّم بالمال.

وعليه فغرض المصنف من قوله : «لم يستوفه» هو دفع ما توهّمه بعضهم من أنّ ضمان المشتري لقيمة الولد يكون لأجل استيفاء منفعة رحم الأمة بإشغاله بنطفته التي هي نطفة حرّ ، كما يضمن قيمة سائر منافعها المستوفاة ، فتكون الرواية أجنبيّة عن ضمان المقبوض بالبيع الفاسد إذا تلف بيد القابض ، لدلالتها على الضمان باستيفاء المنفعة ، وهو ممّا لا ريب فيه.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٤ ، ص ٥٩٢ ، الباب ٨٨ من أبواب نكاح العبيد والإماء ، الحديث ٣.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٤ ، ص ٥٩٢ ، الباب ٨٨ من أبواب نكاح العبيد والإماء ، الحديث ٥.

٥٠

الأصل بطريق أولى (١).

وليس (٢) استيلادها من قبيل إتلاف النماء (٣) بل من قبيل إحداث

______________________________________________________

وأجاب عنه المصنف بمنع صدق الاستيفاء هنا ، لعدم انتفاع المشتري منها بالولد ، ضرورة عدم مقابلة الحرّ بالمال. وبهذا يظهر الفرق بين الاستيلاد وبين منافعها الأخرى ، لصدق الاستيفاء عليها ، فتكون مضمونة بأجرة المثل ، بخلاف الاستيلاد.

(١) لما عرفت من أنّ اليد على المنافع تكون بتبع اليد على العين ، فإذا كانت اليد التابعة مضمّنة فالأصلية أولى بالتضمين.

(٢) غرضه قدس‌سره دفع إشكال ، محصّله : عدم ارتباط ضمان النماء بما نحن فيه ـ وهو ضمان التلف باليد ـ حتى يصحّ الاستدلال به على ضمان المقبوض بالعقد الفاسد ، وذلك لأنّ مورد الرواية ضمان الإتلاف لا التلف ، وبيانه : أنّ استيلاد الجارية أتلف منفعتها على مالكها ، لأنّ رحمها كان مستعدّا لانماء نطفة الرّق ، وقد سلب المشتري عنه ذلك بإشغاله بنطفته. وبهذا يصدق الإتلاف ، ولا يتوقف صدقه على فعليّة النماء ، بشهادة أنّ من سقى أشجار الغير ـ المستعدة للإثمار ـ بماء مالح يمنعه عن الاثمار يصدق عليه عرفا أنّه أتلف ثمرها. وكذا في المقام ، فإنّ الاستيلاد بمنزلة إتلاف النماء ، لانعقاده حرّا ، هذا.

وقد دفعه المصنف قدس‌سره بمنع صدق الإتلاف ـ الذي هو إعدام الموجود ـ هنا ، إذ ليس للجارية نماء موجود حتّى يتلفه المشتري. بل أحدث فيها نماء غير قابل لأن يتملّكه مالك الجارية ، حيث إن حرّية المشتري منعت ـ شرعا ـ عن انعقاد ولده رقّا. وليس مستند عدم دخوله في ملك مالكها فعل المشتري حتى يضاف التلف إليه ، ويصير هو المتلف له. ولمّا كان الولد بمنزلة التلف على المالك كان ضمان قيمته مقتضيا لضمان التالف الحقيقي بالأولويّة.

(٣) حتى يكون أجنبيّا عن المدّعى وهو ضمان اليد.

٥١

المشتري نماءها غير (١) قابل للملك ، فهو كالتالف (٢) لا كالمتلف (٣) ، فافهم (٤) (*).

______________________________________________________

(١) حال ل «إحداث» يعني : أحدث المشتري باستيلادها نماء غير قابل للدخول في ملك مالك الجارية ، وعدم دخول هذا النماء الخاصّ في ملكه يستند إلى حكم الشارع بحرّية الولد ، لا إلى وطي المشتري لها.

(٢) أي : التالف بالتلف السماوي ، وهو مورد ضمان اليد.

(٣) حتى يكون موردا لإتلاف مال الغير ، فقاعدة الإتلاف أجنبية عنه.

(٤) لعلّه إشارة إلى : دعوى إمكان صدق الإتلاف على مورد الرواية ، فلا يصحّ الاستدلال بها على المقام.

أو إلى : أنّ الاستيلاد إشغال لها بالولد ، فهو استيفاء لنمائها ، فيكون الولد مضمونا بقاعدة الاستيفاء ، لا باليد التي هي مورد البحث ، هذا.

إلّا أن يقال : إنّ الولد من منافع الجارية ، وليس إشغالها بالمحلّ منفعة لها عرفا ، ولذا تضمّنت الرواية قيمة الولد لا قيمة الأشغال.

أو يقال : إنّ الضمان في مورد الرواية إنّما هو لأجل تسليط الغاصب ، بخلاف المقبوض بالعقد الفاسد ، فإنّ التسليط فيه من نفس المالك وإذنه ولو بعنوان الوفاء بالعقد ، فالضمان في مورد الرواية لا يقتضي الضمان في المقام.

إلّا أن يدّعى القطع بكون مناط الضمان فساد العقد ، وهو جار في المقام ومورد الرواية.

لكن هذه الدعوى لا تخلو عن مجازفة.

__________________

(*) لا يخفى أنّه اختلفت أنظار الأعلام قدس‌سرهم في موجب الضمان في النصوص المتكفلة لضمان قيمة الولد ، فاختار المصنّف أنّه التلف الحكمي ، ووافقه المحقق النائيني قدس‌سره ببيان آخر سيأتي التعرّض له ، ورجّح السيد والمحقق الأصفهاني قدس‌سرهما أنّه إتلاف منفعة الرّحم ، واحتمل المحقق الايرواني قدس‌سره كلّا من الاستيفاء والإتلاف.

٥٢

.................................................................................................

______________________________________________________

فلعلّ الأولى أن يكون الأمر بالفهم إشارة إلى : أنّ الوطي إذا كان مانعا عن صدق الإتلاف على حدوث الولد غير قابل للملك ، فلا محالة يكون مانعا أيضا عن صدق الضمان باليد ، ضرورة أنّ التلف تحت اليد إنّما يوجب الضمان باليد إذا كان التالف ملكا للمضمون له. ومن المعلوم أنّ الولد ليس كذلك ، لعدم كونه ملكا لصاحب الجارية ، فلا تكون الرواية شاهدة لما نحن فيه من ضمان المأخوذ باليد ، بل تدلّ على ضمان الولد بسبب تعبّديّ غير الأسباب المعروفة. بل عدم تعرّض الرواية لضمان منافع الأمة من حين الشراء إلى زمان الرّدّ يومي إلى عدم ضمان الرّدّ بالنسبة إلى المنافع.

فالمتحصل : أنّ الروايات الدالة على ضمان قيمة الولد لا تدلّ على ضمان المقبوض بالعقد الفاسد ضمان اليد.

__________________

أمّا المحقق النائيني فقد أفاد في تقريب استناد الضمان إلى التلف ـ لا إلى الإتلاف والاستيفاء والتسبيب ـ ما حاصله : «أنّ استيلاد الأمة ليس داخلا تحت العناوين المذكورة ، لعدم استيفاء المشتري منفعة الأمة ، فإنّ استيفاء المنافع إنما هو من قبيل الركوب على الدابة والسكنى في الدار وأكل الثمرة وشرب لبن الشاة ووطي الجارية ونحوها ، وليس الولد منفعة لها ، ولا ممّا كان المشتري سببا لإتلافها ، إذ ليس الولد ملكا لمالك الأمة حتّى يكون المشتري سببا لإتلافه. وعدّ العرف إيّاه منفعتها لا اعتبار به ، لعدم كون نظره متّبعا في تشخيص المصاديق. نعم أوجد المشتري سبب فوت النماء على المالك ، لأنّ وطيه ـ الذي استلزم الحمل ـ صار سببا لفوت المنفعة عليه ، لكن لا ضمان على من منع المالك من التصرّف حتى تلفت المنفعة. وعليه فضمان قيمة الولد لكونه حرّا إنّما هو من جهة تبعية المنافع التالفة للعين المغصوبة ، فيدلّ الخبر على ضمان العين ، لا للأولوية ، بل لأنّ ضمان العين صار سببا لضمان التالف» (١).

أقول : ما أفاده قدس‌سره مخالف لما استظهره المصنّف قدس‌سره من وجهين : أحدهما : إنكار

__________________

(١) منية الطالب ، ج ١ ، ص ١١٧ و ١١٨.

٥٣

.................................................................................................

__________________

كون الولد منفعة للجارية ، والآخر : إنكار الأولوية ، وجعل ضمان قيمة الولد مسبّبا عن ضمان العين المغصوبة. وصرّح في آخر كلامه بأنّ حكم الشارع بحرّية الولد تلف حكمي ملحق بالتلف الحقيقي.

أمّا إنكار كون الولد نماء للأمة ـ لعدم تبعية نظر العرف المسامحي في مقام تعيين المصاديق ـ فغير ظاهر ، لصدق المنفعة عليه حقيقة ، خصوصا بملاحظة إطلاق الانتفاع على الولد في ما رواه زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام في حكم الجارية المسروقة التي استولدها المشتري : «يردّ إليه جاريته ، ويعوّضه بما انتفع ، قال : كان معناه قيمة الولد» (١) والظاهر أنّ تفسير عوض المنفعة بقيمة الولد من زرارة ، والمهمّ إطلاق المنفعة المستوفاة على الاستيلاد ، إذ لم يذكر في هذه الرواية استيفاء منفعة أخرى من منافع الجارية. وهذا المقدار كاف في عدم العناية والمسامحة في إطلاق المنفعة على الولد.

لكن هذه الرواية ربّما تشكل الأمر على المصنّف قدس‌سره أيضا ، فإنّه وإن اعترف بكون الولد نماء للجارية ، إلّا أنّه ادّعى عدم استيفاء المشتري له ، مع أنّ ظاهر قوله عليه‌السلام : «بما انتفع» بل صريحه كون الولد منفعة مستوفاة ، هذا.

وأمّا إنكار الأولويّة فغير ظاهر أيضا ، لما سيأتي في بحث ضمان المنافع المستوفاة من تأمّل بعضهم في صدق الأخذ عليها ، واختصاص حديث اليد بما يقبل الرّدّ إلى مالكه وهو العين. وحينئذ فإذا حكم الشارع بضمان قيمة الولد الذي هو من قبيل منفعة الجارية كان ضمان نفسها ثابتا بالأولويّة ، مع اعترافه بتسبّب ضمان المنفعة عن ضمان العين ، لليد.

نعم يمكن أن يكون نظر المصنّف الى أنّ الانتفاع لا يختص بما يقوّم بالمال حتى يصدق الانتفاع المالي على الولد ، بل هو أعم من المال والاعتبارات العرفية كتحصيل الوجاهة بين الناس ، ولا شكّ في أن الولد منفعة بهذا المعنى.

هذا مضافا إلى غموض قياس الاستيلاد بمنع المالك عن استيفاء منفعة ملكه ، مع

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٤ ، ص ٥٩١ ، الباب ٨٨ من أبواب نكاح العبيد والإماء ، الحديث ٢.

٥٤

.................................................................................................

__________________

ما في المقيس عليه من الاشكال ، لما ذكرناه في ضمان حبس الحرّ الكسوب من أن تفويت المنافع مضمّن كاستيفائها. والوجه في فساد القياس أنّ الوطي ليس سببا للحمل ، وإنّما هو معدّله ، فتسميته سببا كما ترى. هذا بعض ما يتعلق بكلام المحقق النائيني قدس‌سره.

وأمّا كون الضمان للإتلاف فقد ذكرنا تقريبه في التوضيح عن المحقق الايرواني قدس‌سره (١) ، ومحصّله : إتلاف منافع الرّحم ، ومثّل له بضمان من سقى أشجار الغير بماء مالح منع من إثمارها ، لاستناد التلف إلى فعله.

وقريب منه ما أفاده المحقق الأصفهاني قدس‌سره ، من «أن النطفة وإن كانت من الرّجل ، إلّا أنّها كانت مكمّلة بدم الامّ ، وكانت تكوّنها حيوانا بالقوى المودعة في الرّحم ، فكان صيرورتها حيوانا من قبل الأمّ ، فقد أتلفها الرّجل على الأب [على المالك] خصوصا إذا قيل بتكوّنه من نطفة المرأة ، وكان اللقاح من الرّجل» (٢).

لكن لا يخلو ما أفاداه من الغموض ، فإنّ الإتلاف يقتضي ضمان الدم التالف وقوى الرّحم ، مع أن المضمون في النصوص قيمة الولد. ودعوى «كون قيمة الولد تقديرا لما أصاب من منافع رحمها ولبنها ، فالمضمون حقيقة هي المنفعة التي أتلفها المشتري بالاستيلاد» ممنوعة بأنّه لا شاهد لهذا الحمل ، فيكون تخرّصا على الغيب.

بل يشهد بخلافه ما ورد في رواية أخرى لزرارة ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رجل اشترى جارية من سوق المسلمين فخرج بها إلى أرضه ، فولدت منه أولادا ، ثم أتاها من يزعم أنّها له ، وأقام على ذلك البيّنة. قال : يقبض ولده ، ويدفع إليه الجارية ، ويعوّضه في قيمة ما أصاب من لبنها وخدمتها» (٣) للتصريح بضمان خدمتها مضافا الى ضمان الولد. وعليه فالأقرب ما اختاره المصنّف من كون الضمان للتلف الحكمي لا لسائر موجباته.

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٩٣.

(٢) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٧٥.

(٣) وسائل الشيعة ، ج ١٤ ، ص ٥٩٢ ، الباب ٨٨ من أبواب نكاح العبيد والإماء ، الحديث ٤.

٥٥

ثمّ إنّ هذه المسألة (١) من جزئيات القاعدة المعروفة (٢) «كلّ عقد يضمن بصحيحه يضمن بفاسده (٣). وما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده».

وهذه القاعدة أصلا وعكسا (٤) وإن لم أجدها بهذه العبارة في كلام

______________________________________________________

الدليل الرابع : قاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده»

(١) الظاهر أنّ غرضه قدس‌سره من التعرّض لقاعدة «ما يضمن» هنا هو إقامة دليل رابع على ضمان المقبوض بالبيع الفاسد ، لكونه من صغريات قاعدة «كل عقد يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» المقتضية لاتحاد حكم العقد الصحيح والفاسد في الضمان ، وحيث إنّ البيع الصحيح يقتضي ضمان المشتري بالثمن ، والبائع بالمثمن ، فكذا فاسده.

والأمر كما أفاده قدس‌سره لو تمّت هذه القاعدة في نفسها بأن كانت مجمعا عليها أو دلّ عليها قاعدة الإقدام كما سيأتي نقله عن المسالك. وأمّا إذا كان الدليل عليها قاعدة اليد كما يظهر من المسالك أيضا لم تكن قاعدة «ما يضمن» دليلا مستقلا على ضمان المقبوض بالعقد الفاسد ، إذ المدار حينئذ على ما يستفاد من نفس حديث «على اليد» وبناء على هذا يكون تعرّض المصنّف قدس‌سره لهذه القاعدة هنا مماشاة للأصحاب ، حيث يظهر من بعضهم إرسال القاعدة إرسال المسلّمات.

(٢) قال الفقيه المامقاني قدس‌سره : «وصف القاعدة في الرياض بالشهرة ، وفي كتاب الإجارة منها بكونها متّفقا عليها. وفي شرح القواعد بالشهرة وبكونها مجمعا عليها ، وكونها موافقة للقواعد الشرعية» (١).

(٣) لا يخفى أنّ مورد الاستدلال هنا هو هذه الجملة لا عكسها ، إذ المقصود مضمنيّة قبض المبيع بالعقد الفاسد كالمقبوض بصحيحه.

(٤) التعبير بالعكس مسامحة ، وأطلق المحقق الثاني قدس‌سره العكس على أصل القاعدة ، فقال في عدم ضمان المستأجر للعين ـ سواء أكانت الإجارة صحيحة أم فاسدة ـ : «أمّا الصحيحة فظاهر ، للقطع بأنّ ذلك من مقتضياتها. وأمّا الفاسدة

__________________

(١) غاية الآمال ، ص ٢٧٥

٥٦

من تقدّم على العلّامة (١) ،

______________________________________________________

فلأنّ كل عقد لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده ، وبالعكس» (١) فيكون مراده بالعكس هو أصل قاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده».

وكيف كان فإطلاق العكس على «ما لا يضمن» مسامحة ، لعدم انطباق شي‌ء من العكس المستوي وعكس النقيض عليه. أما الأوّل فلأنّه تبديل طرفي القضية مع بقاء الكيف على حاله. وكلاهما مفقود في المقام ، لعدم تبدل الموضوع والمحمول ، ولعدم تغيير الكيف من الإيجاب إلى السلب ، لقولهم : «لا يضمن بفاسده».

وأمّا الثاني فلأنّ عكس النقيض هو تبديل نقيضي الطرفين مع الاختلاف في الكيف. ووجه عدم صدقه على قاعدة «ما لا يضمن» هو : أنّ الكيف وإن كان مختلفا ، إلّا أن التبديل مفقود ، فالصواب التعبير بالنقيض دون العكس. أو التعبير بما في الجواهر (٢) من المفهوم تارة كما في بيعه ، والسالبة أخرى كما في إجارته.

(١) قال في رهن التذكرة : «إذا فسد الرّهن وقبضه المرتهن لم يكن عليه ضمان ، لأنّه قبضه بحكم أنّه رهن. وكلّ عقد كان صحيحه غير مضمون ففاسده أيضا كذلك. وكلّ عقد كان صحيحه مضمونا ففاسده مثله. أمّا الأوّل فلأنّ الصحيح إذا أوجب الضمان فالفاسد أولى باقتضائه. وأمّا الثاني فلأنّ من أثبت اليد عليه أثبته عن إذن المالك ، ولم يلتزم بالعقد ضمانا ، ولا يكاد يوجد التسليم والتسلّم إلّا من معتقدي الصحة» (٣).

ولا يخفى وقوع السهو في العبارة ـ ولعلّه من الناسخ ـ فإنّ المناسب تبديل «أمّا الأوّل» ب «أمّا الثاني» لأن الأوّل في استدلاله هو قوله : «وكلّ عقد كان صحيحه غير مضمون ففاسده أيضا كذلك». وكذا ينبغي تبديل قوله «وأمّا الثاني» ب «وأمّا الأوّل». والأمر سهل.

__________________

(١) جامع المقاصد ، ج ٧ ، ص ٢٥٨.

(٢) جواهر الكلام ، ج ٢٢ ، ص ٢٥٩ وج ٢٧ ، ص ٢٥٢.

(٣) تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٣٢ ، ولاحظ كلامه في كتاب الإجارة ، ج ٢ ، ص ٣١٨.

٥٧

إلّا (١) أنّها تظهر من كلمات الشيخ رحمه‌الله في المبسوط ، فإنّه علّل الضمان في غير واحد من العقود الفاسدة «بأنّه دخل على أن يكون المال مضمونا عليه» (٢).

______________________________________________________

وقد تعرّض قدس‌سره أيضا لذكر القاعدتين في إجارة التذكرة.

هذا كلّه في ورود القاعدة في كلام العلّامة.

وأمّا ورودها في كلمات من تأخّر عنه كالشهيد والمحقق الثانيين والمحقق الأردبيلي وغيرهم قدس‌سرهم فكثير ، وسيأتي نقل بعض عبائرهم في المتن.

(١) غرضه من هذا الاستدراك أنّ قاعدة «ما يضمن» أصلا وعكسا وإن لم ترد بهذه الألفاظ في كلام من تقدّم على العلّامة ، لكنّها تظهر من كلمات شيخ الطائفة قدس‌سره ، وعلى هذا تكون القاعدة جارية على ألسنة القدماء أيضا ، وليست متداولة بين المتأخرين خاصّة. أمّا أصل القاعدة فتستفاد من مواضع من غصب المبسوط. وأمّا عكسها فيستفاد من كتاب الرّهن.

(٢) كقوله في ضمان المقبوض بالبيع الفاسد : «فإن كان المبيع قائما ردّه ، وإن كان تالفا ردّ بدله ، إن كان له مثل ، وإلّا قيمته. لأنّ البائع دخل على أن يسلم له الثمن المسمّى في مقابلة ملكه ، فإذا لم يسلم له المسمّى اقتضى الرجوع إلى عين ماله. فإذا هلكت كان له بدلها. وكذلك العقد الفاسد في النكاح يضمن المهر مع الدخول ، وكذلك الإجارة الفاسدة. الباب واحد» (١).

وقال في موضع آخر : «وهكذا كلّ ما كان قبضا مضمونا ، مثل أن يأخذه على سبيل السّوم ، أو على أنّه بيع صحيح ، أو كان ثوبا فأخذه على أنّه عارية مضمونة ، فكلّ هذا يستقرّ عليه ، لأنّه دخل على أنه مضمون عليه ، فلم يكن مغرورا فيه» (٢).

وقال أيضا : «لأنّه ـ أي المشتري ـ دخل على أنّ العين عليه مضمونة بالبدل» (٣).

__________________

(١) المبسوط في فقه الإمامية ، ج ٣ ، ص ٦٥.

(٢) المصدر ، ص ٨٩.

(٣) المصدر ، ص ٨٥.

٥٨

وحاصله (١) (*) : أنّ قبض المال مقدما على ضمانه بعوض واقعي أو جعلي موجب للضمان. وهذا المعنى (٢) يشمل المقبوض بالعقود الفاسدة التي تضمن بصحيحها (٣).

______________________________________________________

(١) يعني : وحاصل تعليل الضمان في جملة من العقود الفاسدة ـ بالدخول على الضمان ـ هو : أنّ وضع اليد على مال الغير موجب للضمان إذا كان مقترنا بالبناء على التعهّد ببدله الواقعي ، كما في المقبوض بالسّوم ، أو ببدله الجعلي المسمّى كما في العقود المعاوضية الصحيحة. وهذا الاقدام يمكن أن يكون دليلا على ما ذكره العلّامة والمتأخرون عنه من قولهم : «كلّ ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» الظاهر في جعل الملازمة في مضمّنية العقد المعاوضي بين صحيحه وفاسده. وعلى هذا فقاعدة «ما يضمن» وإن لم يصرّح بها في كلام من تقدّم على العلّامة قدس‌سره ، إلّا أنها مذكورة في المبسوط تلويحا.

(٢) أي : الدخول على الضمان والاقدام عليه ، ومقصود المصنّف قدس‌سره استظهار جريان قاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» في جميع العقود التي توجب صحيحها ضمانا. والوجه في التعميم ـ مع كون كلام الشيخ قدس‌سره مختصا ببعضها كالبيع والإجارة ـ هو جريان الاقدام على الضمان في كل عقد مبني على تعهّد الآخذ حتى في العارية المشروط فيها الضمان أو عارية الذهب والفضة ، فإنّها وإن لم تكن معاوضة ، إلّا أنّ الاستيلاء على العين مبنيّ على الضمان ، هذا.

(٣) كالصلح المتضمن للمعاوضة ، وكالهبة المشروط فيها العوض ، بناء على عدم اختصاص اقتضاء الضمان بنفس العقد ، وشموله للاقتضاء العرضي ، على ما سيأتي في المتن.

__________________

(*) ظاهر هذا التعليل كون سبب الضمان الاقدام ، لكن ظاهر قولهم : «كل ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» هو سببية نفس العقد كالإتلاف للضمان ، فاستظهار قاعدة «ما يضمن» من هذا التعليل الذي ذكره الشيخ قدس‌سره في المبسوط محل نظر.

٥٩

وذكر (١) أيضا في مسألة عدم الضمان في الرّهن الفاسد «أنّ صحيحه لا يوجب الضمان ، فكيف بفاسده؟»

______________________________________________________

(١) غرضه استظهار قاعدة «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده» من كلام شيخ الطائفة في رهن المبسوط ، فيما إذا فسد الرهن لاشتماله على شرط فاسد ، قال قدس‌سره : «إذا رهن رجل عند غيره شيئا بدين إلى شهر ، على أنّه إن لم يقبض إلى محلّه كان بيعا منه بالدين الذي عليه ، لم يصحّ الرّهن ، ولا البيع إجماعا ، لأنّ الرّهن موقّت والبيع متعلّق بزمان مستقبل. فإن هلك هذا الشي‌ء في يده في الشهر لم يكن مضمونا عليه ، لأنّ صحيح الرّهن غير مضمون فكيف فاسده؟ وبعد الأجل فهو مضمون عليه ، لأنّه في يده بيع فاسد ، والبيع الصحيح والفاسد مضمون عليه إجماعا» (١).

والشاهد في قوله : «لأنّ صحيح الرّهن غير مضمون فكيف فاسدة» إذ يستفاد منه الملازمة في عدم الضمان بين الرهن الصحيح والفاسد. وحيث إنّه لا خصوصية في عقد الرّهن أمكن استظهار القاعدة الكليّة ، يعني : أنّ كل عقد صحيح لا يقتضي الضمان ففاسده مثله.

وقد تحصّل إلى هنا استظهار أصل القاعدة وعكسها من كلام شيخ الطائفة ، وإن كان تعبيره مغايرا لتعبير العلّامة ومن تأخّر عنه.

__________________

ثم إنّه قد يورد على الشيخ قدس‌سره بأنّ الإقدام بنفسه ليس علّة للضمان ، فلا يصح تعليل الضمان به. لكنّه يندفع بأنّ الاستدلال به ليس لأجل عليّته له ، بل للتنبيه على أنّه ليس بمانع عن تأثير المقتضي ـ وهو القبض ـ كما هو مورد كلامه في جميع الموارد التي استدلّ فيها على ثبوت الضمان مع فساد العقد ، فتعليل الضمان بالاقدام عليه من قبيل تعليل الشي‌ء بعدم المانع عن تأثير مقتضية.

والحاصل : أنّ في تعليل الشيخ دلالة على الملازمة بين الضمان والاقدام وجودا وعدما.

__________________

(١) المبسوط في فقه الإمامية ، ج ٢ ، ص ٢٠٤.

٦٠