هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٣

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٠

ولذا (١) لا يعدّ الجريش مثلا للحنطة ، ولا الدقاقة مثلا للأرز.

ومن هنا (٢) يظهر أنّ كلّ نوع من أنواع الجنس الواحد ، بل كلّ صنف من

______________________________________________________

«الدرهم» جنس يشتمل على نوعين :

أحدهما : الصحيح ، وهو الذي تكون سكّته وهيئته محفوظة.

وثانيهما : المكسور والمعيوب ، كما إذا انكسر نصفين أو أكثر ، أو عاب بأن انمحى نقشه المضروب عليه.

فإن كان موضوع مثليّة الدرهم هو الجنس الصادق على السليم والمعيب انتقض تعريف المثليّ ، لأنّ النصف المكسور من الدرهم لا يسوى قيمة نصف الدرهم الصحيح ، لزوال ماليّة هيئته بالكسر ، وصيرورة العبرة في ماليّته بنفس المادّة وهي الفضّة.

وإن كان موضوع المثليّة خصوص النوع الصحيح لم ينتقض تعريف المثليّ ، إذ لا ريب في أنّ الدراهم الصّحاح متساوية في الماليّة ، وليست الدراهم المكسورة مندرجة في النوع الصحيح حتى يقال بعدم مساواة أبعاضها. والظاهر أن مناط المثليّة عندهم هو النوع لا الجنس ، ولذا لا يعدّون الجريش والطحين مثلا للحنطة ، مع انطباق الجنس عليهما.

(١) يعني : ولكون المثليّة ملحوظة بالنسبة إلى النوع ـ كما وجّهه بقوله : إلّا أن يقال ـ لا يعدّ الجريش مثلا للحنطة. والجريش هو الحنطة المطحونة بطحن غير ناعم ، بحيث تبقى قطعا صغارا. فالحنطة جنس لها أنواع ، منها الحبّات غير المطحونة ، ومنها : الجريش ، ومنها الطحين. فإذا اشتغلت الذمّة بحقّة حنطة لم تفرغ بدفع حقّة من نوع آخر كالجريش.

(٢) يعني : ومن لحاظ المثليّة بالنسبة إلى النوع ـ لا الجنس ـ يظهر أنّ المثليّة ملحوظة في النوع بالنسبة إلى أفراد ذلك النوع فقط ، لا سائر أنواع الجنس.

٣٠١

أصناف نوع واحد مثليّ بالنسبة إلى أفراد ذلك النوع أو الصنف (١).

فلا يرد (٢) ما قيل من : «أنه إن أريد التساوي بالكلّية ، فالظاهر عدم صدقه على شي‌ء من المعرّف ، إذ ما من مثليّ إلّا وأجزاؤه مختلفة في القيمة كالحنطة ، فإنّ قفيزا من حنطة تساوي عشرة ، ومن اخرى تساوي عشرين.

وإن أريد التساوي في الجملة فهو في القيميّ موجود كالثوب والأرض» (٣) انتهى.

______________________________________________________

(١) فالرّز في عصرنا له أنواع وأصناف عديدة ربّما يكون سعر النوع الجيّد ضعف سعر المتوسّط أو الردي‌ء. وهكذا الحنطة ، ونحوهما سائر السّلع.

(٢) هذا متفرّع على كون مناط المثليّة هو النوع والصنف ، دون مجرّد ما يصدق عليه الحقيقة. وغرضه قدس‌سره دفع ما أورده المحقّق الأردبيليّ قدس‌سره على تعريف المشهور ، ومحصّله : أنّ تفسير المثليّ ب «ما تساوت أجزاؤه» إمّا غير منطبق على شي‌ء ممّا عدّ مثليّا ، وإمّا غير مانع الصدق على الغير وهو القيميّ.

وبيانه : أنه إن أريد بالتساوي التساوي الكلّيّ ومن جميع الجهات ، فالظاهر عدم صدقه على شي‌ء ممّا عدّ مثليّا ، لاختلاف أجزاء كلّ مثليّ في القيمة ، فإنّ قفيزا من حنطة يساوي عشرة ، ومن حنطة أخرى يساوي عشرين ، مع أنّ الحنطة من أظهر أفراد المثليّ.

وإن أريد بالتساوي التساوي في الجملة أي التقارب في القيمة ـ في قبال الأشياء المختلفة قيمها بكثير ، كالتفاوت بين سعر الحنطة والشعير والأرز مثلا ـ لزم دخول جملة من القيميّات في التعريف ، لتقارب قيم كثير من الحبوبات والأقمشة والثياب ونحوها ، مع أنّهم جعلوها من القيميّ. وعليه فجعل ضابط المثليّ التساوي الكلّيّ غير سديد. هذا تقريب إشكال المحقّق الأردبيلي قدس‌سره (١).

(٣) هذه العبارة تختلف يسيرا مع ما في مجمع الفائدة ، وكلامه قدس‌سره متضمّن لشقّ ثالث للمنفصلة لم تذكر في المتن ، وهي قوله : «وإن أريد مقدارا خاصّا فهو حوالة على المجهول».

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان ، ج ١٠ ، ص ٥٢٢ و ٥٢٣.

٣٠٢

وقد لوّح هذا المورد (١) في آخر كلامه إلى دفع إيراده بما (٢) ذكرنا من : أنّ كون الحنطة مثليّة معناه أنّ كلّ صنف منها متماثل الأجزاء (٣) ومتساو في القيمة ، لا بمعنى أنّ (٤) جميع أبعاض هذا النوع متساوية في القيمة. فإذا كان المضمون

______________________________________________________

(١) وهو المحقّق الأردبيلي قدس‌سره ، فإنّه جعل مناط المثليّة النوع أو الصنف ، ودفع به الإيراد المتقدّم في كلامه.

ولا يخفى أنّ تماثل الأفراد في النوع والصنف غير مصرّح به في مجمع الفائدة ، لكن يستفاد منه ذلك. قال قدس‌سره : «والذي يقتضيه القواعد أنّه ـ أي المثليّ ـ لفظ بني عليه أحكام بالإجماع ، وكأنّه بالكتاب أيضا ، مثل ما تقدّم ، والسّنّة أيضا ، وليس له تفسير في الشرع ، بل ما ذكر اصطلاح الفقهاء ، ولهذا وقع فيه الخلاف ، فيمكن أن يحال إلى العرف ، إذ الظاهر أنه ليس بعينه مرادا ، فإنّ المثل هو المتشابه والمساواة في الجملة. وهو موجود بين كلّ شي‌ء .. فكلّ شي‌ء يكون له مثل في العرف ، ويقال له : إنّ هذا له مثل عرفا ، فيؤخذ ذلك .. ويؤيّده أنّه على تقدير ثبوت كون المتلف مثليّا مثل الحنطة لا يؤخذ بها كلّ حنطة ، بل مثل ما تلف عرفا .. إلخ» (١).

ومثّل أيضا بسنّ الجمل والثوب والفرس العتيق ، حيث إنّ المضمون هو المماثل للتالف عرفا. وهذا هو النوع أو الصنف في تعبير المصنّف.

(٢) متعلق ب «دفع» والمراد بالموصول قوله : «إلّا أن يقال : إنّ الدرهم مثليّ بالنسبة إلى نوعه».

(٣) أي : متساوية الأفراد ومتساوية في القيمة.

(٤) يعني : أنّ تماثل الأجزاء وتساويها قيمة ملحوظ بالنسبة إلى أبعاض الصنف الذي هو أخص من النوع ، فالحنطة الحمراء والصفراء نوعان ، ولكلّ منهما أصناف كالحبّات والجريش والطحين ، فإذا كان المضمون حقّة من الجريش الأحمر كان الواجب دفع هذا المقدار من هذا الجريش ، لا دفع نفس الحنطة الحمراء

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان ، ج ١٠ ، ص ٥٢٥ و ٥٢٦.

٣٠٣

بعضا من صنف فالواجب دفع مساويه من هذا الصنف ، لا القيمة (١) ولا بعض من صنف آخر (٢).

لكن الانصاف (٣)

______________________________________________________

ولا دقيقها ، ولا حنطة صفراء.

(١) لاختصاص وجوب دفع القيمة بما إذا كان التالف قيميّا ، والمفروض كونه مثليّا كالحنطة.

(٢) لفرض أنّ مناط المثليّة هو الصنف لا الجنس ولا النوع ، فلو كان المضمون دقيقا من الحنطة الحمراء لم تفرغ الذمّة بدفع دقيق حنطة أخرى ، لعدم تماثل الحنطتين كما عرفت.

فتحصّل من كلام المصنّف قدس‌سره أنّه ـ وفاقا للمحقّق الأردبيلي وغيره ـ وجّه تعريف المشهور للمثليّ بإرادة تساوي جزئيّات الأصناف ، هذا. وسيأتي عدم تماميّة التعريف حتّى بالنظر إلى هذا التوجيه.

(٣) أورد المصنّف قدس‌سره على تعريف المشهور بوجهين ، الأوّل : أنّ جعل مدار المثليّة هو الصنف مخالف لظاهر كلمات المشهور ، لأنّهم يطلقون المثليّ على الجنس ، لا الصنف. فقد عرفت تعريف المثليّ في عبارة المبسوط وتنظيره له بالتمور والأدهان والحنطة والشعير ، وظاهره أنّ كلّ ما يصدق عليه التمر فهو مثليّ ، مع كونه على عشرات الأصناف. وهكذا لكلّ من الحنطة والشعير والأدهان أقسام كثيرة. ويترتّب على مثليّة جنس واحد ـ بماله من الأصناف ـ كفاية دفع صنف في مقام تفريغ الذمّة المشغولة بصنف آخر. مع أنّه لا ينطبق تعريف المثليّ على الأصناف ، لعدم تساوي صنف لجزئيّات صنف آخر قيمة.

ودعوى «توجيه إطلاق المثليّ على جنس الحنطة بلحاظ تساوي أجزاء صنف واحد قيمة ، لا بلحاظ تساوي قيمة أفراد كلّ ما يصدق عليه الحنطة ، فيتمّ تعريف المشهور حينئذ» ممنوعة ، لتوقّفه على الإضمار في التعريف ، بأن يقال : «المثليّ

٣٠٤

أنّ هذا (١) خلاف ظاهر كلماتهم ، فإنّهم يطلقون المثليّ على جنس الحنطة والشعير ونحوهما ، مع عدم صدق التعريف عليه (٢). وإطلاق (٣) المثليّ على الجنس باعتبار مثليّة أنواعه أو أصنافه وإن لم يكن بعيدا ، إلّا (٤) أنّ انطباق التعريف على الجنس بهذا الاعتبار (٥) بعيد جدّا.

إلّا (٦) أن يهملوا خصوصيّات الأصناف الموجبة لزيادة القيمة ونقصانها ،

______________________________________________________

هو ما تساوت أجزاء كلّ صنف من أصنافه ، وما تساوت أجزاء كل نوع من أنواعه» ولا ريب في أنّ الإضمار والتقدير خلاف الأصل ، ولا يصار إليه بلا قرينة.

(١) أي : جعل مدار المثليّة على الصنف خلاف ظاهر كلماتهم ، لأنّهم يطلقون المثليّ على الجنس لا الصنف.

(٢) أي : على الجنس ، إذ المفروض صدق التعريف أي تماثل الأجزاء ـ أي الأفراد ـ على أفراد الصنف ، لا أفراد الجنس. فجعل جنس الحنطة من المثليّات لا وجه له.

(٣) مبتدأ خبره جملة «وإن لم يكن بعيدا» وقد أوضحناه بقولنا : «ودعوى توجيه .. إلخ».

(٤) هذا استدراك على قوله : «وإن لم يكن بعيدا» وهو جواب الدعوى ، وقد عرفته أيضا.

(٥) أي : باعتبار مثليّة الأنواع أو الأصناف. وجه البعد : لزوم المسامحة في التعريف ، للاحتياج إلى الإضمار ، بأن يقال : «ما يتساوى أجزاء أنواعه أو أصنافه» مع عدم البناء على المسامحة في التعاريف.

(٦) ظاهر العبارة أنّ غرضه قدس‌سره توجيه انطباق التعريف المذكور على الجنس باعتبار مثليّة أنواعه أو أصنافه على نحو يسلم عن هذا البعد. لكنّه ليس كذلك ، لأنّ هذا الإهمال يوجب كون الإطلاق بلحاظ نفس الجنس لا بلحاظ الأنواع والأصناف.

٣٠٥

كما التزمه بعضهم ، غاية الأمر (١) وجوب رعاية الخصوصيّات عند أداء المثل عوضا عن التالف (٢) أو القرض ، وهذا أبعد (٣) ، هذا.

______________________________________________________

ولكن الصحيح أنّ قوله : «إلّا أن يهملوا» معادل لقوله قدس‌سره : «باعتبار مثليّة أنواعه أو أصنافه».

فالأولى في تأدية المطلب أن يقال : إنّ إطلاقهم المثليّ على الجنس إن كان باعتبار مثليّة أنواعه أو أصنافه من باب توصيف الشي‌ء بحال متعلّقه ، فهو وإن لم يكن بعيدا ، إلّا أنّ انطباق التعريف المذكور عليه بهذا الاعتبار بعيد جدّا.

وإن كان باعتبار إهمال الخصوصيّات النوعيّة والصنفيّة الموجبة لزيادة القيمة ونقصانها ولحاظ جنس الشي‌ء من حيث هو ، فهو وإن كان يقرب معه انطباق التعريف على الجنس بلا مسامحة ولا احتياج إلى الإضمار ، بأن يكون المعنى :

ما يتساوى أجزاؤه في القيمة من حيث هو مع قطع النظر عن الأوصاف النوعيّة والصنفيّة ، وإن كانت تتفاوت فيها مع ملاحظتها.

لكن هذا الإهمال بنفسه أبعد ، لأنّ مقتضى التعريف للمثليّ حينئذ أنّه لا يجب على الضامن إلّا ما صدق عليه التعريف ، فلا معنى لوجوب رعاية الخصوصيّات عند الأداء ، وإلّا فلا فائدة في التعريف.

وبالجملة : الغرض من التعريف تشخيص ما يتحقّق بدفعه فراغ الذمّة عمّا اشتغلت به من مال الغير ، ومن المعلوم دخل القيمة الناشئة من الخصوصيّات الصنفيّة في الضمان ، فلا معنى لإهمال الخصوصيات.

(١) يعني : أنّهم أهملوا خصوصيّة مساواة أفراد صنف لأفراد صنف آخر قيمة ، ولكن لا بدّ من رعاية خصوصيّة المضمون في مقام تفريغ الذمّة. ففرق بين مقام تعريف المثليّ وبين مقام الأداء.

(٢) يعني : في المقبوض بالعقد الفاسد ، في قبال ضمان البدل بالقرض.

(٣) يعني : أنّ إهمال الخصوصيّات في التعريف أبعد من الإضمار ، لأنّ الغرض من تعريف المثليّ تشخيص ما اشتغلت به ذمّة الضامن ، فلا وجه لوجوب رعاية

٣٠٦

مضافا إلى (١) : أنّه يشكل اطّراد التعريف

______________________________________________________

الخصوصيّات عند الأداء ، إذ مقتضى مثليّة كلّيّ هو جواز إعطاء أيّ فرد منه أداء لما في الذمّة ، من غير ملاحظة الخصوصيّات.

(١) هذا هو الإشكال الثاني على تعريف المثليّ بما في كلام المشهور من «أنّه ما تساوت قيمة أجزائه» بناء على إرادة تساوي أفراد الصنف. وحاصل الاشكال : أنّ التعريف إمّا غير جامع للأفراد على تقدير ، وإمّا غير مانع للأغيار.

توضيحه : أنّ «تساوي أفراد الصنف الواحد قيمة» إن أريد به تساويها فيها بالدّقة ـ بحيث لا يكون بينها تفاوت في القيمة أصلا ـ لزم خروج أكثر المثليّات عن التعريف ، وذلك لأنّ أفراد الصّنف الواحد من الأجناس المثليّة وإن كانت متشابهة في جهات ، لكنّها تتفاوت في بعض الخصوصيّات الدخيلة في ماليّة السّلعة.

مثلا إذا كان طنّ من الحنطة الحمراء مائة دينار ـ أي ما يساوي ألف درهم ـ لم تكن قيمة أوقيّة منها درهما ، بل قيمتها أزيد منه ، لتفاوت المبيع جملة لقيمته مفردا ، فلا يصدق تعريف المثليّ ب «ما تساوت قيمة أجزاء صنف واحد» على الحنطة ، مع كونها من أظهر أفراد المثليّ. وهكذا الحال في سائر السّلع والأمتعة.

وإن أريد بتساوي الأفراد قيمة تقارب قيم الجزئيات ـ لا تساويها ـ لم يكن التعريف مانعا للأغيار ، لصدق هذا المعنى على كثير من القيميّات ، فإنّ أفراد القيميّ وإن لم تتساو في الصفات والخصوصيّات ، إلّا أنّ أسعارها متقاربة ، بل ربّما تتساوى. مثلا : الكتابة والفطانة ونحوهما من صفات الكمال دخيلة في قيمة الجارية التي لها أنواع كالروميّة والزنجيّة والتركيّة وغيرها ، فيمكن أن تكون الجارية المضمونة روميّة كاتبة ، ولكن للضامن دفع جارية تركيّة خدومة وفطنة تساوي تلك في القيمة ، فيلزم صدق تعريف المثليّ على الإماء ، مع أنّها من أظهر أفراد القيميّ.

وعلى هذا فتعريف المثليّ إمّا غير جامع للأفراد ، وإمّا غير مانع للأغيار ، فلا جدوى فيه ، ولا بدّ من التماس تفسير آخر له.

٣٠٧

ـ بناء على هذا (١) ـ بأنّه إن أريد تساوي الأجزاء من صنف واحد من حيث القيمة تساويا حقيقيّا ، فقلّما يتّفق ذلك في الصّنف الواحد من النوع ، لأنّ أشخاص ذلك الصّنف لا تكاد تتساوى في القيمة ، لتفاوتها بالخصوصيّات (٢) الموجبة لزيادة الرغبة ونقصانها ، كما لا يخفى.

وإن أريد (٣) تقارب أجزاء ذلك الصنف من حيث القيمة ـ وإن لم يتساو حقيقة ـ تحقّق ذلك في أكثر القيميّات ، فإنّ لنوع الجارية أصنافا متقاربة في الصفات الموجبة لتساوي القيمة ، وبهذا الاعتبار (٤) يصحّ السّلم فيها ، ولذا (٥) اختار العلّامة في باب القرض من التذكرة [على ما حكي عنه] أنّ ما يصح فيه

______________________________________________________

(١) أي : بناء على اعتبار تساوي أفراد كلّ صنف من أصناف المثليّ ، لا تساوي أفراد الطبيعة.

(٢) وأقلّ تلك الخصوصيّات بيعها جملة وبمقدار كثير ، وبيعها بمقدار قليل كالحقّة والأوقيّة.

(٣) معطوف على قوله : «وإن أريد تساوي الأجزاء من صنف واحد» وهذا إشارة إلى إشكال عدم مانعيّة التعريف عن الأغيار ، وقد تقدّم بقولنا : «وإن أريد بتساوي الأفراد قيمة تقارب قيم الجزئيات .. إلخ».

(٤) أي : باعتبار تحقّق تقارب صفات أصناف الجارية ، الموجبة لتساوي القيمة بمعنى التساوي العرفي المسامحيّ لا الحقيقيّ. ولأجل الاكتفاء بذلك المقدار في رفع الجهالة القادحة في صحّة البيع يصح السّلم فيها. فلو كانت متباعدة الصفات المانعة عن صدق التساوي العرفي ـ بحيث لم يكتف بذلك في رفع الغرر ـ لم يصحّ السّلم فيها من جهة الغرر.

(٥) أي : ولأجل تحقّق التقارب ـ الموجب للتساوي العرفيّ في القيميّات ـ اختار العلّامة أنّ القيميّات التي يصحّ فيها السّلم مضمونة في القرض بمثلها. فلو لم يتحقق التقارب فيها كيف يحكم بضمان بعضها بالمثل ، والمراد منه الفرد الآخر

٣٠٨

السّلم من القيميّات مضمون في القرض بمثله».

وقد عدّ (١) الشيخ في المبسوط الرّطب والفواكه من القيميّات ، مع أنّ كلّ نوع منها مشتمل على أصناف متقاربة في القيمة ، بل متساوية عرفا.

______________________________________________________

المماثل للعين المقترضة المتقارب لها في الصفات ، بل لا بدّ من الحكم بضمان القيمة فيها مطلقا ، لعدم وجود المثل حينئذ.

ففي التذكرة : «مال القرض إن كان مثليّا وجب ردّ مثله إجماعا .. وإن لم يكن مثليّا ، فإن كان ممّا ينضبط بالوصف ـ وهو ما يصحّ السّلف فيه كالحيوان والثياب ـ فالأقرب أنّه يضمنه بمثله من حيث الصورة .. وأمّا ما لا يضبط بالوصف كالجواهر والقسيّ وما لا يجوز السّلف فيه تثبت فيه قيمته» (١).

وهذه العبارة تتكفّل الكبرى ، وهي الملازمة بين القرض وبيع السّلم ، بإناطة كليهما بكون المال ممّا ينضبط بالوصف. وطبّق هذه الكبرى في عبارة أخرى على الجارية ، فقال : «الأموال إمّا من ذوات الأمثال أو من ذوات القيم ، فالأوّل يجوز إقراضه إجماعا. وأمّا الثاني فإن كان ممّا يجوز السّلم فيه جاز إقراضه أيضا .. وهل يجوز إقراض الجواري؟ أمّا عندنا فنعم ، وهو أحد قولي الشافعي ، للأصل ، ولأنّه يجوز إقراض العبيد ، فكذا الجواري ، ولأنّه يجوز السّلف فيها فجاز قرضها كالعبيد» (٢).

وغرض المصنّف قدس‌سره الاستشهاد به على تحقق تقارب أفراد القيميّ في القيمة ، كتقارب أفراد المثليّ ، فينتقض تعريف المثليّ بكثير من القيميّات.

(١) غرضه قدس‌سره الاستشهاد ثانيا على تقارب قيمة القيميّات ، فينتقض تعريف المثليّ بها ، لاشتراكهما في تقارب أسعار أفرادها. قال شيخ الطائفة قدس‌سره : «وإن غصب شجرا فأثمرت كالنخل ونحوها ، فالثمار لصاحب الشجر .. وإن تلف رطبا فعليه قيمته ، لأنّ كلّ رطب من الثمار كالرّطب والتّفاح والعنب ونحوها إنّما تضمن بالقيمة.

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٥ ، السطر ٤ الى ٩.

(٢) المصدر ، السطر ٢٧ إلى ٢٩.

٣٠٩

.................................................................................................

______________________________________________________

وإن كان رطبا فشمّسه فعليه ردّه إن كان قائما ، ومثله إن كان تالفا ، لأنّ الثمر له مثل» (١).

ولا يخفى أنّه قدس‌سره جعل الثّمار كالتمور مثليّا على ما نقلناه عنه (في ص ٢٦) ويمكن حمله على ما فصّله هنا بين الثمرة الرّطبة والمجفّفة ، فالرّطبة قيميّ ، والمجفّفة مثلي. وتحقيق ما هو الحقّ من كلاميه موكول إلى محلّه.

وقد تحصّل : أنّ المصنّف قدس‌سره اعترض بوجهين على تعريف المثليّ بما في كلام المشهور ، واستشهد بعبارتي التذكرة والمبسوط لإثبات الشقّ الثاني من الإيراد الثاني ، وهو انتقاض التعريف بكثير ممّا عدّوه قيميّا ، لأنّ تقارب قيم أفراد الصنف جهة مشتركة بين المثليّ والقيميّ ، كما عرفت.

فإن قلت : لا ينتقض تعريف المثليّ بما ذكر من أفراد القيميّ ، وذلك لأنّ الأفراد المتقاربة أو المتساوية قيمة من كلّ صنف من أصناف المثليّ كثيرة ، كالحنطة والشعير ، وأمّا تساوي سعر أفراد صنف من أصناف القيميّ فنادر. فلو سلّمنا دخول بعض القيميّات في تعريف المثليّ لم يقدح ذلك في انطباق التعريف على المثليات ، وعدم انطباقه على غالب القيميّات.

قلت : الغرض من التعريف تحديد ما تشتغل ذمّة الضامن به ، إمّا المثل أو القيمة ، فيلزم تعريف كلّ منهما بما يجمع الأفراد ويمنع الأغيار ، ومن المعلوم أنّ دخول بعض أفراد القيميّ في تعريف المثليّ قادح في التحديد ، ومجرّد قلّة مورد النقض وندرته لا يوجب سلامة التعريف. لأنّ التعريف مبنيّ على شرح الحقيقة ، لا على ما هو الغالب خارجا.

نعم يوجب عزّة الوجود الفرق بين المثليّ والقيميّ في حكمة الحكم بضمان المثل في الأوّل ، وضمان القيمة في الثاني ، لا في تشخيص مصاديق أحدهما عن مصاديق الآخر الذي هو المطلوب هنا.

__________________

(١) المبسوط ، ج ٣ ، ص ٩٩ و ١٠٠.

٣١٠

ثمّ (١) لو فرض أنّ الصّنف المتساوي من حيث القيمة في الأنواع القيميّة عزيز الوجود ـ بخلاف الأنواع المثليّة ـ لم يوجب (٢) ذلك إصلاح طرد التعريف.

نعم يوجب ذلك (٣) الفرق بين النوعين في حكمة الحكم بضمان المثليّ بالمثل ، والقيميّ بالقيمة.

ثمّ إنّه عرّف المثليّ بتعاريف أخر أعمّ من التعريف المتقدّم ، أو أخصّ.

فعن التحرير : «أنّه ما تماثلت أجزاؤه ، وتقاربت صفاته (٤)» (١).

______________________________________________________

(١) هذا إشارة إلى دخل يرد على قوله : «تحقّق ذلك في أكثر القيميّات» وأوضحناه بقولنا : «فان قلت» وهو ـ كما أفاده سيّدنا الأستاذ قدس‌سره ـ من صاحب الجواهر قدس‌سره حيث قال : «ولا يرد النقض بالثوب أو الأرض ، الذي يمكن رفعه بعدم غلبة ذلك ـ أي التساوي أو التقارب قيمة ـ فيهما. وفرض بعض الأفراد كذلك لا يناسب اطراد قواعد الشرع» (٢).

(٢) هذا جواب الشرط في «لو فرض» وهو دفع الدخل المتقدّم ، وقد عرفته أيضا.

(٣) أي : يوجب عزّة الوجود في تساوي أفراد كلّ صنف من أصناف القيميّ ـ وكثرة تساوي أفراد كلّ صنف من المثليّ ـ الفرق بين النوعين في الحكمة الداعية للحكم بضمان المثليّ بمثله ، والقيميّ بقيمته. ومن المعلوم خروج الجهات التعليليّة عن موضوعات الأحكام ، فالعبرة بما أخذ في لسان الدليل. وقد ثبت انطباق تعريف المثليّ على بعض القيميّات ، وهذا المقدار كاف في بطلان تعريف المشهور. هذا تمام الكلام فيما يتعلّق بتفسير المثليّ بما تساوت أجزاؤه في القيمة. وقد ظهر الاشكال فيه.

(٤) هذا التعريف مساو لتعريف المشهور بناء على توجيهه بتساوي أفراد الصنف لا الجنس ، وأخصّ منه بناء على ظاهره من تساويها في الحقيقة النوعيّة.

__________________

(١) تحرير الأحكام ، ج ٢ ، ص ١٣٩.

(٢) نهج الفقاهة ، ص ١٣٨.

٣١١

وعن الدروس والرّوضة البهيّة : «أنّه المتساوي الأجزاء والمنفعة (١) المتقارب الصفات» (١).

وعن المسالك والكفاية : «أنّه أقرب التعريفات إلى السّلامة» (٢).

وعن غاية المراد : «ما تساوى أجزاؤه في الحقيقة النوعية» (٣) (٢).

وعن بعض العامّة «أنّه ما قدّر بالكيل أو الوزن» (٤) (٣).

______________________________________________________

(١) قال المحقّق القميّ قدس‌سره ـ في ما حكي عنه ـ : «ولعلّ المنفعة في كلامه عطف على القيمة المقدّرة ، يعني المتساوي الأجزاء في القيمة والمنفعة. ويمكن أن يكون نظره في زيادة المنفعة إلى إخراج مثل الحنطة والحمّص معا إذا تساويا في القيمة ، وقيل النوع الواحد في تعريف المشهور يكفي عن ذلك ، وفي زيادة تقارب الصفات إلى ملاحظة الأصناف كما ذكرنا».

وكيف كان فتعريف الدروس أخصّ من سابقه ولا حقه كما لا يخفى.

(٢) هذا أعمّ ، وهو قريب من تعريف المشهور بناء على إرادة التساوي في الحقيقة ، لا في النوع والصنف. وأمّا بناء على توجيهه بالتساوي في قيمة أفراد الصنف كان تعريف الشهيد قدس‌سره أعمّ ، كأعمّيّته من تعريف الدروس والرّوضة.

(٣) هذا أيضا أعم من تعريف مشهور الخاصّة ، لأنّ كثيرا من القيميّات لا تباع جزافا ، بل لا بدّ من تقديرها بكيل أو وزن كالفواكه الرّطبة ، والحبوب ، والمعاجين.

ولا يخفى أنّ التعاريف الثلاثة المنقولة عن العامّة مشتركة في ضبط المثليّ بالمكيل والموزون ، ويكون اختلافها بالإطلاق والتقييد ، فهذا التعريف مطلق ، ويشتمل التعريف الثاني والثالث على قيد زائد.

__________________

(١) الدروس الشرعية ، ج ٣ ، ص ١١٣ ؛ الروضة البهيّة ، ج ٧ ، ص ٣٦.

(٢) مسالك الأفهام ، ج ١٢ ، ص ١٨٣ ؛ كفاية الأحكام ، ص ٢٥٧.

(٣) غاية المراد ، ص ١٣٥.

(٤) روضة الطالب ، ج ٤ ، ص ١٠٨.

٣١٢

وعن آخر منهم : «زيادة جواز بيعه سلما» (١).

وعن ثالث منهم : «زيادة جواز بيع بعضه ببعض» (٢). إلى غير ذلك ممّا حكاه في التذكرة (٣) عن العامّة (*).

______________________________________________________

(١) فيصير أخصّ من تعريف المثليّ ب «مطلق ما يقدّر كمّه بالكيل أو الوزن» لتوقّف بيع السّلم على إمكان ضبط المبيع بالوصف. فما يعتبر فيه المشاهدة كالجلود لا تباع سلما.

(٢) كجواز بيع الحنطة بمثلها كيلا أو وزنا ، والتمر بمثله ، وهكذا. فيندرج فيه كلّ مكيل أو موزون جاز بيعه ببعض آخر من جنسه ، وهو صادق على جملة من القيميّات.

(٣) قال فيها ـ بعد حكاية تعريف شيخ الطائفة والتعاريف الثلاثة عن العامّة ـ : «وقال بعضهم : المثليّات هي التي تقسم بين الشريكين من غير حاجة إلى تقويم .. وقال آخرون : المثليّ ما لا يختلف أجزاء النوع الواحد منه في القيمة .. ويقرب منه قول من قال : المثليّات هي التي تتشاكل في الخلقة وفي معظم المنافع ، أو ما يتساوى أجزاؤه في المنفعة والقيمة. وزاد بعضهم : من حيث الذات لا من حيث الصفة .. إلخ» (١) مما لا جدوى في نقله ، فراجع.

__________________

(*) وفي حاشية المحقّق الايرواني قدس‌سره على المتن : «والأحسن أن يعرّف المثليّ بما تشابهت أفراده وجزئيّاته في الصورة والصفات ، اللازم منه التساوي في الرغبات ، اللازم منه التساوي في الماليّة. وعلى هذا فجنس الحنطة المختلف الأنواع والأصناف اختلافا فاحشا إن لم يكن مثليّا صادقا عليه التعريف ، فأصنافه النازلة مثليّة البتة» (٢).

ويمكن أن يقال : إنّ تفريغ ما في الذمّة مقام ، وتعريف المثليّ وتمييز كون شي‌ء

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٣٨١.

(٢) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٩٧.

٣١٣

.................................................................................................

__________________

مثليّا عن كونه قيميّا مقام آخر ، لأنّ تفريغ الذمّة إنّما يحصل بأداء ما اشتغلت به من الجهات الكليّة والشخصيّة الدخيلة في الماليّة. فالمثليّة إنّما تكون بلحاظ الجامع الذي له أفراد كثيرة متماثلة في الصفات التي تختلف بها الرغبات. فكلّ كلّيّ تكثر أفراده المتماثلة في الصفات الموجبة لاختلاف الرغبات الدخيلة في اختلاف المالية يكون مثليّا ، والقيميّ بخلافه.

وعلى هذا فمنتوجات المعامل الحديثة من الفروش والظروف وغيرهما مما يغلب اتّفاقها في الصفات المختلفة بها الرغبات كلّها مثليّة ، لتساويها في المقدار والهيئة.

وعليه فالذهب والفضّة المسكوكان وكذا غير المسكوكين ـ إذا لم يكونا مصوغين ـ من المثليّات. وأمّا المصوغان فهما من القيميّ ، لاختلاف الصياغة في الصفات الموجبة لتفاوت الرّغبات ، واختلاف الماليّة. وكذا الحال في الحديد والنحاس.

وقيل في ضابط المثليّ والقيميّ : إنّ ماليّة الأموال تارة تكون باعتبار الجامع والجهات الكليّة من دون لحاظ المشخّصات الفرديّة كالحنطة ، فإنّ ماليّتها إنّما تكون بالحنطيّة ، والحمرة والصفرة وغيرها من الجهات الكليّة نظير كتابة زيد لانسانيّته.

واخرى تكون بلحاظ الجهات الشخصيّة والخصوصيّات الفرديّة. فالأوّل هو المثليّ ، والثاني هو القيميّ.

وعلى هذا فالمثليّ هو الكليّ الذي تكون ماليّة أفراده بالجهات الكليّة الجنسيّة أو النوعيّة أو الصنفيّة ، بحيث لا دخل للخصوصيّات الشخصيّة في ماليّتها.

ولعلّه يرجع إلى هذا التعريف ما أفاده المحقّق الخراساني قدس‌سره بقوله : «فالأولى تعريفه بما كثر أفراده التي لا تفاوت فيها بحسب الصفات المختلفة بحسب الرغبات» (١). والقيميّ بخلافه كالفرس ، فإنّ مناط ماليّته هي الجهات الشخصيّة.

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ص ٣٥.

٣١٤

ثمّ (١) لا يخفى أنّه ليس للفظ المثليّ حقيقة شرعيّة ولا متشرّعيّة. وليس

______________________________________________________

(١) هذا تتمّة البحث عن معنى المثليّ ، وتمهيد لبيان حكم الشك في كون المضمون مثليّا أو قيميّا. وتوضيحه : أنّ تعرّض الفقهاء لتفسير المثلي والقيميّ منوط بوقوع لفظهما موضوعا لحكم شرعيّ في لسان الدليل ، كموضوعيّة «الصعيد» لجواز التيمّم به ، وموضوعيّة «المفازة والوطن والغناء» لأحكام اخرى ، فلو لم يتعلّق به حكم لم يكن شأن الفقيه تحقيق معنى اللفظ. هذا بحسب الكبرى.

وأمّا بحسب الصغرى فلم يرد لفظ «المثليّ» في نصوص الضمان حتى يبحث عن مفهومه. فالداعي لبيان معناه هو الإجماع على ضمان المثليّ بالمثل ، فيلزم حينئذ تعريفه لتمييز المضمون ، وأنّه مثليّ أو قيميّ.

وعلى هذا نقول : إمّا أن يكون «المثليّ» بمعناه اللغوي وهو المماثل و «الشبيه» (١) وإمّا أن يكون منقولا عن اللغة إلى معنى آخر شرعيّا أو متشرعيّا ، كنقل ألفاظ الصلاة والزكاة والحجّ ونحوها عن معانيها اللغويّة إلى ما ينسبق إلى أذهان المتشرّعة. وإمّا أن يكون بمعناه العرفيّ ، وهو أعمّ من اللغويّ. هذا بحسب الثبوت.

__________________

فما تنتجها المعامل الحديثة يكون مثليّا ، لأنّ ماليّته بجهاته الكلّيّة ، مثل كون الظرف المنتج فيها من القسم الكذائيّ. وكذا الذهب والفضة المسكوكان وغير المسكوكين قبل الصياغة. وأمّا بعدها فإن كانت مصنوعة في المعامل فهي مثليّة أيضا ، لتساوي أفراد كلّ صنف منها في الوزن وعيار الذهب. وإن كانت مصوغة باليد كانت قيميّة ، لاختلاف الصياغة في الصفات الموجبة لتفاوت الرّغبات واختلاف الماليّة. وإن أمكن جعلها مثليّة أيضا ، لإمكان صوغ أسورة عديدة متساوية وزنا وقدرا.

هذا كلّه إذا أحرز كون المضمون مثليّا أو قيميّا. وأمّا إذا شكّ فيه ، فسيأتي البحث عنه في آخر هذا الأمر الرابع إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) المصباح المنير ، ص ٥٦٣.

٣١٥

المراد معناه اللغوي ، إذ (١) المراد بالمثل لغة المماثل (*). فإن أريد من جميع الجهات فغير منعكس (٢) ، وإن أريد من بعضها فغير مطّرد (٣). وليس (٤) في النصوص

______________________________________________________

وأمّا بحسب مقام الإثبات فلا يراد منه المعنى اللغويّ وهو المماثل ، لما تقدّم من الإشكال الثاني على تعريف المشهور ، حيث إنّه غير جامع لأفراد المثليّ لو أريد التماثل من جميع الجهات ، وغير مانع عن دخول بعض القيميّات فيه لو أريد التماثل من بعض الجهات.

وأمّا المعنى الثاني ـ وهو نقله إلى اصطلاح شرعيّ أو متشرّعيّ ـ ففيه : أنّه لا حقيقة شرعيّة ولا متشرّعيّة في مثله.

فيتعيّن إرادة معناه العرفي بأن يقال : إنّ الفقهاء بصدد بيان مفهومه عرفا.

نعم اختلف المجمعون في مثليّة جملة من الأشياء ، والقاعدة تقتضي الحكم بضمان المثليّ بمثله إذا كانت مثليّته متفقا عليها ، والرجوع في الأمور المختلف فيها إلى وجه آخر سيأتي بيانه.

(١) تعليل لعدم إرادة معنى «المثل» لغة في مبحث الضّمان.

(٢) يعني : فغير منطبق على أفراد المعرّف ، بمعنى عدم كونه جامعا لأفراده.

(٣) أي : غير مانع عن دخول أفراد القيميّ في التعريف.

(٤) هذا إشارة إلى الكبرى المتقدّمة بقولنا : «وتوضيحه : أنّ تعرّض الفقهاء .. إلخ»

__________________

(*) هذا خلط بين المثل الذي هو مباين للمال التالف ، وبين المثليّ الذي هو كلّيّ ينطبق عليه ويصحّ حمله عليه بالحمل الشائع ، وكلامنا في الثاني الذي عرّف بتعاريف. والمثل بالمعنى الأوّل موضوع لأداء ما في الذمّة ، لصدق الأداء الرافع للضمان عليه ، لكونه الفرد المماثل للتالف من جميع الجهات الدخيلة في ماليّة التالف. ولم يتصدّ أحد لتعريفه وإن تصدّوا لتعريف المثليّ الذي هو الكليّ. والإشكالات الطّرديّة والعكسيّة واردة على تعريف المثليّ ، لا تعريف الفرد المماثل للتالف.

٣١٦

حكم يتعلّق بهذا العنوان حتى يبحث عنه.

نعم (١) وقع هذا العنوان في معقد إجماعهم على «أنّ المثليّ يضمن بالمثل وغيره بالقيمة» ومن المعلوم أنّه لا يجوز الاتّكال في تعيين معقد الإجماع على قول بعض المجمعين مع مخالفة الباقين (٢). وحينئذ (٣) فينبغي أن يقال : كلّما كان مثليّا باتفاق المجمعين فلا إشكال في ضمانه بالمثل ، للإجماع (*). ويبقى ما كان مختلفا فيه بينهم كالذهب والفضة غير المسكوكين. فإنّ صريح الشيخ في المبسوط كونهما من القيميّات (٤) ،

______________________________________________________

وكان المناسب تقديم الوجه الداعي لهذا البحث المفصّل عن معنى المثليّ.

(١) استدراك على ما يفهم من قوله : «وليس في النصوص ..» يعني : أنه وإن لم يرد لفظ المثليّ في الأخبار ، لكنّه ورد في دليل تعبّديّ آخر وهو الإجماع.

(٢) سيأتي في المتن ذكر بعض موارد اختلاف الفقهاء في المثليّة والقيميّة ، مع اتّفاقهم على أصل الحكم وهو ضمان المثليّ بالمثل.

(٣) أي : وحين عدم جواز الاتكال ـ في تشخيص صغريات المثليّ ـ على قول بعض المجمعين فينبغي أن يقال .. إلخ. وقد ذكر المصنّف من موارد المختلف في مثليّتها وقيميّتها أمورا أربعة ستأتي في المتن.

(٤) قال قدس‌سره فيه : «وأمّا إذا كان ـ أي التالف ـ من جنس الأثمان لم يخل من أحد أمرين ، إمّا أن يكون ممّا فيه صنعة ، أو لا صنعة فيه ، فإن كان ممّا لا صنعة فيه ـ وهو

__________________

(*) ظاهر هذه العبارة وقوله : «وحينئذ فينبغي أن يقال .. إلخ» أنّ مثليّة بعض الأموال وقيميّة الآخر تعبّديّة ، فلا بدّ من الرجوع إلى الدليل الشرعيّ في تعيينه وهو الإجماع بالنسبة إلى بعض الموارد. والظاهر أنّه ليس كذلك ، لأنّ المثليّة والقيميّة من الموضوعات العرفيّة التي يرجع فيها إلى العرف ، فإتّفاق المجمعين في بعض الموارد ، واختلافهم في الآخر إنّما هو من حيث كونهم من أهل العرف ، لا من حيث إنّهم من أهل الشرع. هذا ما قيل ، فتأمل فيه.

٣١٧

وظاهر غيره (١) كونهما مثليّين. وكذا الحديد والنحاس والرصاص ، فإنّ ظواهر عبارة المبسوط (٢) والغنية والسرائر كونها قيميّة. وعبارة التحرير (١) صريحة في كون أصولها مثلية ، وإن كان المصوغ منها قيميّا.

______________________________________________________

النقرة ـ فعليه قيمة ما أتلف من غالب نقد البلد .. فأمّا إذا كان فيها صنعة ، لم يخل من أحد أمرين ، إمّا أن يكون استعمالها مباحا أو محظورا. فإن كان استعمالها مباحا كحليّ النساء وحليّ الرّجال مثل الخواتيم والمنطقة .. فإن كان غالب نقد البلد من غير جنسها قوّمت به .. إلخ» (٢). والمستفاد منه تقويم الذهب والفضّة بنقد البلد ، سواء كانا سبيكتين ، أم مصوغتين.

(١) كابن إدريس والمحقّق والعلّامة وفخر الدين والشهيد والمحقّق الثاني ، على ما حكاه عنهم السيد الفقيه العاملي قدس‌سرهم ، ذكر ذلك شارحا لقول العلامة : «والذهب والفضة يضمنان بالمثل ، لا بنقد البلد» (٣).

(٢) قال فيه : «فإن كان ـ أي التالف ـ من غير جنسها ـ أي جنس الأثمان ـ كالثياب والخشب والحديد والرصاص والنحاس والعقار ونحو ذلك من الأواني كالصّحاف وغيرها فكلّ هذا وما في معناه مضمون بالقيمة» (٤).

وفي التذكرة أيضا ، حيث قال بعد ذكر عديد من الأشياء : «والأظهر عندهم أنّها بأجمعها مثليّة» (٥). وكلامه قدس‌سره ناظر إلى أصولها ـ كما نسبه المصنّف إليه في التحرير ـ لا المصنوع منها.

__________________

(١) تحرير الأحكام ، ج ٢ ، ص ١٣٩.

(٢) المبسوط ، ج ٣ ، ص ٦٠ و ٦١.

(٣) مفتاح الكرامة ، ج ٦ ، ص ٢٥٨ ؛ تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٣٨٤.

(٤) المبسوط ، ج ٣ ، ص ٦٠ ؛ غنية النزوع ، ص ٥٣٧ ، السطر ١٣ ؛ السرائر الحاوي ، ج ٢ ، ص ٤٨٠.

(٥) تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٣٨١ ، السطر ٣١.

٣١٨

وقد صرّح الشيخ (١) في المبسوط (١) بكون الرّطب والعنب قيميّا ، والتمر والزبيب مثليّا.

وقال في محكيّ المختلف : «إنّ (٢) في الفرق إشكالا» بل (٣) صرّح بعض من قارب عصرنا (٢) «بكون الرّطب والعنب مثليّين».

وقد حكي (٤) عن موضع من جامع المقاصد : «أنّ الثوب مثليّ» والمشهور خلافه.

وأيضا (٥) فقد مثّلوا للمثليّ بالحنطة والشعير. ولم يعلم أنّ المراد نوعهما

______________________________________________________

(١) تقدّم نقل كلامه آنفا ، فراجع. وهذا ثالث موارد الاختلاف.

(٢) قال بعد نقل كلام الشيخ قدس‌سره : «وفي الفرق إشكال» (٣).

(٣) الوجه في الإضراب هو : أنّ العلّامة لم يجزم بمثلية الرّطب والعنب ، وإنّما استشكل في الفرق بين العنب والزبيب بجعل العنب قيميّا والزبيب مثليّا. وأمّا المحقّق القميّ قدس‌سره فلم يتردّد في مثليّة الرّطب والعنب ، فيكون مخالفا لشيخ الطائفة قدس‌سره.

(٤) هذا مورد رابع ممّا اختلفوا في كونه مثليّا أو قيميّا ، قال المحقّق الثاني قدس‌سره بعد نقل تعريف المبسوط : «ونقض بالثوب ونحوه ، فإنّ قيمة أجزائه متساوية ، وليس بمثليّ» (٤). ولم يظهر أنّ النقض بالثوب منه أو من غيره من الفقهاء.

(٥) لم يختلفوا في كون الحنطة والشعير مثليّين ، فغرض المصنف قدس‌سره أنّهما وإن كانا متيقّنين من المثليّات ، إلّا أنّه لم يظهر منهم أنّ المثليّة هل هي ملحوظة بالنسبة إلى أفراد طبيعة نوعيّة كالحنطة مثلا ، فأنواعها وأصنافها أفراد الكلّيّ المثليّ؟ أم أنّها

__________________

(١) المبسوط ، ج ٣ ، ص ٦٠ و ٩٩ و ١٠٠.

(٢) هو المحقّق القمي في جامع الشتات ، ج ٢ ، ص ٥٤٣ و ٥٤٤.

(٣) مختلف الشيعة ، ج ٦ ، ص ١٣٥.

(٤) جامع المقاصد ، ج ٦ ، ص ٢٤٣ و ٢٤٤ ، والحاكي عنه هو السيد العاملي في مفتاح الكرامة ، ج ٦ ، ص ٢٤١.

٣١٩

أو كلّ صنف (١) ، وما المعيار في الصنف؟ وكذا التمر.

والحاصل : أنّ موارد عدم تحقّق الإجماع على المثليّة فيها كثيرة (٢) ، فلا بدّ (٣)

______________________________________________________

ملحوظة بالنسبة إلى الأصناف ، فكلّ صنف مثليّ بالنسبة إلى خصوص جزئيّاته ، لا بالنسبة إلى سائر الأصناف. وهل المراد بتساوي الأجزاء في القيمة تساويها من جميع الجهات أو من بعضها؟

(١) حيث إنّ للتمر عشرات الأصناف ، فهل مناط مثليّته صدق الحقيقة ، أم النوع.

(٢) كالأراضي ، فقد اختلفوا في ضمانها بالمثل أو بالقيمة.

حكم الشك في كون التالف مثليّا أو قيميّا

(٣) هذا شروع في المقام الثالث ممّا تعرّض له في الأمر الرابع ، وهو حكم الشك في كون التالف مثليّا أو قيميّا. وكان المناسب بيان الأدلة على أصل اعتبار المثل ، ثم التعرض لحكم الشك. وقد اقتصر قدس‌سره على نقل إجماعهم على الحكم ، وأخّر الوجهين الآخرين.

وكيف كان ففي تردّد المضمون بين المثليّ والقيميّ وجوه أربعة :

أوّلها : الضمان بالمثل معيّنا.

ثانيها : الضمان بالقيمة كذلك.

ثالثها : تخيير الضامن بين المثل والقيمة.

رابعها : تخيير المالك بينهما.

واضطربت كلمات المصنّف قدس‌سره في حكم المسألة ، فرجّح أوّلا تخيير الضامن بين دفع المثل والقيمة ، ثم تخيير المالك لو كان تخيير الضامن مخالفا للإجماع. ثم قوّى تخيير المالك من أوّل الأمر. ثم عاد إلى تقوية تخيير الضامن ، وفي آخر البحث ذهب إلى اقتضاء أدلة الضمان ثبوت المثل في العهدة ، لكونه أقرب إلى التالف ، وسيأتي بيانها بالترتيب إن شاء الله تعالى.

٣٢٠