هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٣

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٠

ولعلّه (١) لعدم تنجّز التكليف بالمثل عليه في وقت من الأوقات.

ويمكن أن يخدش فيه (٢) بأنّ التمكّن من المثل ليس بشرط لحدوثه في

______________________________________________________

ينتقل إلى القيمة عند التلف» (١).

ثانيهما : قوله في ضمان المثليّ المتعذّر مثله : «لو لم يكن المثل موجودا وقت التلف فالظاهر أنّ الواجب قيمة التالف. أمّا مع وجوده وعدم التغريم إلّا بعد فقده فإنّه قد استقرّ في الذّمّة ، فيرجع إلى القيمة» (٢).

فيحمل قوله : «فالظاهر أن الواجب قيمة التالف» على قوله : «وإنّما ينتقل إلى القيمة عند التلف» ويصحّ ما نسبه المصنف إليه.

(١) يعني : ولعلّ تعيّن قيمة يوم التلف لأجل عدم تنجّز التكليف بالمثل على الضامن في وقت من الأوقات ، لفقدانه من أوّل الأمر.

(٢) أي : في هذا الوجه. وحاصل الخدشة : إنّ اشتغال الذّمّة بالمثل ليس مشروطا بالتمكّن من أداء المثل ، لا حدوثا ولا بقاء.

ولا يخفى أنّه نوقش في كلام جامع المقاصد بوجهين مذكورين في الجواهر أيضا ، أحدهما حلّي ، والآخر نقضيّ. وارتضى المصنّف الحليّ وتأمّل في النقضيّ.

قال في الجواهر ـ بعد نقل ما استظهره جامع المقاصد من ضمان قيمة يوم التلف في التعذّر البدويّ ـ ما لفظه : «وقد يناقش بعدم المنافاة بين ثبوته في الذّمّة وبين تعذّر أدائه في ذلك الوقت. ودعوى صيرورته قيميّا واضحة المنع ، إذ المثليّ لا يتعيّن كونه كذلك بتعذر المثل. وإلّا لزم عدم وجوب دفعه لو تمكّن منه بعد ذلك قبل الأداء ، لثبوت القيمة حينئذ في الذّمّة ، ولا أظنّ القائل المزبور يلتزمه ، لوضوح ضعفه. فالمتجه ثبوت المثل في ذمّته على كلّ حال. وتعذّر أدائه حال التلف لا يقتضي عدم ثبوته في الذّمّة ، فإن عدم التمكّن من وفاء الدين لا يقتضي عدم ثبوته في الذّمّة ، وحينئذ لم يكن

__________________

(١) جامع المقاصد ، ج ٦ ، ص ٢٤٦.

(٢) المصدر ، ص ٢٥٢.

٤٢١

الذّمّة ابتداء ، كما لا يشترط في استقراره استدامة ، على ما اعترف (١) به مع طروء التعذّر بعد التلف (٢). ولذا (٣) لم يذكر أحد هذا التفصيل في باب القرض.

وبالجملة (٤) : فاشتغال الذّمّة بالمثل إن قيّد بالتمكّن لزم الحكم بارتفاعه

______________________________________________________

للتقييد المزبور فائدة» (١).

والإيراد النقضيّ على كلام جامع المقاصد هو قوله : «وإلّا لزم .. لوضوح ضعفه» وما قبله وما بعده هو الإيراد الحلّي الذي ارتضاه المصنّف وأثبته في المتن.

(١) أي : اعترف المحقّق الثاني بعدم اشتراط التمكّن من المثل في استقرار المثل في الذّمّة استدامة ، لأنّه اختار أنّ المعتبر قيمة يوم الإقباض. ولو كان التمكّن من المثل شرطا في صحّة تعلّقه بالغاصب كان اللازم سقوط المثل بمجرّد تعذّره ، وتحقّق الانتقال إلى القيمة ، وقد قال في جامع المقاصد في شرح قول العلامة قدس‌سره : «الخامس القيمة يوم الإقباض» ما نصّه : «هذا هو الأصحّ ، لأنّ الواجب هو المثل ، فإذا دفع بدله اعتبرت البدليّة حين الدفع ، فحينئذ يعتبر القيمة».

وقد نقل المصنف تصريح جامع المقاصد ـ بما ذهب إليه المشهور ـ في أوائل هذا الأمر من كون العبرة بقيمة يوم الدفع بقوله : «وقد صرّح بما ذكرنا المحقّق الثاني ..» ، فراجع ص (٣٨٤).

(٢) أي : تعذّر المثل بعد تلف العين.

(٣) أي : ولعدم دخل التمكّن من المثل في اشتغال الذّمّة به ابتداء لم يذكر أحد التفصيل ـ في باب القرض بين وجود المثل وعدمه ، بأن يقال : مع التمكّن من المثل في المثليّ يثبت في ذمّة المقترض مثله ، ومع عدم التمكّن منه يثبت قيمة العين المقترضة ، بل أطلقوا القول في ذلك ، وقالوا : إنّ العين المقترضة إن كانت مثلية ثبت مثلها في ذمّة المقترض ، وإن كانت قيميّة ثبت قيمتها.

(٤) هذه خلاصة الخدشة ، ومحصّل الكلام : أنّ حصر موضع البحث بالتعذّر

__________________

(١) جواهر الكلام ، ج ٣٧ ، ص ٩٧ و ٩٨.

٤٢٢

بطروء التعذّر ، وإلّا لزم الحكم بحدوثه مع التعذّر من أوّل الأمر.

إلّا أن يقال (١) : إنّ أدلّة وجوب المثل ظاهرة في صورة التمكّن وإن لم يكن مشروطا به عقلا (٢) ، فلا تعمّ صورة العجز (*). نعم (٣) إذ طرء العجز فلا دليل على سقوط المثل وانقلابه قيميّا (٤).

______________________________________________________

الطارئ غير سديد ، إذ لو كان اشتغال الذّمّة بالمثل مقيّدا بتمكّن الضامن منه لزم الحكم بالانقلاب إلى القيمة بمجرّد التعذّر ، سواء طالب المالك به أم لم يطالب ، مع أنّهم اشترطوا أداء القيمة بالمطالبة. وهذا يكشف عن عدم إناطة استقرار المثل في العهدة بتيسّره. ولو لم يكن مقيّدا بتمكّن الضامن تعيّن القول بضمان المثل في الأعيان المثليّة حتى مع تعذّره البدوي.

(١) غرضه توجيه ما أفاده العلّامة والمحقّق الثاني قدس‌سرهما ـ من اختصاص موضوع البحث بالتعذّر الطارئ ـ بما حاصله : أنّ اشتغال الذّمّة بالمثل وإن لم يكن منوطا عقلا ولا عرفا بالتمكّن من أداء ما اشتغلت به الذّمّة ، لكن الدليل لا يدلّ إلّا على اشتغال الذّمّة في صورة التمكّن من أدائه ، فلا تعمّ صورة العجز الابتدائيّ ، فلو وجد المثل ـ حين تلف العين ـ اشتغلت العهدة به ، سواء أدّاه إلى المالك أم لم يؤده إليه حتى أعوز ، فيبقى المثل في الذّمّة إلى إسقاطه بمطالبة المالك.

(٢) مرجعه إلى قصور مقام الإثبات عن شمول صورة التعذّر الابتدائي ، وقد عرفته.

(٣) هذا تتمّة للتوجيه المتقدّم بقوله : «إلّا أن يقال» وغرضه التفصيل في مفاد الدليل بين التعذّر الطاري والابتدائيّ.

(٤) يعني : ومع عدم الدليل على الانقلاب يرجع إلى الاستصحاب.

__________________

(*) مجرد العجز لا يكفي في ثبوت القيمة ، بل المثبت لها هو اعتبار التمكّن في ثبوت المثل حتّى ينتفي بانتفائه ، ويثبت القيمة. وبدون اشتراط التمكّن يدور الأمر بين المثل والقيمة ، ولا دليل على تعيّن القيمة.

٤٢٣

وقد يقال (١) على المحقّق المذكور : إنّ اللازم ممّا ذكره أنّه لو ظفر المالك بالمثل قبل أخذ القيمة لم يكن له المطالبة. ولا أظنّ أحدا يلتزمه (٢). وفيه تأمّل (٣).

______________________________________________________

(١) هذا هو الإيراد النقضيّ الذي أورده صاحب الجواهر على المحقّق الكركي قدس‌سرهما القائل بضمان قيمة يوم التلف في تعذّر المثل ابتداء.

وحاصل النقض : أنّه لو كان الوجه في الانتقال إلى قيمة وقت التلف عدم تنجّز التكليف بالمثل على الضامن في وقت من الأوقات انتقض كلامه بما إذا كان المثل متعذّرا من أوّل الأمر ، ولكن لم يأخذ المضمون له القيمة ، ثم وجد المثل.

والوجه في ورود النقض هو : أنّ المحقّق الكركي يدّعي اشتغال ذمّة الضامن في هذا التعذّر البدويّ بثمن المثل من حين تلف العين المضمونة ، ولم يستقرّ في عهدته المثل أصلا ، فالتمكّن من المثل بعد التلف لا يوجب تبدّل القيمة به. مع أنّه لا سبيل للالتزام بكفاية دفع القيمة مع وجود المثل.

وهذا كاشف عن غموض ما أفاده المحقّق الثاني من عدم اشتغال الذمّة بالمثل في موارد التعذّر البدويّ. فالصحيح اتّحاد التعذّر البدويّ والطارئ حكما ، هذا.

(٢) أي : يلتزم بعدم جواز مطالبة المثل من الضامن إذا تيسّر المثل بعد إعوازه وقبل أخذ القيمة. والوجه في عدم الالتزام بعدم جواز المطالبة هو اشتغال الذّمّة بالمثل.

(٣) تأمّل المصنّف قدس‌سره في ورود هذا النقض على المحقّق الثاني ، وذلك لإمكان الالتزام بجواز المطالبة بالمثل في مورد النقض ، وهو لا ينافي اشتغال الذّمّة بالقيمة في التعذّر الابتدائيّ. والوجه في عدم التنافي بين الحكمين هو : أنّ اشتغال الذّمّة بالمثل مشروط بالتمكّن منه ، ولمّا كان متعذّرا حين التلف ـ كما هو المفروض ـ قلنا : إنّه لا يتنجّز التكليف بالمثل على الضامن ، فإن دفع القيمة سقط المثل عن ذمّته.

__________________

ثمّ إنّ الحقّ عدم الفرق في الحكم الوضعي أعني به اشتغال ذمّة الضامن بالمثل بين صورتي التعذّر البدوي والطاري ، كما في القرض والسّلم.

نعم في الحكم التكليفيّ ـ أعني به وجوب الأداء ـ يكون بينهما فرق ، فإنّه في التعذّر البدويّ يمتنع الوجوب ، لامتناع أداء المثل دائما إذا كان التعذّر كذلك ، لكنّه لا يمتنع

٤٢٤

.................................................................................................

______________________________________________________

وإن لم يدفعها حتى تيسّر المثل لم تفرغ ذمّته بأداء القيمة ، بل يجب عليه دفع المثل ، وذلك لصيرورة كلّ تكليف مشروط فعليّا بفعليّة شرطه ، وبهذا يسلم كلام المحقّق الكركي عن نقض صاحب الجواهر قدس‌سره.

__________________

عن شغل الذّمّة بالمثل. ولا أثر للإعواز بدويّا كان أم طارئا في هذا الحكم الوضعيّ.

نعم توجّه الخطاب بوجوب أداء المثل تكليفا منوط بالقدرة عليه ، وفائدة شغل الذّمّة بالمثل هو تقويمه حال الأداء. نعم إذا ثبت إجماع تعبّديّ على انقلاب المثليّ بسبب التعذّر إلى القيميّ كان ذلك مخصصا لما دلّ على ضمان المثليّ بالمثل والقيميّ بالقيمة ، لكن ثبوته مشكل ، وإلّا لم يقع فيه الخلاف.

والحاصل : أنّ حكم تعذّر المثل حكم تعذّر العين ، لا حكم تلفها ، ومن المعلوم أنّ تعذّر العين لا يوجب الانتقال إلى القيمة ، بل العين تبقى في الذّمّة ، وإنّما يجب على الضامن بدل الحيلولة.

وينبغي التنبيه على أمور :

الأوّل : أنّ المراد بالإعواز الواقع في معقد الإجماع هو معناه العرفيّ ، لا العقليّ الموقوف على فقدان جميع أفراد الكليّ ، لأنّ الإعواز كسائر الألفاظ الواقعة في الكتاب والسنّة ومعاقد الإجماعات ، فيخصّص الإجماع قاعدة السلطنة المقتضية لتسلّط الناس على مطالبة أموالهم سواء كانت خارجيّة أم ذميّة ، فالمالك للمثل الذّمّي مسلّط على مطالبة مثل ماله ، إلّا إذا أعوز المثل. فحينئذ ينتقل بسبب الإجماع إلى القيمة. والإعواز على تفسير العلّامة من عدم وجدانه في البلد وما حوله لا يناط بالتعذّر والتعسّر.

لكن الظاهر خلافه ، لاعتبار المشقّة عرفا في تحقّق الإعواز ، فبدون المشقّة لا ينتقل المثل إلى القيمة استنادا إلى عموم سلطنة المالك على مطالبة ماله.

وما ذكرناه من اعتبار المشقّة في الإعواز هو المتيقّن من معقد الإجماع لو لم يكن ظاهره ، والتعبير بالتعذّر إشارة إلى المشقّة العرفيّة ، وليس المراد بالتعذّر التعذّر العقليّ ، لعدم إناطة شي‌ء من الأحكام الشرعيّة بالأمور العقليّة. فعلى هذا يمكن أن لا يكون في

٤٢٥

.................................................................................................

__________________

تحصيل المثل من خارج نواحي البلد لشخص مشقّة ، ويكون لغيره مشقّة.

فالأولى إحالة المشقّة إلى العرف. وعلى أيّ حال يكون التعذّر شخصيّا لا نوعيّا ولو شكّ في تحقّق الإعواز مفهوما لإجماله فالمعوّل قاعدة السلطنة ، لكون الشك في التخصيص الزائد ، هذا.

لكن الحقّ عدم ثبوت إجماع تعبّديّ على انقلاب المثليّ بتعذّر المثل إلى القيمة ، بل المثل باق في الذّمّة حتى بعد التعذّر.

الثاني : أنّه لا فرق في التعذّر بين أن يكون خارجيّا وشرعيّا ، كما إذا فرض تنجّس جميع أفراد الكليّ المثليّ بحيث لا يمكن تطهيرها مع توقّف الانتفاع المحلّل بها على طهارتها كالدّهن والخلّ ونحوهما ممّا لا يقبل التطهير.

الثالث : أنّه لا فرق في التعذّر بين الذاتي كفقدان الأمثال في الخارج ، وبين العارضي كعدم وصوله إليه لحبس ونحوه ، فإنّ المناط في التعذّر ـ وهو عدم القدرة العرفية على أداء المثل ـ موجود في الجميع.

الرابع : هل يجوز للضامن إجبار المالك على أخذ القيمة مع إعواز المثل أم لا؟ الظاهر العدم ، إذ ليست القيمة متعلّقة للضمان حتى يجوز للضامن إجباره على أخذ القيمة ، بل تعلّق الضمان بالمثل ، فللمالك الصبر إلى أن يوجد المثل وعدم أخذ القيمة.

وهل يجوز للمالك إجبار الضامن على أخذ القيمة منه؟ الظاهر ذلك ، لقاعدة السلطنة الموجبة لجواز مطالبة ماله مع الإعواز ، والصبر إلى تمكّن الضامن من أداء المثل نفسه.

ودعوى كون إجبار الضامن على أخذ القيمة منه ضررا عليه ، فينفى بقاعدته ، غير مسموعة ، لأنّ أخذ القيمة منه ليس ضررا عليه ، بل أداء لما في ذمّته بعد رضا المالك بإلغاء الخصوصيات الدخيلة في متعلّق الضمان أعني به المثل.

إلّا أن يقال : إنّ القيمة ليست مالا للمالك حتى يكون له السلطنة عليها ، وإنّما المال الثابت له في الذّمّة هو المثل ، فليس له إجبار الضامن بالقيمة.

٤٢٦

.................................................................................................

__________________

اللهم إلّا أن يدّعى : أنّ الضمان قد تعلّق بكلّ من المثليّة والماليّة ، وله رفع اليد عن المثليّة والأخذ بالماليّة. لكن قد تقدّم سابقا ما فيه ، فتدبّر.

الخامس : هل العبرة في تقويم المثل مع فرض عدمه بقيمة يوم الإعواز أم يوم الأداء أم يوم المطالبة أم غيرها ممّا بنى عليه في المسألة؟ فلا وجه للترديد بين قيمته في غاية العزّة أو المتوسّط ، إذ المفروض تعيّنها بما بني عليه في المسألة من قيمة يوم إعواز المثل أو غيره مما تقدّم. وبعد اختيار قيمة يوم معيّن لا يبقى مجال للترديد بين حالات القيمة ممن كونها في غاية العزّة ومتوسّطها.

السادس : هل المدار على قيمة المثل المتعذّر في بلد المطالبة أم في بلد الضمان أم في بلد الأداء إذا اختلفت القيم في البلاد؟ الظاهر أنّ المناط قيمة بلد الأداء ، لأنّه بناء على ما هو المشهور المنصور من بقاء المثل في ذمّة الضامن إلى حين الأداء المسقط له لا بدّ من مراعاة قيمة يوم الأداء ، سواء كان الأداء في بلد الضمان أم غيره من البلاد. وقد تقدّم سابقا أنّ ارتفاع قيمة المثل المتعذّر من زمان اشتغال الذّمّة به إلى يوم الأداء غير مضمون ، لأنّ ماليّة الارتفاع المزبور مالية فرضية ، ودليل الضمان لا يشمل غير الماليّة الحقيقية.

نعم لو كانت القيمة مرتفعة بسبب خصوصية بلد التلف فتلك الخصوصية الحافّة بالعين أو المثل مضمونة ، فلا بد من ملاحظة مرتبة من الماليّة ناشئة من خصوصية بلد التلف ، فإذا كان بلد المطالبة غير بلد التلف ، فالمضمون هي القيمة التي روعي فيها خصوصية بلد التلف.

ولو بني على الانتقال إلى القيمة ـ وكونها بدلا عن المثل عند إعوازه ـ تعيّن قيمة بلد التعذّر إن كانت مخالفة لبلد المطالبة في مالية المثل ، إذ المفروض انقلاب المثل من زمان التعذّر إلى القيمة ، فالمتعيّن قيمة يوم إعوازه.

٤٢٧

ثمّ إنّ المحكيّ عن التذكرة «أنّ المراد بإعواز المثل : أن لا يوجد في البلد وما حوله» (١). وزاد في المسالك قوله : «ممّا ينقل عادة منه إليه كما ذكروا في انقطاع المسلم فيه» (٢).

______________________________________________________

هل مناط تعذّر المثل فقده في البلد وما حوله؟

(١) هذه جهة رابعة ممّا يتعلّق بإعواز المثل ، وهي بحث عن تحديد الموضوع أيضا ، وأنّ مناط الإعواز هل هو فقد المثل في جميع الأمكنة ، أم فقده في خصوص بلد التلف وحواليه أم الرجوع فيه إلى العرف؟

قال في التذكرة : «إذا غصب عينا من ذوات الأمثال وتلفت في يده أو أتلفها والمثل موجود فلم يسلّمه حتى فقد أخذت منه القيمة ، لتعذّر المثل ، فأشبه غير المثليّ. والمراد من الفقد أن لا يوجد في ذلك البلد وما حواليه» (١).

(٢) هذا منقول بالمعنى ، وإلّا فعبارة المسالك هكذا : «والمراد من الفقدان أن لا يوجد في ذلك البلد وما حوله ممّا ينقل منه إليه عادة ، كما بيّن في انقطاع المسلم فيه» (٢).

وحاصل ما أفاده في انقطاع المسلم فيه في بلد البائع ـ وإمكان تحصيله من بلد آخر ـ أنّه إن نقله البائع باختيار فهو. وإن لم ينقله إليها ، فإن لم يكن في نقله إليها مشقّة أجبر على النقل. وإن كان فيه مشقّة لم يجبر على نقله إلى البلد» (٣).

فإن كان مراده قدس‌سره من عدم المشقّة هو اعتياد النقل من خارج البلد إلى بلد المعاملة كان كلامه في بيع السّلم موافقا لما أفاده هنا من تعارف النقل من مكان آخر إلى البلد ، وإلّا لم يتّحد مفاد الكلامين ، فلاحظ.

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٣٨٣ ، السطر ١٢.

(٢) مسالك الأفهام ، ج ١٢ ، ص ١٨٣.

(٣) مسالك الافهام ، ج ٣ ، ص ٤٣١.

٤٢٨

وعن جامع المقاصد : «الرجوع فيه (١) إلى العرف».

ويمكن أن يقال (٢) : إنّ مقتضى عموم وجوب أداء مال الناس (٣) وتسليطهم (٤) على أموالهم ـ أعيانا (٥) كانت أم في الذّمّة ـ

______________________________________________________

(١) قال قدس‌سره : «واعلم أنّ المراد من تعذّر المثل أن لا يوجد في ذلك البلد وما حواليه. كذا ذكر في التذكرة. ولم يحدّ ما حواليه. والظاهر أنّ المرجع فيها إلى العرف» (١).

وعلى هذا التحديد لا يعتبر التعذّر والتعسّر في تحصيل المثل.

ثمّ إنّ ظاهر عبارة القواعد المتقدمة هو كون المرجع في تحديد حوالي البلد العرف ، لا في تحديد الإعواز ـ كما هو ظاهر المتن ـ فالصواب تأنيث ضمير «فيه».

(٢) غرضه قدس‌سره تضييق دائرة الإعواز ، وأنّ مقتضى عموم وجوب ردّ الأموال إلى مالكيها هو وجوب ردّها مع وجودها ولو في بلاد نائية ، وكان في تحصيلها مئونة كثيرة ، فدائرة الإعواز حينئذ تكون أضيق ممّا ذكره المحقّق الكركي قدس‌سره.

(٣) كقوله عليه‌السلام : «المغصوب مردود» (٢) بناء على شموله لردّ المثل أو القيمة ، وعدم اختصاصه بردّ نفس المغصوب.

(٤) كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الناس مسلّطون على أموالهم» (٣).

(٥) خبر مقدّم ل «كانت» والجملة مبيّنة ل «أموالهم» يعني : لا فرق في سلطنة الملّاك على أموالهم بين كونها أعيانا خارجيّة كالدينار ، والكتاب والدار ونحوها ، أم أعيانا كلّيّة في ذمّة الآخرين ، فإنّها أموال أيضا ، بشهادة جواز بيعها وشرائها كما تقدّم في أوّل بحث البيع. ولو لا هذا التعميم لم يمكن التمسّك بحديث السلطنة

__________________

(١) جامع المقاصد ، ج ٦ ، ص ٢٤٥.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٧ ، ص ٣٠٩ ، الباب ١ من كتاب الغصب ، الحديث ٣.

(٣) عوالي اللئالي ، ج ١ ، ص ٢٢٢ و ٤٥٧.

٤٢٩

وجوب (١) تحصيل المثل كما كان يجب ردّ العين أين ما كانت ، ولو كانت في تحصيله مئونة كثيرة (٢) ، ولذا (٣) كان يجب تحصيل المثل بأيّ ثمن كان. وليس (٤) هنا تحديد التكليف بما عن التذكرة.

نعم لو انعقد الإجماع على ثبوت القيمة عند الإعواز تعيّن ما (٥) عن جامع المقاصد.

______________________________________________________

لإثبات جواز مطالبة المالك من الضامن بدل ماله التالف أو المتلف ، لوضوح عدم كون ما في الذّمّة عينا خارجيّة حتى يتسلّط المالك عليها.

(١) خبر قوله : «إنّ مقتضى» يعني : أنّ مقتضى عموم الأدلّة وجوب تحصيل المثل على الضامن ، كما يجب عليه ردّ العين أينما كانت.

(٢) كما تقدّم تفصيله في الأمر الخامس.

(٣) أي : ولأجل اقتضاء الأدلّة العامّة وجوب تحصيل المثل كان تحصيله واجبا بأيّ ثمن كان.

(٤) غرضه الإيراد على ما أفاده العلّامة قدس‌سره في التذكرة من إناطة وجوب أداء المثل على الضامن بتيسّره في البلد وحواليه. ومحصّل الإيراد : أنّ مقتضى عموم الأدلّة وجوب أداء المثل حتى لو توقف على نقله من بلد بعيد عن بلد الضمان أو المطالبة ، وبهذا يتضيّق دائرة الإعواز والانقلاب إلى القيمة ، هذا.

ويحتمل أن يكون ما في التذكرة تحديدا لجواز مطالبة المالك للضامن بالقيمة ، لا لانقلاب المثل بها ، وإن كان يجب على الضامن تحصيل المثل.

(٥) من الرجوع في معنى الإعواز إلى العرف ، لأنّ الإعواز الواقع في معقد الإجماع كغيره ـ من الألفاظ الواقعة في الكتاب والسنّة ومعاقد الإجماعات ـ في الرجوع في مفاهيمها إلى العرف ، فيكون الإجماع مخصّصا لعموم دليل السلطنة ، وتختص سلطنة المطالبة بالمثل بما إذا كان موجودا في البلد ونواحيه.

وعليه فقوله : «نعم لو انعقد» تقييد لعموم ما دلّ على وجوب أداء مال الناس وسلطنتهم على أموالهم ، سواء توقّف الرّدّ على تحمّل مشقّة أم لا.

٤٣٠

كما أنّ (١) المجمعين إذا كانوا بين معبّر بالإعواز ومعبّر بالتعذّر كان (٢) المتيقّن الرجوع إلى الأخصّ ـ وهو المتعذّر ـ لأنّه المجمع عليه.

______________________________________________________

(١) غرضه : أنّه لو تمّ الإجماع على ثبوت القيمة عند إعواز المثل ترتّب عليه أمران :

أحدهما : تقييد إطلاق الأدلّة العامّة المقتضي للفحص عن المثل في سائر البلاد ، ونقله إلى بلد المطالبة مقدّمة لأدائه إلى المالك.

ثانيهما : الاقتصار في تقييد الإطلاق على القدر المتيقّن ، والرجوع فيما عداه إلى الإطلاق.

توضيحه : أنّ الأصحاب ـ الّذين أجمعوا على انتقال الضمان من المثل المتعذّر إلى القيمة ـ عبّروا تارة ب «فإن تعذّر المثل ضمن قيمته يوم الإعواز» واخرى ب «ولو أعوز المثل».

والظاهر أنّ «التعذّر» أخصّ من «الإعواز» لظهور التعذّر في فقدان جميع أفراد الكلّيّ حقيقة ، بخلاف الإعواز الذي يراد منه معناه الإضافيّ ، وهو فقدان الأمثال في البلد ونواحيه ، وإن كانت موجودة في سائر البلدان. ولمّا كان التعذّر أضيق دائرة من الإعواز توقّف تقييد الأدلّة العامّة على صدق «التعذّر» ويرجع في ما عداه إلى الإطلاق المقتضي لجواز المطالبة بالمثل ، لعدم اتفاقهم على انتقال الضمان إلى القيمة بمجرّد الإعواز.

هذا بناء على عدم ترادف اللفظين في عبارات المجمعين ، وإلّا فبناء على إرادة معنى واحد منهما ومن «الفقد» المذكور في عبارتي التذكرة والقواعد ـ بأن يراد التعذّر الحقيقيّ في الجميع ، أو العرفيّ الإضافيّ كذلك ـ لم يختلف الحال في تقييد الأدلّة العامّة ، لعدم كون التعذّر أخصّ من الإعواز حينئذ. وكذا الحال إذا كان كلّ من الأعمّ والأخصّ مذكورا في بعض معاقد الإجماعات ، إذ لا ينافي الإجماع على الأخصّ الإجماع على الأعمّ.

(٢) جواب «إذا كانوا» يعني : كان المتيقّن في رفع اليد عن عموم مثل دليل السلطنة الرجوع إلى الأخصّ.

٤٣١

نعم (١) ورد في بعض (٢) أخبار السّلم : «أنّه إذا لم يقدر المسلم إليه (٣) على

______________________________________________________

(١) استدراك على ما تقدّم من تعيّن الاقتصار على عنوان «التعذّر» لكونه أخصّ من «الإعواز» وحاصله : أنّ المراد بالتعذّر ليس هو فقد جميع أفراد الكلّيّ حقيقة ، بل المراد به التعذّر العرفيّ المساوق للإعواز ، وذلك بشهادة ما ورد في أخبار السّلم من : أنّ عدم القدرة على إيفاء المسلم فيه يوجب الخيار للمشتري. ومن المعلوم أنّ المراد به التعذّر العرفيّ المتحقق بفقد المسلم فيه في البلد وحواليه.

وعليه فتعبير عدّة من المجمعين ب «لو تعذّر المثليّ» محمول على عدم حصول المثل عادة لا عقلا. فما تقدّم من قوله : «كان المتيقّن الرجوع إلى الأخصّ» ممنوع ، إذ لا أخصّيّة ولا أعمّيّة بين عنواني التعذّر والإعواز ، بل هما متساويان في الصّدق.

(٢) كمعتبرة الحلبي ، قال : «سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن رجل أسلم دراهمه في خمسة مخاتيم من حنطة أو شعير إلى أجل مسمّى ، وكان الذي عليه الحنطة والشعير لا يقدر على أن يقتضيه جميع الّذي له إذا حلّ ، فسأل صاحب الحقّ أن يأخذ نصف الطعام أو ثلثه أو أقلّ من ذلك ، أو أكثر ، ويأخذ رأس مال ما بقي من الطعام دراهم؟ قال : لا بأس. والزّعفران يسلم فيه الرجل دراهم في عشرين مثقالا أو أقلّ من ذلك أو أكثر. قال : لا بأس إن لم يقدر الذي عليه الزعفران أن يعطيه جميع ماله أن يأخذ نصف حقّه أو ثلثه أو ثلثيه ، ويأخذ رأس مال ما بقي من حقّه درهم [دراهم]» (١).

والغرض أنّ كلمة «لا يقدر» التي وردت تارة في سؤال السائل وقرّره الامام عليه‌السلام ، وأخرى في ذيل الرواية في كلامه عليه‌السلام لا يراد بها التعذّر العقليّ ، بل المراد هو العرفيّ. وقد عبّر عنه في نصوص أخر بالعجز وعدم الوجدان ونحوهما ، والمقصود ـ كما تقدّم حكايته عن المسالك ـ هو الانقطاع في البلد ونواحيه.

(٣) وهو البائع.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ٦٩ ، الباب ١١ من أبواب السلف ، الحديث : ٧.

٤٣٢

إيفاء المسلم فيه تخيّر (١) المشتري» ومن المعلوم أنّ المراد بعدم القدرة ليس التعذّر العقليّ المتوقّف على استحالة النقل من بلد آخر ، بل الظاهر منه عرفا (*) ما عن التذكرة (٢). وهذا (٣) يستأنس به للحكم فيما نحن فيه.

______________________________________________________

(١) تخيير المشتري ـ بين الفسخ والانتظار إلى أن يتمكّن البائع من تسليم المبيع سلما ـ يستفاد من معتبرة عبد الله بن بكير عن أبي عبد الله عليه‌السلام ـ عند عجز البائع عن إيفاء المسلم فيه ـ : «فليأخذ رأس ماله أو لينظره» (١).

(٢) وهو قوله : «والمراد من الفقدان أن لا يوجد في ذلك البلد وما حواليه» (٢).

(٣) يعني : أنّ الحكم في باب السّلم إذا علّق على عدم القدرة ـ المنزّلة على الموضوع العرفيّ دون العقليّ ـ استؤنس به للحكم في ما نحن فيه وهو تعذّر المثل ، وقد تقدم في عبارة المسالك جعل التعذّر في المقامين من باب واحد.

والحاصل : أنّ المناسب أن يكون المناط في المقامين واحدا ، بأن يقال : إنّ المراد بالتعذّر فيهما هو العرفيّ. هذا تمام الكلام في الجهة الرابعة من جهات البحث في إعواز المثل.

__________________

(*) إذا كان الظاهر من عدم القدرة في أخبار السلم معناه العرفي ، فليكن التعذّر في المقام كذلك. إلّا أن يكون الفرق بينهما بعدم تصوّر التعذّر المطلق في موارد نصوص أخبار السّلم من الجذع والحنطة وغيرهما ، فإنّ هذه الموارد قرينة على عدم إرادة التعذّر المطلق من تلك الأخبار ، فالمراد التعذّر العرفي. بخلاف المقام ، فإنّه ليس فيه قرينة على إرادة التعذّر العرفي ، فيراد منه التعذّر المطلق.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ٧٢ ، الباب ١١ من أبواب السلف ، الحديث ١٤.

(٢) تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٣٨٣ ، السطر ١٦.

٤٣٣

ثمّ إنّ (١) في معرفة قيمة المثل مع فرض عدمه إشكالا ، من (٢) حيث إنّ العبرة بفرض وجوده ولو في غاية العزّة كالفاكهة في أوّل زمانها أو آخره (٣) ، أو وجود (٤) المتوسّط؟

______________________________________________________

المعيار في قيمة المثل المتعذّر

(١) هذه هي الجهة الخامسة ، وحاصلها : أنّ قولهم : «إذا تعذّر المثل وجبت قيمته» يواجه إشكالا ، وهو : أنّ المثل إن كان موجودا أمكن معرفة قيمته ، سواء أكانت أعلى من قيمته السوقيّة أم لا. وإن لم يكن موجودا ـ كما هو المفروض ـ لم يكن سبيل إلى معرفة قيمته حتى يؤدّيها الضامن إلى المالك ، إلّا بفرض وجود المثل.

ولمّا كان المثليّ ذا أسعار متفاوتة بتفاوت الأزمنة ، فهل يلزم تقويم المثليّ بأعلى القيم كما هو الحال في الفاكهة أوّل أوانها ، وكذا في آخرها ، أم أنّ المناط قيمته في أوساط زمان وجوده ، بحيث يكون أقل قيمة في هذه الفترة؟ فيه احتمالان. اختار المصنّف قدس‌سره اعتبار قيمته في أوّل زمان وجوده وآخره ، بشرط أن يرغب العرف في شرائه ، فلو ارتفع سعر المتاع بحدّ لا يرغب في معاملته إلّا القليل منهم لم يكن عبرة به أصلا. فالمدار حينئذ على قيمته العالية في أوّل وجوده وآخره بشرط إقبال النوع على بيعه وشرائه ، هذا.

(٢) هذا بيان الاشكال ، وقد عرفته آنفا.

(٣) أي : آخر زمان الفاكهة ، يعني : أنّ العبرة بعزّة وجود الفاكهة سواء في أوّل أوانها أم آخرها.

(٤) عطف على «في غاية العزّة» يعني : أنّ العبرة بقيمة متوسّطة بين زماني عزّة الفاكهة ، وهو أوان وفورها ، فيقال : إنّ هذه الفاكهة لو كانت موفورة كان قيمتها كذا درهما مثلا ، وهذا هو قيمتها المضمونة في ظرف الإعواز والتعذّر ، لا قيمتها في زمان عزّتها وغلائها.

٤٣٤

الظاهر هو الأوّل (١) (*) لكن مع فرض وجوده بحيث (٢) يرغب في بيعه وشرائه ، فلا عبرة بفرض وجوده (٣) عند من يستغني عن بيعه ، بحيث (٤) لا يبيعه إلّا إذا بذل له عوض لا يبذل الراغبون في هذا الجنس بمقتضى رغبتهم.

______________________________________________________

(١) وهو كون العبرة بفرض المضمون في زمان عزّته وارتفاع قيمته ، لا في زمان وفوره وتنزّل قيمته.

(٢) هذا قيد للقيمة المضمونة ، وحاصله ـ كما تقدّم بيانه ـ أنّ المثل المتعذّر تارة يفرض وجوده في بعض الأزمنة بنحو يرغب في اقتنائه كثير من الناس ، كالفاكهة في أوّل وقتها ، ضرورة كونها أغلى قيمة من زمان وفورها وهو الزمان المتوسّط بين أوّل أوانها وآخرها. لكن يبذل العقلاء هذه القيمة الغالية لتحصيلها.

واخرى يفرض وجوده بنحو لا يرغب النوع في تحصيله ، لارتفاع قيمته جدّا. وكون ثمنه مجحفا بحيث لا يبذله إلّا القليل من أغنياء الناس. نعم قد يضطرّ عامّة الناس إلى شرائه لعلاج مثلا مهما كان ثمنه ، لكن المناط في المقام هو الرغبة في تحصيله في الحالات العاديّة ، لا حالة الاضطرار والإلجاء.

والمناط في تقويم المثل المتعذّر هو الفرض الأوّل ، أي : بذل ثمن المثل في زمان عزّته ، لكن لا مطلقا ، بل خصوص الثمن الذي يبذله غالب الناس ، هذا.

(٣) الضمائر البارزة من «وجوده» إلى «يبيعه» راجعة إلى المثل المتعذّر.

(٤) هذا بيان للاستغناء عن بيع المثل ، يعني : فوجود هذا المثل لا يقدح في صدق التعذّر.

__________________

(*) بل المتعيّن هو قيمة المثل فيما بني على زمان التقويم من يوم الإعواز ، أو يوم المطالبة ، أو يوم الدفع فالنزاع المزبور لا مورد له ، فلا وجه للإشكال المذكور في المتن ، لأنّ منشأ الاختلاف إن كان اختلاف الفصول ، فتعيين قيمة يوم التعذّر أو غيره يرفع الاشتباه. وإن كان منشؤه اختلاف الأيّام في عزة الوجود وذلّته فالتعيين المزبور أيضا يرفع الاشتباه. وإن كان منشؤه اختلاف الأمكنة والبلدان فسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

٤٣٥

نعم (١) لو ألجئ إلى شرائه لغرض آخر بذل ذلك (٢) ، كما لو فرض الجمد في الصيف عند ملك العراق ، بحيث لا يعطيه (٣) إلّا أن يبذله (٤) بإزاء عتاق الخيل وشبهها (٥). فإنّ (٦) الراغب في الجمد في العراق من حيث إنّه راغب (٧) لا يبذل هذا العوض بإزائه ، وإنّما يبذله من يحتاج إليه لغرض آخر (٨) كالإهداء إلى سلطان قادم إلى العراق مثلا ، أو معالجة (٩) مشرف على الهلاك به ، ونحو ذلك من الأغراض ، ولذا (١٠) لو وجد هذا الفرد من المثل لم يقدح في صدق التعذّر

______________________________________________________

(١) هذا استدراك على قوله : «لا يبذل الراغبون» يعني : أنّ عامّة الناس الّذين لا يبذلون الثمن الكثير ـ لشراء سلعة في حال الاختيار ـ قد يبذلونه عند عروض عنوان ثانويّ كالعلاج ، كشراء بعض الفواكه الشتويّة في فصل الصيف بأضعاف قيمتها في الشتاء ـ حتى في أوّل أوانها ـ لكن هذا ليس معيارا لتقويم المثل المتعذّر.

(٢) أي : ذلك العوض الكثير.

(٣) أي : أنّ الملك لا يعطي الجمد والثلج مجّانا ، كما لا يعطيه بإزاء عوض متعارف ، بل يعطيه في قبال الخيل الجياد ذات القيمة الغالية جدّا.

(٤) أي : يبذل الملك الجمد بإزاء جياد الخيل.

(٥) كالجواهر والأحجار الكريمة التي تباع بأغلى الثمن.

(٦) تعليل لقوله : «فلا عبرة بفرض وجوده» وقد عرفته آنفا.

(٧) يعني : من حيث إنّه راغب في تحصيل الجمد على الوجه المتعارف ، لا من حيث إنّ رغبته في الجمد يكون لغرض آخر يقتضي بذل ثمن كثير بإزائه.

(٨) فإنّ هذا المثال أجنبي عن المقام ، لأنّ العبرة في القيمة بالقيمة السوقيّة ، لا ما يطلبه المالك اقتراحا.

(٩) معطوف على «الاهداء» وضمير «به» راجع إلى الجمد ، ومتعلّق ب «معالجة».

(١٠) أي : ولأجل إناطة فرض وجود المثل بغرض غير نادر الوقوع ، فلو وجد هذا الفرد من المثل لم يقدح في صدق التعذّر ، ولا يوجب جريان حكم وجود المثل عليه.

٤٣٦

كما ذكرنا في المسألة الخامسة (١). فكلّ (٢) موجود لا يقدح وجوده في صدق التعذّر ، فلا عبرة بفرض وجوده (٣) في التقويم عند عدمه.

ثمّ إنّك (٤)

______________________________________________________

(١) حيث قال فيها : «وأمّا إن كان لأجل تعذّر المثل وعدم وجدانه إلّا عند من يعطيه بأزيد مما يرغب فيه الناس .. إلخ» فراجع (ص ٣٦٦).

(٢) هذه نتيجة كون المعيار في قيمة المثل المتعذّر بفرض وجوده بنحو يرغب في شرائه الناس ولو بثمن غال ، لكونه في أوان عزّة وجوده. وعلى هذا فلا عبرة بوجوده عند مثل السلطان ، فهذا الوجود ملحق بالتعذّر ، ولا يكون مناطا للقيمة التي يجب على الضامن أداؤها إلى المالك.

(٣) هذا الضمير وضمير «عدمه» راجعان إلى المثل ، يعني : أنّ وجوده عند الملك مثلا ليس معيارا للتقويم عند فقد المثل في الظروف المتعارفة. وبهذا ينتهي الكلام في الجهة الخامسة.

هل العبرة بقيمة بلد التلف أو المطالبة أو أعلى القيمتين؟

(٤) هذه سادسة الجهات المبحوث عنها في مسألة إعواز المثل في ضمان العين المثليّة التالفة أو المتلفة. وحاصلها : أنّ المالك يجوز له المطالبة بالمثل ـ عند وجوده ـ مطلقا سواء أكان بقيمته المتعارفة أم بأزيد منها ، وسواء أكان في بلد المطالبة أم في مكان آخر. والوجه فيه : ما تقدّم من اشتغال عهدة الضامن بالمثل ، فيتعيّن عليه أداؤه ، خصوصا مع مطالبة ذي الحق.

وأمّا إذا تعذّر المثل في بلدي التلف والمطالبة ، واختلفت قيمته فيهما ، بأن كان ثمنه في بلد التلف عشرة دنانير مثلا ، وفي بلد آخر اثني عشر دينارا ، فهل يستحقّ المالك المطالبة بالقيمة العليا أم لا؟ فيه وجوه ثلاثة.

أوّلها : تعيّن قيمة المثل في بلد تلف العين.

٤٣٧

قد عرفت (١) أنّ للمالك مطالبة الضامن بالمثل عند تمكّنه ولو كان في غير بلد الضمان ، وكان قيمة المثل هناك أزيد (٢).

وأمّا مع تعذّره وكون قيمة المثل في بلد التلف مخالفا لها في بلد المطالبة ، فهل له (٣) المطالبة بأعلى القيمتين ، أم يتعيّن قيمة بلد المطالبة ، أم بلد التلف؟ وجوه (٤) (*)

______________________________________________________

ثانيها : تعيّن قيمته في بلد المطالبة.

ثالثها : أعلى القيمتين. وسيأتي وجه كلّ منها إن شاء الله تعالى.

(١) يعني : في أواخر المسألة الخامسة ، حيث قال : «ثمّ إنّه لا فرق في جواز مطالبة المالك بالمثل بين كونه في مكان التلف أو غيره .. إلخ» فراجع (ص ٣٦٩).

(٢) وذلك لأنّ المضمون هو المثل ، فلا بدّ من أدائه إلى المالك من دون لحاظ قيمته.

(٣) أي : للمالك.

(٤) أمّا الاعتبار ببلد التلف فلعلّه مبنيّ على انقلاب ما في الذّمّة من المثل إلى القيمة ، وكون القيمة قيمة العين ، لأنّ دخالة خصوصية بلد التلف في ماليّة العين تقتضي لزوم جبران تلك الماليّة في بلد المطالبة إن كان غير بلد التلف ، فإنّ تلك المرتبة من الماليّة الناشئة من خصوصيّة بلد تلف العين لا بدّ من تداركها ، لفرض كونها ماليّة تحقيقيّة ، لا تقديريّة حتى لا تضمن.

وأمّا الاعتبار ببلد المطالبة فلعلّه مبنيّ على بقاء العين أو المثل في الذّمّة إلى زمان المطالبة ، إذ القيمة الّتي يدفعها الضامن تكون قيمة لما في الذّمّة ، فإذا استحقّ

__________________

(*) الأوجه أن يقال ـ كما أفيد ـ في إتلاف المال في بلد ومصادفة المالك للمتلف في بلد آخر لا يوجد مثله فيه مع اختلاف قيمة ذلك البلد لقيمة بلد التلف : إنّ العبرة بقيمة بلد المطالبة ، لبقاء المثل في الذّمّة ، فللمالك مطالبته به متى شاء وأينما شاء ، لأنّ الحقّ له ، فالمناط قيمة زمان الدفع ومكانه ، فحال المكان حال الزمان في ذلك.

٤٣٨

وفصّل الشيخ (١) في المبسوط في باب الغصب

______________________________________________________

المالك المطالبة به في بلد معيّن استحقّ تطبيق ما في الذّمّة على الفرد الخارجيّ في ذلك البلد ، فتكون خصوصيّة البلد من قيود ما يستحقه المالك ، فلا بدّ من دخلها في التقويم.

وأمّا اعتبار أعلى القيمتين فهو مبنيّ على ضمان ارتفاع القيم ، وكون المضمون الجامع بين العين والمثل ، وبقاء المثل في الذّمّة إلى زمان المطالبة. ولكن قد تقدّم عدم ضمان القدر المشترك بين التالف والموجود.

(١) لا بأس بنقل جملة من كلامه وقوفا على حقيقة الأمر ، قال قدس‌سره : «إذا غصب منه مالا مثلا بمصر فلقيه بمكّة ، فطالبه به ، لم يخل من أحد أمرين ، إمّا أن يكون لنقله مئونة ، أو لا مئونة لنقله. فإن لم يكن لنقله مئونة كالأثمان ، فله مطالبته به ، سواء كان الصّرف في البلدين متّفقا أو مختلفا ، لأنّه لا مئونة في نقله في العادة. والذّهب لا يقوّم بغيره ، والفضّة لا يقوّم بغيرها إذا كانا مضروبين. وإن كان لنقله مئونة لم يخل من أحد أمرين ، إمّا أن يكون له مثل أو لا مثل له. فإن كان له مثل كالحبوب والأدهان نظرت. فإن كانت القيمتان في البلدين سواء كان له مطالبته بالمثل ، لأنّه لا ضرر عليه في ذلك. وإن كانت القيمتان مختلفتين فالحكم فيما له مثل وفيما لا مثل له سواء ، فللمغصوب منه إمّا أن يأخذ من الغاصب بمكّة قيمته بمصر ، وإمّا أن يدع حتّى يستوفي ذلك منه بمصر ، لأنّ في النقل مئونة ، والقيمة مختلفة ، فليس له أن يطالبه بالفضل .. إلخ» (١).

وهذه العبارة وإن كانت بظاهرها أجنبيّة عن محلّ البحث ـ من تعذّر المثل في بلد التلف والمطالبة ـ لاختصاصها بصورة وجود المثل في بلد المطالبة ، ولذا يتفرّع عليه أنّ القيمة المدفوعة إلى المالك هي بدل الحيلولة. لكنّ المناسبة ـ الداعية لتعرّض كلام الشيخ هنا ـ هي اتّحاد حكم المثليّ مع القيميّ فيما لو اختلفت قيمة المثل في بلدي

__________________

(١) المبسوط في فقه الإمامية ، ج ٣ ، ص ٧٦.

٤٣٩

«بأنّه إن لم يكن في نقله (١) مئونة كالنقدين فله المطالبة بالمثل ، سواء كانت القيمتان مختلفتين أم لا. وإن كان في نقله مئونة فإن كانت (٢) القيمتان متساويتين كان له المطالبة أيضا (٣) ، لأنّه (٤) لا ضرر عليه في ذلك ، وإلّا (٥) فالحكم أن يأخذ قيمة بلد التلف ، أو يصبر

______________________________________________________

التلف والمطالبة ، وتوقّف نقل المثل على مئونة ، كما هو صريح قوله : «وإن كانت القيمتان مختلفتين فالحكم فيما له مثل وفيما لا مثل له سواء» وأنّ المالك مخيّر بين مطالبة قيمة بلد التلف وبين الانتظار حتى العود إلى بلد التلف لاستيفاء المثل.

(١) أي : في نقل المغصوب. وهذا هو الشقّ الأوّل في عبارة المبسوط ، ومحصّله : جواز مطالبة المالك بالمثل في غير بلد الغصب والضمان ، سواء اتّحدت قيمة المثل في البلدين أم لا.

(٢) هذا هو الشقّ الثاني ، وهو تساوي قيمة بلد الغصب والمطالبة مع توقّف النقل على مئونة. وحكمه جواز المطالبة في غير بلد الضمان.

(٣) يعني : كالشقّ الأوّل الذي لم يتوقّف نقل المثل ـ من بلد الغصب إلى بلد المطالبة ـ على نفقة.

(٤) الضمير للشأن ، وهذا تعليل لجواز المطالبة بالمثل في غير بلد الغصب ، ومحصّله : أنّ الضامن لا يتضرّر بأداء المثل إلى المالك ، لفرض تساوي قيمته في البلدين.

(٥) هذا هو الشقّ الثالث ، يعني : وإن لم تكن القيمتان متساويتين ـ مع توقّف النقل على مئونة ـ صار المثليّ كالقيميّ في أنّ المالك يتخيّر بين أخذ قيمة المثل في بلد التلف ، وبين الصبر حتى الرجوع الى بلد التلف ، وأداء المثل فيه إلى المالك.

٤٤٠