هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٣

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٠

.................................................................................................

______________________________________________________

المراد بالمثل فيه مثل أصل الاعتداء ، لا مثل المعتدى فيه الذي هو ما نحن فيه ، فتأمّل» (١).

وتوضيحه : أنّ المماثلة بين الاعتدائين ليست بحسب الذات ، لأنّها من ضروريّات كونهما اعتداء. فالمماثلة إنّما تكون بينهما بحسب المعتدى به ، وهو مدخول الباء في قولنا : «اعتدى عليه» بضربة أو بإتلاف ماله أو قطع يده أو غير ذلك.

وجهة المماثلة بالمعتدى به تارة تكون بلحاظ ذاتيهما ، كما إذا اعتدى عليه بالضرب ، فيعتدي عليه بالضرب.

واخرى تكون بلحاظ الكمّ ، كأن يضربه مرّة ، فيشتمه مرّة.

وثالثة بلحاظ الأثر الخاصّ المترتّب عليه ، كأن يضربه ضربا مؤديا إلى بكائه ، فيجازيه بالشتم مثلا المؤدّي إلى بكائه.

ورابعة بلحاظ الماليّة ، كأن يتلف من أمتعة زيد ما يساوي درهما ، فيأخذ زيد درهما من أمواله.

ثم إنّ كلمة «ما» في الآية الشريفة إمّا مصدريّة ، فيكون المعنى «(فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ) اعتدائه». وإمّا موصولة ، فيكون المعنى «(فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ) الذي (اعْتَدى) به (عَلَيْكُمْ)» والمتحصّل من المعنيين واحد ، إذ الجهات الملحوظة في المماثلة بين الاعتدائين ترجع إلى الجهات الملحوظة بين الأمرين المعتدى بهما.

ومرجع مناقشة الرّياض إلى أنّ الظاهر المماثلة في مقدار الاعتداء ، يعني : في جنسه ، فإن كان الاعتداء بالضرب كان جزاؤه به ، فكأنّه قال : «من (اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) اعتداء (بِمِثْلِ) اعتدائه (عَلَيْكُمْ)» فإن ضربكم فاضربوه ، وإن شتمكم فاشتموه ، هذا بناء على المصدريّة. أو : «(فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) بشي‌ء هو مثل الظلم الذي وقع (عَلَيْكُمْ) ، فان شتمكم فاشتموه» وهذا بناء على كون «ما» موصولة. والمعنى على التقديرين واحد ، وهو المماثلة في نوع الظلم كالشتم والضرب.

__________________

(١) رياض المسائل ، ج ٢ ، ص ٣٠٣ ، السطر ٣٢.

٣٤١

لا المعتدى به (١). وفيه نظر (٢).

______________________________________________________

(١) يعني : لا مقدار المعتدى به ، كما إذا ضربه مرّتين ، فلا تدلّ الآية على ضربه مرّتين.

(٢) وجهه ـ على ما حكي عنه في الحاشية ـ أنّ ظاهر الآية اعتبار المماثلة في الاعتداء والمعتدى به (*).

__________________

(*) فيه : أنّ المماثلة في مقدار الاعتداء لا تنفكّ عن المماثلة في مقدار المعتدى به ، فتأمّل.

والانصاف أنّ الآية لا تخلو عن الدلالة على الضمان وإن وردت في الحرب ، لكن لا قصور في دلالتها على الضمان ، فإنّ إطلاق جواز الاعتداء بالمثل يشمل المورد وهو الحرب ، غاية الأمر أنّ المراد بالمماثلة هنا المماثلة في نفس الاعتداء في الزمان ، يعني : إذا حاربكم المشركون في أشهر الحرام ، فيجوز لكم أن تحاربوهم في أشهر الحرام أيضا. وإن لم يلزم المماثلة في نفس الحرب ، كما إذا قتلوا من المسلمين عددا خاصّا أو رمى أحدهم سهما في عين مسلم أو قطع رجله ، فلا يجب أن يكون الجزاء مثله ، فإنّ اعتبار هذه المماثلة منفيّ بدليل خارجيّ.

فالمماثلة في الآية المباركة بمعونة الدليل الخارجيّ متمحّضة في الحرب في الشهر الحرام ، لا في كيفية الحرب. وهذا التقييد لانفصاله لا ينافي إطلاق اعتبار المثليّة في سائر الموارد.

ولذا قال في مجمع البيان : «وفي هذه الآية دلالة على أنّ من غصب شيئا وأتلفه يلزمه ردّ مثله. ثمّ إنّ المثل قد يكون من طريق الصورة في ذوات الأمثال ، ومن طريق المعنى كالقيم فيما لا مثل له» (١).

فما قيل من : أنّ الآية أجنبيّة عن الضمان بتقريب «أنّ ظاهرها أنّ الكفّار إن اعتدوا عليكم فاعتدوا عليهم ، كما أنّهم اعتدوا عليكم ، فإذا لم يكن المثل في موردها كذلك

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١ ، ص ٢٨٨.

٣٤٢

.................................................................................................

__________________

ـ أي : لا يراد بالمثل في مورد ورود الآية المماثلة في مقدار الاعتداء ـ لا يمكن استفادة ضمان المثل في غير موردها بإطلاقها. والمثليّة في أصل الاعتداء لا تجدي في إثبات المطلوب. بل القرينة المذكورة أي عدم تقدير المقابلة بالمثل وجواز التجاوز عنه في المورد قائمة على عدم دخول الماليّات فيها ، فهي إمّا مختصّة بالحرب ، أو شاملة لما هو نظيره كمدافعة اللّص والمهاجم» (١).

يقال عليه : بأن تقييد مورد الآية بدليل خارجيّ لا يقدح في إطلاق المثل وليس هذا من قبيل خروج المورد المستهجن ، لكفاية المماثلة بين نفس الاعتدائين في شمول الدليل للمورد.

وكذا لا يرد ما أورده المصنّف قدس‌سره على الاستدلال بالآية الشريفة من : أنّ المماثلة العرفيّة قد تتحقّق في القيميّات عند المشهور كالكرباس ، فإنّه عندهم من القيميّات مع حكم العرف بكونه من المثليّات ، فلا تنطبق الآية على مدعى المشهور ، فلا يصحّ الاستدلال بها عليه.

وجه عدم الورود : أنّ المدّعى هو ضمان المثليّ بالمثل والقيميّ بالقيمة ، والآية وافية بذلك ، والاختلاف في مفهوم المثليّ والقيميّ يرجع إلى النزاع في الصغرى. وهذا أجنبي عن أصل الكبرى وهي ضمان المثليّ بالمثل والقيميّ بالقيمة.

وبالجملة : النزاع الصغرويّ لا يقدح في تسلم الكبرى.

وعليه فالاستدلال بالآية تامّ. وإجماعهم على مثليّة شي‌ء أو قيميّته إن كان تعبديّا فهو يخصّص أو يقيّد الآية. والمتحصّل بعد التقييد : أنّ المماثل العرفي للتالف مضمون على الضامن ، إلّا إذا قام الإجماع على أنّه لا بدّ في ضمانه بالمماثل من كون غالب الأفراد مماثلا للتالف ، لا فرد نادر كما في القيميّات ، فإنّ أكثر أفراد القيميّ ليست مماثلة في الصفات الموجبة لاختلاف الرغبات ، بخلاف المثليّ كما تقدّم سابقا.

وإن لم يكن تعبّديا ، بل ذهابهم إلى المثليّة أو القيميّة إنّما هو لكونهم من العرف ، فلا حجيّة فيه في مقابل العرف العام.

__________________

(١) كتاب البيع ، ج ١ ، ص ٣٢٦.

٣٤٣

نعم (١) الانصاف عدم وفاء الآية ـ كالدليل السابق عليه (٢) ـ بالقول (٣) المشهور ، لأنّ (٤) مقتضاهما وجوب المماثلة العرفيّة في الحقيقة والمالية.

______________________________________________________

(١) استدراك على ما أفاده من اقتضاء الآية الشريفة وبناء العقلاء الضمان بالمثل. وغرضه قدس‌سره المناقشة في الدليلين المتقدّمين بعدم وفائهما بالقول المشهور ، لكون النسبة بين الدليل والدعوى عموما من وجه ، وهو غير مفيد.

ومحصّل المناقشة : أنّ المراد بالمثل ـ في الآية والإطلاق المقاميّ ـ هو ما يعدّ عرفا مثلا للتالف في أمرين ، أحدهما في الحقيقة النوعيّة ، وثانيهما في الماليّة. ومن المعلوم أنّ الآية والعرف يقتضيان الضمان بالمثل ـ بهذا المعنى ـ حتى في القيميّات ، لإمكان مساواة أفراد بعض القيميّات في الماليّة فضلا عن المساواة في الحقيقة. مع أنّ المشهور حكموا بضمان القيميّ بقيمته سواء وجد مثله أم لم يوجد ، وسواء أكانت قيمة المثل ـ على فرض وجوده ـ مساوية لقيمة المتلف أم أزيد أم أقلّ ، هذا.

واستشهد المصنف قدس‌سره بكلماتهم في مسألتين لإثبات عدم مطابقة الدليل مع المدّعى.

الأولى : ما إذا أتلف شخص ذراعا من كرباس ، وأمكنه تحصيل مماثله عرفا ، فإنّ الآية والعرف يقتضيان وجوب أداء ذراع من الكرباس إلى المالك ، مع أنّ المشهور على كون الأقمشة والثياب قيميّات ، وأنّ الواجب دفع قيمة ذلك الذراع المتلف لا مماثلة في الصفات والماليّة.

الثانية : الجناية على عبد مملوك للغير ، وسيأتي بيانه.

(٢) وهو الإطلاق المقاميّ المقتضي للضمان بالمماثل العرفيّ ، لا المثل في مصطلح الفقهاء.

(٣) متعلّق ب «وفاء» وقد عرفت وجه عدم الوفاء بالقول المشهور ، المبنيّ على ضمان المثليّ بالمثل الذي عرّفوه بما تساوت أفراده قيمة.

(٤) تعليل لعدم الوفاء ، حيث إنّ المدّعى أمر ، ومدلول الدليلين أمر آخر.

٣٤٤

وهذا (١) يقتضي اعتبار المثل حتّى في القيميّات ، سواء وجد المثل فيها أم لا (٢). أمّا مع وجود المثل كما لو أتلف ذراعا من كرباس طوله عشرون ذراعا متساوية من جميع الجهات ، فإنّ مقتضى العرف والآية إلزام الضامن بتحصيل ذراع آخر (٣) من ذلك ولو بأضعاف قيمته ، ودفعه إلى مالك الذراع المتلف ، مع أنّ القائل بقيميّة الثوب لا يقول به (٤).

وكذا (٥) لو أتلف عليه عبدا ، وله في ذمة المالك ـ بسبب القرض أو السّلم ـ عبد موصوف بصفات التالف ، فإنّهم لا يحكمون بالتهاتر القهريّ ،

______________________________________________________

(١) أي : وجوب المماثلة يقتضي .. إلخ.

(٢) المقصود من ضمان التالف بمماثله عرفا ـ حتى مع فقد المثل ـ هو انتقال ضمان المثل إلى ضمان قيمته لا قيمة التالف ، لإمكان اختلاف القيمتين ، بأن تزيد قيمة المثل المتعذر عن قيمة التالف ، وسيأتي في المتن توجيهه.

(٣) لأنّ هذا الذراع الآخر مماثل للذراع التالف ، والمفروض دلالة الآية الشريفة والإطلاق المقاميّ على أنّ المضمون به هو المثل لا القيمة ، فعلى الضامن تحصيل ذراع آخر ولو كانت قيمته أضعاف قيمة الذراع المتلف. مع أنّ المشهور القائلين بقيميّة الأقمشة والثياب يقولون بكفاية أداء قيمة ما أتلفه ، وعدم اشتغال العهدة بمثل المتلف.

(٤) يعني : فلا ينطبق مفاد الآية الشريفة على ما يدّعيه المشهور من ضمان المثليّ بالمثل والقيميّ بالقيمة ، بل تدلّ على ضمان التالف بما يكون مماثلا له عرفا ، وإن كان عند المشهور من القيميّات.

(٥) يعني : وكذا نظير الكرباس كون التالف عبدا ، فإنّهم حكموا فيه بضمان قيمته وإن كان له مماثل ، ولذا لم يحكموا بالتهاتر القهريّ فيما إذا أتلف عبدا موصوفا بصفات العبد الذي يكون للضامن على المالك. فلو كان العبد مثليّا عند المشهور كان عليهم الحكم بالتهاتر ، لكونهما من المثليّ.

٣٤٥

كما يشهد به (١) ملاحظة كلماتهم في بيع عبد من عبدين.

______________________________________________________

كما إذا كان لزيد عبد روميّ أبيض اللون كاتب ، فاقترضه عمرو منه ، وحصل لعمرو عبد بهذه الأوصاف ، فأتلفه زيد. فإن كان العبد مثليّا لزم القول بالتهاتر القهريّ. لكنّهم قالوا باشتغال ذمّة عمرو بقيمة ما اقترضه من زيد ، وباشتغال ذمّة زيد بقيمة ما أتلفه من عمرو. ومن المعلوم أنّ اشتغال الذمّتين بالقيمة دليل على أنّ العبد عندهم معدود من القيميّات حتى مع وجود المماثل العرفيّ.

وكذا الكلام إذا باع زيد من عمرو ـ سلما ـ عبدا موصوفا بصفات معيّنة ، ثمّ أتلف عمرو عبدا موصوفا بتلك الصفات من زيد ، فبناء على الأخذ بظاهر الآية الشريفة وببناء العقلاء لا بدّ من القول بالتهاتر القهريّ ، وفراغ كلتا الذمّتين عمّا اشتغلتا به ، لكنّهم حكموا بوجوب أداء العبد المبيع سلما إلى المشتري عند الأجل ، ووجوب أداء قيمة العبد المتلف إلى المالك. ومن المعلوم أنّ هذه الفتوى تكشف عن عدم الأخذ بالآية والإطلاق المقاميّ ، فكيف يستدلّ بهما على القول المشهور من ضمان المثليّ بالمثل والقيميّ بالقيمة؟

(١) أي : كما يشهد بعدم حكمهم بالتهاتر ملاحظة كلماتهم .. إلخ. قال المحقّق قدس‌سره : «إذا اشترى عبدا في الذمّة ، ودفع البائع إليه عبدين ، وقال : اختر أحدهما ، فأبق واحد. قيل : يكون التالف بينهما ، ويرجع بنصف الثمن ، فإن وجده اختاره ، وإلّا كان الموجود لهما ، وهو بناء على انحصار حقّه فيهما. ولو قيل : التالف مضمون بقيمته ، وله المطالبة بالعبد الثابت في الذمّة كان حسنا. وأمّا لو اشترى عبدا من عبدين لم يصحّ العقد ، وفيه قول موهوم» (١).

توضيحه : أنّ مسألة بيع عبد من عبدين يبحث عنها تارة في فروع شرطيّة العلم بالمبيع ، فيقال : كما يصحّ ابتياع الجزء المشاع من الكلّيّ كنصف الدار ، كذلك يصحّ ابتياع الكلّيّ في المعيّن بشرط تساوي الأجزاء كقفيز من كرّ. فلو لم تتساو الأفراد

__________________

(١) شرائع الإسلام ، ج ٢ ، ص ٦٠.

٣٤٦

.................................................................................................

______________________________________________________

الكلّيّ لم يصحّ البيع. ومثّل له المحقّق قدس‌سره بذراع من الثوب ، وجريب من الأرض ، وعبد من عبدين ، وشاة من قطيع (١).

والوجه في البطلان تفاوت الأجزاء ـ أي الأفراد ـ في الصفات الدخيلة في ماليّتها ، فلا يرتفع الغرر. خلافا للشيخ وابن البرّاج والشهيد ، حيث ذهبوا إلى صحّة بيع عبد من عبدين عملا برواية محمّد بن مسلم المخالفة للأصول الشرعيّة كما في المسالك (٢).

واخرى : في بيع الكلّيّ في الذمّة ـ لا الجزء المشاع ولا الكلّيّ في المعيّن ـ بأن اشترى زيد من عمرو عبدا موصوفا بصفات معيّنة تخرجه عن الجهالة ، فدفع البائع عبدين إلى المشتري ، وقال له : اختر أحدهما. فتسلّمهما المشتري وأبق أحدهما قبل أن يختار. هذا صورة المسألة. ولا ريب في صحّة البيع لاجتماع شرائطها فيه.

إنّما الكلام في أنّ العبد الآبق هل يتلف على كلا المتبايعين ويرجع المشتري على البائع بنصف الثمن. ولو لم يظفر بالآبق كان العبد الموجود ملكا لهما ، لانحصار حقّ المشتري في العبدين؟ أم يكون الآبق مضمونا على المشتري خاصّة بقيمته ـ سواء زادت على قيمة العبد الموجود أم نقصت منها أم ساوتها ـ وله مطالبة عبد من البائع ، لأنّ المبيع عبد كلّيّ ثابت في ذمته إلى أن يتسلّمه المشتري. فيه قولان.

وعلى كليهما يتّجه ما نسبه المصنّف قدس‌سره إلى الأصحاب من عدم الحكم بالتهاتر. أمّا بناء على الأوّل فلأنّ العبد الآبق تلف من كليهما ، فيضمن كلّ منهما نصف قيمته. ويرجع المشتري بنصف الثمن الذي بذله للمبيع الكلّيّ. ولو كان العبدان مثليّين وتساوت قيمتهما لم يكن وجه لرجوع المشتري على البائع بنصف الثمن ، ولم يجب عليه أداء نصف قيمة الآبق إلى البائع ، بل حصل التهاتر القهريّ ، وسقط ما في ذمّة

__________________

(١) شرائع الإسلام ، ج ٢ ، ص ١٨.

(٢) مسالك الأفهام ، ج ٣ ، ص ٣٩٦.

٣٤٧

نعم (١)

______________________________________________________

البائع ـ من نصف الثمن ـ بما في ذمّة المشتري من نصف قيمة الآبق.

وأمّا على القول الثاني الذي استحسنه المحقّق قدس‌سره فعدم التهاتر أوضح ، فإنّ الآبق مضمون بقيمته على المشتري ، لكونه مقبوضا بالسّوم ، فيجب دفع تمام قيمته إلى البائع. كما أنّ للمشتري مطالبة عبد منه وفاء لبيع عبد كلّىّ بثمن معيّن. ومن المعلوم أنّ العبدين لو كانا مثليّين وممّا تساوت قيمتهما لحصل التهاتر القهريّ ، فلم يكن للمشتري مطالبة عبد من البائع ، ولم تكن على عهدته قيمة الآبق. لكن لأجل عدم المماثلة لا يقال بالتهاتر ، بل كلّ منهما بحسب قيمته.

وقد ظهر أنّ قول المصنّف قدس‌سره : «كما يشهد به ملاحظة كلامهم» إشارة إلى ما نقلناه عن المحقّق في بيع عبد كلّيّ في الذمّة ، فإنّه شاهد على عدم التزامهم بالتهاتر في القيميّات.

وأمّا بيع عبد من عبدين موجودين خارجا فهو شاهد على عدم المماثلة بين العبدين ونحوهما. ولكنّه أجنبيّ عن التهاتر ، كما أوضحناه. فما في كلام بعض الأجلّة (١) من الاستشهاد بعبارتين من الخلاف وعبارة من الشرائع لا يخلو من بعد ، فلاحظ.

(١) هذا استدراك على ما ذكره من عدم التزام المشهور بضمان المثل في القيميّات ـ الذي هو مقتضى الآية والعرف ـ ومحصّله : أنّه يستفاد من ذهاب جماعة إلى جواز ردّ العين المقترضة في القيميّات ضمان القيميّ بالمثل ، لأنّ العين المقترضة تكون مماثلة عرفا للقيمة المستقرة على عهدة المقترض ، فجواز ردّ نفس العين ـ دون القيمة ـ مستند إلى آية الاعتداء الظاهرة في اعتبار المماثلة بين البدل والمبدل. ولو لم تكن الآية دالّة عليه لم يجز الاقتصار في أداء القرض على دفع العين ، بل كان المتيقّن دفع القيمة من النقدين.

__________________

(١) غاية الآمال ، ص ٣٠٥.

٣٤٨

ذهب جماعة (١) منهم الشهيدان (٢) في الدروس والمسالك إلى جواز ردّ العين المقترضة إذا كانت قيميّة.

لكن لعلّه (٣) من جهة صدق أداء القرض (*) بأداء العين ، لا من جهة

______________________________________________________

(١) ومنهم شيخ الطائفة والمحقّق الأردبيليّ ، على ما حكاه عنهما السيّد الفقيه العامليّ قدس‌سرهم (١).

(٢) قال الشهيد قدس‌سره : «ويردّ البدل مثلا أو قيمة. ولو ردّ العين في المثل وجب القبول. وكذا في القيميّ على الأصحّ. ونقل فيه الشيخ الإجماع. ويحتمل وجوب قبولها إن تساوت القيمة أو زادت وقت الرّدّ ، وإن نقصت فلا» (٢).

وقال الشهيد الثاني قدس‌سره : «وأولى بالجواز لو ردّ العين ، لأنّ الانتقال إلى القيمة إنّما وضع بدلا عن العين ، فإذا أمكنت ببذل المقترض كانت أقرب إلى الحق ..» (٣).

(٣) أي : لعلّ ذهابهم إلى جواز ردّ العين المقترضة. وغرضه المناقشة في الاستدراك بأنّ مجرّد جواز ردّ العين القيميّة المقترضة لا يكشف عن التزامهم بضمان القيميّ بالمثل ، واشتغال ذمّة الضامن بالكلّيّ الجامع بين العين وبين فرد آخر مماثل لها

__________________

(*) لا يصدق الأداء حقيقة إلّا على ما إذا كان ما يؤدّي به فردا لما في الذمّة لانطباقه قهرا عليه. فإذا كان ما في الذمّة هو القيمة لم يصدق أداؤه على دفع العين ، ولا يعدّ دفعها أداء لما في الذمة.

نعم يصدق الأداء مجازا من باب الوفاء بغير الجنس مع تراضي الطرفين ، والوفاء بغيره معاوضة على ما في الذمّة ، لا أداء حقيقيّ له.

__________________

(١) مفتاح الكرامة ، ج ٥ ، ص ٥٧.

(٢) الدروس الشرعية ، ج ٣ ، ص ٣٢٠.

(٣) مسالك الأفهام ، ج ٣ ، ص ٤٤٩.

٣٤٩

ضمان القيميّ بالمثل (١). ولذا (٢) اتّفقوا على عدم وجوب قبول غيرها وإن كان مماثلا لها (٣) من جميع الجهات.

______________________________________________________

من جميع الجهات الماليّة. بل لا بدّ من إحراز استناد جواز ذلك إلى كون العين المقترضة عندهم كأمثالها فردا من الكلّيّ الّذي استقر على عهدة المقترض ، وذلك غير معلوم ، إذ لعلّه من جهة صدق أداء القرض بأداء العين ، لا من جهة كون العين فردا من كلّيّ المثل ـ بالمعنى الذي عرفته ـ حتى يدلّ على ذهابهم إلى ضمان القيميّ بالمثل كما يستفاد من الآية.

وعليه فالإشكال الذي أورده المصنّف على المشهور من التزامهم بضمان القيميّ بالقيمة ـ مع دلالة دليلهم على وجوب المماثل عرفا ـ باق بحاله.

(١) حتى تكون فتوى هؤلاء الجماعة عملا بآية الاعتداء والعرف من اشتغال الذمّة بالمثل حتى في القيميّات.

(٢) أي : ولأجل كون جواز ردّ العين المقترضة من جهة صدق أداء القرض على ردّها ـ لا من جهة ضمان القيميّ بالمثل حتى يكون جواز ردّ العين من باب جواز ردّ المثل الكلّيّ وأدائه ببعض أفراده ـ اتّفقوا على أنّه لا يجب على المقرض قبول فرد آخر مماثل للعين من جميع الجهات. فلو كان ضمان المديون بفرد من أفراد الكلّيّ الذي تكون العين من مصاديقه وجب على الدائن قبول نفس العين أو فرد آخر مثلها. فعدم وجوب قبول غير العين ـ على المقرض ـ يكشف عن عدم اشتغال ذمّة المقترض بالمثل في اقتراض القيميّ. مع أنّك قد عرفت دلالة آية الاعتداء على استقرار المماثل العرفيّ على عهدة الضامن ، ولا تصل النوبة إلى الضمان بالقيمة إلّا بتعذّر المثل ، وهذا ممّا لا يقول به المشهور.

(٣) هذا الضمير وضمير «غيرها» راجعان إلى العين المقترضة المفروض كونها قيميّة.

٣٥٠

وأمّا (١) مع عدم وجود المثل للقيميّ التالف فمقتضى الدليلين (٢) عدم سقوط المثل من الذّمّة بالتعذّر ، كما لو تعذّر المثل (٣) في المثليّ ، فيضمن (٤) بقيمته يوم الدفع ولا يقولون (٥) به.

______________________________________________________

(١) معطوف على قوله : «أمّا مع وجود المثل فيها» وغرضه بيان شقّ آخر من المنفصلة حتى يظهر عدم وفاء الآية والإطلاق المقاميّ بقول المشهور ، لكون النسبة بين الدليل والدعوى عموما من وجه. فإن كان المثل العرفيّ موجودا كما في الكرباس والعبد افترق الدليل عن قول المشهور بأنّ مقتضى الدليلين الضمان بالمثل ، والمفروض عدم التزامهم به ، لأنّهم يضمّنون المتلف بقيمة المتلف.

وإن لم يكن المثل موجودا افترقا في مورد آخر ، توضيحه : أنّ المشهور يقولون بضمان القيميّ التالف بقيمة يوم التلف ، مع اقتضاء الدليلين بقاء ما يماثل ذلك القيميّ في الذمّة ، وعدم سقوط ضمانه بالتعذّر ، فلو أراد الضامن التخلّص ممّا في عهدته لزمه أداء قيمة يوم الدفع إلى المالك ، كما هو الحال في المثليّ الذي يتعذّر مثله ، فإنّه لا يسقط عن ذمّته إلّا بأداء قيمته يوم الأداء. مع أنّ المشهور حكموا في القيميّ بأنّ ما عليه هو قيمة يوم تلف المضمون ، ولا يضمن زيادة قيمته من يوم التلف إلى يوم الأداء ، وهذا الحكم مما يأباه الآية والعرف.

(٢) وهما الآية والعرف ، إذ لا وجه لسقوط القيميّ بمجرّد تعذّره عن الذمّة ـ حتى يتعيّن عليه قيمة يوم التلف ـ مع اقتضاء هذين الدليلين اشتغال الذمّة بمثل التالف حتى في القيميّ ، فيلزم اتّحاد حكم المثليّ والقيميّ المتعذّرين.

(٣) فإنّه لا يسقط عن ذمّة الضامن بمجرّد تعذّره ، ولا ينتقل إلى قيمته يوم تعذّره.

(٤) هذه نتيجة بقاء المثل في الذمة ، سواء في المثليّ والقيميّ.

(٥) يعني : والحال أنّ المشهور لا يقولون بضمان قيمة يوم الأداء ـ في القيميّ ـ

٣٥١

وأيضا (١) فلو فرض نقصان المثل عن التالف من حيث القيمة نقصانا فاحشا ، فمقتضى ذلك (٢) عدم وجوب (٣) إلزام المالك بالمثل ، لاقتضائهما اعتبار المماثلة في الحقيقة والماليّة ، مع أنّ المشهور كما يظهر من بعض (٤)

______________________________________________________

بل يقولون بضمان قيمة يوم تلف العين القيميّة ، وهذه الفتوى مخالفة لمفاد الدليلين كما عرفت ، وهذه المخالفة أيضا من موهنات الاستدلال بالآية والعرف على مذهب المشهور.

(١) هذا إشكال آخر على الاستدلال بالآية والعرف لمذهب المشهور ، وحاصله : أنّ مقتضى الآية والعرف عدم جواز إلزام المالك بأخذ المثل الذي نقصت قيمته نقصانا فاحشا ، إذ مقتضاهما اعتبار المماثلة في الحقيقة والماليّة ، والمفروض زوال المماثلة في الماليّة بنقصان القيمة. مع أنّ المشهور لم يلتزموا به ، بل التزموا بجواز إلزام المالك بأخذ المثل حتى في هذه الصورة.

(٢) أي : فمقتضى الآية والعرف. وإفراد اسم الإشارة باعتبار «ما تقدّم» وإلّا كان الأولى أن يقال : «ذينك».

(٣) كذا في نسخ متعددة ، والصواب تبديل «وجوب الإلزام» بجوازه ، أو إرادة الجواز من الوجوب وإن كان بعيدا.

والوجه في عدم جواز الإلزام بالمثل هو : أنّ المماثلة المعتبرة عرفا في الصورة والماليّة مفقودة. كما إذا أتلف فاكهة في أوّل أوانها ، وهي ـ لعزّتها ـ تباع أضعاف قيمة وقت وفورها ، فأراد الضامن دفع ذلك المقدار من الفاكهة أوان كثرتها ، فإنّ المماثلة تكون حينئذ في صدق الحقيقة ، فقط دون الماليّة ، مع أنّ الآية والإطلاق المقاميّ يقتضيان الانتقال إلى قيمة وقت التلف حتى تراعى المماثلة في المالية.

(٤) قال السيد العاملي قدس‌سره : «فلو بقي له ـ أي للمثل ـ قيمة وإن قلّت ، فالمثل

٣٥٢

إلزامه (١) به ، وإن قوّى خلافه بعض (٢). بل وربّما (٣) احتمل جواز دفع المثل

______________________________________________________

بحاله ، كما هو صريح جامع المقاصد ، وقضيّة ما لعلّه يفهم من كلام التذكرة» (١).

وقال المحقّق الثاني : «هذا الحكم ـ أي وجوب أداء القيمة ـ إنّما يستقيم مع خروج المثل عن التقويم أصلا ، فلو بقي له قيمة وإن قلّت فالمثل بحاله» (٢). ويلوح منه اتّفاق الأصحاب عليه ، بقرينة اتّفاقهم على الانتقال إلى القيمة لو سقط المثل عن الماليّة رأسا ، هذا.

(١) قد سقط هنا كلمة «جواز» أي : جواز إلزام الضامن بالمثل ، يعني : مع أنّ المشهور ذهبوا إلى جواز إلزام المالك بأخذ المثل وإن نقصت قيمته نقصانا فاحشا ، وهذا التجويز مناف لمقتضى الآية والعرف.

(٢) يعني : أنّ هذا البعض قوّى انتقال ضمان المثل إلى القيمة كي لا يتضرر المضمون له بنقصان ماليّة المثل (٣).

(٣) هذا متعلق بقوله : «مع أنّ المشهور .. إلزامه به» وغرضه : أنّ المشهور اقتصروا على جواز أداء المثل المنحطّ قيمته جدّا ، كما نقلناه آنفا عن مفتاح الكرامة ، ولكن العلّامة (٤) قدس‌سره احتمل جواز دفع المثل الساقط عن الماليّة ، كما إذا أتلف الماء في المفازة وأدّاه على الشاطئ. والإتيان بكلمة «بل» لأجل أنّه لو قيل بفراغ الذمّة بدفع المثل الساقط عن الماليّة رأسا ، كان فراغها بدفع المثل المنحطّ قيمته أولى ، لبقاء شي‌ء من ماليّته بعد.

__________________

(١) مفتاح الكرامة ، ج ٦ ، ص ٢٥٢ ، آخر الصفحة.

(٢) جامع المقاصد ، ج ٦ ، ص ٢٥٨.

(٣) لم أظفر على من يقوّي الانتقال إلى القيمة حتى مع بقاء مقدار من ماليّة المثل ، نعم قوّاه جمع في الخروج عن التقويم ، وهو أمر آخر. فراجع الجواهر ، ج ٣٧ ، ص ٩٩ ؛ الدروس الشرعيّة ، ج ٣ ، ص ١١٣ ، وغيرهما.

(٤) قواعد الأحكام ، ص ٧٩ ، السطر ٢٦ (الطبعة الحجرية).

٣٥٣

ولو سقط من القيمة بالكلّيّة ، وإن كان الحقّ خلافه (١) (*).

______________________________________________________

(١) لأنّه خلاف التغريم المعتبر في الضمان. ففرق بين سقوط العين عن الماليّة وسقوط المثل عنها ، حيث إنّ العين تردّ بلحاظ ملكيّتها لا بلحاظ ماليّتها ، لكن التضمين والتغريم بلحاظ ماليّتها ، فيجب حفظ الماليّة في الثاني دون الأوّل ، فالمثل إذا سقط عن الماليّة لا يصدق على ردّه التغريم المقوّم للضمان ، فلا يخرج الضامن عن عهدة الضمان بردّ المثل الساقط عن الماليّة ، بخلاف ردّ العين ، فإنّه يصدق عليه أداء ملك الغير ، وردّه إلى مالكه.

__________________

(*) لا يخفى أنّ هذا الاشكال إنّما يرد على الاستدلال بالآية الشريفة بناء على كون المراد المماثلة بنحو الإطلاق ومن جميع الجهات. لكن الظاهر أنّ المراد بها المماثلة من حيث الحقيقة مع حفظ الماليّة تحقيقا للتغريم والتضمين بالمال. فمقتضى الآية غير مخالف لمسلك المشهور ، كيف؟ والمرجع في فهم معنى الآية هو العرف ، فما يحكم به العرف في باب الضمان من ضمان المثل في المثليّ والقيمة في القيميّ هو المستفاد من الآية الشريفة.

فالمراد بالمثل في الآية وفي كلام المشهور واحد. والنسبة بينهما هي التساوي ، لا الأعمّ والأخصّ من وجه ، لأنّ المراد بالمثل في الآية هو المماثل العرفيّ للتالف من حيث الحقيقة والماليّة ، كما هو قضيّة إطلاق المماثلة وإن لم يكن مماثلا للتالف من حيث الحقيقة والماليّة. فيراعى المثليّة من حيث الماليّة. فالأوّل هو المثليّ والثاني هو القيميّ.

نعم يقيّد إطلاق المثل بالنسبة إلى الأفراد التي تقلّ مماثلتها للتالف ، كما إذا كان المال التالف غنما وكان فرد من الأغنام مماثلا له في الصفات ، فإنّ مقتضى الآية لزوم دفع الفرد المماثل للتالف ، وإن كان فردا نادرا من حيث المماثلة للتالف. لكن قيّد هذا الإطلاق بأنّ دفع المماثل للتالف لازم في صورة كثرة الأفراد المماثلة للتالف لا ندرتها ، وهذا التقييد قد ثبت بالإجماع ، ولولاه لكان الضمان بالمماثل ، وإن كان منحصرا في فرد.

٣٥٤

.................................................................................................

__________________

فالمتحصّل بعد التقييد وجوب دفع المماثل فيما إذا كان أكثر أفراد الطبيعيّ الجامع بينها وبين التالف متفقة في الصفات الموجبة للرغبات والماليّة ، فإطلاق المثل يقيّد بالقيميّات ، يعني : أنّ ضمان القيميّ يكون بالقيمة وإن وجد له مماثل.

وإن شكّ في كون التالف مثليّا أو قيميّا فيتمسّك بالعامّ ، لأنّه المرجع في المخصّص المجمل المفهوميّ المردّد بين الأقل والأكثر ، حيث إنّه المرجع في أصل التخصيص والتخصيص الزائد ، فإنّ وجوب دفع المثل خصّص بما إذا كثرت الأفراد المماثلة للتالف حقيقة وماليّة ، وقد خرج عن وجوب دفع المثل ما لا يكون كذلك ، لأنّه يجب حينئذ بمقتضى الإجماع لزوم دفع القيمة. فمع الشكّ في المثليّة والقيميّة يشكّ في تخصيص العامّ زائدا على المتيقّن قيميّته ، فيتمسّك في نفي الشك بالعامّ ، ويحكم بلزوم دفع المماثل العرفيّ للتالف.

هذا بناء على إرادة المماثل العرفيّ الشامل للمثليّ والقيميّ ، وأمّا بناء على إرادة المثل المشهوريّ المقابل للقيميّ فالآية لا تتكفّل حكم القيميّ حتّى تعمّه ويلتزم بتخصيصها بالإجماع ، بل لا تتكفّل إلّا لحكم المثليّ ، يعني : ضمان المثليّ بالمثل ، فالآية ساكتة عن حكم ضمان القيميّ. وحينئذ فلو شكّ في المثليّة والقيميّة فلا عموم حتى يرجع إليه ، فالمرجع حينئذ قاعدة الاشتغال ووجوب تسليم الضامن كلّا من المثل والقيمة ليختار أيّ واحد منهما شاء كما تقدّم سابقا.

والحقّ أن يقال : إنّ التمسك بالآية الشريفة مشكل ، لأنّه إن أريد بالمثل فيها المماثلة المطلقة من حيث الاعتداء والمعتدى به في كل مورد ، سواء أكان من الدماء أو الأعراض أو الأموال ـ كما إذا اعتدى شخص على غيره في عرضه كشتمه أو سرقة ماله أو غيبته أو قذفه إلى غير ذلك من أنحاء الاعتداء ـ لزم تخصيص الأكثر المستهجن كما لا يخفى.

ولزم أيضا خروج المورد ، وذلك مستهجن. توضيحه : أنّ مورد الآية هو ابتداء المشركين بالقتال في الأشهر الحرم ، والمماثلة من جميع الجهات أن تكون في أصل

٣٥٥

فتبيّن (١) أنّ النسبة بين مذهب المشهور ومقتضى العرف والآية عموم

______________________________________________________

(١) هذه نتيجة الإشكالين المتقدّمين ، ومحصّلها : أنّ الدليل الثاني والثالث على ضمان المثليّ بالمثل ـ وهما الآية والعرف ـ قاصران عن إثبات مدّعى المشهور ،

__________________

الحرب وكيفيّتها وكمّها ، بأن يجازيهم المسلمون في نفس القتال ومقداره ، فإن قتلوا من المسلمين عددا خاصّا بكيفيّة خاصّة كالقتل بالسّهم أو السيف لزم على المسلمين ذلك من دون زيادة ، مع أنّه ليس كذلك.

وإن أريد بالمثل فيها المماثلة في نفس الاعتداء من دون نظر إلى الجنس المعتدى به وكيفيّته ومقداره لزم أن يكون قتالهم جائزا بالاعتداء منهم بالسرقة مثلا ، فإن سرقوا من المسلمين في الأشهر الحرم جاز لهم قتال المشركين فيها. وهذا كما ترى.

فالظاهر أنّ المراد بالمثل بقرينة المورد خصوص القتال من دون لحاظ كمّه وكيفه ، والتّعدّي عنه لا بدّ أن يكون إلى ما هو مناسب له كاللصّ والمهاجم ، فلا وجه للاستدلال بالآية على الضمان أصلا ، فإنّ بناء العقلاء الممضى كاف في إثبات أصل الضمان ، وكيفيّته أي ضمان المثليّ بالمثل والقيميّ بالقيمة. وفي صورة الشك في المثليّة والقيميّة يرجع الى قاعدة الاشتغال على التقريب السابق ، لا إلى عموم الآية ، لما عرفت من أجنبيّتها عن مسألة الضمان.

هذا كلّه مضافا إلى : أنّ الشك في القيميّة يلازم الشك في المثليّة أيضا ، لما مرّ من كونهما متباينين. فالشكّ في حدود مفهوم أحدهما يستلزم الشكّ في حدود مفهوم الآخر ، فلا وجه للرجوع إلى عموم الآية مع الشكّ في حدود مفهوم موضوعه وهو المثل المشهوريّ.

وإلى : أنّ الآية في مقام بيان جواز الاعتداء في مقابل الاعتداء ، فإذا أتلف مال زيد جاز لزيد إتلاف ماله ، وهذا غير الضمان أعني الغرامة ، فلا تدلّ الآية على الضمان ، بل تدلّ على جواز إتلاف مال الغير جزافا.

٣٥٦

من وجه ، فقد يضمن بالمثل بمقتضى الدليلين (١) ولا يضمن به عند المشهور كما في المثالين المتقدّمين (٢). وقد ينعكس الحكم (٣) كما في المثال الثالث (٤). وقد يجتمعان (٥) في المضمون به كما في أكثر الأمثلة.

ثمّ (٦) إنّ الإجماع على ضمان القيميّ بالقيمة ـ على تقدير تحقّقه ـ لا يجدي

______________________________________________________

لكون النسبة بين الدليل والمدّعى عموما من وجه.

فمورد الافتراق من ناحية الدليل هو مثل إتلاف ذراع من كرباس وعبد من عبدين ، فالدليل يقتضي الضمان بالمثل ، لوجود المماثل العرفيّ في الصورة والماليّة ، مع أنّ المشهور قالوا بضمان القيمة.

ومورد الافتراق من ناحية قول المشهور هو تنزّل قيمة المثل تنزّلا فاحشا ، فإنّهم حكموا بضمان المثل ، مع أنّ الدليل يقتضي الضمان بالقيمة ، إذ الملحوظ في التغريم ماليّة التالف والاتّحاد في الصورة ، والمفروض تفاوت الماليّة بمقدار كثير لا يتسامح فيه.

ومورد الاجتماع كلّ مضمون مثليّ باصطلاح الفقهاء مع عدم اختلاف قيمة المضمون والمثل.

وحيث كانت النسبة عموما من وجه لم يمكن إثبات هذا المدّعى بهذا الدليل.

(١) وهما آية الاعتداء وبناء العرف.

(٢) وهما العبد والثوب ، فإنّهما مضمونان بالمثل بمقتضى الآية والعرف ، وبالقيمة عند المشهور.

(٣) يعني : أنّ الآية والعرف يقتضيان الضمان بالقيمة ، مع أنّ المشهور على الضمان بالمثل ، كما في نقصان الماليّة فاحشا.

(٤) وهو تنزّل قيمة المثل.

(٥) تثنية الضمير في «يجتمعان» باعتبار عدّ الدليلين شيئا واحدا ، وجعل مذهب المشهور طرفا آخر. ومراده بأكثر الأمثلة : الأمثلة الواقعيّة للضمان ، وليس غرضه الإشارة إلى شي‌ء ذكره سابقا.

(٦) هذا تمهيد لبيان حكم الشكّ في القيميّة والمثليّة ، وحاصله : أنّه ـ بعد البناء

٣٥٧

بالنسبة إلى ما لم يجمعوا على كونه قيميّا (١) ، ففي موارد الشكّ يجب الرجوع إلى المثل بمقتضى الدليل السابق (٢) وعموم الآية بناء على ما هو الحق المحقّق من أنّ

______________________________________________________

على تخصيص الآية بالإجماع على ضمان القيميّ بالقيمة دون المثل ـ لا يجدي هذا الإجماع في موارد الشك في القيميّة والمثليّة ، لعدم الإجماع فيها ، فلا بدّ من الرجوع فيها إلى عموم الآية القاضي بلزوم دفع المماثل العرفيّ ، لأنّه المرجع في المخصص المجمل المفهوميّ المردّد بين الأقل والأكثر.

كما إذا ورد «أكرم الشعراء» وخصّصه بمخصّص منفصل مجمل مفهوما مردّد بين الأقل والأكثر مثل «لا تكرم فسّاق الشعراء» بناء على تردد الفسق بين مخالفة مطلق التكليف الإلزاميّ وبين ارتكاب الكبائر خاصّة ، فقد تقرّر في الأصول تخصيص العام بالمتيقّن من مفهوم الخاصّ ، والرجوع في الأكثر ـ كمقترف الصغيرة ـ إلى عموم إكرام الشعراء.

وكذا الحال في المقام ، فإنّ عموم الآية يقتضي الضمان بالمثل حتى في القيميّ ، لكنّه خصّص بالإجماع على ضمان القيميّ بالقيمة. ومع إجمال مفهوم القيميّ يقتصر في التخصيص على المتيقّن منه ، ويرجع في مورد الشك إلى عموم الآية.

وعلى هذا فلا تصل النوبة إلى الأصل العملي بعد وجود الأصل اللفظيّ وهو أصالة العموم.

(١) كما أنّ الإجماع على ضمان المثليّ بالمثل لا يجدي بالنسبة الى ما لم يجمعوا على كونه مثليّا ، كما عرفته مفصّلا. فالضمان بالمثل منوط بإجماعين : أحدهما على أصل الحكم ، والآخر على الموضوع ، وهو كون التالف مثليّا بنظر المجمعين.

وكذا الحال في الضمان بالقيمة في القيميّات ، فلو لم يكن التالف قيميّا عند الكلّ كان ضمانه بالمماثل العرفيّ عملا بمقتضى الآية والعرف.

(٢) وهو بناء العرف المنزّل عليه إطلاق الضمان في أخبار كثيرة.

٣٥٨

العامّ المخصّص بالمجمل مفهوما المتردّد بين الأقلّ (١) والأكثر (٢) لا يخرج عن الحجّيّة بالنسبة إلى موارد الشك.

فحاصل الكلام (٣) : أنّ ما اجمع على كونه مثليّا يضمن بالمثل مع مراعاة

______________________________________________________

(١) المراد بالأقلّ هو الأشياء التي أجمع الفقهاء على كونها قيميّة كالعقار.

(٢) المراد بالأكثر هو ما يشكّ في مثليّته وقيميّته. وقد أشار المصنف إلى جملة منها (في ص ٣١٧ و ٣١٨).

(٣) أي : حاصل ما يترتّب على الدليلين المذكورين من الآية وبناء العرف. وهذا الحاصل يتكفّل النظر النهائي في ضمان التالف سواء أحرز كونه مثليّا أو قيميّا أم شكّ فيه.

أمّا المثليّ الذي أجمع الأصحاب على مثليته فيضمن بمماثله مع مراعاة الصفات الدخيلة في الماليّة ، سواء ساوى قيمته ـ يوم الأداء ومكانه ـ قيمة التالف ، أم نقص عنه. أمّا مع المساواة فلا ريب في سقوط المضمون عن العهدة. وامّا مع النقص غير المسقط عن الماليّة بالكلّيّة فلوجهين :

أحدهما : الإجماع المحكيّ على إهمال نقصان قيمة المثل عن قيمة التالف ، كما إذا كان قيمة التالف عشرة دنانير ، وقيمة مثله يوم الأداء ـ وبلد الأداء ـ خمسة دنانير ولولا هذا الإجماع كان مقتضى الآية والعرف رعاية المماثلة في المالية كما حقّقه المصنّف قدس‌سره.

ثانيهما : الأخبار الواردة في ضمان دراهم أسقطها السلطان عن المعاملة بها ، وضرب دراهم أخرى وروّجها ، فتقلّ مالية الدراهم المنسوخة. وقد حكم الامام عليه‌السلام بأنّ ذمة المديون مشغولة بتلك الدراهم الأولى لا الدراهم الجديدة. فإنّ هذه الأخبار تدلّ على أنّ التالف المثليّ مضمون بمثله حتى مع حطّ قيمته ، هذا.

وأمّا القيميّ الذي أجمعوا على كونه قيميّا فيضمن بالقيمة سواء وجد مماثلة في الصفات أم لم يوجد.

٣٥٩

الصفات التي يختلف بها الرّغبات ، وإن فرض نقصان قيمته ـ في زمان (١) الدفع أو مكانه ـ عن قيمة التالف ، بناء على (٢) تحقّق الإجماع على إهمال هذه التفاوت.

مضافا إلى الخبر (٣) الوارد في «أنّ اللازم على من عليه دراهم وأسقطها السلطان وروّج غيرها هي الدراهم الأولى».

______________________________________________________

وأمّا التالف المشكوك مثليّته وقيميّته ـ لاختلاف الأصحاب في ذلك ـ فإن تساوت قيمة المضمون وقيمة المدفوع بدلا عنه الحق بالمثليّ ، ولا يجزي أداء القيمة. وإن اختلفت القيمتان الحق بالقيميّ ، ولا يكفي دفع المماثل الذي نقصت قيمته عن قيمة المضمون ، هذا.

(١) يعني : أنّ منشأ نقصان قيمة المثل عن قيمة التالف أحد أمور ثلاثة ، إمّا هو الزمان بأن كان التالف عزيز الوجود ، كالفاكهة في أوّل أوانها ، فأدّاه الضامن في موسم وفورها. وإمّا هو المكان كما إذا ضمن في بلد يعزّ وجود التالف فيه ، لكونه منقولا إليه من بلد آخر ، فأدّاه الضامن في بلد ثالث يكون المثل فيه أنقص قيمة من بلد الضمان.

وإمّا هو الزمان والمكان معا. والأمثلة واضحة. والمقصود أنّ تنزّل قيمة المثل لا يقدح في فراغ الذمّة ، للإجماع والنصّ.

(٢) قيد لقوله : «يضمن بالمثل وإن فرض نقصان» وهذا إشارة إلى أوّل الوجهين على عدم قدح نقصان قيمة المثل عن قيمة المضمون.

(٣) هذا وجه ثان لكفاية ردّ مثل المضمون وإن نقص قيمته عنه ، والمراد بالخبر هو الجنس لا الشخص ، لورود هذا الحكم في خبرين. كمكاتبة يونس إلى أبي الحسن الرضا عليه‌السلام : «أنّه كان لي على رجل عشرة دراهم ، وأنّ السلطان أسقط تلك الدراهم ، وجاءت دراهم [بدراهم] أعلى من تلك الدّراهم الاولى ، ولها اليوم وضيعة ، فأيّ شي‌ء لي عليه؟ الاولى التي أسقطها السلطان ، أو الدراهم التي أجازها

٣٦٠