هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٣

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٠

من ملاحظة أنّ الأصل (١) الذي يرجع إليه عند الشك هو الضمان بالمثل أو بالقيمة أو تخيير المالك أو الضامن بين المثل والقيمة؟

ولا يبعد أن يقال (٢) : إنّ الأصل هو تخيير الضامن ، لأصالة (٣) براءة ذمّته

______________________________________________________

(١) ظاهره هو الأصل العمليّ من البراءة أو الاشتغال ، لكن المراد به أعمّ منه ومن الأصل اللفظيّ ، لما سيأتي من الاستدلال بحديث «على اليد» على تخيير المالك.

(٢) أشرنا آنفا إلى أنّ المصنّف قدس‌سره رجّح بدوا تخيير الضامن في مقام تفريغ ذمّته بين أداء المثل والقيمة. وهو مبنيّ على أمرين :

أحدهما : جريان أصالة البراءة عن ضمانه بأمر زائد على ما يختاره.

ثانيهما : الإجماع ـ بل الضرورة ـ على عدم وجوب الجمع بين المثل والقيمة.

أمّا الأوّل فتوضيحه : أنّ الضامن يعلم باشتغال ذمته بما تلف عنده من مال الغير ، ولكنّه ـ عند الشكّ في كون التالف مثليّا وقيميّا ـ إذا أدّى أحدهما إلى المالك يشكّ في اشتغال عهدته بأمر زائد على ما أدّاه ، ومن المعلوم جريان أصالة البراءة النافية لضمانه بشي‌ء آخر. فإن دفع المثل نفى ضمانه بالقيمة بالأصل. وإن دفع القيمة نفى به ضمانه بالمثل.

هذا بناء على ما حقّق في الأصول من جريان الأصل في الأحكام الوضعيّة كجريانه في التكليفيّة. وإن قلنا باختصاص الجعل بالتكليف جرى الأصل في منشأ الانتزاع وهو وجوب الغرامة.

وأمّا الثاني فلأنّه لولا الإجماع على عدم وجوب الجمع بين الخصوصيّتين اقتضت أصالة الاشتغال دفع المثل والقيمة معا تحصيلا للقطع بالفراغ.

وبتماميّة الأمرين يتّضح وجه تخيير الضامن.

(٣) بناء على كون الفرق بين المثل والقيمة هو الفرق بين الأقلّ والأكثر ، فيكون الشك في وجوب المثل شكّا في وجوب الأكثر. وأمّا بناء على كونهما من قبيل المتباينين ـ لكون المراد من القيمة في المقام النقد الواقع ثمنا كالدينار والدرهم ـ

٣٢١

عمّا زاد على ما يختاره. فإن فرض (١) إجماع على خلافه

______________________________________________________

فيرجع عند الشك في أحدهما بعينه إلى أصالة الاحتياط.

(١) شرع المصنّف من هذه العبارة في ترجيح تخيير المالك بين مطالبة المثل أو القيمة ، وسلك لإثباته طريقين ، أحدهما : بالنظر إلى الإجماع على عدم تخيير الضامن في مقام تفريغ ذمّته ، والآخر : مع قطع النظر عن هذا الإجماع.

أمّا الأوّل ـ وهو تخيير المالك مع الالتفات إلى الإجماع ـ فيدلّ عليه وجهان :

أوّلهما : أصالة عدم براءة ذمّة الضامن بدفع ما لا يرضى به المالك ، كما إذا زعم الضامن كونه مخيّرا ، فأدّى القيمة إلى المالك ، ولم يرض بها ، إذ يشك حينئذ في فراغ ذمّة الضامن عمّا اشتغلت به قطعا ، ومقتضى استصحاب بقاء ما في العهدة عدم حصول البراءة بدفع ما يختاره الضامن ولم يرض به المالك. وقد تقرّر حكومة الاستصحاب على الأصل غير المحرز كالبراءة ، فلا سبيل لإثبات تخيير الضامن بالتمسّك بأصالة البراءة.

ثانيهما : حديث «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي» حديث إنّ الضمير المحذوف الراجع إلى «ما» الموصول ظاهر في تحقق الأداء ـ المسقط للضمان ـ بردّ نفس العين ، إلّا إذا رضي المالك بردّ غيرها ، فلا يرتفع الضمان بردّ غير العين إلّا برضا المالك ، ومرجع هذا إلى تخيير المالك. فلو أدّى الضامن القيمة المغايرة للعين المضمونة ـ ولم يرض المالك بها ـ دلّ الحديث على بقاء مال الغير في عهدة الآخذ ، وعدم حصول الغاية ـ وهي : حتّى تؤدّي ـ المفرّغة لما في الذمّة.

وأمّا الثاني : ـ أعني به ثبوت تخيير المالك مع الغضّ عن الإجماع على عدم تخيير الضامن ـ فيقتضيه أصالة الاشتغال ، للشكّ في فراغ ذمّة الضامن بدفع ما لا يرضى به المالك. ولا ريب في أنّ الاشتغال اليقينيّ يقتضي البراءة اليقينيّة المنوطة بدفع المثل والقيمة معا. نعم الإجماع قائم على عدم وجوب الجمع بينهما.

ولكنّه لا يثبت تخيير الضامن ، وإنّما يثبت تخيير المضمون له ، لأنّه مالك لذمّة

٣٢٢

فالأصل (١) تخيير المالك ، لأصالة عدم (٢) براءة ذمّته بدفع ما لا يرضى به المالك.

______________________________________________________

الضامن ، فله مطالبة ما شاء.

فإن قلت : إنّ أصالة البراءة معارضة لقاعدة الاشتغال ، فتتساقطان ، لكونهما في رتبة واحدة ، فلا يبقى مرجّح لتخيير المالك من أوّل الأمر ، وينتهي الأمر إلى الطريق الأوّل المنوط بالاعتماد على الإجماع على عدم تخيير الضامن.

قلت : لا معارض لأصالة الاشتغال هنا ، لعدم جريان أصالة البراءة في أمثال المقام ممّا يكون المتعلّق دائرا بين المتباينين ، وهما المثل والقيمة ، إذ لو كانت القيمة هي مجرّد ماليّة المضمون الموجودة في جميع الأعيان المتمولّة كانت هي الأقلّ ، وكان المثل الواجد للجهات الصنفيّة المشتركة مع التالف هو الأكثر ، فيكون المقتضي لجريان أصالة البراءة عن وجوب دفع الأكثر موجودا ، وهي معارضة لقاعدة الاشتغال المقتضية لتخيير المالك.

ولكن المراد بالقيمة في باب الضمان هو النقد الواقع ثمنا كالدرهم والدينار والأنواط التي يعامل بها. ومن المعلوم أنّ المثل والنقد متباينان ، لعدم كون القيمة بعضا من المثل حتى تجري أصالة البراءة عن الأكثر ، كما تجري في الزائد على المتيقّن عند دوران الدّين بين تسعين ومائة درهم مثلا.

وعليه فقاعدة الاحتياط تجري بلا معارض ، وبعد الإجماع على عدم وجوب أداء الخصوصيّتين يتّجه تخيير المالك في قبول المثل أو القيمة. هذا تقريب القول بتخيير المالك.

(١) هذا الأصل أعمّ من العمليّ واللفظيّ ، لأنّه استدلّ بحديث «على اليد» وهو دليل اجتهاديّ.

(٢) أي : استصحاب بقاء المضمون على عهدة الضامن ، وقد عرفته بقولنا : «أوّلهما : أصالة عدم براءة ذمّة الضامن بدفع ما لا يرضى به المالك .. إلخ».

٣٢٣

مضافا إلى عموم (١) «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي» فإنّ مقتضاه (٢) عدم ارتفاع الضمان بغير أداء العين ، خرج ما إذا رضي المالك بشي‌ء آخر (٣).

والأقوى (٤) تخيير المالك من أوّل الأمر (٥) ، لأصالة الاشتغال.

والتمسّك (٦) «بأصالة البراءة» لا يخلو من منع (٧).

نعم يمكن أن يقال (٨):

______________________________________________________

(١) هذا أصل لفظيّ يقتضي تخيير المالك. وقد أوضحناه بقولنا : «ثانيهما : حديث ـ على اليد ـ حيث إن الضمير .. إلخ».

(٢) أي : مقتضى عموم «على اليد» عدم ارتفاع الضمان .. إلخ.

(٣) وبقي ـ ما لم يرض المالك به ـ في عموم «على اليد» المقتضي للضمان بقاء ، كاقتضائه له حدوثا بمجرّد وضع اليد.

(٤) هذا هو الطريق الثاني لإثبات تخيير المالك ، وقد عرفته بقولنا : «وأمّا الثاني .. فيقتضيه أصالة الاشتغال .. إلخ».

(٥) يعني : مع قطع النظر عن الإجماع على عدم تخيير الضامن.

(٦) مبتدأ خبره «لا يخلو من منع» وهو دفع دخل ، وقد تقدّم توضيحهما بقولنا : «فإن قلت : إن أصالة البراءة معارضة لقاعدة الاشتغال .. قلت : لا معارض لأصالة الاشتغال .. إلخ».

(٧) إمّا لما ذكرناه من كون العلم الإجماليّ بالمثل والقيمة من قبيل العلم الإجماليّ بالمتباينين ، وإمّا لما قيل من كونه من التعيين والتخيير الذي هو مجرى أصالة التعيينيّة ، فتأمّل.

(٨) هذا نظره الثالث في المسألة ، وهو إثبات التخيير بين المثل والقيمة عقلا بمناط دوران الأمر بين المحذورين ، لا التخيير الشرعيّ كما تقدّم في النظرين السابقين ، وهما تخيير الضامن وتخيير المالك.

وهذا الوجه يعتمد على مقدّمتين :

٣٢٤

.................................................................................................

______________________________________________________

الأولى : عدم تماميّة شي‌ء من الأقوال الأربعة ، وهي تعيين المثل ، وتعيين القيمة ، وتخيير الضامن ، وتخيير المالك ، إذ لو نهض دليل على ترجيح أحدها تعيّن المصير إليه ، سواء أكان الدليل الشرعي أصلا لفظيّا كحديث «على اليد» أم عمليّا كالاستصحاب والاشتغال والبراءة. فإذا نوقش فيها ـ إمّا لقصور المقتضي وإمّا لوجود المانع وهو المعارضة ـ تصل النوبة إلى تعيين الوظيفة بحكم العقل.

الثانية : قيام الإجماع على عدم تخيير المالك بين مطالبة المثل والقيمة ، إذ لو تمّ هذا الإجماع كان الدليل الاجتهاديّ على تخييره شرعا موجودا ، ومعه لا مجال للتمسك بالأصل العمليّ العقليّ المتأخّر رتبة عن الأصول الشرعيّة.

وبناء على هاتين المقدّمتين نقول : إنّ المستقرّ في عهدة الضامن إمّا المثل أو القيمة ، فإن رضي المالك بما يؤدّيه الضامن فلا كلام. وإن لم يرض به فإن كانت الذمّة مشغولة بالمثل واقعا ودفع القيمة إلى المالك لم تفرغ ذمّته عمّا اشتغلت به. وإن كانت مشغولة بالقيمة كذلك وأدّى المثل لم تفرغ ذمّته. كما أنّه لو كان على الضامن هو المثل لم يكن للمالك الامتناع عن قبوله ، وليس له مطالبة القيمة ، وكذا لو كان عليه القيمة لم يكن للمالك الإباء عن قبولها.

فيدور أمر كلّ من الضامن والمالك بين المحذورين. أمّا الضامن فلأنّ ما عليه واقعا إحدى الخصوصيّتين مع فرض عدم وجوب الجمع بينهما.

وأمّا المالك فلاستحقاقه واقعا أحد الأمرين لا كليهما ، ولا تخيير شرعا بينهما حسب الفرض. فيقال بالتخيير عقلا من باب الاضطرار. كما يقال في تخيير المجتهد في مقام الفتوى في ما لو اختلفت الأمّة على قولين ، ولم يقم على أحدهما دليل بالخصوص ، ولم يجز إبداع رأي ثالث في المسألة ، فيتخيّر عقلا في الفتوى على

٣٢٥

ـ بعد عدم الدليل لترجيح أحد الأقوال (١) ، والإجماع (٢) على عدم تخيير المالك ـ بالتخيير (٣) في الأداء ، من جهة دوران الأمر بين المحذورين (*) أعني (٤) : تعيّن المثل بحيث لا يكون للمالك مطالبة القيمة ، ولا للضامن الامتناع (٥) ،

______________________________________________________

طبق أحد القولين ، هذا.

(١) هذا إشارة إلى المقدّمة الأولى. وعدم ترجيح بعض الأقوال مبنيّ على الغضّ عمّا جعله أقوى من تخيير المالك.

(٢) بالجرّ معطوف على «عدم» يعني : وبعد الإجماع على عدم تخيير المالك. وهذا إشارة إلى المقدّمة الثانية.

(٣) متعلق ب «يقال» يعني : يقال بالتخيير العقليّ.

(٤) هذا بيان المحذورين. فإن كان المضمون خصوص المثل وجب على الضامن بذله ، ولم يجز للمالك الامتناع عن قبوله. وإن كان المضمون خصوص القيمة وجب على الضامن أداؤها ولم يجز للمالك مطالبة المثل. وحيث إنّ الواقع مجهول لم يمكن تحصيل العلم ببراءة الذمّة ، فيحكم العقل بالتخيير بين أداء المثل والقيمة.

(٥) أي : الامتناع عن بذل المثل.

__________________

(*) فيه : أنّ المقام أجنبيّ عن الدوران بين المحذورين اللذين يحكم فيه العقل بالتخيير ، وذلك لأنّه إنّما يكون في أمرين لا يمكن فعلهما ولا تركهما ، كدوران الأمر بين وجوب شي‌ء وحرمته ، أو وجوب شي‌ء ووجوب ضده ، في الضدّين اللّذين لا ثالث لهما كالحركة والسكون. وليس المقام كذلك ، لإمكان تحصيل اليقين بالبراءة بدفع المثل والقيمة إلى المالك ، ليأخذ المالك ما شاء منهما ، وإن لم يخرجا عن ملكه بمجرّد الدفع. ومع إمكان تحصيل اليقين بالبراءة بهذا النحو لا تصل النوبة إلى القرعة.

٣٢٦

وتعيّن (١) القيمة كذلك (٢) ، فلا متيقّن (٣) في البين. ولا يمكن (٤) البراءة اليقينيّة عند التّشاحّ (٥) ، فهو (٦) من باب تخيير المجتهد في الفتوى.

______________________________________________________

(١) معطوف على «تعيّن المثل» يعني : أنّ منشأ كون المقام من موارد الدوران بين المحذورين هو تعيّن أحد الأمرين واقعا ، والمفروض عدم طريق إلى إحرازه.

(٢) يعني : بحيث لا يكون للمالك مطالبة المثل ، ولا للضامن الامتناع عن بذل القيمة.

(٣) إذ ليس المثليّ والقيميّ من قبيل الأقلّ والأكثر حتى يكون الأقل هو المتيقن ، بل هما متباينان ، فلا تجري البراءة في المثليّة.

(٤) لكونهما متباينين. وعدم الاحتياط في الماليّات ، فالمضمون له لا يستحقّ واقعا إلّا أحدهما.

(٥) بأن لا يأذن الضامن إلّا بقبض ما عليه واقعا ، ولا يرضى المالك أيضا إلّا بما له واقعا ، والمفروض جهلهما بالواقع ، فلا يمكن تحصيل اليقين بالبراءة.

(٦) حيث إنّ الضامن يدور أمر أدائه بين المحذورين ، إجزاء المثل بخصوصه ، والقيمة كذلك ، لعدم القدر المتيقّن الذي تحصل به البراءة ، فيتخيّر الضامن حينئذ. نظير تخيير المجتهد في الفتوى بما يختاره من المحذورين اللذين دار أمره بينهما ، كما إذا قام عنده خبران متعارضان أحدهما يأمر بفعل والآخر ينهى عنه ، فإن كان الخبر الآمر صادرا واقعا وجبت الفتوى بمضمونه ولم تجز الفتوى بالحرمة. وإن كان الخبر الناهي صادرا وجبت الفتوى بالحرمة وحرمت الفتوى بالوجوب.

وحيث إنّ المفروض تردّد الصادر واقعا بين الخبرين فقد تردّد الأمر عنده بين الوجوب والحرمة ، فلا محالة يفتي بمضمون أحدهما ، هذا.

٣٢٧

فتأمّل (١) (*) هذا.

______________________________________________________

(١) لعلّه إشارة إلى : أنّ تخيير المجتهد إنّما هو في تعارض الخبرين دون مثل المقام.

أو إلى : أنّ التخيير منوط بعدم ترجيح لأحد الأقوال ، والمفروض وجود المرجّح لتخيير المالك من أوّل الأمر ، فلا وجه لتنظيره بتخيير المجتهد.

__________________

(*) إذا شكّ في كون مال مثليّا أو قيميّا لأجل الشبهة المفهوميّة فهل الأصل يقتضي تعيّن المثل أو القيمة أو تخيير الضامن أو المالك؟ احتمالات. قد عرفت في التوضيح مبانيها.

وقبل بيان الأصل الذي ينبغي الرجوع إليه عند الشك في المثليّة والقيميّة لا بدّ من تقديم مقدّمتين نافعتين في جميع موارد الضمانات.

إحداهما : أنّ القيميّ والمثليّ من المتباينين أو الأقلّ والأكثر. فإن أريد بالقيمة مطلق الماليّة السارية في جميع الأموال كانا من قبيل الأقلّ والأكثر ، لأنّ المثليّ حينئذ مال خاصّ علاوة على الماليّة المشتركة بين سائر الأموال ، فتكون المثليّة خصوصيّة زائدة على المالية المشتركة.

وإن أريد بالقيمة خصوص ما هو المرتكز في الأذهان والمتسالم عليه من النقود الرائجة التي تقدّر بها ماليّة الأموال وتتمحض في الماليّة كانا من المتباينين. وربّما يكون هذا ظاهر كلام اللغويّين.

ثانيتهما : أنّ الذمّة في باب الضمانات هل تشتغل بنفس الأعيان ، بمعنى كون نفس العين على عهدة الضامن مطلقا من غير فرق في ذلك بين ضمان اليد والإتلاف ، ويكون أداء المثل أو القيمة أداء لها ، لأنّه حكم العرف ، فإنّهم يحكمون بضمان المثل في المثلي والقيمة في القيميّ ، إذ لو كان له مثل عادة لا يعدّ إعطاء غيره أداء لها؟ أم تشتغل الذمّة بالمثل مطلقا ، ويكون أداء القيمة بتعذّره نحو أداء له ، أو بدلا اضطراريّا ، أم تشتغل ابتداء في المثليّ بالمثل ، وفي القيميّ بالقيمة مطلقا كما نسب إلى المشهور ، أم تشتغل بالقيمة مطلقا حتّى في ضمان اليد. أم يفصّل بين ضمان اليد وغيره.

٣٢٨

.................................................................................................

__________________

قد يقال : لو بني على المتعارف وتنزيل الإطلاقات الواردة في الضمان عليه كان مقتضى ذلك ضمان الماليّة مطلقا وليست الخصوصيّات العينيّة ملحوظة في نظر العرف إلّا عبرة إلى مرتبة ماليّة المال ، ولذا لو سقط المثل عن الماليّة لم يلتفتوا إليه أصلا. ولا يرون دفعه تداركا. وكذا لو زاد في الماليّة لا يرون المالك مستحقّا لأزيد من قيمة ماله.

وبالجملة : ليس النظر في الأموال إلّا إلى ماليّتها. بل لو كانت خصوصيّة مال مطلوبة كان ذلك لأمر خارجيّ غير دخيل في حيثيّة الضمان. وإنّما يدور الضمان مدار التمول في أي عين كان بلا خصوصيّة للنقدين ، ولا للمماثل ولا لغيرهما.

وهذا في غاية الغرابة ، إذ لازمه ارتفاع الضمان بجبران الماليّة بأيّ مال كان ، فلو أتلف منّا من حنطة زيد ، ودفع إليه مقدارا من الدهن يساوي قيمة منّ الحنطة ـ وإن لم يرض به المالك ـ لزم منه براءة ذمّة الضامن ، وهو كما ترى خلاف ما عليه العقلاء في باب الضمانات ، إذ لا يرون هذا أداء لما أتلفه ، فإن العقلاء كما يحكمون بأصل الضمان كذلك يحكمون بكيفيّته. فدعوى كون الضمان مطلقا بالماليّة ـ من دون رعاية الخصوصيّات الدخيلة في الرغبات والماليّة ـ في غاية الغرابة.

فالحقّ أن يقال : إنّ حكم العقلاء في باب الضمانات هو ثبوت نفس العين التالفة المضمونة على عهدة الضامن ، فالاستيلاء على العين الموجب للضمان يوجب ثبوتها في الذمّة. وهذا وجود اعتباريّ للعين ، فبدون التلف يكون خروجه عن عهدتها بدفع عينها إلى مالكها ، ومع التلف يكون أداؤها بإعطاء مماثلها إن كان مثليّا ، وقيمتها إن كان قيميّا. وثمرة ثبوت العين في الذمة هو كون المدار في القيميّة قيمة يوم الأداء لا يوم التلف.

وهذا ـ أي ثبوت نفس العين في الذمّة إلى وقت الأداء ـ ممّا تقتضيه الأدلّة الشرعية أيضا كحديث «على اليد» فإنّ ظاهره كون نفس المأخوذ على الآخذ ومستعليا

٣٢٩

.................................................................................................

__________________

عليه كما هو قضيّة كلمة على الاستعلائيّة ، حيث إنّ الظرف مستقرّ متعلّق بفعل من أفعال العموم ، فكأنّه قيل : المأخوذ ثابت على الآخذ ، فالثابت على العهدة محمول على نفس المأخوذ ، نظير قوله تعالى (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ) حيث إنّ الرّزق بنفسه ثابت على المولود له ، وجعل شي‌ء على شخص ظاهر في كونه على عهدته ، ولذا استظهر الأصحاب من هذه الآية المباركة ملكيّة النفقة للزوجة ، والتفصيل في محله.

وبالجملة : لا مانع من جعل شخص المأخوذ على العهدة اعتبارا كما في الكفالة ، فإنّ الشخص المكفول يكون على عهدة الكفيل اعتبارا ، فإن كانت العين موجودة كان أداؤها بنفسها ، وإن كانت تالفة كان أداؤها بما هو أقرب إليها. ولا يعارضها سائر أدلّة الضمانات كآية الاعتداء على فرض دلالتها على ضمان المثل والقيمة ، لأنّ ظاهرها تجويز الاعتداء بهما أي التقاصّ ـ يعني : على عهدة الغاصب ما يكون تقاصّه بالمثل أو القيمة ـ وهو لا يدلّ على أنّ ما في العهدة نفس العين أو القيمة أو المثل ، إذ لو كان ما على العهدة نفس العين فلازمه أيضا التقاصّ بالمثل أو القيمة ، فهذا اللازم أعمّ من كون ما في الذمّة نفس العين أو المثل أو القيمة.

فظهور «على اليد» يكشف عن كيفيّة الضمان ولا ينافيه الآية الشريفة ، ولا دليل احترام مال المؤمن وأنّه كدمه ، إذ لا يدلّ على كيفية الضمان ، بل يدلّ على نفس الضمان وعدم هدره. وكذا سائر أدلّة الضمانات ، فإنّها لو لم تكن ظاهرة في ضمان نفس العين وثبوتها على العهدة ليست ظاهرة في الخلاف. فالبناء العقلائيّ الذي يساعده الدليل الشرعيّ كحديث «على اليد» قد استقرّ على كون الثابت في ذمّة الضامن نفس العين ، هذا.

لكن يمكن أن يقال : إنّ ما وقع تحت اليد هو الموجود الخارجيّ ، ولا ريب في انعدامه بالتلف ، فلا بدّ أن يسقط الضمان بسبب التلف ، إذ الماهيّة المعرّاة عن الوجود الخارجيّ لم تقع تحت اليد ، ولا يمكن وقوعها عليه. فلا يستفاد من حديث اليد ضمان المأخوذ بعد التلف.

٣٣٠

.................................................................................................

__________________

والحاصل : أنّ الحديث في مقام بيان وجوب ردّ المأخوذ الموجود إلى مالكه ، ولا يدلّ على وجوب ردّ بدله بعد التلف ، لأنّ ظاهره كون المضمون ما هو الموجود خارجا ، لا الأعمّ منه ومن المعدوم الذي يعتبر موجودا باقيا ، فلا يستفاد من الحديث اعتبار نفس العين على العهدة بعد التلف ، كما لا يستفاد ذلك أيضا من أدلّة الضمانات.

فالمرجع حينئذ في كيفيّة الضمان هو العرف ، ومن المعلوم أنّهم يحكمون بضمان المثل في المثليّ والقيمة في القيميّ ، لأنّ ذلك أقرب إلى التالف ، وصدق الجبران وتدارك الفائت عليه أولى من غيره ، كمطلق الماليّة ، فالضمان من أوّل الأمر يتعلّق ببدل التالف مثليّا أو قيميّا ، لا بنفس العين بوجودها الاعتباريّ ، فإنّه وإن كان ممكنا ثبوتا ، لكنّه لا دليل عليه إثباتا.

ثمّ إنّ الظاهر ـ كما أشير إليه ـ عدم تعبّد في نفس الضمان ولا في كيفيّته ، بل كلاهما من الأحكام العقلائيّة ، فما اشتهر بين الأصحاب من ضمان المثليّ بالمثل والقيميّ بالقيمة ممّا يساعده الارتكاز العقلائيّ ، فالضمان عندهم عبارة عن عهدة الخسارة للمال بالتلف. ولا ينافي هذا الارتكاز شي‌ء من أدلّة الضمان ، فالضمان المأخوذ في أدلّته ليس إلّا عهدة الخسارة في صورة التلف ، وجبران الخسارة بمقتضى الارتكاز العقلائيّ إنّما هو بالمثل في المثليّ ، وبالقيمة في القيميّ.

إذا عرفت هاتين المقدّمتين فاعلم : أنّ مقتضى العلم الإجمالي باشتغال ذمّة الضامن بإحدى الخصوصيّتين اللّتين هما بدل التالف ـ لحكم العقل بأنّ الضمان هو تدارك خسارة التالف ببدله الأقرب إليه ، وهو المثل أو القيمة ـ هو الاحتياط بدفع المثل والقيمة إلى المضمون له ، غاية الأمر أنّه يجب على المالك أخذ أحدهما ، للإجماع على عدم الاحتياط في الماليّات ، ولقاعدة الضرر. ولو لم يرض بأحدهما فالظاهر تعيّن القرعة بناء على جريانها في الشبهات الحكمية ، وإلّا فالصلح القهري.

٣٣١

ولكن يمكن أن يقال (١) : إنّ القاعدة المستفادة

______________________________________________________

(١) هذا إشارة إلى دليل آخر على أصل الحكم بضمان المثليّ بالمثل ـ كما سيأتي تصريحه به في المتن بقوله : نعم الانصاف عدم وفاء الآية كالدليل السابق عليه بالقول المشهور ـ والظاهر أنّ غرضه قدس‌سره من التعرّض له هنا ـ بعد الفراغ عمّا يقتضيه الأصل العمليّ في الشك في كون التالف مثليّا وقيميّا ـ هو : استفادة حكم المسألة من الدليل الاجتهاديّ أعني به إطلاق أخبار الضمان مقاميّا ، في قبال ما تقدّم من استفادته من الأصل العمليّ المقتضي لتخيير الضامن شرعا ، أو تخيير المالك كذلك ، أو التخيير عقلا.

__________________

ولا تجري أصالة البراءة في إحدى الخصوصيّتين ـ وهي المثليّة ـ ليكون نتيجته تخيير الضامن ، وذلك لكون المقام من المتباينين كما مرّ سابقا ، لا من الأقل والأكثر.

كما لا تجري أصالة التعيينيّة القاضية بتعيّن المثل ، لأنّ موردها العلم بوجوب شي‌ء تعيينا أو تخييرا ، كوجوب تقليد المجتهد الأعلم المردّد بين كونه بنحو التعيينيّة والتخييريّة. وهذا أجنبيّ عن مطلوبيّة كلّ واحدة من الخصوصيّتين كالمثليّة والقيميّة ، فإنّ الضمان تعلّق بالخصوصيّة المثليّة أو القيميّة.

كما لا وجه لتخيير المالك ، ببيان : أنّ ما يختاره المالك إمّا هو البدل الواقعيّ الذي اشتغلت به ذمّة الضامن ، فيكون مسقطا قهريّا ، وإمّا هو بدل البدل ، لرضاء المالك بغير الجنس في مرحلة الوفاء ، فيكون مسقطا أيضا. فمختار المالك مسقط للذمّة قطعا دون غيره ، لأنّه مشكوك المسقطيّة ، والأصل عدم سقوطه إلّا بما يختاره المالك.

إذ فيه : أنّ الكلام في إجراء الأصل بالإضافة إلى ما اشتغلت به ذمّة الضامن من المثل بالخصوص أو القيمة كذلك ، لا بالنسبة إلى ما يرضى به المالك بدلا عن ماله التالف ، لأنّه قد يكون القيمة في المثليّ والمثل في القيميّ ، وقد يكون شيئا آخر ممّا لا ينضبط. ومن المعلوم أنّ دفعهما معا مستلزم للعلم بأداء ما في الذمّة ، سواء رضي المالك بأحدهما بالخصوص أم لا. فالقطع ببراءة الذمّة لا يتوقّف على دفع ما يختاره المالك ، ونسبة الأصل إلى كليهما على حدّ سواء.

٣٣٢

من إطلاقات الضمان (١)

______________________________________________________

وتوضيح ما أفاده : أنّ مادّة «الضمان والغرامة» وما بمعناهما قد وردت في كثير من النصوص المتكفلة لحكم المغصوب ، والأمانات التي فرّط أصحابها فيها كالعين المستأجرة واللّقطة والعارية والوديعة ، وكان السائل يستفهم عن وظيفته الفعليّة المبتلى بها ، ولم يستفصل منه الامام عليه‌السلام عن أنّ المضمون مثليّ أو قيميّ ، وإنّما حكم عليه‌السلام بالضمان أو بما يؤدّيه ، كما يستفاد أيضا من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي» ممّا ظاهره استقرار المأخوذ على عهدة الآخذ إلى أن يردّه إلى المأخوذ منه.

ومن المعلوم أنّ إهمال خصوصيّة المضمون ـ مع تفاوت الأموال في مالها مثل وما ليس لها مثل ـ لا بدّ أن يكون لأجل إيكال الأمر إلى ما هو المتعارف بين العقلاء في ما يضمنون به ، وعدم إبداع طريقة أخرى في مقام تفريغ الذمّة.

هذا من جهة. ومن جهة أخرى نرى استقرار سيرتهم على أنّ من وضع يده على شي‌ء مملوك للغير لزمه ردّه إليه ، وإن تلف لزمه ردّ أقرب شي‌ء إليه ، ومع تعذّره يؤدّي قيمة التالف.

ولا ريب في أنّ الأقرب إلى التالف هو مماثلة في جميع الجهات المعتبرة في الماليّة والأوصاف الدخيلة في رغبة العقلاء فيه ، سواء أكان متّحدا مع المثليّ الذي اصطلح عليه الفقهاء قدس‌سرهم ، أم لم يكن كذلك. فالحيوان مطلقا ليس مثليّا بنظر الفقهاء ، ولكن لا يبعد ضمانه عرفا بما يماثل التالف من جميع الجهات ، ولو تعذّر فبقيمته.

وعليه فهذا الدليل يقتضي الضمان أوّلا بمثل التالف ، ثم بقيمته ، ومعه لا مجال للتخيير أصلا.

(١) حاصله : أنّ المستفاد من بناء العرف الممضى شرعا ـ بمقتضى الإطلاقات المقاميّة الثابتة لأدلّة الضمان المتفرّقة في أبواب الفقه ـ هو : أن الضمان في جميع موارده يكون بالمثل ، ثمّ بالقيمة ، ومعرفة المثل موكولة إلى العرف ، ولا تتوقّف على الإجماع على كون الشي‌ء مثليّا أو قيميّا.

٣٣٣

في المغصوبات (١) والأمانات المفرّط فيها (٢)

______________________________________________________

نعم لو شكّ العرف فالمرجع الأصل المتقدّم.

ثمّ إنّ مقتضى الإطلاقات هو الترتيب ، بمعنى أنّ اللازم أوّلا هو المثل ، وبعد إعوازه قيمة التالف. بخلاف مقتضى الأصل ، فإنّه التخيير ، لا الترتيب. ويدلّ على هذا الترتيب ما سيأتي من قوله : «وقد استدلّ في المبسوط .. إلخ» على التقريب الآتي.

(١) كالنبوي : «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي» (١) بناء على اختصاص الأخذ بالقهر كما قيل ، فيختصّ الحديث بباب الغصب. وكمرسلة حمّاد بن عيسى عن العبد الصالح عليه‌السلام : «لأنّ الغصب كلّه مردود» (٢) بناء على عدم اختصاصه بحال بقاء العين المغصوبة ، وشموله لردّها ببدلها.

(٢) فمنها : ما ورد في ضمان الأجير ، كمعتبرة زرارة وأبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : في رجل كان له غلام ، فاستأجره منه صانع أو غيره.

قال : إن كان ضيّع شيئا أو أبق منه فمواليه ضامنون» (٣) حيث دلّ على ضمان مولى الأجير الذي ضيّع مال المستأجر ، مع أنّ الأجير أمين. ولم يفصّل عليه‌السلام في أنّ المضمون مثليّ أو قيميّ ، وإطلاق الضمان منزّل على المتعارف.

ومنها : ما ورد في ضمان الدابّة ، كمعتبرة عليّ بن جعفر عن أخيه أبي الحسن عليه‌السلام ، قال : «سألته عن رجل استأجر دابّة فأعطاها غيره ، فنفقت ، ما عليه؟ قال : إن كان شرط أن لا يركبها غيره فهو ضامن لها ، وإن لم يسمّ فليس عليه شي‌ء» (٤) حيث إنّ الدابّة أمانة بيد المستأجر فرّط فيها بمخالفته للشرط ، فضمنها ، ولم يذكر عليه‌السلام أنّ

__________________

(١) عوالي اللئالي ، ج ١ ، ص ٢٢٤ ، الحديث ١٠٦.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٧ ، ص ٣٠٩ ، الباب ١ من أبواب الغصب ، الحديث ٣.

(٣) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ٢٥١ ، الباب ١١ من أبواب الإجارة ، الحديث ٢.

(٤) المصدر ، ص ٢٥٦ ، الباب ١٦ من أبواب الإجارة ، الحديث ١ ، ونحوه الحديث ٢ و ٣ و ٤ و ٦ ، من الباب ١٧ ، ص ٢٥٧ و ٢٥٨.

٣٣٤

.................................................................................................

______________________________________________________

ضمانها بالمثل أو بالقيمة.

ومنها : ما ورد في ضمان الصنّاع ، كمعتبرة الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «سئل عن القصّار يفسد ، فقال : كلّ أجير يعطى الأجرة على أن يصلح فيفسد فهو ضامن» (١). ولم يبيّن عليه‌السلام المضمون به ، مع أنّ ما يعطى الأجير لإصلاحه قد يكون مثليّا وقد يكون قيميّا.

ومنها : ما ورد في ضمان الوصيّ المفرّط في المال الموصى به ، كمعتبرة محمّد بن مسلم ، قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام رجل بعث بزكاة ماله لتقسم ، فضاعت ، هل عليه ضمانها حتى تقسم؟ فقال : إذا وجد لها موضعا فلم يدفعها فهو لها ضامن .. إلى أن قال : وكذلك الوصي الذي يوصى إليه يكون ضامنا لما دفع إليه إذا وجد ربّه الذي أمر بدفعه إليه ، فإن لم يجد فليس عليه ضمان» (٢).

ولا تبعد دعوى قوّة الإطلاق في هذه الرواية ، لأعمّيّة المال الزكويّ والموصى به ممّا هو مثليّ في مصطلح الفقهاء ، وقيميّ عندهم ، فيحمل الضمان على المتعارف عند العقلاء.

ومنها : ما ورد في ضمان الملتقط ، كخبر الحسين بن يزيد عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام ، قال : «كان أمير المؤمنين عليه‌السلام يقول في الضالّة يجدها الرّجل فينوي أن يأخذ لها جعلا ، فتنفق ، قال : هو ضامن. فإن لم ينو أن يأخذ لها جعلا ونفقت فلا ضمان عليه» (٣).

ومنها : ما ورد في ضمان الودعيّ مع التفريط ، كخبر محمّد بن الحسن ، قال :

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ٢٧١ ، الباب ٢٩ من أبواب الإجارة ، الحديث ١ ، وبمضمونه أكثر أخبار الباب ، وهي أزيد من عشرين حديثا.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ٤١٧ ، الباب ٤٦ من أبواب الوصايا ، الحديث ١ ، ونحوه سائر أحاديث هذا الباب والباب ٣٧.

(٣) وسائل الشيعة ، ج ١٧ ، ص ٣٦٩ ، الباب ١٩ من أبواب اللقطة ، الحديث ١.

٣٣٥

وغير ذلك (١) هو (٢) الضمان بالمثل ، لأنّه (٣) أقرب إلى التالف من حيث الماليّة والصفات ، ثمّ بعده (٤) قيمة التالف من النقدين وشبههما (٥) ، لأنّهما أقرب من

______________________________________________________

«كتبت إلى أبي محمّد عليه‌السلام : رجل دفع إلى رجل وديعة ، وأمره أن يضعها في منزله [أو لم يأمره] فوضعها في منزل جاره ، فضاعت هل يجب عليه إذا خالف أمره وأخرجها عن ملكه؟ فوقّع عليه‌السلام : هو ضامن لها إن شاء الله» (١).

ومنها : غير ذلك من النصوص المتفرقة في أبواب الرهن وغيرها التي ورد فيها كلمة «الضمان» ولم يعيّن المضمون به. ولو كان ضمان المثليّ بالمثل والقيميّ بالقيمة كان إهمال هذه الجهة ـ مع كون السائل في مقام استعلام وظيفته الفعليّة ـ تأخيرا للبيان عن وقت الحاجة بلا مصلحة واضحة فيه.

(١) أي : غير المغصوب وغير الأمانة المفرّط فيها ، ومثال هذا الغير هو عارية الذهب والفضة أو العارية المشروط فيها الضمان ، فإنّ المستعير ضامن إن لم يكن مفرّطا ، كما ورد في صحيحة عبد الله بن سنان ، قال : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام : لا تضمن العارية إلّا أن يكون قد اشترط فيها ضمان ، إلّا الدنانير ، فإنّها مضمونة وإن لم يشرط فيها ضمانا» (٢). والتقريب كما تقدّم آنفا.

(٢) خبر قوله : «ان القاعدة المستفادة».

(٣) يعني : لأنّ المثل العرفيّ أقرب إلى التالف من قيمته. ووجه الأقربيّة واضح.

(٤) أي : بعد الضمان بالمثل ، والمراد بالبعديّة هو الرّتبيّة ، أي : تأخّر جواز دفع القيمة عن تعذّر المماثل العرفيّ.

(٥) مما يجعل ثمنا في المعاملات بمنزلة النقدين كالفلوس الرائجة المصوغة من غير النقدين ـ كالنحاس والرصاص والقرطاس وغيرها ـ ممّا يعامل معها في الأسواق معاملة النقدين.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ٢٢٩ ، الباب ٥ من أبواب الوديعة ، الحديث ١.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ٢٣٩ ، الباب ٣ من أبواب العارية ، الحديث ١.

٣٣٦

حيث المالية (١) ، لأنّ ما عداهما يلاحظ مساواته للتالف بعد إرجاعه إليهما.

ولأجل الاتّكال على هذا الظهور (٢) لا تكاد تظفر على مورد واحد من هذه الموارد (٣) ـ على كثرتها ـ قد نصّ الشارع فيه على ذكر المضمون به ، بل كلّها ـ إلّا ما شذّ وندر (٤) ـ

______________________________________________________

(١) لأنّهما متمحّضان في الماليّة ، ولذا يقدّر بهما ماليّة الأموال.

(٢) أي : الضمان بالمثل ثم بالقيمة.

(٣) يعني : الموارد التي حكم الشارع فيها بالضمان كالغصب والأمانات المفرّط فيها.

(٤) يعني : أنّ الشارع قد نصّ في موارد نادرة على المضمون به ، وأنّه قيمة التالف ، كما ورد في عدّة نصوص : منها : صحيحة أبي ولّاد الحنّاط التي تقدّم مفادها (في ص ٢٣٤) وسيأتي متنها في كلام المصنّف (في ص ٤٨٢) ، والمقصود منها قول أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق «صلوات الله وسلامه عليها» : «قيمة بغل يوم خالفته» (١) فالمضمون به هو خصوص الماليّة ، وليس الضمان مطلقا حتى يحمل على المفهوم منه عرفا ، وهو المماثل في الصفات زيادة على المماثلة في الماليّة.

ومنها ، ما تقدّم في أخبار (٢) بيع الجارية المسروقة من ضمان قيمة الولد واللّبن والخدمة ، فراجع (ص ٤٩ و ٥٠).

ولا يخفى أنّ اعتبار القيمة في هذا المورد ليس تخصيصا في الحكم بالضمان بالمثل إن وجد وإلّا فبالقيمة. وذلك لأنّ مورد الحكم بضمان المثل هو ما له مثل عرفا ، فلو لم يكن له مثل كذلك كان ضمانه بالقيمة موافقا لبناء العقلاء. فإنّ الولد ممّا لا يوجد له مماثل حتى يضمن به ، مع انعقاده حرّا. وكذلك لا يبعد أن يكون ضمان البغل بقيمته لأجل عدم المماثل له في جميع الصفات الدخيلة في ماليّته.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ٢٥٥ ، الباب ١٧ من أبواب الإجارة ، الحديث ١.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٤ ، ص ٥٩١ ، الباب ٨٨ من أبواب نكاح العبيد والإماء ، الحديث ١ وغيره.

٣٣٧

قد أطلق (١) فيها الضمان.

فلو لا الاعتماد (٢) على ما هو المتعارف لم يحسن من الشارع إهماله في موارد البيان.

______________________________________________________

ومنها : ما ورد في خبر السكونيّ عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «ان أمير المؤمنين سئل عن سفرة وجدت في الطريق مطروحة كثير لحمها وخبزها وجبنّها وبيضها ، وفيها سكّين ، فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : يقوّم ما فيها ، ثم يؤكل ، لأنّه يفسد ، وليس له بقاء ، فإن جاء طالبها غرموا له الثمن» (١). وظاهر الجملة الأخيرة ـ بل صريحها ـ ضمان السّفرة بقيمتها ، ولعلّه لأجل ندرة المماثل في غالب الصفات.

ومنها : ما ورد في ضمان المرتهن إذا فرّط في العين المرهونة من قوله عليه‌السلام : «إنّه إن استهلكه ترادّ الفضل بينهما» (٢) بناء على أنّ الدّين غالبا يكون في النقدين ، والرّهن من الأعيان ، فحكم عليه‌السلام بترادّ الفضل ، فإن كان الدّين أزيد قيمة من الرّهن وجب على الراهن ردّ الزائد إلى المرتهن. وإن كان الدين أقلّ ماليّة من الرهن وجب على المرتهن ردّ الفضل إلى الراهن.

ومنها : غير ذلك ممّا يظفر به المتتبّع في أخبار أهل بيت العصمة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، وسيأتي نقل جملة منها في الأمر السابع ، فلاحظ (ص ٤٥٦ و ٤٥٧).

(١) خبر «كلها».

(٢) هذا تقريب الإطلاق المقاميّ الدالّ على إمضاء البناء العرفيّ على ضمان التالف بما هو أقرب إليه أعني به المماثل عرفا ، وبتعذّره فالقيمة.

هذا تمام الكلام في الوجوه المتصوّرة في ضمان التالف المشكوك كونه مثليّا وقيميّا ، ومقتضى الإطلاق المقاميّ هو الضمان بما يشابه التالف ويماثله عرفا ، ثم بقيمته.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٧ ، ص ٣٧٢ ، الباب ٢٣ من أبواب اللقطة ، الحديث ١.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ١٢٩ ، الباب ٧ من أبواب الرهن ، الحديث ١ وغيره.

٣٣٨

وقد استدلّ (١) في المبسوط والخلاف على ضمان المثليّ بالمثل والقيميّ بالقيمة بقوله تعالى (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) (١) بتقريب : أنّ مماثل ما اعتدى هو المثل في المثليّ والقيمة في غيره (٢).

______________________________________________________

(١) هذا وجه ثالث استدلّ به للقول المشهور ، وهو ضمان التالف المثليّ بالمثل ، وكان الوجه الأوّل الإجماع المحكيّ ، والثاني الإطلاق المقاميّ ، وقد عرفت أنّ مفاد هذه الوجوه مختلف من حيث إفادة الترتيب بين المثل والقيمة وعدمه.

(٢) ما نسبه المصنف إلى شيخ الطائفة قدس‌سرهما من استدلاله بالآية الشريفة على ضمان المثليّ بالمثل والقيميّ بالقيمة ـ قد صرّح به في موضعين من غصب الخلاف ، ولم أظفر به في غصب المبسوط بعد ملاحظته بتمامه ، وإنّما استدلّ فيه بالآية الشريفة على ضمان المثليّ بمثله ، لا على ضمان القيميّ بالقيمة.

قال في الخلاف : «المنافع تضمن بالغصب كالأعيان ، مثل منافع الدار والدابّة والعبيد والثياب ، وبه قال الشافعيّ. وقال أبو حنيفة : لا تضمن المنافع بالغصب بحال .. دليلنا ، قوله تعالى (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ). والمثل مثلان ، مثل من حيث الصورة ، ومثل من حيث القيمة. فلمّا لم يكن للمنافع مثل من حيث الصورة وجب أن يلزمه من حيث القيمة. وعلى المسألة إجماع الفرقة. وأخبارهم تدلّ عليها» (٢).

وهذه العبارة صريحة في أنّه قدس‌سره استظهر من الآية الشريفة ضمان المثليّ بالمثل والقيميّ بالقيمة ، لكون القيمة مثلا للتالف من حيث ماليّته. وهذا المقدار من المماثلة كاف في استفادة ضمان القيميّ بقيمته من الآية المباركة. ونحوه كلامه في ضمان العقار بقيمته ، فلاحظ (مسألة ١٨) من الغصب.

وقال في غصب المبسوط ـ بعد تقسيم الأموال إلى حيوان وغير حيوان ،

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية ١٩٤.

(٢) الخلاف ، ج ٣ ، ص ٤٠٢ ، المسألة : ١١ ، وص ٤٠٦ ، المسألة : ١٨ ، ونحوه كلام ابن إدريس ، فراجع السرائر ، ج ٢ ، ص ٤٨٥.

٣٣٩

واختصاص (١) الحكم بالتلف عدوانا لا يقدح بعد عدم القول بالفصل.

وربما يناقش في الآية : بأنّ مدلولها اعتبار المماثلة في مقدار الاعتداء (٢)

______________________________________________________

وغير الحيوان إلى ما له مثل ، وما لا مثل له ـ ما لفظه : «فإذا غصب غاصب من هذا شيئا ، فإن كان قائما ردّه. وإن كان تالفا فعليه مثله ، لقوله تعالى (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) .. إلخ». ونقلناه في (ص ٢٦) فراجع. وهذه العبارة ظاهرة في دلالة الآية الشريفة على ضمان المثليّ بالمثل ، وليس في كلامه قدس‌سره دلالتها على حكم القيميّ أصلا ، فلاحظ.

وبما نقلناه عن شيخ الطائفة قدس‌سره ظهر أنّ ما أفاده الفقيهان الشيخ المامقاني وسيدنا الأستاذ قدس‌سرهما ـ من اقتصار عبارة المبسوط على دلالة الآية الشريفة على حكم المثليّ دون القيميّ (١) ـ وإن كان متينا ، إلّا أنّ المصنّف قدس‌سره عزاه إلى الخلاف أيضا. وقد عرفت صراحة كلامه فيه في استفادة حكم القيميّ أيضا من الآية الشريفة.

كما ظهرت المسامحة في تعبير الماتن ـ من نسبة الاستدلال بالآية على كلّ من المثليّ والقيميّ ـ إلى المبسوط والخلاف معا.

(١) نوقش في الاستدلال بالآية الشريفة ـ على ضمان المقبوض بالبيع الفاسد بمثله ـ بوجهين ، الأوّل : أن الآية الشريفة أجنبيّة عن المدّعي ـ الذي هو ضمان المثليّ بالمثل والقيميّ بالقيمة في البيع الفاسد ـ لاختصاص الآية بالتلف العدواني ، ومن المعلوم أنّ محلّ الكلام هو تلف المقبوض بالعقد الفاسد ، لا إتلافه ، وليس فيه اعتداء خصوصا مع الجهل بالفساد.

وأجاب عنه المصنّف قدس‌سره ، بأنّ الآية وإن اختصّت بمورد الاعتداء ، إلّا أنّه يلحق به المقبوض بالبيع الفاسد بعدم القول بالفصل بين باب الغصب وما نحن فيه. وعليه فلا بأس بدلالة الآية على ضمان المثليّ بمثله.

(٢) هذا هو الوجه الثاني من المناقشة ، والمناقش هو السيّد العلّامة الطباطبائي قدس‌سره حيث قال في إنكار تعلّق الحكم بعنوان المثلي ما لفظه : «وفيه نظر ، لاحتمال كون

__________________

(١) غاية الآمال ، ص ٣٠٣ ؛ نهج الفقاهة ، ص ١٤٢.

٣٤٠