هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٣

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٠

وما أجمع على كونه قيميّا يضمن بالقيمة ، بناء (١) على ما سيجي‌ء من الاتّفاق على ذلك (٢) ، وإن وجد مثله (٣) أو كان (٤) مثله

______________________________________________________

السلطان ، فكتب : لك الدّراهم الاولى» (١).

بتقريب أنّ الدراهم الأولى الساقطة عن الرّواج لم تخرج عن الماليّة رأسا ، لأنّ مادّتها فضّة ، وهي لا تسقط عن القيمة بمجرّد إسقاط الهيئة والسّكّة ، وإنّما تنقص قيمتها عن الدراهم الرائجة. مثلا إذا كانت عشرة من الدراهم الاولى تساوي دينارا ، فبعد إسقاطها يكون الدينار بعشرين منها أو بثلاثين ، وهذا هو تنزّل المالية ، لا السقوط عن التقويم رأسا.

(١) متعلّق ب «يضمن بالقيمة» يعني : أنّ ضمان ما أجمعوا على قيميّته بالقيمة مبنيّ على تسلّم الكبرى ، وهي ضمان القيميّ بقيمته لا بمماثله عرفا ، فلولا هذا الإجماع اقتضت الآية الشريفة ضمانه بالمماثل ، ثم بالقيمة.

(٢) أي : على ضمان القيميّ بالقيمة ، قال في الأمر السابع : «فالمرجع في وجوب القيمة في القيميّ وإن فرض تيسّر المثل له ، كما في من أتلف عبدا من شخص باعه عبدا موصوفا بصفات ذلك العبد بعينه .. هو الإجماع كما يستظهر».

(٣) كما لو أتلف ذراعا من كرباس طوله عشرون ذراعا ، فإنّ مثل التالف ليس بعزيز الوجود ، ومع ذلك فالمضمون به هو القيمة ، للإجماع على قيميّة الأقمشة والثياب.

(٤) كما لو أتلف عبدا ، وله على سيّده بسبب القرض أو السلم عبد بصفات التالف ، فإنّهم لا يحكمون بالتهاتر ، بل على المتلف قيمة العبد المتلف. وعلى المقترض أو البائع سلما أداء ما في ذمّته من العبد إلى مالكه.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٢ ، ص ٤٨٨ ، الباب ٢٠ من أبواب الصرف ، الحديث ٢.

٣٦١

في ذمّة المالك (١).

وما (٢) شكّ في كونه قيميّا أو مثليّا يلحق بالمثليّ ، مع عدم اختلاف قيمتي المدفوع والتالف ، ومع الاختلاف الحق بالقيميّ (٣) ، فتأمّل (٤).

______________________________________________________

(١) ولولا الإجماع على ضمان المثليّ بالمثل والقيميّ بالقيمة كان اللازم التهاتر في مثال إتلاف العبد.

(٢) هذا حكم الشكّ في مثليّة التالف وقيميّته ، وقد أوضحناه آنفا.

(٣) لعلّ وجه إلحاقه بالقيميّ هو عدم إمكان المثل المماثل للتالف في الماليّة ، فيصير من قبيل تعذّر المثل الموجب لجواز دفع القيمة.

(٤) لعلّه إشارة إلى : أنّ مقتضى الدليلين السابقين اعتبار المماثلة في المالية ، والمفروض فقدانها ، فالدليلان قاصران عن الدلالة على الاجتزاء به. ولعدم الدليل على الاكتفاء بالقيمة يدور الأمر بين المثل والقيمة ، والمرجع فيه أصالة الاشتغال كما تقدّم.

أو إشارة إلى : أنّه مع فرض تحقّق الإجماع على إهمال التفاوت بين قيمتي التالف والمدفوع لا وجه لإلحاق المثليّ بالقيميّ مع اقتضاء الآية الضمان بالمثل.

٣٦٢

الخامس (١) : ذكر في القواعد : «أنّه لو لم يوجد المثل إلّا بأكثر من ثمن المثل ففي وجوب الشراء تردّد» انتهى (٢).

______________________________________________________

٥ ـ ارتفاع ثمن المثليّ

(١) هذا البحث متفرّع على ما تحقّق في الأمر الرابع من ضمان المثليّ بالمثل ، للوجوه الثلاثة المتقدّمة من آية الاعتداء وإطلاق نصوص الضمان مقاميّا والإجماع ، فيحرز اشتغال الذمّة بالمثل. هذا مع عدم تفاوت قيمتي المثل من زمان ضمانه إلى زمان أدائه. وأمّا إذا ارتفعت قيمته بأن صارت قيمته أضعاف قيمته وقت ضمانه فهل يجب على الضامن تحصيل المثل أم يكفي ردّ ثمنه الذي كان حين ضمانه؟

وكذا يتّجه هذا البحث بناء على قصور الأدلّة عن إثبات ضمان المثليّ بمثله ، وقلنا بتخيير المالك بين مطالبة المثل والقيمة.

وأمّا بناء على القول بتخيير الضامن بينهما لم يبق موضوع لهذا البحث ، لجواز اقتصار الضامن على القيمة ، هذا.

(٢) العبارة الموجودة في القواعد وفي متن جامع المقاصد ومفتاح الكرامة هي : «ولو تعذّر المثل إلّا بأكثر من ثمن مثله ، ففي وجوب الشراء نظر» (١).

__________________

(١) قواعد الأحكام ، ص ٧٩ (الطبعة الحجرية) ؛ مفتاح الكرامة ، ج ٦ ، ص ٢٥٤ ؛ جامع المقاصد ، ج ٦ ، ص ٢٦٠.

٣٦٣

أقول (١) : كثرة الثمن إن كانت لزيادة القيمة السوقيّة للمثل (٢) ، بأن صار

______________________________________________________

ووجه النظر ما أفاده في التذكرة بقوله : «إذا أتلف المثليّ وجب عليه تحصيل المثل ، فإن وجده بثمن المثل وجب عليه شراؤه بلا خلاف. وإن لم يجده إلّا بأزيد من ثمن المثل ففي إلزامه بتحصيله إشكال. ينشأ من أنّ الموجود بأكثر من ثمن المثل كالمعدوم كالرّقبة في الكفارة والهدي. ومن أنّ المثل كالعين ، وردّ العين واجب وإن لزم في مئونته أضعاف قيمته. وللشافعيّة وجهان. أظهرهما الأخير. وربّما يمكن الفرق بين المثل والعين بأنّه تعدّى في العين دون المثل ، فلا يأخذ المثل حكم العين» (١).

والأوّل وجه لعدم وجوب الشراء ، والثاني وجه لوجوبه كما لا يخفى.

وجعل المحقّق الثاني قدس‌سره منشأ نظر العلامة قدس‌سره : «لزوم الضرر المنفيّ عن الضامن ، فلا يجب عليه الشراء بأكثر من ثمن المثل. وأنّ القدرة على المثل موجودة ، فيجب شراؤه» ثمّ رجّح الوجوب كما صنعه العلّامة في التحرير (٢).

(١) ناقش المصنّف قدس‌سره في تردّد العلّامة وحكم بوجوب شراء المثل سواء أكانت زيادة قيمته لأجل ارتفاع قيمته السوقيّة ، لارتفاع أسعار السّلع بحيث قل ما تتساوى قيمة الأمتعة في مبدأ الشهر ومنتهاه ، أم كانت لأجل عزّة وجود المثل ككونه عند من يضنّ به ، ولا يبيعه إلّا بأكثر من قيمته المتعارفة.

ولو كان كثير الوجود لم يرتفع قيمته السوقيّة. لكنّه قدس‌سره في بادئ الأمر فصّل بين الصورتين ، كما سيتّضح.

(٢) هذا هو أحد منشئي كثرة ثمن المثل. ومحصّله : أنّ تردّد العلّامة إن كان في صورة ارتفاع القيمة السوقيّة ، لم يكن له وجه ، لأنّ وجوب الشراء إجماعيّ ، كما إذا

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٣٨٤ ، أواخر الصفحة.

(٢) تحرير الأحكام ، ج ٢ ، ص ١٣٩.

٣٦٤

قيمته أضعاف قيمة التالف يوم تلفه ، فالظاهر أنّه لا إشكال في وجوب الشراء ولا خلاف ، كما صرّح به في الخلاف ، حيث قال : «إذا غصب ماله مثل كالحبوب والأدهان فعليه مثل ما تلف في يده ، يشتريه بأيّ ثمن كان بلا خلاف» (١).

وفي المبسوط : «يشتريه بأيّ ثمن كان إجماعا» (٢) انتهى.

ووجهه عموم النصّ والفتوى (١) بوجوب المثل في المثليّ.

ويؤيّده فحوى (٢) حكمه بأنّ تنزّل قيمة المثل حين الدفع عن يوم التلف

______________________________________________________

أتلف زيد حنطة من عمرو ، فأراد ردّ مماثلها بعد عام ، وقد بلغت قيمة الحنطة ضعف ما كانت عليه ، فإنّه لا ريب في وجوب الشراء مقدّمة لأداء المثل إلى المضمون له.

ويدلّ عليه وجوه ثلاثة ، أوّلها : الإجماع الذي ادّعاه شيخ الطائفة في المبسوط والخلاف.

ثانيها : إطلاق آية الاعتداء ، القاضي بوجوب ردّ المثل سواء توقّف على الشراء أم لا ، وسواء أكان شراؤه بثمن المثل أم بأزيد منه.

ثالثها : إطلاق فتوى الأصحاب بوجوب ردّ المثل مهما كلّف من مئونة.

(١) الظاهر أن المراد بعموم النص عموم آية الاعتداء ، والمراد بالعموم هو الإطلاق الأحوالي كما أوضحناه.

(٢) تقريب الفحوى : أنّ دفع المثل مع نقصان قيمته عن قيمة التالف إنّما هو لصدق المماثلة ، فإذا صدق عليه أنّه مماثل مع عدم مماثلته للتالف في الماليّة بحدّها ، فصدق المماثل عليه مع بلوغه قيمة التالف وزيادة يكون بالأولويّة ، لأنّه مماثل له في الحقيقة والماليّة حقيقة لا عناية لمجرّد المماثلة في الصورة.

__________________

(١) الخلاف ، ج ٣ ، ص ٤١٥ ، المسألة ٢٩ من كتاب الغصب.

(٢) المبسوط ، ج ٣ ، ص ١٠٣.

٣٦٥

لا يوجب الانتقال إلى القيمة. بل ربّما احتمل بعضهم ذلك (١) مع سقوط المثليّ في زمان الدفع عن الماليّة (٢) كالماء على الشاطئ (٣) والثلج في الشتاء.

وأمّا (٤) إن كان لأجل تعذّر المثل وعدم وجدانه إلّا عند من يعطيه بأزيد

______________________________________________________

ويمكن تقريب الفحوى بنحو آخر ، وهو : أنّ حكمهم بعدم الانتقال إلى القيمة في صورة التنزّل يقتضي عدم مراعاة قاعدة «نفي الضرر» بالنسبة إلى تضرّر المالك به ، فعدم مراعاة قاعدة الضرر بالنسبة إلى الضرر الوارد على الضامن ـ بازدياد ثمن المثل ـ أولى ، لأنّ الضامن أقدم على ضرر نفسه.

(١) أي : عدم الانتقال إلى القيمة مع سقوط المثل عن التقويم ، والمحتمل هو العلّامة في القواعد ، من دون ترجيح له ولا لخلافه ، وقد تقدم كلامه في الأمر الرابع. ومال إليه في الجواهر (١).

(٢) متعلّق بقوله : «سقوط».

(٣) يعني : أتلف الضامن الماء في مفازة حيث يبذل المال الكثير لتحصيله ، فأراد دفع ذلك المقدار من الماء على شاطئ النهر بحيث لا يبذل فلس بإزائه.

وكذا الحال في إتلاف الجمد والثلج في حرّ الصيف ، فأراد دفع مماثلهما في الشتاء.

(٤) هذا عدل قوله : «إن كانت لزيادة القيمة السوقيّة» وكان الأولى أن يقال : «وإن كانت لأجل تعذّر المثل ..» وكيف كان فلم نظفر في العبارة بجواب «وأمّا» فلاحظ وتأمّل.

واحتمال «كون ـ والظاهر ـ غلطا ، وأنّ الصواب اقترانه بالفاء ليكون جواب الشرط» ضعيف ، إذ بعد فرض كون النسخة الصحيحة كذلك لا يصلح لأن يكون جوابا ، لعدم الارتباط بين الشرط والجزاء ، إذ لا يكون قوله : «والظاهر» مرتبطا بما قبله ، فإنّ الجواب لا بدّ أن يكون مترتّبا على الشرط ، وهو مفقود هنا كما لا يخفى.

__________________

(١) جواهر الكلام ، ج ٣٧ ، ص ٩٩.

٣٦٦

ممّا يرغب فيه الناس مع (١) وصف الإعواز ، بحيث يعدّ بذل ما يريد مالكه بإزائه ضررا عرفا. والظاهر أنّ هذا هو المراد بعبارة القواعد ، لأنّ الثمن في الصورة الأولى ليس بأزيد من ثمن المثل ، بل هو ثمن المثل. وإنّما زاد على ثمن التالف يوم التلف. وحينئذ (٢) فيمكن التردّد في الصورة الثانية

______________________________________________________

مع أنّ مقصوده حمل ترديد العلّامة قدس‌سره على هذه الصورة الثانية ، وهذا الحمل أجنبيّ عن بيان الحكم الذي يناسب الجزاء.

(١) متعلق بقوله : «يرغب» يعني : أنّ رغبة الناس فيه مع إعوازه لا تقتضي زيادة قيمته بمقدار يريده مالكه ، فزيادة الثمن حينئذ ليست لارتفاع القيمة السوقيّة عند الإعواز ، بل لأجل طمع المالك وإجحافه ، بحيث يعدّ بذل ما يطلبه بائع المثل ضررا عرفا.

وحاصل الفرق بين الصورة الاولى ـ وهي ما أفاده بقوله. «كثرة الثمن إن كانت لزيادة القيمة إلخ» ـ والصورة الثانية وهي قوله : «وأمّا إن كان لأجل تعذّر المثل إلخ» هو : أنّه في الصورة الاولى لا يصدق «الأكثر من ثمن المثل» إذ المفروض ارتفاع قيمة المماثل للتالف ، فالثمن الفعليّ للمثل هو نفس ثمن المثل ، لا أكثر منه. نعم هو أكثر من ثمن التالف يوم تلفه.

بخلاف الصورة الثانية ، فإنّه يصدق عليها ذلك ، إذ المفروض كون الثمن الذي يريده المالك أكثر من قيمته السوقيّة التي يرغب فيها الناس بوصف الإعواز ، كما إذا كانت قيمته السوقيّة بهذا الوصف عشرة دراهم والمالك يريد خمسة عشر درهم ، فإنّ صدق «أكثر من ثمن المثل» عليه حينئذ من الواضحات ، ويصدق عليه أنّ المالك مجحف في هذه المعاملة ، فيتّجه البحث عن وجوب شراء المثل وعدمه.

(٢) يعني : حين إرادة بائع المثل أكثر من الثمن السوقيّ لمثل التالف بوصف إعوازه. والظاهر زيادة هذه الكلمة ، للزوم التكرار ، لوضوح أنّ مفروض الصورة الثانية إرادة بائع المثل زيادة على ثمنه الواقعي ، فلا حاجة إلى كلمة «حينئذ»

٣٦٧

ـ كما قيل (١) ـ من أنّ الموجود بأكثر من ثمن المثل كالمعدوم كالرقبة في الكفّارة والهدي ، وأنّه (٢) يمكن معاندة البائع وطلب أضعاف القيمة ، وهو ضرر (٣).

ولكن الأقوى مع ذلك (٤) وجوب الشراء وفاقا للتحرير كما عن الإيضاح (١) والدروس وجامع المقاصد ، بل إطلاق السرائر (٥) ، ونفي الخلاف

______________________________________________________

وعلى تقدير إسقاطها أمكن جعل «فيمكن» جوابا لقوله : «وأمّا» الشرطيّة.

والأولى أن يقال : «في هذه الصورة» بإسقاط كلمة «الثانية». أو إبقاؤها ، وإن كان إسقاطها أولى ، للاستغناء عنها باسم الإشارة ، وهي «هذه».

(١) القائل هو العلّامة قدس‌سره في التذكرة ، وقد تقدّمت عبارته آنفا.

(٢) معطوف على «أنّ الموجود» يعني : أنّه يمكن معاندة بائع المثل بأن يطلب أضعاف قيمته الواقعيّة ، وهذا الوجه أفاده السيد العميد قدس‌سره (٢).

(٣) هذا وجه تنزيل الموجود بأكثر من ثمن المثل منزلة المعدوم كالرقبة في الكفّارة ، ومن المعلوم أنّ الضرر منفيّ في الشريعة.

(٤) أي : مع كون الموجود بأكثر من ثمن المثل كالمعدوم ـ وطلب أضعاف قيمته ضررا على الضامن ـ يكون الأقوى وجوب الشراء ، قال المحقّق الثاني : «والأصحّ الوجوب ، فإنّ الضرر لا يزال بالضرر ، والغاصب مؤاخذ بأشقّ الأحوال ، فلا يناسبه التخفيف ، وهو الأصحّ» (٣).

(٥) الإتيان بكلمة «بل» لأجل أنّ ابن إدريس لم يكن من المصرّحين بوجوب شراء المثل إذا زاد ثمنه على ثمن التالف ، فنسبة هذا الحكم إليه إنّما هي لاقتضاء إطلاق

__________________

(١) الحاكي هو السيد العاملي في مفتاح الكرامة ، ج ٦ ، ص ٢٥٤. راجع تحرير الاحكام ، ج ٢ ، ص ١٣٩ ، إيضاح الفوائد ، ج ٢ ، ص ١٧٨ ، الدروس الشرعية ، ج ٣ ، ص ١١٣.

(٢) كنز الفوائد ، ج ١ ، ص ٦٦١.

(٣) جامع المقاصد ، ج ٦ ، ص ٢٦٠.

٣٦٨

المتقدّم عن الخلاف ، لعين ما ذكر في الصورة الاولى (١).

ثمّ إنّه لا فرق (٢)

______________________________________________________

كلامه بوجوب ردّ المثل ، سواء تغيّرت الأسعار أم لم تتغيّر. ولو كان نظره قدس‌سره إلى صورة مساواة ثمن المثل لثمن التالف لنبّه عليه ، ومن المعلوم أنّ عدم تقييد وجوب أداء المثل بصورة المساواة كاشف عن إطلاق الحكم. قال قدس‌سره : «فمن غصب شيئا له مثل وجب عليه ردّه بعينه ، فإن تلف فعليه مثله» (١). والجملة الأخيرة هي محطّ نظر المصنّف قدس‌سره من نسبة الإطلاق إليه ، وهو كذلك.

نعم قال في موضع آخر : «فأمّا ماله مثل فعليه مثله يوم المطالبة ، تغيّرت الأسعار أم لم تتغيّر ..» (٢). وهذا تصريح بالإطلاق ، بناء على أنّ المراد بالتغيّر الارتفاع ، ولعلّ المصنّف قدس‌سره لم يظفر بهذه العبارة ونسب الإطلاق إلى ابن إدريس قدس‌سره.

(١) وهي كون زيادة الثمن لأجل رواج السوق ، فإنّ ما ذكر فيها ـ من عموم النصّ والفتوى ـ آت هنا ، ولا مجال لقاعدة الضرر ، لأنّها مخصّصة بأدلّة الضمان. فالمتعيّن الرجوع إلى إطلاق تلك الأدلّة المخصّصة.

نعم تجري قاعدة نفي الحرج إذا لزم الإجحاف بحال الضامن ، فإنّ هذه القاعدة تنفي وجوب الشراء.

إلّا أن يقال : إنّ قاعدة نفي الحرج أيضا مخصّصة بتلك الأدلّة المخصّصة ، خصوصا بملاحظة «مؤاخذة الغاصب بأشق الأحوال».

(٢) لإطلاق أدلّة الضمان ، يعني : كما أنّ إطلاقها يقتضي وجوب شراء المثل بأكثر من ثمن المثل ، لارتفاع الأسعار مرّ الزمان ، كذلك يقتضي وجوب شرائه في بلد آخر ـ غير بلد تلف العين ـ إذا طالبه المالك بالمثل. سواء أكانت قيمتا البلدين متساويتين أم كانت قيمة بلد المطالبة أزيد.

__________________

(١) السرائر الحاوي ، ج ٢ ، ص ٤٨٠.

(٢) المصدر ، ص ٤٩٠.

٣٦٩

في جواز مطالبة (١) المالك بالمثل بين كونه في مكان التلف أو غيره. ولا بين كون قيمته في مكان المطالبة أزيد من قيمته في مكان التلف أم لا ، وفاقا (٢) لظاهر المحكيّ (١) عن التحرير والتذكرة والإيضاح والدروس وجامع المقاصد.

وفي السرائر : «أنّه الذي يقتضيه عدل الإسلام والأدلّة وأصول المذهب» (٣).

______________________________________________________

والوجه فيه اشتغال ذمة الضامن بالمثل ، فللمضمون له مطالبة حقّه. إلّا إذا تعذّر تحصيله ، فينتقل إلى قيمته حينئذ كما سيأتي تفصيله في الأمر السادس إن شاء الله تعالى.

(١) المصدر مضاف إلى الفاعل ، وضمير «كونه» راجع إلى المثل.

(٢) وخلافا لما في المبسوط من «لزوم قيمته في بلد الغصب ، أو يصبر حتى يصل إليه ليستوفي ذلك ، للضرر المنفي» (٢). لكن قد عرفت الإشكال في العمل بقاعدة الضرر من عدم شمولها للحكم الثابت بعنوان الضرر كالضمانات.

(٣) كلام ابن إدريس قدس‌سره لا يختصّ بردّ المثل في غير بلد التلف ، لتصريحه بأنّه حكم بدل التالف سواء أكان مثليّا أم قيميّا ، فلاحظ قوله : «إذا غصب منه مالا مثليّا بمصر ، فلقيه بمكّة ، فطالبه به. فإن كان المال له مثل ، فله مطالبته ، سواء اختلفت القيمة في البلدين ، أم اتّفقت. وإن كان لا مثل له ، فله مطالبته بقيمته يوم الغصب ، دون يوم المطالبة ، إذا أهلكه وأتلفه في يوم غصبه .. ولأنّ المغصوب منه لا يجب عليه الصبر إلى حين العود إلى مصر ، بل يجب على الغاصب ردّ مثل الغصب إن كان له مثل ، أو قيمته إن لم يكن له مثل ، فإنّ هذا الذي يقتضيه عدل الإسلام والأدلّة ، ولا يعرج إلى

__________________

(١) الحاكي هو السيد العاملي في مفتاح الكرامة ، ج ٦ ، ص ٢٥٢. ولاحظ تحرير الأحكام ، ج ٢ ، ص ١٣٩ ، تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٣٨٣ و ٣٨٤ ، إيضاح الفوائد ، ج ٢ ، ص ١٧٧ ، الدروس الشرعية ، ج ٣ ، ص ١١٤ ، جامع المقاصد ، ج ٦ ، ص ٢٥٢.

(٢) المبسوط ، ج ٣ ، ص ٧٦.

٣٧٠

وهو (١) كذلك ، لعموم «الناس مسلّطون على أموالهم (٢)» (١). هذا (٣) مع وجود المثل في بلد المطالبة.

وأمّا مع تعذّره فسيأتي حكمه في المسألة السادسة (*).

______________________________________________________

خلافه بالآراء والاستحسان» (٢).

ومنه ظهر أنّ كلمة : «وأصول المذهب» غير موجودة في ما بأيدينا من نسخة السرائر وإن نقله عنه السيد العاملي أيضا.

(١) يعني : أنّ ما حكي عن جمع ـ من جواز المطالبة بالمثل في غير بلد التلف ـ هو المتعيّن ، لعموم سلطنة الناس على أموالهم.

(٢) فإنّ إطلاقه يقتضي سلطنة المالك على المطالبة في كلّ مكان وزمان وبأيّ سعر كان ، وليس للضامن حبسه عنه.

ومع هذا الإطلاق لا حاجة إلى التمسّك بمثل «على اليد» أو «كلّ مغصوب مردود» حتى يورد عليه بقصوره ، بدعوى «انصرافه إلى خصوص مكان ذلك المال».

لكن يمكن أن يقال : إن كانت سلطنة المالك على المطالبة في بعض الصور حرجيّة فتنفى بقاعدة الحرج ، فلا بدّ من ملاحظة موارد المطالبة زمانا ومكانا ، وعزّة وكثرة للمثل ، وتنزّلا وترقّيا من حيث القيمة. ففي كل مورد تكون مطالبة المالك حرجيّة يرتفع جوازها بنفي الحرج ، فتأمّل.

(٣) أي : جواز المطالبة في غير بلد التلف.

__________________

(*) تحقيق المقام : أنّه قد استدل بآية الاعتداء على وجوب شراء المثل ولو بأكثر من قيمة مماثله. لكن قد عرفت الإشكال في الاستدلال بها على ما نحن فيه.

وقد استدلّ أيضا عليه بالإجماع تارة ، وبأنّ الحكم بعدم وجوب الشراء على الغاصب يستلزم الضرر على المالك اخرى.

__________________

(١) عوالي اللئالي ، ج ١ ، ص ٢٢٢ ، الحديث : ٢٩ وص ٤٥٧ ، الحديث ١٩٨.

(٢) السرائر ، ج ٢ ، ص ٤٩٠ و ٤٩١.

٣٧١

.................................................................................................

__________________

ولا يعارض ضرر المالك بضرر الضامن ليندرج المقام في تعارض الضررين كي لا يجب الشراء بأكثر من ثمن المثل. وذلك لأنّ ضرر الضامن إنّما نشأ عن إقدامه ، فلا تجري قاعدة الضرر في حقّه ، فتجري في طرف المالك بلا معارض ، فيجب شراء المثل ولو بأكثر من ثمن المثل.

لكن فيه : أنّ الاقدام ليس إلّا في الغصب وما هو بمنزلته من العلم بفساد العقد الموجب للقبض. وأمّا مع الجهل بالفساد فلا إقدام ، فالضرران متعارضان. ومقتضى أصل البراءة عدم وجوب شراء المثل بأكثر من القيمة السوقيّة.

إلّا أن يقال : إنّ استصحاب بقاء ما في الذمّة من المثل وعدم انتقاله إلى القيمة يقضي بلزوم شراء المثل بأيّ ثمن كان.

والذي ينبغي أن يقال هو : أنّ قاعدة الضرر لا تجري في الضمانات ، لأنّ موضوعها الضرر ، كالخمس والزكاة ، فإنّ المقتضي لوجود شي‌ء يمتنع أن يكون رافعا له ، فقاعدة الضرر لا تجري في الضمانات أصلا ، فلا موضوع لتعارض ضرري المالك والضامن ، ولا لدفعه بقاعدة الإقدام من ناحية الضامن.

مضافا إلى ما فيها : من كونها أخصّ من المدّعى ، لاختصاصها بالغصب وما هو بمنزلته ، إذ لا إقدام على الضمان في غير الغصب.

فالمرجع إطلاق أو عموم أدلّة الضمان وعموم سلطنة الناس على أموالهم. هذا بالنسبة إلى الصورة الأولى المذكورة في المتن ، وهي كون زيادة القيمة لأجل الرواج السوقيّ ، لا العناد المالكيّ ولا طمعه. ومع هذا الإطلاق لا تصل النوبة إلى أصل عملي من استصحاب أو براءة أو اشتغال.

نعم إذا لزم الحرج كما إذا كان مجحفا لم يجب الشراء ، لقاعدة نفي الحرج.

وأمّا الصورة الثانية ـ وهي كون زيادة القيمة غير مستندة إلى الرواج بل إلى عناد بائع المثل أو طمعه ـ فحكمها كما في المتن حكم الصورة السابقة ، لجريان ما ذكر من الأدلة من عموم النص والفتوى والإجماع المستفاد من نفي الخلاف ـ في الخلاف ـ في

٣٧٢

.................................................................................................

__________________

هذه الصورة حرفا بحرف.

وبالجملة : فإطلاق أدلّة ضمان المثليّ بالمثل محكّمة ، فيجب شراؤه ولو بأكثر من ثمن المثل ، إذ المفروض عدم جريان قاعدة الضرر في الضمانات. وعلى تقدير جريانها تسقط بمعارضتها لضرر المالك. فيبقى إطلاق أدلّة الضمان سليما عن المعارض ، ومقتضاه وجوب شراء المثل بأيّ ثمن كان.

إلّا أن يقال : إنّ قاعدة الضرر لا ترفع الحكم المجعول في مورد الضرر إذا كان الضرر بمقدار يقتضيه طبع الحكم كما في الصورة الأولى. وأمّا إذا كان الضرر زائدا على ذلك ومترتّبا على أمور خارجة عمّا يقتضيه طبع الحكم ، كما إذا كان مترتّبا على عناد بائع المثل أو طمعه ، فينفى بقاعدة الضرر ، لأنّه خارج عن حيطة الضمان العقلائيّ وكون المثل في عهدة الضامن.

وبعبارة أخرى : ليس الضرر الزائد جزء ماليّة المثل الثابت على عهدة الضامن ، وما ثبت بالضمان هو المثل بماليّته السوقيّة لا بالماليّة الخاصّة التي يريدها شخص للطمع أو العناد ، فإنّ ذلك خارج عن حيطة الضمان الشرعي والعرفيّ.

وعليه فلا يجب شراء المثل في الصورة الثانية ، لقاعدة الضرر بالنسبة إلى الضامن ، فينتقل إلى القيمة.

لكن يمكن أن يقال : بناء على إطلاق لفظيّ لأدلّة الضمان ـ كآية الاعتداء والروايات ـ لا تجري قاعدة الضرر في الصورة الثانية أيضا ، إذ المفروض وفاء الإطلاق بجعل الحكم الضرريّ بالنسبة إلى الضرر الزائد على القيمة السوقيّة ، وحيث إنّ موضوع هذا الحكم هو الضرر فلا يرتفع بقاعدة الضرر ، فحينئذ لا فرق في وجوب الشراء بين الصورتين.

نعم بناء على كون مستند الحكم بكيفيّة الضمان ـ أي ثبوت المثل في المثليّ والقيمة في القيميّ في عهدة الضامن ـ هو الدليل اللبّيّ من السيرة أو الإجماع ، فالمتيقّن هو وجوب الشراء في الصورة الأولى ، فيرجع في الصورة الثانية إلى الأصل العمليّ ، وهو

٣٧٣

.................................................................................................

__________________

استصحاب الضمان بالمثل ، إن لم تجر قاعدة الضرر في الشراء بالزيادة على القيمة السوقيّة ، لمعارضتها بضرر المالك ، أو حرجه. ولو كان الشراء حرجيّا ولم يعارضه ضرر المالك أو حرجه لم يلزم شراؤه ، لكون الحرج رافعا له ، فلا يجري حينئذ استصحاب بقاء المثل في الذمّة حتى يجب شراء المثل بثمن كثير يريده بائع المثل.

فتلخّص ممّا ذكرناه : أنّه في الصورة الثانية لا يجب الشراء بأكثر من ثمن المثل ، من غير فرق في ذلك بين كون دليل الضمان بناء العقلاء أو الإجماع أو مثل آية الاعتداء.

أمّا على الأوّلين فلأنّ الضمان العرفيّ مبنيّ على المتعارف عندهم من اعتبار القيمة السوقيّة ارتفاعا وانحطاطا ، فلو تنزّل السعر السوقيّ ليس للمالك الامتناع عن أخذ المثل. كما أنّه لو ترقّى ليس للضامن الامتناع من إعطاء المثل ، بل يجب عليه شراؤه ولو بأكثر من ثمن المثل.

فإذا كانت كثرة الثمن غير مستندة إلى القيمة السوقيّة بل إلى الأغراض الأخر ـ كالعناد أو الطمع ـ فهي غير مضمونة عرفا على الضامن ، لأنّ الدليل لبّيّ. والمتيقّن منه هو ضمان المثل بقيمته السوقيّة قلّت أو كثرت ، فلا يشمل ما إذا كانت كثرة الثمن لغير الرواج السوقيّ ، فتنفيه قاعدة الضرر أو الحرج.

وحينئذ لا يجري استصحاب بقاء المثل في الذمّة ، لأنّ الدليل الاجتهاديّ ينفي الضمان ، ويجعل المثل الموجود في هذه الصورة كالمثل المتعذّر ، فينتقل إلى القيمة. كما أنّ قاعدة السلطنة القاضية بجواز مطالبة المالك بالمثل ـ وإن كثر ثمنه لا لأجل رواج السوق ـ محكومة بقاعدة الضرر أو الحرج.

وأمّا على الثالث فلأنّ المنساق منه عرفا أيضا هو الضمان العقلائيّ الذي يبنى عليه إطلاق أدلة الضمان. وعلى تقدير الإطلاق تكون قاعدة الضرر حاكمة عليه ، وتخصّه بالضمان المتعارف أعني به القيمة السوقيّة.

وبالجملة : فدليل الضمان لفظيا كان أم لبّيّا لا يقتضي وجوب شراء المثل بثمن لا يقتضيه رواج السوق ، بأن نشأ عن داع نفسانيّ كالطمع والعناد.

٣٧٤

السادس (١) : لو تعذّر المثل في المثليّ ،

______________________________________________________

(١) هذا الأمر من فروع الأمر الرابع الذي تحقّق فيه أنّ المقبوض بالبيع الفاسد إذا تلف عند القابض يضمن بمثله إن كان مثليّا ، وبقيمته إن كان قيميّا. خلافا لما نسب إلى ابن الجنيد. فبناء على اشتغال ذمّة الضامن بمثل التالف ـ في المثليّ ـ يتّجه البحث عن حكم تعذّر المثل ، وانقلاب المضمون إلى القيمة. ويقع الكلام في تعيين قيمة المثل المتعذّر هل هو ثمنه يوم الأداء إلى المضمون له ، أم يوم تعذّر المثل ، أم غير ذلك من الاحتمالات التي سيأتي تفصيلها إن شاء الله تعالى؟

ولا بأس ـ قبل توضيح المتن ـ بالإشارة إلى أمرين :

الأوّل : أنّ تعذّر المثل قد يكون ابتدائيّا أي من حين تلف العين ، بأن يعزّ وجود المتاع المثليّ في مدّة من الزمن ، فتلفت العين فيها. وقد يكون طارئا ، بأن يوجد المثل حين تلف العين ولم يحصّله الضامن تساهلا حتى تعذّر المثل.

وانقلاب الضمان بالمثل إلى الضمان بالقيمة وإن كان في كلتا الصورتين. إلّا أنّ المقصود بالبحث فعلا كما صرّح المصنّف قدس‌سره به بقوله : «إذ لا فرق في تعذّر المثل بين تحقّقه ابتداء كما في القيميّات ، وبين طروّه بعد التمكّن كما فيما نحن فيه» هو التعذّر الطاري. وأمّا إذا فقد المثل وقت التلف فسيأتي حكمه.

الثاني : أنّ وجوب أداء ما في الذمّة لا يتوقّف على مطالبة من له الحق كما في المغصوب ، فإنّ الغاصب مأمور بردّه ـ بنفسه أو ببدله ـ إلى المغصوب منه ، سواء طالبه به أم لم يطالبه ، لإطلاق «أنّ المغصوب مردود». والمبيع بالبيع الفاسد يكون كالمغصوب في عدم توقّف وجوب ردّه إلى مالكه على المطالبة. نعم إن لم نقل بحرمة إمساكه كما تقدّم من شيخ الطائفة والحلّي قدس‌سرهما لم يجب ردّه فورا بدون المطالبة.

٣٧٥

فمقتضى القاعدة (١) وجوب دفع القيمة

______________________________________________________

والصحيح من الوجهين هو الأوّل كما حقّقه المصنّف قدس‌سره في الأمر الثاني ، وأنّه يجب ردّه فورا إلى مالكه.

وهذا جار في صور ثلاث : إحداها : بقاء المبيع بالبيع الفاسد. ثانيتها : تلفه مع كونه مثليّا ممكن الحصول. ثالثتها : تلفه مع كونه قيميّا.

فيجب ردّ المبيع ـ في الصورة الاولى ـ وبدله في الصورتين الأخريين إلى مالكه فورا.

وبقي حكم صورة واحدة ، أعني بها كون المبيع مثليّا ، وقد تلف وتعذّر تحصيله ، وقد عقد المصنف هذا الأمر لتحقيقه ، وتعرّض لجهات من البحث.

الاولى : اشتراط انقلاب الضمان من المثل إلى القيمة بمطالبة المالك.

الثانية : تعيين القيمة التي تجب بمطالبة المالك ، هل هي قيمة المثل يوم الإعواز أم يوم الدفع أم غيرهما؟ وفي هذه الجهة تفصيل الاحتمالات المذكورة في قواعد العلّامة قدس‌سره.

الثالثة : في أنّ محلّ النزاع هل يختصّ بالتعذر الطاري أم يعمّ الابتدائيّ؟

الرابعة : في أنّ مناط إعواز المثل فقده في بلد التلف.

الخامسة : في كيفيّة تقويم المثل مع فرض تعذّره وفقده.

السادسة : في جواز مطالبة الضامن بالمثل لو وجد في بلد آخر غير بلد التلف.

السابعة : في حكم خروج المثل الموجود عن الماليّة والتقويم ، وأنّه ملحق بتعذّر المثل أم لا؟

وسيأتي الكلام في كلّ منها إن شاء الله تعالى.

(١) هذه هي الجهة الاولى. وتوضيحها : أنّ المصنّف قدس‌سره بنى انقلاب الضمان من المثل إلى القيمة على مطالبة المالك ، إذ لو لم يطالب لم يكن دليل على إلزامه بقبول القيمة ، لفرض أنّ ذمّة الضامن مشغولة بالمثل ، ومجرّد التعذّر والإعواز لا يسقط المثل عن العهدة ، للفرق بين الأحكام التكليفيّة التي تتغيّر بطروء العناوين الثانويّة ، وبين الأحكام الوضعية كالضمان ، فلو صبر المالك إلى أن يتيسّر للضامن أداء المثل لم يتّجه إلزامه بقبول القيمة ، هذا.

٣٧٦

مع مطالبة (١) المالك ، لأنّ منع المالك ظلم (٢) ، وإلزام الضامن بالمثل منفيّ بالتعذّر ، فوجب القيمة جمعا بين الحقّين (٣).

مضافا إلى قوله تعالى :

______________________________________________________

وأمّا إذا طالبه المالك بقيمة المثل المتعذر ، فقد استدلّ المصنف قدس‌سره بوجهين على وجوب بذل القيمة على الضامن.

أحدهما : الجمع بين حقّي المالك والضامن. والآخر : آية الاعتداء ، وسيأتي بيانهما.

(١) وجه تقييد وجوب دفع القيمة بمطالبة المالك هو استقرار المثل في ذمّة الضامن ، وعدم كون القيمة في رتبة المثل ، بل هي في طوله ومتأخّرة عنه رتبة. وهذا التقييد لا ينافي كون المقبوض بالبيع الفاسد كالمغصوب ممّا يجب ردّه بنفسه أو ببدله إلى المالك فورا ، وذلك لعدم كون القيمة واجدة لخصوصيّة المثل المستقرّ في العهدة حتى يكون أداؤها مسقطة له ، وسيأتي مزيد توضيح له.

(٢) هذا أوّل الوجهين على وجوب أداء القيمة على الضامن ، استدلّ به المحقّق الأردبيلي قدس‌سره وغيره (١). وهو مقتضى الجمع بين حقّي المالك والضامن.

أمّا حقّ المالك فهو استحقاقه للقيمة بعد إسقاط الأوصاف النوعيّة التي هي من حقوقه ، فله المطالبة بالقيمة ، فلو أبى الضامن عن دفع القيمة إلى المالك كان ظلما عليه ، وهو قبيح عقلا وممنوع شرعا.

وأمّا حقّ الضامن فهو : أنّ مطالبة المثل منه غير جائزة ، لسقوط التكليف بسبب تعذّره ، فلو ألزمناه بدفع المثل كان ظلما عليه ، وهو منفيّ عقلا وشرعا.

والجمع بين الأمرين ـ بحيث لا يستلزم ظلما على أحدهما ـ إنّما هو بإلزام الضامن بأداء القيمة لو طالبه المالك بها.

(٣) وهو حقّ المالك والضامن.

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان ، ج ١٠ ، ص ٥٢٧ ؛ مفتاح الكرامة ، ج ٦ ، ص ٢٤٢ و ٢٤٣.

٣٧٧

(فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) (١) فإنّ الضامن إذا ألزم بالقيمة مع تعذر المثل لم يعتد عليه (٢) أزيد مما اعتدى (٣).

______________________________________________________

وبالجملة : ـ بعد البناء على كون ذمّة الضامن مشغولة بالمثل حتى يعدّ تعذّره وعدم سقوط الأوصاف النوعيّة بدون إسقاط المالك لها ـ لا وجه لإلزام الضامن إيّاه بقبول القيمة ، بل له الانتظار إلى أن يوجد ، إذ المفروض عدم كون تعذّر المثل مسقطا له عن ذمّة الضامن ، وموجبا للانتقال إلى القيمة ، فلا موجب لإلزام المالك بقبول القيمة.

ولا يقاس إعواز المثل بتلف العين ، حتى يقال : إنّ الإعواز يوجب الانتقال إلى القيمة ، كما أنّ تلف العين يوجب الانتقال إلى المثل إن كان مثليّا والقيمة إن كان قيميّا.

وذلك لأنّه لا معنى لبقاء العين التالفة في الذمّة ، لامتناع أدائها بعد تلفها. فالانتقال إلى المثل أو القيمة بالتلف قهريّ ، بخلاف إعواز المثل ، إذ لا مانع من ثبوت كلّيّ المثل في الذمّة إلى زمان الأداء ، ولذا لا يجوز للضامن إلزام المالك بالقيمة. كما لا يجب على الضامن إلّا دفع قيمة يوم الأداء ، لما مرّ من عدم كون الإعواز موجبا للانتقال إلى القيمة ، بل المثل باق في ذمّته إلى يوم الأداء ، فتعتبر القيمة يوم الدفع ، لأنّه زمان الانتقال إلى القيمة.

(١) هذا ثاني الوجهين على وجوب أداء القيمة. وهو مبني على ما تقدم من شيخ الطائفة قدس‌سره من : أنّ المماثلة أعم من كونها في الصورة ـ وهي المشاركة في الحقيقة ـ ومن كونها في المالية خاصة. وحيث إنّ القيمة مماثلة للتالف في المالية دلّت الآية الشريفة على أنّه يجوز للمالك الاعتداء على الضامن بأخذ قيمة ماله منه ، فمطالبة القيمة اعتداء بالمثل ، لا بأزيد منه حتى تحرم.

(٢) هذا الضمير والضمير المستتر في «اعتدى» راجعان إلى الضامن.

(٣) لأنّ القيمة مثل التالف في الماليّة ، والمفروض دلالة الآية على جواز الاعتداء بالمماثل.

٣٧٨

وأمّا (١) مع عدم مطالبة المالك فلا دليل على إلزامه بقبول القيمة ، لأنّ المتيقن (٢) أنّ دفع القيمة علاج لمطالبة المالك ، وجمع (٣) بين حقّ المالك بتسليطه

______________________________________________________

(١) معطوف على قوله : «مع مطالبة المالك» وقد تقدّم وجه تقييد وجوب دفع القيمة بمطالبة المالك بقولنا : «وبالجملة بعد البناء على كون ذمّة الضامن مشغولة بالمثل .. إلخ».

(٢) هذا التعليل ظاهر في أنّ الوجه الأوّل ـ وهو الجمع بين الحقّين ـ لا يجري في ما إذا صبر المالك حتى يتيسّر المثل ، ولم يطالب الضامن بالقيمة ، لأنّه مالك للمثل في ذمّة الضامن. فهو مسلّط شرعا على المطالبة ببدل المثل المتعذر ، كما أنّ له الانتظار وعدم أخذ القيمة.

وأمّا الوجه الثاني ـ أعني به آية الاعتداء ـ فيستفاد من التعليل المزبور أيضا عدم وجوب دفع القيمة في صورة عدم مطالبة المالك بها. وذلك لأنّ المخاطب بجواز الاعتداء على المعتدي ـ كالضامن في ما نحن فيه ـ هو المالك ، لقوله تعالى (فَاعْتَدُوا) المنسلخ عن الوجوب. فللمعتدى عليه تغريم المعتدي بالمماثل ، الشامل للمماثلة في مجرّد الماليّة خاصّة ، وله الانتظار إلى زمان تيسّر المثل المصطلح الذي هو أقرب إلى التالف ، لمساواته له في الحقيقة والماليّة معا. وعلى كلّ فليس أمر تفريغ الذمّة عن المثل أو القيمة موكولا إلى الضامن حتى يجوز له تفريغ ذمّته عمّا اشتغلت به فورا كي ينقلب ضمانه من المثل إلى القيمة ، هذا.

(٣) هذا وقوله : «وحقّ الضامن» قرينة على أنّ غرضه من قوله : «لأنّ المتيقّن» هو عدم المجال للاستدلال بالجمع بين الحقّين على جواز أداء القيمة حتى مع عدم مطالبة المالك بها.

لكن يستفاد منه أيضا وجه عدم دلالة الآية الشريفة ، لقوله قدس‌سره : «أمّا عدم المطالبة فلا دليل على سقوط حقّه عن المثل» لظهوره في توقف انقلاب ما في الذمّة من المثل إلى القيمة على المطالبة التي هي من شؤون سلطنته على ماله التالف أو المتلف.

٣٧٩

على المطالبة ، وحقّ الضامن بعدم تكليفه (١) بالمعذور (٢) أو المعسور (٣). أمّا مع عدم المطالبة فلا دليل على سقوط حقّه عن المثل.

وما ذكرنا (٤) يظهر من المحكي (١) عن التذكرة والإيضاح ، حيث ذكرا في ردّ بعض الاحتمالات الآتية (٢) في حكم تعذّر المثل ما لفظه : «أنّ المثل لا يسقط بالإعواز ، ألا ترى أنّ المغصوب منه لو صبر إلى زمان وجدان المثل ملك المطالبة به. وإنّما المصير إلى القيمة وقت تغريمها» انتهى.

______________________________________________________

(١) أي : تكليف الضامن.

(٢) فيما إذا لم يوجد المثل أصلا ، فلو كلّف الشارع الضامن بدفع المثل كان معذورا عن امتثاله.

(٣) فيما إذا وجد المثل في بلد بعيد بحيث لا يخلو تحصيله ونقله من مشقّة شديدة منفيّة شرعا.

(٤) أي : عدم سقوط المثل عن ذمّة الضامن بالتعذّر والإعواز ـ مجرّدا عن مطالبة المالك والانتقال إلى القيمة ـ إنّما هو لمطالبة المالك ، بمقتضى سلطنته على مطالبة ماله ، والكلام المحكيّ عن التذكرة والإيضاح كالصريح في ذلك ، فإنّ كلمة «تغريمها» تدل على إناطة أداء القيمة بمطالبة المالك غرامة ماله.

ولا يخفى أنّ العلّامة قدس‌سره وجّه بالعبارة المنقولة في المتن الاحتمال الرابع من الاحتمالات العشرة المحكيّة عن الشافعيّة. والاحتمال الرابع هو ضمان أقصى القيم من يوم الغصب إلى وقت التغريم. وليس في كلامه ردّ بعض الاحتمالات ، إلّا من جهة استلزام تقوية بعضها تضعيف ما عداها ، فراجع التذكرة.

__________________

(١) الحاكي هو السيد الفقيه العاملي قدس‌سره في مفتاح الكرامة ، ج ٦ ، ص ٢٥٢. لاحظ : تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٣٨٣ ، السطر ٢٥ ؛ إيضاح الفوائد ، ج ٢ ، ص ١٧٥.

(٢) ستأتي بقوله : «ثم إن في المسألة احتمالات أخر ذكر أكثرها في القواعد».

٣٨٠