هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٣

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٠

لكن أطلق (١) كثير منهم الحكم بالقيمة عند تعذّر المثل.

ولعلّهم (٢) يريدون صورة المطالبة ، وإلّا (٣) فلا دليل على الإطلاق (٤).

______________________________________________________

(١) يعني : أنّ إطلاق كثير منهم الحكم بالقيمة وقت تغريم الضامن ـ وعدم تقييده بالمطالبة ـ يقتضي الانتقال إلى القيمة عند تعذّر المثل مطلقا وإن لم يطالب المالك.

قال السيّد الفقيه العاملي قدس‌سره : «أمّا أنّه ينتقل إلى القيمة عند التعذّر فهو مما طفحت به عباراتهم كما ستسمع ، بل هو إجماعيّ .. وأمّا أنّها تلزم يوم الإقباض لا الإعواز ـ وإن حكم بها الحاكم يوم الإعواز ـ فممّا صرّح به في الخلاف والمبسوط والغنية والسرائر والشرائع والتحرير والتذكرة والدروس وجامع المقاصد والمسالك ومجمع البرهان ، وهو قضيّة من اقتصر على لزوم القيمة يوم الإقباض كالإرشاد وغيره» (١).

وأنت ترى خلوّ كلامهم من قيد مطالبة المالك. وبه يشكل ما ذهب إليه المصنّف قدس‌سره وغيره من اشتراط وجوب دفع القيمة بمطالبة المالك.

(٢) غرضه توجيه الإطلاق المزبور ، وحاصله : أنّه يمكن أن يريدوا خصوص صورة المطالبة ، لا مطلقا حتى يكون مرادهم انتقال المثل بالإعواز إلى القيمة.

(٣) يعني : وإن لم نحمل إطلاق حكمهم بالقيمة ـ عند تعذّر المثل ـ على خصوص صورة مطالبة المالك أشكل الأخذ بظاهر كلامهم ، لعدم دليل على إطلاق انقلاب المثل إلى القيمة.

(٤) كما هو مذهب القائلين بثبوت العين في الذمّة ، ولا ينتقل إلى البدل من المثل أو القيمة ، خلافا لغيرهم كالمصنّف وجماعة ، حيث ذهبوا إلى الانتقال إلى البدل بمجرّد تلف العين والإعواز.

__________________

(١) مفتاح الكرامة ، ج ٦ ، ص ٢٤٢ و ٢٤٣.

٣٨١

ويؤيّد ما (١) ذكرنا : أنّ المحكيّ عن الأكثر في باب القرض «أنّ المعتبر في المثل المتعذر قيمته يوم المطالبة» (٢).

نعم (٣) عبّر بعضهم بيوم الدفع ،

______________________________________________________

(١) من عدم سقوط المثل عن ذمّة الضامن بمجرّد الإعواز والتعذّر لو لم يطالبه المالك بالقيمة. وجه التأييد أنّ تعبير الأكثر «باعتبار قيمة العين المقترضة ـ المتعذّر مثلها ـ يوم مطالبة المالك» يدلّ على كون موضوع كلامهم خصوص صورة المطالبة ، فبدونها لا موجب لانقلاب ما في الذمّة ـ من المثل ـ إلى القيمة.

والتعبير بالتأييد ـ دون الدلالة ـ لوجهين ، أحدهما : أنّه استشهاد بكلام الأكثر ، لا بدليل معتمد من نصّ أو إجماع ، ومن المعلوم أنّ فتوى الأكثر أو المشهور لا تصلح دليلا على حكم شرعيّ.

وثانيهما : أنّه يحتمل أن يريدوا أنّ الانقلاب إلى القيمة كان في يوم تعذّر المثل لا في يوم المطالبة. كما يحتمل أن يختصّ الحكم بباب القرض ، لا في جميع موارد الضمان حتى المقبوض بالبيع الفاسد.

(٢) الحاكي هو السيّد الفقيه العاملي ، قال قدس‌سره في شرح قول العلّامة : «ولو تعذّر المثل في المثليّ وجبت القيمة يوم المطالبة» ما لفظه : «كما في السرائر والتذكرة وجامع المقاصد ـ لما ستسمعه عنه في الدراهم ـ ومجمع البرهان والمسالك والكفاية والمفاتيح ، لأنّ الثابت هو المثل إلى أن يطالبه» (١).

(٣) استدراك على التأييد ، وغرضه قدس‌سره أنّ العلّامة قدس‌سره لم يعبّر بقيمة يوم المطالبة ، وإنّما قال في المختلف : «والأجود يوم الدفع» (٢). فبناء على وجوب رعاية قيمة يوم دفعها إلى المالك لا يتوقف انقلاب المثل المتعذّر إلى القيمة على مطالبة المالك ، بل نفس التعذّر موجب للانتقال. ومن المعلوم منافاة هذا لمذهب الأكثر ، ولا يصحّ التأييد المزبور.

__________________

(١) مفتاح الكرامة ، ج ٥ ، ص ٤٨.

(٢) مختلف الشيعة ، ج ٥ ، ص ٣٩٢.

٣٨٢

فليتأمّل (١).

وكيف كان (٢) فلنرجع إلى حكم المسألة ، فنقول :

______________________________________________________

(١) لعلّه إشارة إلى : أنّه لا بدّ أن يراد بيوم المطالبة يوم الدفع أيضا ، ضرورة أنّ المطالبة بنفسها لا تصلح سببا لانتقال الحقّ من المثل إلى القيمة ، وإلّا لزم الانتقال إلى قيمة يوم المطالبة فيما إذا طالب ولم يقدر عليه الضامن ، أو عصى ولم يؤدّ القيمة إلى أن زادت أو نقصت ، ومن المعلوم أنّه ليس كذلك. فالتعبير بيوم المطالبة إنّما هو بالنظر إلى الغالب ، وهو اتّحاده مع يوم الدفع.

لكن يشكل هذا الحمل بأنّ العلّامة قدس‌سره نقل أوّلا فتوى ابن إدريس باعتبار يوم المطالبة ، ثم أورد عليه بأنّ الأجود قيمة يوم الدفع ، فكيف يمكن إرادة يوم واحد وهو يوم المطالبة والدفع المترتّب عليها حتى يكون اختلاف التعبير لفظيّا؟

فالأولى جعل الأمر بالتأمّل إشارة إلى كفاية نظر الأكثر في مقام التأييد لو صحّ في نفسه.

(٢) أي : سواء تمّ التأييد المزبور ـ بتوجيه يوم الدفع بيوم المطالبة ـ أم لم يتم ، فلنرجع إلى حكم المسألة ، وهذا شروع في الجهة الثانية ، وهو تعيين القيمة التي يجب على الضامن دفعها إلى المالك. فنقل المصنّف قدس‌سره قولين في بادئ الأمر ، ثم نقل احتمالات اخرى عن قواعد العلّامة.

أمّا القولان فأوّلهما للمشهور ، وهو اعتبار قيمة يوم الأداء ، وثانيهما للحلّيّ والعلّامة في بعض المواضع ، وهو اعتبار قيمة وقت تعذّر المثل.

واختار الماتن مذهب المشهور ، واستدلّ عليه بأنّ المثل لمّا لم يسقط عن ذمّة الضامن بمجرّد إعوازه فهو باق على عهدته إلى زمان أداء قيمته ، فإن دفعها سقط المثل ، وإلّا فلا ، فزمان الانتقال إلى القيمة هو زمان دفعها ، فيتعيّن رعايتها ، ولا عبرة بقيمة يوم التعذّر ، ولا أقصى القيم من زمان التلف أو الإعواز إلى الأداء.

٣٨٣

إنّ المشهور (١) أنّ العبرة في قيمة المثل المتعذّر بقيمته يوم الدفع ، لأنّ المثل ثابت في الذمّة إلى ذلك الزمان ، ولا دليل على سقوطه بتعذّره ، كما لا يسقط الدّين بتعذّر أدائه. وقد صرّح بما ذكرنا المحقّق الثاني (٢). وقد عرفت (٣) من التذكرة والإيضاح ما يدلّ عليه (٤).

ويحتمل (٥) اعتبار وقت تعذّر المثل. وهو للحلّيّ في البيع الفاسد ،

______________________________________________________

(١) كما في مفتاح الكرامة ، حيث قال بعد عبارته المنقولة (في ص ٣٨١) : «والحاصل : انّي لم أجد مخالفا منّا في ذلك ، بل ولا متأمّلا في هذا الباب إلّا قوله في الإيضاح : إنّ الاحتمال الرابع أصحّ ، وإلّا قوله في المفاتيح : وقيل وقت الإعواز» (١).

(٢) حيث قال ـ في ردّ القول بضمان أعلى القيم من وقت تلف المغصوب إلى الإعواز ـ ما لفظه : «ويضعّف بأنّ المثل لا يسقط من الذمّة بتعذّره ، وأداء الدين لا يسقط بتعذّر أدائه ، ولهذا لو تمكّن من المثل بعد ذلك وجب المثل دون القيمة ، فما دام لم يأخذ المالك القيمة فالمثل باق في الذمّة بحاله» (٢).

(٣) قبل أسطر ، حيث قال : «وما ذكرنا يظهر من المحكيّ عن التذكرة والإيضاح .. إلخ» (٣).

(٤) أي : ما يدلّ على اعتبار قيمة يوم الدفع ، وكلام التذكرة والإيضاح وإن كان تعليلا لاشتراط دفع القيمة بمطالبة المالك ، لكنّه يدلّ أيضا على أنّ الملحوظ قيمة يوم الدفع ، لترتبه على المطالبة ، إذ لا عبرة بدفع القيمة التي لم يطالبها المالك من الضامن.

(٥) هذا الاحتمال هو القول الثاني في المسألة ، لا محض احتمال ، فإنّ ابن إدريس قدس‌سره اختاره في بعض موارد البيع الباطل ، حيث قال : «وإن أعوز المثل فعليه ثمن المثل

__________________

(١) مفتاح الكرامة ، ج ٦ ، ص ٢٤٣.

(٢) جامع المقاصد ، ج ٦ ، ص ٢٥٤.

(٣) تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٣٨٣ ؛ إيضاح الفوائد ، ج ٢ ، ص ١٧٥.

٣٨٤

وللتحرير في باب القرض (١) ، وعن محكيّ المسالك (٢)

______________________________________________________

يوم الإعواز» (١). خلافا لما اختاره في كتاب الغصب بقوله : «فإن أعوز المثل فله قيمته يوم إقباضها» (٢).

(١) قال السيّد العامليّ في إعواز المثل إذا كانت العين المقترضة مثليّة : «وقيل وقت التعذّر ، وهو خيرة التحرير ، ونسب إلى الشيخ في النهاية والقاضي وابن إدريس في موضع من كتابه فيما إذا تعذّرت الدراهم ، وهو خيرة الكتاب ـ يعني القواعد ـ في ذلك كما يأتي ، ويظهر من الإيضاح أيضا ، لأنّه وقت الانتقال إلى البدل الذي هو القيمة» (٣).

(٢) يعني : في بعض مواضع المسالك ، وهو ما أفاده في شروط العوضين ـ في عدم انعقاد البيع بحكم أحدهما ـ بقوله : «ولا يخفى أنّ هذا كلّه في القيميّ. أمّا المثليّ فيضمن بمثله ، فإن تعذّر فبقيمته يوم الإعواز على الأقوى» (٤).

لكن الشهيد الثاني قدس‌سره قوّى في باب القرض ضمان قيمة يوم المطالبة (٥) وفي باب الغصب قال : إنّ الأظهر عند الأصحاب قيمة يوم الإقباض ، فراجع.

وعليه كان المناسب التنبيه على أنّ قيمة يوم الإعواز ليست نظره بقول مطلق ، بل هي مختاره في خصوص كتاب البيع ، والعهدة على الحاكي الذي لم أظفر به ، ولم أجده في مفتاح الكرامة ، بل عدّ السيد الشهيد الثاني في المسالك من القائلين باعتبار قيمة يوم المطالبة ، كما تقدّمت عبارته (في ص ٣٨١).

__________________

(١) السرائر الحاوي ، ج ٢ ، ص ٢٨٥.

(٢) المصدر ، ص ٤٩٠.

(٣) مفتاح الكرامة ، ج ٥ ، ص ٤٨.

(٤) مسالك الأفهام ، ج ٣ ، ص ١٧٤.

(٥) المصدر ، ص ٤٤٧.

٣٨٥

لأنّه (١) وقت الانتقال إلى القيمة.

ويضعّفه (٢) أنّه إن أريد بالانتقال (٣) انقلاب ما في الذمّة إلى القيمة في ذلك الوقت (٤) فلا دليل عليه (٥). وإن أريد عدم وجوب إسقاط ما في الذّمّة إلّا

______________________________________________________

(١) أي : لأنّ وقت تعذّر المثل هو وقت الانتقال إلى البدل. وهذا التعليل متكرّر في كلمات أرباب هذا القول ، وقد نقله عنهم السيّد العامليّ قدس‌سره في عبارته المتقدّمة.

(٢) ضعّف المصنف قدس‌سره احتمال اعتبار ثمن المثل يوم الإعواز بما حاصله : أنّه إن أريد بالانتقال انقلاب ما في الذمة من المثل إلى القيمة في ذلك الوقت ـ أي وقت الإعواز ـ حتى لو لم يطالب المالك بها ، ففيه : أنّه لا دليل على سقوط المثل بمجرّد الإعواز وانتقاله إلى القيمة.

وإن أريد بالانتقال وجوب إسقاط ما في الذمة من المثل بالقيمة في صورة مطالبة المالك ، فهو وإن كان صحيحا. لكنّه لا يوجب سقوط المثل وثبوت القيمة في الذمّة. ولذا لو أخّر الاسقاط عذرا أو عصيانا بقي المثل في ذمّة الضامن إلى أن يتحقّق الاسقاط. وإسقاطه في كلّ زمان إنّما يتحقّق بأداء قيمته في ذلك الزمان ، وليس مكلّفا بإسقاطه بقيمة زمان آخر.

مثلا إذا كان ثمن المثل وقت تعذّره وإعوازه عشرة دنانير ، وبعد مضيّ شهر خمسة عشر دينارا ، فإن طالب المالك الضامن يوم التعذّر كان مكلّفا بأداء العشرة لإسقاط ما في ذمّته بها. وإن طالبه بعد شهر كان الضامن مكلّفا بأداء خمسة عشر دينارا ، ولا يكفي أداء عشرة دنانير حينئذ ، لأنّ تفريغ الذمّة في كلّ زمان منوط بدفع قيمة المثل في زمان الاسقاط ، لا قيمة الأزمنة السابقة. وعليه فلا عبرة بما اختاره جماعة من كون المدار ثمن المثل يوم إعوازه.

(٣) أي : في قولهم : «لأنّ يوم التعذّر وقت الانتقال إلى البدل الذي هو القيمة».

(٤) أي : وقت تعذّر المثل.

(٥) بل الدليل على خلافه موجود ، وهو عدم إناطة الحكم الوضعيّ ـ كالضمان ـ

٣٨٦

بالقيمة ، فوجوب (١) الاسقاط بها (٢) وإن حدث يوم التعذّر مع المطالبة ، إلّا (٣) أنّه لو أخّر الاسقاط بقي المثل في الذمّة إلى تحقّق الاسقاط. وإسقاطه في كلّ زمان بأداء قيمته في ذلك الزمان (٤). وليس في الزمان الثاني (٥) مكلّفا بما (٦) صدق عليه الإسقاط في الزمان الأوّل (٧) ، هذا.

______________________________________________________

بالتمكّن ، فالعهدة مشغولة بالمثل حتى في وقت إعوازه.

(١) يعني : ففيه : أنّ وجوب الإسقاط بالقيمة وإن حدث يوم التعذّر مع المطالبة ، إلّا .. إلخ.

(٢) يعني : أنّ حدوث وجوب دفع القيمة يوم التعذّر مشروط بمطالبة المالك قيمة المثل في يوم التعذّر ، فلو لم يطالب لم يحدث يوم الإعواز وجوب دفع القيمة.

(٣) يعني : أنّ حدوث وجوب أداء القيمة يوم الإعواز لا يكفي في سقوط المثل عن الذمّة ، وانتقال الضمان إلى ثمن المثل. والشاهد على عدم تبدّل المثل بالقيمة بمجرّد التعذّر هو : أنّ المالك لو طالبه بها يوم الإعواز ـ حتى يسقط ما في ذمّة الضامن من المثل ـ ولكنّه لم يؤدّ القيمة في ذلك اليوم وأراد أداءها بعد شهر وجب عليه مراعاة القيمة الفعليّة ، لا قيمة يوم التعذّر. وهذا دليل على أنّ وقت الانتقال من المثل إلى القيمة هو يوم الأداء ، لا يوم الإعواز.

(٤) فإن أدّى قيمة يوم الإعواز ـ مع مطالبة المالك ـ كان هو المسقط لما في ذمّته ، وكان زمان انقلاب الضمان من المثل إلى القيمة متحدا مع زمان الاسقاط. وإن أدّى القيمة بعد الإعواز بشهر لم تكف قيمة يوم التعذّر إذا كانت أقلّ من قيمة يوم الدفع.

(٥) وهو زمان إسقاط ما في الذمّة من المثل.

(٦) المراد بالموصول هو ثمن المثل المتعذّر يوم تعذّره.

(٧) وهو زمان تعذّر المثل مع مطالبة المالك بالقيمة ، فإنّه زمان حدوث وجوب القيمة ، ولكنّه ليس زمان إسقاط المثل ، ولا زمان انقلابه إلى القيمة.

هذا ما أفاده في تضعيف احتمال اعتبار قيمة يوم الإعواز ، وتثبيت مختار المشهور.

٣٨٧

ولكن (١) لو استندنا في لزوم القيمة في المسألة إلى ما تقدّم سابقا ـ من (٢) الآية ومن أنّ المتبادر من إطلاقات الضمان هو وجوب الرجوع إلى أقرب الأموال إلى التالف بعد تعذّر المثل ـ توجّه (٣) القول بصيرورة التالف قيميّا بمجرّد تعذّر المثل (٤) ، إذ لا فرق في تعذّر المثل بين تحقّقه ابتداء كما في القيميّات (٥) وبين طروّه بعد التمكّن كما فيما نحن فيه.

______________________________________________________

(١) استدراك على ما اختاره المشهور ـ من كون العبرة بقيمة يوم الدفع ـ وتأييد للقول باعتبار قيمة يوم الإعواز. وحاصل الاستدراك : أنّ مقتضيات الأدلّة مختلفة ، فإن استندنا إلى الجمع بين الحقّين ـ وأنّ تعذر المثل لا يسقطه عن الذمّة ـ اتّجه القول بضمان قيمة يوم الدفع. وإن استندنا في لزوم القيمة في المثل المتعذّر إلى آية الاعتداء وإطلاقات الضمان القاضية بلزوم الرجوع إلى أقرب الأموال إلى التالف اتّجه القول بانقلاب المثل بمجرّد تعذّره إلى القيمة ، إذ لا فرق في تعذّر المثل بين كونه بالأصالة كما في القيميّات ، وبين كونه بالعرض بعد التمكّن منه كما نحن فيه ، فيكون العبرة في انقلاب المثليّ إلى القيميّ يوم تعذّره وإعوازه ، لا يوم أدائه.

(٢) هذا وقوله : «ومن أنّ المتبادر» بيان للموصول في قوله : «ما تقدّم سابقا» أي : في الأمر الرابع. والمراد بالآية آية الاعتداء بالمثل التي استدلّ بها شيخ الطائفة قدس‌سره على ضمان المثليّ بالمثل ، والقيميّ بالقيمة.

(٣) جواب الشرط في قوله : «لو استندنا».

(٤) سواء طالبه المالك بقيمة المثل المتعذّر أم لم يطالبه بها ، وسواء أسقط الضامن ما في ذمّته يوم الإعواز أم أخّره إلى زمان آخر. والوجه فيه كون ثمن المثل أقرب إلى العين التالفة أو المتلفة عند تعذّر المثل ، فيكون يوم الإعواز وقت الانقلاب إلى القيمة.

(٥) فإنّ المثل متعذّر فيها بحسب الخلقة ، فالتعذّر في القيميّات ابتدائيّ ، بخلاف تعذّر المثل في المثليّ بعد التمكن من دفعه ، فإنّه عارضيّ.

٣٨٨

ودعوى (١) اختصاص الآية وإطلاقات الضمان بالحكم بالقيمة بتعذّر المثل ابتداء لا يخلو عن تحكّم (٢) (*).

______________________________________________________

(١) غرض المدّعي الذبّ عن مقالة المشهور من ضمان قيمة يوم الدفع ، ببيان : أنّ الآية والإطلاق وإن اقتضيا اعتبار قيمة يوم الإعواز ، لكنّهما مختصّان بالتعذّر الابتدائيّ ، بأن لم يوجد مماثل التالف من أوّل الأمر ، فيقال بضمان القيمة يوم الإعواز. وهذا أجنبيّ عمّا نحن فيه من التعذّر الطاري ، فالذمّة مشغولة بالمثل ، لوجوده حال تلف العين ، وإعوازه لا يوجب الانقلاب إلى القيمة ، بل الموجب له هو الاسقاط بتسليم الثمن إلى المالك.

(٢) إذ المناط في كليهما تعذّر وجود المثل ، وهو جار في القيميّ والمثليّ الذي تعذّر وجوده ، سواء أكان طارئا أم ابتدائيّا. ولا مقيّد في البين حتى تختصّ الآية بالتعذّر البدويّ.

لكن يمكن إبداء الفرق بينهما بأنّ اعتبار المثل في القيميّ لغو ، إذ المفروض عدم كونه مرجوّ الحصول ، بخلاف المثل المتعذّر في المثليّ ، فإنّه مرجوّ الحصول. وهذا الفرق يوجب الفرق بين القيميّ والمثليّ المتعذّر المثل عند العرف المحكّم في باب الضمانات ، فإنّ تضمين الضامن بالمثل في القيميّات لا أثر له ، فيلزم اللغويّة بل الامتناع ، لكونه من التكليف بغير المقدور ، إذ لا يرجى وجوده في زمان حتى يصحّ إشغال ذمّته بالمثل ، فمن أوّل الأمر يجعل في ذمّته القيمة. فلا تحكّم في الفرق بين القيميّ المتعذّر مثله إلى الأبد وبين المثليّ المتعذر مثله المرجوّ وجوده بعد حين ، بانقلاب القيميّ بمجرّد إعوازه إلى القيمة ، وانقلاب المثل المتعذر إلى القيمة يوم الدفع.

وقد تحصّل من كلمات المصنّف قدس‌سره : أنّ المشهور بين الأصحاب اعتبار قيمة يوم الدفع ، وغير المشهور هو اعتبار قيمة يوم إعواز المثل. وسيأتي الكلام في وجوه اخرى ذكرها العلّامة في التذكرة والقواعد.

__________________

(١) قد يتمسك لإثبات القيمة بقاعدة الميسور ، بتقريب : أنّ دفع المثل الواجد.

٣٨٩

.................................................................................................

__________________

للصفات النوعيّة معسور ، فيسقط وجوب أدائه ، ويبقى الميسور وهو نفس الماليّة ، فيجب أداؤها.

لكن فيه : أنّ المثل والقيمة متباينان ، وليسا من قبيل المركّب المتعذّر بعض أجزائه ، فلا تكون القيمة ميسورا للمثل حتى تجري فيها قاعدة الميسور.

ثم إنّ ما أفاده ، المصنّف قدس‌سره من «أنه ليس للضامن إلزام المالك بقبول القيمة عند إعواز المثل وعدم مطالبة المالك» مبنيّ على ما نسب إلى المشهور في باب الضمان من اشتغال الذمّة بالمثل في المثليّ معلّقا على التلف في صورة البقاء ، ومنجّزا في صورة التلف ، إذ بناء عليه يكون المثل في الذمّة ، وإعوازه لا يوجب الانتقال إلى القيمة ، فإذا صبر المالك إلى أن يوجد المثل فليس للضامن إلزامه بالقيمة.

وأمّا بناء على كون الثابت على عهدة الضامن نفس العين ، فمع إعواز المثل يجوز دفع القيمة ولو مع عدم مطالبة المالك ، وليس له الامتناع عن قبولها ، لأنّ القيمة حينئذ نحو أداء للعين بجهتها الماليّة ، كما أنّ المثل أداء للعين بجهتها النوعيّة مراعاة لحال المالك ، لكونه أقرب إلى التالف. فمع إعواز المثل ومطالبة القيمة يجب أداؤها ، لأنّه مع تعذّر المرتبة الكاملة يجب دفع النازلة.

وقد وجّه هذا المبنى ـ أي : اشتغال الذمّة بنفس العين ، الموجب لجواز مطالبة قيمة المثل ووجوب أدائها على الضامن ـ بوجوه :

الأوّل : حديث «على اليد» بدعوى : ظهوره في أنّ الثابت في الذمّة ولو بعد التلف نفس العين بخصوصيّتها الشخصيّة والنوعيّة والماليّة.

وفيه أوّلا : عدم دلالة حديث «على اليد» على الضمان ، بل يدلّ على الحكم التكليفيّ وهو وجوب الأداء ما دامت العين موجودة ، فتأمّل.

وثانيا : ـ بعد تسليم دلالته على الضمان ـ أنّه لا يفهم العرف منه إلّا ضمان المثليّ

٣٩٠

.................................................................................................

__________________

بالمثل والقيميّ بالقيمة ، واعتبار كون العين على العهدة قيد زائد لا ينتقل إليه أذهان أبناء المحاورة. بل يمتنع اشتغال الذمّة بالعين بخصوصيّاتها المشخصة ، لامتناع أدائها بعد تلفها ، فلا تشتغل الذمّة إلّا ببدلها من المثل أو القيمة.

وثالثا : أنّه لم يثبت كون دليل الضمان بالمثل أو القيمة لمراعاة حال المالك حتى يكون له الاعراض عن مرتبة والأخذ بمرتبة أخرى ، ولذا لو كان المثل موجودا ليس له الاعراض عن المثليّة ومطالبة القيمة ، بل يجب عليه قبول المثل.

الثاني : أنّ اليد إذا وقعت على العين وقعت عليها بخصوصيّتها الشخصيّة والنوعيّة والماليّة ، فجميع تلك الجهات تقع على عهدته. ومقتضى دليل السلطنة جواز إلقاء المالك خصوصيّة المثليّة ، ومطالبة خصوصيّة الماليّة. من غير فرق في ذلك بين كون مقتضى دليل اليد عهدة نفس العين بشؤونها ، وبين كونه ضمان المثل في المثليّ والقيمة في القيميّ ، حيث إنّ ضمان المثل وكونه على العهدة متضمّن لضمان القيمة أيضا ، فله إلقاء جهة المثليّة ومطالبة القيمة.

وفيه ـ مع أنّ لازم ذلك جواز إلقاء خصوصيّة المثل والعين وجواز مطالبة القيمة حتى مع وجود العين والمثل ، وهو كما ترى ـ أنّ دليل الضمان لا يدلّ إلّا على ضمان نفس العين على المبنى الأوّل ، والمثل في المثليّ على المبنى الثاني. وليس في ضمان العين ضمانات ، ولا في ضمان المثل ضمانان عرضا أو طولا حتى يصحّ للمالك إسقاط جهة ومطالبة جهة أخرى ، إذ ليست شؤون العين مضمونة ، بل المضمون نفس العين التي لها مثل وقيمة ، وهكذا المثل على المبنى الثاني.

وأمّا دليل السلطنة على الأموال فلا يقتضي جواز مطالبة غير ما على عهدة الضامن وهو المثل في المثليّ ، ولا معنى لاقتضائه أداء القيمة إلّا إذا قيل بتبدّل المثل بالقيمة عند الإعواز ، وهو أوّل الكلام.

٣٩١

.................................................................................................

__________________

الثالث : ما في المتن من : أنّ منع المالك ظلم ، وإلزام الضامن بالمثل منفيّ بالتعذّر ، ومقتضى الجمع بين الحقّين وجوب القيمة.

وفيه : أنّ كون منع المالك عن القيمة ظلما منوط بثبوت القيمة على عهدة الضامن ، وهو أوّل الكلام ، ومع ضمان المثل إلزام الضامن بغير ما للمضمون له لعلّه ظلم.

ودعوى «اشتمال المثل على الماليّة ، فتعذّره لا يسلب سلطنة المالك عن الماليّة ، فله مطالبة القيمة» مدفوعة بما مرّ آنفا من عدم كون شؤون العين مضمونة. فالعهدة لا تشتغل إلّا بالمثل ، لا به وبالقيمة ، ولا دليل على كون التعذّر بمجرده موجبا للانقلاب كما تقدّم.

نعم إذا تعذّر المثل إلى الأبد أو إلى أمد بعيد كان منع المالك عن القيمة ظلما. فإطلاق كلام المصنّف القاضي بوجوب القيمة مع التعذّر ولو إلى أمد قريب محلّ النظر.

كما أنّ ما أفاده من الجمع بين الحقّين أيضا محلّ التأمّل ، لأنّ نفي الإلزام بالتعذّر غير ثبوت الحق للضامن ، كما أنّه ليس للمالك حقّ المطالبة مع تعذّره ، وحقّ مطالبة القيمة له غير ثابت مع اشتغال الذمّة بالمثل فقط.

الرابع : ما في المتن أيضا من التمسّك بقوله تعالى (فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) حيث إنّ الضامن إذا ألزم بالقيمة مع تعذّر المثل لم يعتد عليه أزيد ممّا اعتدى.

وكذا إطلاقات أدلّة الضمان ، إذ المتبادر منها وجوب الرجوع إلى ما هو الأقرب إلى التالف بعد تعذّر المثل ، وهو القيمة. فالتعذّر يوجب الانتقال إلى القيمة ، كالتعذّر الابتدائي في القيميّات. ولا فرق بين التعذّر الابتدائيّ والعارضيّ.

وفيه أوّلا : أنّ الآية وردت في الاعتداء الحربيّ ، وليست راجعة إلى باب الضمان أصلا.

وثانيا : أنّه ـ بعد الغضّ عمّا ذكر ـ لا يكون إلزام الضامن بالقيمة اعتداء بالمثل ، بل بغيره ، ولم يرخّص الشارع فيه.

٣٩٢

.................................................................................................

__________________

إلّا أن يقال : إنّ القيمة اعتداء بالمثل ، لمماثلتها للتالف في المالية.

ولو سلّم دلالة الآية على عدم الاعتداء زائدا على مقدار اعتداء الغاصب أو الضامن ، لكن لا تدلّ على جواز الاعتداء بكلّ شي‌ء لا تزيد ماليّته على ماليّة المضمون ، لعدم كون الآية في مقام بيان ذلك ، حيث إنّها بصدد بيان المنع عن التعدّي بالزيادة ، لا جواز الأخذ بكل ما لا يزيد ماليّته عن ماليّة المضمون.

وثالثا : أنّه فرق بين التعذّر الابتدائيّ كالقيميّات والتعذّر العارضيّ ، بأنّ التعذّر العارضيّ لا يوجب الانتقال إلى القيمة ، لرجاء وجود المثل فيه. بخلاف الابتدائي ، فإنه لا يرجى وجوده ، فالتكليف بدفع المثل فيه ممتنع ، فلا يمتنع فيه التكليف بدفع المثل.

الخامس : أنّ صبر المالك إلى أن يوجد المثل ضرر عليه ، وهو منفي ، فله المطالبة بالقيمة.

وفيه أوّلا : أنّ التأخير ليس ضررا دائما ، فالدليل أخصّ من المدّعى.

وثانيا : أنّ لزوم التأخير لتعذّر المثل عقليّ ، وليس بشرعيّ حتى يرفع بقاعدة الضرر.

وثالثا : أنّ شأن قاعدة الضرر نفي الحكم ، لا إثبات أمر مباين أو مخالف ، كإثبات القيمة مع ضمان المثل.

ومنه يظهر الكلام في دليل نفي الحرج لو كان التأخير حرجيّا.

السادس : بناء العقلاء على مطالبة القيمة عند تعذر المثل ، وإلزام الضامن بأدائها.

وفيه : أنّ المتيقّن منه ـ بعد ثبوته واتّصاله بزمان المعصوم عليه‌السلام ـ هو تعذّر المثل إلى الأبد ، أو إلى أمد بعيد جدّا. وأمّا إذا كان أمد التعذّر قليلا فلا.

السابع : الالتزام بانقلاب المثل بمجرّد التعذّر إلى القيمة ، بتقريب كون الوضع منتزعا عن التكليف ، ومن المعلوم امتناع التكليف بأداء المتعذّر. وعدم سقوط الضمان

٣٩٣

.................................................................................................

__________________

رأسا ، لأنّ سقوطه مخالف للضرورة ، فالتكليف لا محالة يتوجّه إلى أداء القيمة. وينتزع من هذا التكليف الحكم الوضعيّ أعني به اشتغال الذمّة بالقيمة ، وهو المطلوب. فللمالك مطالبة القيمة. فالتعذّر أوجب التكليف المنتزع عنه الشغل المترتّب على انقلاب المثل إلى القيمة ، وليس للضامن التأخير.

وفيه : مع إمكان استقلال الوضع وعدم تبعيّته للتكليف فعلا كما في إتلاف الصبيّ مال غيره ـ فإنّه ضامن مع عدم تكليف فعليّ عليه بوجوب الأداء ـ فلا ينتزع عن وجوب أداء القيمة اشتغال الذمّة بالقيمة ، إذ من الممكن كون ذمّته مشغولة بالمثل ، ومع ذلك جاز للمالك مطالبة الضامن بالقيمة ، لعدم إمكان وصوله إلى المثل. وحبس ماله إلى زمان وصوله إلى المثل ضرر عليه ، وهو منفيّ.

والحاصل : أنّ سلطنة المالك على مطالبة القيمة ووجوب أدائها على الضامن ليست لانقلاب المثل إليها ، بل لأقربيّتها إليه في مقام التأدية.

وهذا نظير بدل الحيلولة ، والقول بأن ظاهر قاعدة اليد ضمان نفس العين ، وأداء المثل في المثليّ والقيمة في القيميّ نحو أداء لها من غير انقلاب العين إليهما.

الثامن : لغويّة جعل المثل المتعذّر في الذمّة سيّما إذا كان التعذّر إلى الأبد. وكذا التكليف بأدائه ، بل هو ممتنع ، لعدم القدرة عليه ، فلا محالة ينقلب المثل بمجرّد تعذّره إلى القيمة.

وفيه : أنّه لا يلزم اللغويّة مطلقا. أمّا في صورة تعذر المثل إلى أمد قريب فواضح. وأمّا مع تعذّره إلى الأبد فلأنّ بقاء المثل في الذمة يوجب اعتبار قيمة يوم الدفع ، بخلاف ما إذا قلنا بتبدله بمجرّد التعذّر ، فإنّ المدار على قيمة يوم التعذّر.

فالمتحصل : أن الوجوه المستدل بها على الانقلاب لا تخلو من مناقشة.

نعم لا بأس ببناء العقلاء المحكّم في باب الضمان على اعتبارهم القيمة

٣٩٤

.................................................................................................

__________________

بمجرّد تعذّر المثل ، بمعنى انقلاب ما في ذمّة الضامن من المثل إلى القيمة ، أو بمعنى سلطنة المالك على مطالبة ماليّة ماله وإن كان المثل في ذمة الضامن. وذلك إمّا لكون المثليّة من حقوق المالك ، وله إسقاطها. وإمّا لكون الصبر ضررا عليه.

لكن ينبغي تقييد سلطنة المالك على مطالبة القيمة بما إذا لم يكن دفع القيمة مضرّا بحال الضامن أزيد من الضرر الوارد من نفس الضمان ، وإلّا فليس للمالك مطالبة القيمة ، إلّا إذا كان الضمان اعتدائيّا ، كما إذا غصب الضامن أو قبض المبيع مع علمه بفساد المعاملة ، فإنّ الإقدام حينئذ يوجب جواز المطالبة منه بالقيمة وإن كانت ضررا عليه.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا : أنّه لا دليل على انقلاب المثل عند إعوازه إلى القيمة وإن قلنا بجواز مطالبة القيمة لجهة من الجهات ، فإنّ إعواز المثل لا يخرج المضمون عن المثليّة ، ولذا لو فرض الإعواز في مدّة طويلة ثم وجد المثل وجب بحكم العقلاء أداء المثل ، ووجب على المالك قبوله ، وليس له الامتناع. ولو امتنع ردّه إلى الحاكم.

فأداء القيمة عند إعواز المثل نحو أداء له في هذه الحالة من دون انقلاب العين إليها ، فإنّ انقلاب المباين إلى مثله بمجرّد التعذّر ممّا لا يساعده دليل ، إذ بقاؤه في الذمّة ليس منوطا بوجوده خارجا ، وإلّا لم يصحّ إحداثه كما في السّلم ، فإنّ بيع حنطة في الذمّة إلى أجل معلوم مع عدم وجودها حين البيع صحيح بلا إشكال. فلو كان وجود الكلّيّ خارجا شرطا لاشغال الذمّة بالكلّيّ لم يصحّ بيع السلف في هذه الصورة أصلا.

ومنه يظهر عدم الإشكال في بقائه على الذمّة ، وعدم انقلابه بمجرّد إعواز أفراده إلى كلّيّ آخر ، فإنّ البقاء لا يزيد على الحدوث ، فعدم وجود المثل في الخارج لا يوجب انقلاب الحقيقة المثليّة إلى الحقيقة القيميّة المباينة لها ، إذ ليس الميزان في القيميّ عدم وجود المثل له في الخارج.

والحاصل : أنّ إعواز المثل لا يوجب خروج الشي‌ء عن المثليّة ، وهو الموافق لارتكاز العقلاء أيضا في باب الضمانات ، ولذا لو أعوز المثل مدّة طويلة ، ثم وجد

٣٩٥

.................................................................................................

__________________

فللمالك مطالبته ، وليس له الامتناع عن قبوله إذا دفعه الضامن إليه كما تقدّم آنفا. كما أنّه بناء على انقلاب المثليّ بمجرّد تعذّر المثل إلى القيمة يجب على المالك قبول القيمة ، وليس له الامتناع ، لأنّه لا حقّ له في المثل حتى يصبر إلى أن يوجد ، بل حقّه نفس القيمة ، فيجب عليه قبولها ، وإن لم يقبلها تردّ إلى الحاكم.

وممّا ذكرنا من عدم مساعدة ارتكاز العقلاء على انقلاب المثل إلى القيمة بمجرّد إعوازه ـ وأنّ هذا الارتكاز هو الموجب لانصراف أدلّة الضمان إليه ـ يظهر ما في كلام المصنّف قدس‌سره : «ولكن لو استندنا في لزوم القيمة في المسألة إلى ما تقدّم سابقا من الآية ومن أنّ المتبادر .. إلخ» من الإشكال ، إذ لا يستفاد منها إلّا الضمان العقلائيّ الذي قد عرفت أنّه ليس ضمان المثليّ إلّا بالمثل ، سواء أعوز المثل أم لا ، فإنّ الإعواز لا يوجب خروج الشي‌ء عن حقيقته.

فالمتحصّل : أنّ تعذّر المثل لا يوجب انقلاب المال المثلي إلى القيميّ.

ثمّ إنّ في زمان اعتبار القيمة احتمالات ووجوها كثيرة ، وتحقيق ما هو الحقّ منها موقوف على بيان أمور :

الأوّل : أنّه قد مرّ سابقا عدم الدليل على انقلاب المثل عند تعذّره إلى القيمة ، وإن كان المستند في لزوم القيمة آية الاعتداء والمتبادر من إطلاق الضمان ، ببيان : أنّ الأقرب إلى التالف بعد تعذّر المثل هو القيمة ، فينقلب المثل عند إعوازه إلى القيمة.

وذلك لما عرفت من أنّ إعواز أفراد طبيعة لا يوجب الانقلاب إلى طبيعة أخرى ، فإنّ المثليّ ـ كما تقدّم سابقا ـ مغاير للقيميّ ومباين له ، فكيف تنقلب المثليّة الى القيميّة بإعواز أفراد المثليّ؟ نعم القيمة عند تعذّر المثل أقرب إلى التالف في مقام التأدية ، وهذا غير الانقلاب.

الثاني : أنّ مقتضى «على اليد ما أخذت» ضمان العين المأخوذة بجميع صفاتها الحقيقيّة والانتزاعيّة والإضافيّة ممّا لها دخل في الرغبات واختلاف القيم ، فالدابّة مثلا

٣٩٦

.................................................................................................

__________________

بمالها من الصفات المزبورة وكذا الثلج المأخوذ في الصيف وفي قارّة أفريقا مضمونان على المستولي عليهما ، ولذا يكون وصف الصحّة مضمونا ، لوقوعه تحت اليد تبعا ، فإذا كانت العين المغصوبة أو المقبوضة بعقد فاسد موجودة وجب ردّها مع أداء قيمة الصفات التالفة.

وإذا تلفت وجب ردّ مثلها بصفاتها إن كانت مثليّة ، وإن كانت قيميّة وجب ردّ أعلى القيم من زمن الغصب أو الأخذ بالبيع الفاسد إلى زمان التلف ، إن كان ارتفاع القيمة لأجل الصفات ، لا لزيادة القيمة السوقيّة التي لا ترجع إلى وصف من أوصافها.

الثالث : أنّ الاحتمالات في زمان اعتبار القيمة كثيرة ، ونذكر مهمّاتها ومهمّات مبانيها.

ومحصّل الكلام فيها : أنّه إمّا أن نقول بأنّ مقتضى أدلّة الضمان هو وقوع العين في العهدة في المثل والقيميّ حتى حال التلف والتعذّر ، ولا تنقلب إلى غيرها إلى زمان الأداء بالمثل أو القيمة.

وإمّا أن نقول بأنّ مقتضاها ضمان المثل في المثليّ والقيمة في القيميّ ، بمعنى : أنّ العين إذا تلفت يقع على العهدة بدلها ، وهو المثل في المثليّ والقيمة في القيميّ.

وعلى هذا الاحتمال إمّا نقول ببقاء المثل على العهدة إلى وقت الأداء حتى مع إعوازه مطلقا ، وأنّ دفع القيمة إلى المالك عند التعذّر نحو أداء للمثل. وإمّا نقول بانقلابه بمجرّد التعذّر إلى القيمة. وبانقلاب العين في الاحتمال الأوّل ، وهو وقوع العين على العهدة وقت تعذّر الأداء.

هذه هي الاحتمالات المعتدّ بها من الاحتمالات المتصورة في المقام.

فإن قلنا بالاحتمال الأوّل ـ وهو كون العين على العهدة ـ فعن بعض المحقّقين : أنّ الاعتبار بقيمة يوم الأداء ، ببيان : أنّ ماليّة العين حال الأداء لا تحتاج إلى عناية ، بخلاف غير حال الأداء كحال التعذّر أو التلف أو المطالبة ، فإنّها تحتاج إلى عناية ومعيّن.

بل نفس التكليف بأداء ماليّة العين تقتضي تعيّن ماليّتها عند تعلّق الأداء بها ، لأنّها

٣٩٧

.................................................................................................

__________________

قيمتها بالفعل ، وهي نحو أداء للعين. والتكليف وإن لم يتعلّق إلّا بنفس العين دون القيمة ، إلّا أنّ عدم إمكان ردّها بنفسها أوجب المصير إلى ماليّتها ، إذ المضمون هو العين بماليّتها ، دون ذات العين بدون الماليّة. فنفس دليل الضمان يقتضي ضمان ماليّة المضمون ، ولا يحتاج ضمانها إلى دليل آخر. وتقييد ماليّتها بغير وقت الأداء محتاج إلى مئونة زائدة ، فمقتضى الضمان العرفيّ الممضى شرعا هو قيمتها الفعليّة.

فلا يرد عليه : أنّ هذا التقريب قاصر عن إثبات مطلوبهم ، لأنّ التكليف على هذا المبنى لم يتعلّق بأداء القيمة والماليّة ، ضرورة عدم انقلاب العين إلى القيمة ، وليس دليل لفظيّ دالّ على وجوب أداء قيمة العين حتى يستظهر منه ما ذكر ، هذا.

نعم الإشكال في أصل المبنى «بعدم دليل على وقوع العين في العهدة بعد التلف مع عدم إمكان أدائها أصلا» في محلّه ، لاحتياجه إلى عناية زائدة ، فإنّ اعتبار وجود العين على العهدة ممّا لا يتبادر في أذهان العقلاء الحاكمين بالضمان. بل تلف العين يوجب اشتغال الذمّة ببدلها مثلا أو قيمة. كما أنّ تلف المثل يوجب الانتقال إلى البدل إلّا مع رجاء وجود المثل في زمان غير بعيد ، هذا.

وقد يقال : باعتبار قيمة يوم التلف مع فرض كون العين على العهدة ، ببيان : «أنّ الماليّة بلحاظ حال التلف ماليّة حقيقية موجودة مضمونة. وأمّا الماليّة قبل التلف فهي موجودة ، لكنّها غير مضمونة ، ولذا لا يجب تداركها مع دفع العين إذا نقصت قيمتها.

والماليّة بعد التلف ليست موجودة ، بل مفروضة بفرض وجود العين ، ولا تدارك حقيقة إلّا للماليّة المتحقّقة بتحقّق العين ، لا الماليّة المقدّرة للعين المفروضة.

فالنتيجة هي الاعتبار بقيمة يوم التلف ، لا يوم الأداء كما هو مقتضى الوجه الأوّل.

نعم إنّما تكون العبرة بيوم الأداء إذا قلنا بأنّ مقتضى أدلة الضمان كون الثابت على العهدة المثل لا العين ، لأنّ المثل ثابت عليها إلى زمان الأداء ، فالاعتبار بيومه ، لأنّ المثل كلّي ثابت في الذمة له ماليّة موجودة لا مفروضة. وهو الفارق بين بقاء العين على العهدة

٣٩٨

.................................................................................................

__________________

إلى زمان التفريغ ، وبقاء المثل إلى زمان الأداء ، فإنّ العين حيث كانت شخصيّة وقد تلفت فلا وجود ولا ماليّة لها إلّا بالفرض. بخلاف المثل ، فإنّه كلّيّ لا يتوقّف اشتغال الذمّة به على وجود شي‌ء يطابقه خارجا ، فلا تلف له ، فماليته حال الأداء متحققه لا مفروضة» (١).

وفيه : أنّ الفرق بين بقاء العين على العهدة إلى زمان التفريغ ، وبقاء المثل إلى زمان الأداء غير ظاهر ، لأنّ ماليّة الكلّيّ ليست باعتبار نفسه ، بل باعتبار ماليّة مصاديقه المحقّقة أو المقدّرة ، فمصاديقه التي تكون تحت قدرة الضامن جهة تعليليّة لصيرورة الكلّيّ في الذمّة مالا ، نظير الأوراق النقديّة ، فإنّ ماليّتها باعتبار الذهب أو الفضّة أو غيرهما ممّا جعل بإزائها ومنشأ لماليّتها ، ويقال لها : «رصيد».

وعليه فالكلّيّ إذا كان على ذمّة معتبرة ـ أمكن لصاحبها إيجاد مصاديقه مهما أراد ، أو يطالب آجلا أو عاجلا ـ يكون مالا ، ومع عدم الإمكان مطلقا لا تعتبر له الماليّة ، فكما أنّ ماليّة الكلّيّ باعتبار غيره وهو مصاديقه ، فكذلك ماليّة العين التي هي في الذمّة باعتبار أنّها مضمونة ، وأنّ صاحب الذمة قادر على أدائها بمثلها أو قيمتها. والعين المعدومة خارجا غير معدومة في صقع الاعتبار ، ولها ماليّة باعتبار إمكان تأديتها بالمثل أو القيمة.

فلا فرق بين الكلّيّ في الذمّة. والعين فيها ، لا من جهة المعدوميّة من جهة والموجوديّة من أخرى ، فإنّ كلّا منهما معدوم خارجا وموجود اعتبارا. ولا من جهة الماليّة ، لأنّ كلّا منهما بذاته مع الغضّ عن إمكان تحقّق مّا لا مالية له. ولهذا لا يعتبر الكلّيّ في ذمّة من لا يقدر على إيجاد مصداقه عاجلا ولا آجلا ، ولا ماليّة له. فالعين المعتبرة في ذمّة من أمكنه أداء مثلها أو قيمتها مال ، والمسألة عقلائيّة لا عقليّة ، فالاعتبار على هذا المبنى ـ أي كون العين في الذمّة ـ بقيمة يوم الأداء مع اعتبار جميع الأوصاف الدخيلة في الرغبات.

__________________

(١) حاشية المكاسب للمحقق الأصفهاني ، ج ١ ، ص ٩٤.

٣٩٩

.................................................................................................

__________________

وأمّا ما أفيد من «عدم ضمان الماليّة قبل التلف وإن كانت موجودة» فإن أريد بها القيمة السوقيّة فلا بأس به ، لما قيل من أنّ مجرّد زيادة القيمة السوقيّة ما لم ترجع إلى وجود وصف أو فقدانه لا توجب الضمان ، لعدم مساعدة العرف عليه ، إذ القيمة معتبرة بإزاء الشي‌ء وصفاته الموجبة للرغبات ، ولا تلاحظ القيمة وصفا لنفس الشي‌ء.

وإن أريد بها الأعمّ منها ومن الأوصاف الدخيلة في الرغبات ، فهي مضمونة بدليل الضمان كما تقدّم.

وعليه فالأولى أن يقال : إنّ مقتضى هذا المبنى ـ أي : كون العين في الذمّة ـ وجوب الخروج عن عهدة العين التي في عهدته. بأداء قيمتها التي هي نحو أداء لها ، والعرف يحكم بأنّ أداءها يتحقق بأداء قيمتها الفعلية ، لا القيم الأخر ، فلو كان قيمتها حال الأداء مائة مثلا وقبله خمسين ، فأداء الخمسين ليس نحو أداء لها.

وكذا الحال بناء على كون مفاد دليل الضمان ضمان المثل في المثليّ والقيمة في القيميّ ـ في قبال المبنى المتقدّم وهو ضمان نفس العين ـ فإنّه بناء على بقاء المثل في الذمة إلى وقت الأداء وعدم انقلابه بالتعذّر إلى القيمة يجري فيه ما مرّ من كون العبرة بقيمة يوم الأداء.

وأمّا بناء على انقلاب المثل بتعذّره إلى القيمة ، فإن كان التعذّر بدويّا أي من زمان تلف العين ـ فالعبرة بقيمة العين يوم التلف ، لأنّه يوم الانقلاب إلى القيمة.

ولا وجه لاعتبار قيمة الأزمنة المتخللة بين تلف العين وأداء القيمة ، إذ القيمة في تلك الأزمنة فرضيّة لا حقيقيّة. فالضمان إنّما ثبت في الماليّة الموجودة ، وهي زمان تلف العين ، فالقيمة قيمة العين ، لا قيمة المثل حتى يلاحظ قيمة يوم الأداء ، نظرا إلى ثبوت كلّيّ المثل في الذمّة إلى زمان الأداء.

وإن كان التعذّر طارئا ، فعلى القول بكون المثل والقيمة كليهما غرامة نفس العين ـ وأنّ ضمان المثل في المثليّ لسدّ خلل مال الغير بمقدار الإمكان ، وهو ماهيّته النوعية ،

٤٠٠