هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٣

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٠

.................................................................................................

__________________

والحاصل : أنّ المدلول عقد إيجابيّ أعني به ضمان المنافع بتبع ضمان العين ، وليس المدلول عدم ضمان المنافع تبعا لعدم ضمان العين ، فيرجع في ضمان منفعة الدار المسلوبة المنفعة وعمل الحرّ المستوفي ونحوهما إلى دليل آخر ، كقاعدة الاحترام وغيرها ، هذا.

مضافا إلى : أنّ قاعدة اليد المقتضية لضمان المنافع التابعة لما أخذته اليد من العين من العمومات القابلة للتخصيص.

فالمتحصّل : أنّ ما أفاده المحقّق صاحب الكفاية قدس‌سره من التمسّك بقاعدة اليد لضمان المنافع المستوفاة وغيرها مما لا بأس به.

فتلخّص من جميع ما ذكرناه : أنّ ما عن المشهور من ضمان المنافع غير المستوفاة لا يخلو من قوة.

إلّا أن يناقش في صدق الأخذ على المنافع وإن صدق عليها القبض بأخذ العين ، بأن يقال : إنّ الأخذ لا يصدق على التخلية ورفع المانع عن استيلاء الغير ، بخلاف القبض ، فإنّه يصدق عليه. والأخذ ظاهر في الاستيلاء المقرون بالغلبة ، والمقبوض بالعقد الفاسد يكون مبنيّا على الوفاء بالعقد لا القهر والغلبة ، فالتمسّك بقاعدة اليد لضمان المنافع غير المستوفاة مشكل جدا.

فإن دلّ دليل آخر على الضمان كقاعدة الاحترام وغيرها فلا كلام ، وإلّا فتصل النوبة إلى الأصل المقتضي لعدم الضمان.

إلّا أن يدّعى أنّ موضوع الضمان لمّا كان من الموضوع المركّب أمكن أن يقال : إنّ الاستيلاء على مال الغير محرز وجدانا ، وجزءه الآخر وهو عدم الرضا محرز بالاستصحاب ، فيتمّ موضوع الضمان.

إلّا أن يستشكل في الاستصحاب بأنّ القبض لمّا كان بعنوان الوفاء بالعقد. فالرّضا محرز ، دون عدمه حتى يستصحب ، ويثبت به الضمان ، والله العالم.

٢٨١

.................................................................................................

__________________

وأمّا القول بعدم الضمان مطلقا وهو المنسوب إلى فخر المحقّقين قدس‌سره فقد عرفت وجهه من عبارته التي نقلناها عنه في التوضيح ، وضعفه.

وأمّا القول بالضمان في صورة جهل البائع بالفساد ، وعدمه في صورة علمه به فقد تعرّضنا لوجهه بقولنا : «وجه الاشكال أنّ المالك مع علمه بالفساد .. إلخ».

وأمّا التوقّف في صورة علم البائع بالفساد فوجهه ما تقدّم في التوضيح من تسليط البائع.

لكن فيه : أنّه لو تمّ اقتضى عدم الضمان لا التوقّف فيه.

وأمّا التوقّف مطلقا فوجهه تضارب الأدلة.

أقول : لعلّ الأقرب التفصيل ، بأن يقال : إنّ المشتري مع علمه بالفساد يضمن ، لقاعدة الإتلاف ، حيث إنّ عدم انتفاع المالك بماله مستند إلى قبض المشتري العالم بعدم استحقاقه للقبض الموجب لكون يده عادية ، فلو لم يقبضه كان البائع قادرا على الانتفاع بماله ، فالمشتري غاصب فوّت المنافع على المالك ، فيضمن. ومع جهله بالفساد لا يضمن ، لأنّ فوت المنافع لا يستند إلى المشتري ، بل إلى البائع الدافع للمبيع إليه ، لبنائهما على صحّة العقد ، فلا يعدّ يد المشتري عادية. نعم إذا علم بالفساد وتساهل في دفع المبيع إلى البائع ضمن جميع المنافع من المستوفاة وغيرها.

وبالجملة : فصدق اليد العادية على يد المشتري مع جهله بالفساد ، وكون قبضه مبنيّا على زعم صحّة العقد الموجب لعدم التزامه بردّ المبيع إلى المالك العالم بالفساد محلّ تأمّل بل منع.

نعم إذا نهض دليل على «أنّ كلّ من وقع تحت يده مال الغير ضامن له إلّا ما خرج بدليل» كان لضمان المنافع من المستوفاة وغيرها وجه. وعليه فلا يحكم بضمان المنافع الفائتة بغير استيفاء إلّا مع علم المشتري بالفساد ، بحيث يستند فواتها إلى فعله وإلّا فلا دليل على الضمان أصلا.

٢٨٢

.................................................................................................

__________________

أمّا اليد فلعدم صدقها على المنافع غير المستوفاة أوّلا ، ولعدم كونها عادية على تقدير صدقها عليها ثانيا. إذ الظاهر أنّ المراد بالعادية ـ بناء على تعنون اليد بها ـ ما لا يحكم شرعا ولو ظاهرا بعدم العداونيّة كالمقبوض بالعقد الفاسد ، فإنّ يد القابض قبل علمه بفساد العقد ليست عادية ، للحكم بصحّة العقد ظاهرا بمقتضى أصالة الصحة ، فلا تكون يده عادية ، بل حقّة في ظاهر الشرع.

إلّا أن يقال : إنّ اليد وإن لم تشمل يد القابض حدوثا ، لكنّها بعمومها الأزماني تشملها بعد علمه بالفساد بقاء.

وأمّا ضمانها على القول به في الغصب فلصدق الإتلاف والتفويت عليها ، وكون حبس العين الذي هو فعل الغاصب سببا لفواتها على المالك كما لا يخفى.

وأمّا قاعدة الاحترام فهي غير جارية ، للتعارض ، لأنّ احترام مال مؤمن لا يقتضي سلب احترام مال مؤمن آخر بلا وجه. ولا يكون الإضرار بمؤمن آخر من مقتضيات احترام مال مؤمن غيره ، ضرورة أنّ المشتري لم يهتك حرمة مال البائع ، بل قبضه بعنوان مال نفسه.

نعم مع العلم بالفساد وحبسه يصدق الهتك.

وأمّا قاعدة الضرر فهي معارضة بمثلها في طرف المشتري ، إذ المفروض أنّ أخذ بدل المنافع الفائتة من المشتري ضرر عليه ونقصان في ماله ، إذ لم يعد إليه نفع.

وأمّا قاعدة الاستيفاء فلا موضوع لها ، إذ المفروض عدم استيفائها.

وأمّا أصالة الضمان فموردها الشكّ في تحقّق موضوعها ، وهو الاستيلاء على مال الغير بدون رضا مالكه ، فيقال : إنّ الاستيلاء محرز وجدانا ، وعدم الرضا تعبّدا للاستصحاب ، فيتمّ موضوع الضمان ، كسائر الموضوعات المركّبة المحرز بعض أجزائها بالوجدان وبعضها الآخر بالتعبّد.

وليس المقام كذلك ، لأنّ الشكّ في ضمان المنافع الفائتة بغير استيفاء ليس ناشئا

٢٨٣

.................................................................................................

__________________

من الشكّ في طيب نفس المالك حتى يستصحب عدمه. بل الشك نشأ عن احتمال صدق أصل اليد أو اليد العادية على المنافع غير المستوفاة وعدمه. وهذا لا يجري فيه الأصل ، لأنّه بعد قبض العين إمّا يصدق اليد على منافعها ، وإمّا لا تصدق عليها ، فالشّكّ يكون في قابليّة المنافع لوقوعها تحت اليد ، وهذا الشكّ مانع عن التمسّك بقاعدة اليد ، لكون الشبهة مصداقيّة ، ومن المعلوم أنّ الاستصحاب لا يثبت القابليّة.

نظير الشكّ في تحقّق التذكية ، للجهل بقابليّة الحيوان لها ، فإنّ الأصل لا يجري في القابليّة ولا يثبتها ، لأنّ الحيوان إمّا خلق قابلا للتذكية ، وإمّا خلق غير قابل لها. نظير القرشيّة ، فإنّ الأصل في العدم المحموليّ لا يثبت عدم القابليّة وعدم قرشيّة المرأة إلّا بناء على الأصل المثبت. وفي العدم النعتيّ الذي هو موضوع الأثر لا يجري ، لعدم العلم بالحالة السابقة.

وقد ظهر من هذا البيان عدم المجال لأصالة الضمان في المنافع غير المستوفاة ، لأنّه على تقدير صدق اليد عليها لا ينبغي الإشكال في الضمان ، وعلى تقدير عدمه لا ينبغي الإشكال في عدم الضمان ، فتنتهي النوبة إلى الأصل المحكوم وهو أصالة البراءة عن الضمان.

بل يمكن أن يقال بعدم الضمان ولو مع صدق اليد على المنافع أيضا ـ بعد البناء على كون اليد المضمّنة هي العادية ، واليد غير المضمّنة هي الأمانيّة ـ لأنّه يشك في صدق العدوانيّة عليها ، فيتشبّث بأصالة البراءة لنفي الضمان.

فالمتحصّل : أنّه في صورة علم المشتري بالفساد تكون المنافع مضمونة عليه. وفي صورة جهله به لا ضمان عليه. أمّا في الصورة الأولى فلكون يده عادية كالغاصب ، بل هو نفسه. وأمّا في الثانية فللأصل بعد عدم الدليل على الضمان. وليكن هذا قولا سادسا في المسألة.

فقد ظهر وجه العقد السلبيّ أعني به عدم الضمان في صورة جهل المشتري بالفساد ، كما ظهر وجه العقد الإيجابيّ ، وهو الضمان في صورة علم المشتري بالفساد.

٢٨٤

.................................................................................................

__________________

كما ظهر أيضا وجه عدم دخل علم البائع وجهله بالفساد في الضمان وعدمه ، والله العالم.

ثمّ إنّ سيّدنا الخويي قدس‌سره التزم بعدم الضمان ، لوجهين :

«أحدهما : عدم جريان قاعدة الإتلاف في تلك المنافع ، لعدم استناد الإتلاف إلى القابض ، حيث إنّه لم يزاحم المالك في استيفائها.

ثانيهما : عدم جريان السيرة على ضمانها بمجرّد تلفها تحت يد القابض من دون استناد إليه.

وناقش في الوجوه التي استند إليها القائلون بالضمان ـ من قاعدتي اليد والاحترام وحديث الحلّ والإجماع ـ بعدم جريان قاعدة اليد في المنافع غير المستوفاة ، لعدم قابليّتها للردّ.

وبعدم جريان قاعدة الاحترام فيها ، إذ ليس مقتضاها أزيد من توقّف جواز التصرّف على إذن المالك.

وبأنّ حديث الحلّ لا يدلّ إلّا على حرمة التّصرّف تكليفا.

وبأنّ الإجماع غير ثابت أوّلا. وعلى تقديره يكون المتيقّن من معقده هو وجوب الرّدّ فقط ، لا جميع أحكام الغصب» (١) انتهى ملخصا.

وتوضيح ما له وعليه تقدم فيما اخترناه.

فروع ترتبط بضمان المنافع

أ : ضمان عمل الحرّ الكسوب المحبوس

ثمّ إنّه يناسب المقام التعرّض لبعض الفروع المبتلى بها في هذا العصر :

الأوّل : ما إذا حبس ظالم حرّا كسوبا ، فهل يضمن ما فات عنه في مدّة الحبس من العمل الذي يبذل بإزائه المال أم لا؟ فيه قولان ، وقد ذكرناه في بحث عمل الحرّ ، فراجع (٢).

__________________

(١) مصباح الفقاهة ، ج ٣ ، ص ١٣٨ الى ١٤٤.

(٢) هدى الطالب ، ج ١ ، ص ٧٥ إلى ٨٥.

٢٨٥

.................................................................................................

__________________

ب : جواز مطالبة المستأجر بتخلية العين المستأجرة

الثاني : ما إذا استأجر دكّانا واتّجر فيه مدّة مديدة ، وباع جملة من متاعه نسية ، وبعد انتهاء مدّة الإيجار أخرجه المؤجر عن الدكّان وأخذه منه ، وهذه الإخراج يوجب تضرّر المستأجر ، لذهاب أمواله التي تكون على الناس ، لعدم معرفتهم بمكانه الفعلي حتى يؤدّوا إليه. وكذا يتضرّر المستأجر بترك تجارته مدّة حتى يتهيّأ له محلّ جديد ، ويعرف الناس مكانه ليعاملوا معه ويؤدّوا أمواله ، فهل تكون هذه الخسارات على عهدة المؤجر أم لا؟ للمسألة صورتان :

الأولى : ما إذا لم يشترط المستأجر على المؤجر بقاءه في الدكّان إلى مدّة مديدة يريد استيجاره فيها. والثانية : ما إذا اشترط على المؤجر ذلك.

أمّا الأولى فملخّص البحث فيها : أنّ مقتضى سلطنة المؤجر على ماله جواز أخذ الدّكّان من المستأجر ، وعدم ثبوت حقّ للمستأجر في الدّكّان ، إذ المفروض عدم اشتراط حقّ لبقائه. ومجرّد استيجاره الدكّان مدّة مديدة لا يوجب حقّا له بحيث يسقط سلطنة المالك على دكّانه ، ويجب عليه إبقاء المستأجر فيه.

والظاهر عدم موجب لضمان المؤجر لخسارات المستأجر ، لأنّ المديونين يجب عليهم الفحص عن الدائن ومكانه مقدّمة لأداء دينهم ، فالضرر الوارد على المستأجر من ناحية أمواله التي له على الناس مستند إلى تقصير المديونين في أداء ديونهم ، لا إلى المؤجر ، فلا يجري شي‌ء من أسباب الضمان ـ كقواعد الضرر والإتلاف واليد والاحترام ـ في المقام ، لأنّ مناط شمولها لمورد هو عدم توسّط إرادة فاعل مختار بين موارد هذه القواعد ، والشخص الذي يراد تضمينه لا بدّ من استناد الفعل اليه ، نظير إرسال الماء إلى دار الجارّ مثلا ، فإنّ انهدام الدار حينئذ منسوب إلى مرسل الماء ، لعدم توسّط فعل فاعل مختار بين الانهدام وبين إرسال الماء حتى يستند الانهدام إليه.

٢٨٦

.................................................................................................

__________________

بخلاف المقام ، فإنّ الخسارات المتوجّهة إلى المستأجر ناشئة من تقصير المديونين ، فيتوسّط بين تلف أمواله وبين أخذ المالك دكّانه إرادة فاعل مختار أعني به المديونين ، فلا يستند تلف الأموال إلى المالك حتى يكون ضامنا لها ، بل يستند إلى فعل المديونين ، وهو تقصيرهم في الأداء. هذا ما يرجع إلى أمواله التي على الناس.

وأمّا ما يرد عليه من ضرر تعطيل تجارته إلى زمان ظفره بمحلّ لها ، فليس ضررا أي نقصا ماليّا ، بل هو من عدم النفع ، فلا تشمله قاعدة الضرر.

وبالجملة : فما نحن فيه أجنبيّ عن قاعدة نفي الضرر ، إمّا لعدم صدق الضرر ، وإمّا لعدم كونه مستندا إلى مالك الدكّان. وكذا قاعدة الاحترام ، لأنّ مال المالك أيضا محترم ، وهو يتصرّف في ماله لقاعدة السلطنة.

نعم لو فرض كون أخذ الدكّان من المستأجر علّة تامة لفوات مال أو عمل ذي قيمة منه ـ كما إذا كان محلّ الخياطة منحصرا بذلك الدكّان ، بحيث لا يمكن اشتغاله بها في غيره ، ويتّصف إخراجه عن الدكّان بالتفويت ـ أمكن أن يقال بالضمان ، وأنّ الخياطة الفائتة منه مضمونة على مالك الدكّان ، إذا أعطي المستأجر أجرة المثل ، بحيث لا يتضرّر المالك من بقاء المستأجر في الدكّان ، ولا من جهة أخرى.

والوجه في الضمان حينئذ قاعدة الضرر من دون معارض ، إذ المفروض عدم تضرّر المالك ببقاء المستأجر في الدّكّان ، حتى يقال : بوجوب دفع ضرر عن الغير ، وهو المستأجر ، وتحمّله عنه. بل ليس في البين إلّا قاعدة السلطنة ، وهي محكومة بقاعدة الضرر.

والحاصل : أنّه على تقدير كون فعل المالك ـ أي أخذ الدكّان من المستأجر ـ علّة تامة لضرر المستأجر ، أو وقوعه في الحرج والمشقة يمكن القول بضمان المالك له إن لم يكن في البين سوى قاعدة سلطنة المالك على ماله.

٢٨٧

.................................................................................................

__________________

ولا بأس ببيان صور المسألة ، وهي : أنّ قاعدة الضرر في ناحية المستأجر تارة لا معارض لها إلّا قاعدة سلطنة المالك. واخرى يعارضها قاعدة الضرر في ناحية المالك ، أو قاعدة الحرج ، فللمسألة صور :

إحداها : كون سلطنة المالك ضررا على المستأجر أو حرجا عليه من دون لزوم ضرر على المالك ، فحينئذ يقدّم حق المستأجر على حقّ المالك ، لكون سلطنة المالك حينئذ ضررا أو حرجا على المستأجر ، فتنفى بقاعدة الضرر أو الحرج.

ثانيتها : أن يتعارض الضرران ، كما إذا تضرّر المالك ببقاء المستأجر في الدكّان ، وتضرّر المستأجر أيضا بتخلية الدكّان.

ثالثتها : كون التخلية حرجا على المستأجر ، وعدمها حرجا على المالك ، فيتعارض قاعدتا الحرج.

رابعتها : كون التخلية ضررا على المستأجر ، وعدمها حرجا على المالك.

خامستها : عكس ذلك ، بأن تكون التخلية حرجا على المستأجر ، كما إذا وقع في مشقّة استيفاء أمواله من الناس ، وعدمها ضررا على المالك ، فيقع التعارض في هاتين الصورتين بين قاعدتي الضرر والحرج ، فيرجع إلى قاعدة السلطنة ، فللمالك إلزام المستأجر بالتخلية.

وبالجملة : هنا كبريان في قاعدة الضرر : إحداهما : حرمة الإضرار بالغير ، بأن يكون فعله علّة تامّة أو الجزء الأخير منها لورود الضرر على الغير.

ثانيتهما : عدم وجوب تحمّل الضرر عن الغير.

وللمسألة المبحوث عنها صور يندرج بعضها في القاعدة الاولى ، وبعضها الأخر في القاعدة الثانية. ومجموع الصور المتصورة في هذه المسألة تسعة :

الأولى : عدم الضرر لا للمالك في عدم التخلية ، ولا للمستأجر في التخلية.

٢٨٨

.................................................................................................

__________________

والحكم فيه وهو سلطنة المالك على إلزام المستأجر بالتخلية واضح لا غبار عليه.

وبقيّة الصور أربع منها مركّبات ، ومثلها بسائط.

أمّا المركّبات فهي : تضرّر كلّ من المالك بعدم التخلية والمستأجر بالتخلية ، وحرجيّة التخلية وعدمها للمالك والمستأجر ، وكون التخلية ضررا على المستأجر وحرجا على المالك ، وعكس ذلك.

وفي هذه الصور الأربع ـ بعد تعارض الضررين أو الحرجين أو المختلفين ـ يرجع إلى قاعدة سلطنة المالك المقتضية لجواز إلزامه المستأجر بتخلية الدكّان. هذا بناء على كونها من صغريات كبرى التعارض.

وأمّا بناء على صغرويّتها لكبرى عدم وجوب دفع الضرر والمشقّة عن الغير ، فيقدّم حقّ المالك على المستأجر ، إذ لا يجب على المالك دفع الضرر أو المشقّة عن المستأجر ، فلا بدّ من التأمّل في أنّ الضرر أو الحرج الوارد على المستأجر هل هو ناش عن فعل المالك أو غيره؟

فعلى الأوّل تسقط سلطنة المالك بضرر المستأجر ، كسقوط سلطنة المالك على حفر بالوعة في داره إضرارا بجاره ، فإنّ ضرر الجار يسقط سلطنة الحافر على حفر البالوعة في داره ، لكونه من صغريات الإضرار بالغير.

وعلى الثاني لا تسقط سلطنة المالك ، لكونه من صغريات كبرى عدم وجوب تحمّل الضرر عن الغير.

وأمّا البسائط ، وهي الضرر على المالك فقط ، والحرج عليه كذلك ، والضرر على المستأجر فقط ، والحرج عليه كذلك ، فالحكم في الأوليين منها سلطنة المالك على إلزام المستأجر بالتخلية ، لوضوح عدم مانع من قاعدة السلطنة. وفي الأخريين منها يكون

٢٨٩

.................................................................................................

__________________

الحق للمستأجر إن كان فعل المالك موجبا لوقوع المستأجر في الضرر والحرج الرافعين لسلطنة المالك ، وإلّا فسلطنة المالك باقية على حالها ، لعدم وجوب دفع الضرر أو المشقّة عن الغير.

ولو نوقش في سلطنة المالك ففي استصحابها غنى وكفاية ، حيث إنّه قبل الإيجار كان سلطانا على شؤون دكانه ، والآن كما كان ، فتأمّل جيّدا.

هذا كلّه في الصورة الاولى وهي عدم الشرط على المالك.

وأمّا الصورة الثانية وهي ما إذا شرط المستأجر على المالك في ضمن عقد لازم أن يؤجره الدّكّان إلى مدّة مديدة كعشرين سنة ، فليس للمالك إلزام المستأجر بالتخلية ، بل عليه أن يؤجره الدكّان بعد مضي السنة الاولى من مدّة الإجارة ، فلو لم يؤجره وأجبره بالتخلية ، فتضرّر المستأجر بتخلية الدكّان ضمن المالك كلّ ضرر يرد على المستأجر من ناحية التخلية ، لقاعدة الضرر ، حيث إنّه صار سببا لوقوعه في الضرر ، فلو آجر المالك دكّانه من غير المستأجر المشروط له فله فسخه وإجباره المالك بأن يؤجره منه.

ففائدة الشرط قصور سلطنة المالك عن الإيجار من الغير. بخلاف الصورة السابقة ، فإنّ المالك فيها مسلّط على ماله ، ولا ملزم له بان يؤجر الدكّان من المستأجر. فالإجارة الثانية فضوليّة منوطة بإجازة المستأجر الأوّل ، وله أخذ مال لإسقاط حقّه من المالك أو المستأجر الثاني ، كما أنّ له إسقاط هذا الحقّ مجّانا.

ثمّ إنّه مع الشرط المزبور ليس للمستأجر الشارط إلّا إلزام المالك بأصل الإيجار ، وليس له إلزامه بالإيجار بمبلغ معيّن ، إلّا إذا شرطه على المالك أيضا في ضمن عقد لازم ، بأن شرط عليه بأن يؤجره الدكّان عشر سنين مثلا كلّ سنة بكذا ، فحينئذ يكون الشرط بالنسبة إلى أصل الإيجار والأجرة نافذا ، فيجب على المالك الوفاء بهما كما لا يخفى.

وهل يجوز للمستأجر أن يأخذ مالا من المالك أو الأجنبيّ لإسقاط حقّه؟ الظاهر

٢٩٠

.................................................................................................

__________________

ذلك. أمّا بالنسبة إلى المالك فلا ينبغي الإشكال فيه ، لأنّ فائدة إسقاط الشرط دفع قصور سلطنة المالك ، وهذا غرض عقلائيّ. وأمّا بالنسبة إلى الأجنبيّ فلأنّ بذل المال لرفع الموانع عن الوصول إلى الأغراض العقلائيّة ممّا جرت عليه السيرة الممضاة شرعا ، وحيث إنّ الشرط كجزء أحد العوضين يكون حقّا للشارط وقابلا بنفسه للنقل والانتقال إن لم يكن هناك مانع كشرط تقوّم الشرط بنفس المشروط له صريحا أو ضمنا.

ففي مسألتنا إن كان شرط الإيجار على المستأجر مقيّدا بنفسه لم ينتقل إلى وارثه ، كما لا يقبل النقل إلى غيره. نعم هو قابل للإسقاط مجّانا ومع العوض ، سواء أكان معطي العوض نفس المشروط عليه أم الأجنبي.

كما أنّه بدون شرط المباشرة يكون الشرط قابلا للانتقال القهري كالإرث ، إذ مع الشكّ لا مانع من استصحابه إلى زمان موت المشروط له ، فيشمله ما دلّ على أنّ ما تركه الميّت فلوارثه. هذا كلّه إذا كان حقّ المستأجر ناشئا من مجرّد الشرط الضمنيّ.

وأمّا إذا كان ناشئا من بذل السرقفليّة إلى المؤجر كان تابعا لكيفيّة المعاهدة بينهما ، وتتصور المسألة بوجوه ليس هنا محل ذكرها ، واستوفينا الكلام فيها في رسالة المسائل المستحدثة ، وفقنا الله لنشرها.

ج : حق الطبع والنشر

الثالث : أنّه إذا عمل عملا يوجب نقصان ماليّة مال الغير ، كما إذا كان وجيها عند الناس ، وجعل محلّ تجارته في مكان يوجب كساد تجارات غيره ، أو نزّل سعر السّلع فأقبل الناس إليه وأدبروا عن غيره ، أو طبع كتابا عزيز الوجود وصار بذلك كثير الوجود وقليل الثمن ، فهل يوجب ذلك ضمانا على من تسبّب تنزّل الماليّة أم لا؟

٢٩١

.................................................................................................

__________________

الحقّ التفصيل بين الموارد ، بأن يقال : إنّ العمل المزبور إن كان تصرّفا في ملك الغير ـ كما إذا طبع ما ألّفه غيره بدون إذن مؤلفه وصار الطبع سببا لتنزّل قيمة الكتاب ـ ضمن المتصرّف النقص الماليّ الحاصل بسبب الطبع ، حيث إن الكتاب مملوك ذاتيّ للمؤلّف بمعنى كونه نتيجة لعمله وفكره ، والناس مسلّطون على أموالهم ، ولا يجوز التصرّف فيه إلّا بإذنهم وطيب نفوسهم. ولو كان التصرّف منقّصا لماليّته ضمن النقص ، لأنّه أتلف ماليّة مال الغير. والتصرّف العدوانيّ يوجب الضمان بالنسبة إلى نفس المال وماليّته ، كما إذا غصب ثلجا أو ماء في مفازة وأراد أن يؤدّي الثلج في الشتاء أو الماء على الشاطئ ، إلى غير ذلك من الأمثلة.

والحق عدم الضمان في شي‌ء من الموارد ، لأنّ قاعدة الضرر لا تجري أوّلا ، لأنّ الضرر عبارة عن النقص في المال أو العرض أو الطرف. والمقام يكون من نقص الماليّة ، لا من نقص المال ، إذ لم يرد نقص في نفس المال.

وثانيا : على تقدير جريانها متعارضة ـ بعد وضوح كونها من الأحكام الامتنانيّة ـ لتضرّر النوع بغلوّ سعر تلك السلعة التي صارت عزيزة الوجود ، ومن المعلوم أنّ الضرر النوعيّ أهمّ من الشخصي.

نعم في مثال طبع الكتاب من غير إذن مؤلّفه يكون للمؤلّف حق إجازة النشر وعدمها ، فلو طلب من طابعه مالا لأن يأذن له في نشره كان له ذلك ، لأنّ النشر تصرّف فيما ألّفه ، فله المنع عن النشر وأخذ المال لرفع هذا المنع.

فالمتحصّل : أنّه لا ضمان في غير قضيّة طبع الكتاب بغير إذن المؤلّف. وأمّا هو فقد عرفت أنّ للمؤلّف أخذ مال للإجازة في نشره. وأمّا كونه شريكا في المطبوع ـ لكون ما فيه من المطالب من نتائج أعمال المؤلّف المملوكة له بالملكيّة الذاتيّة ـ فهو غير واضح ، إذ الكتاب مملوك بالملكيّة الاعتبارية لطابعه. وأمّا المطالب فهي وإن كانت نتيجة أعمال المؤلّف وأفكاره ، لكنّها ليست مملوكة له بالملكيّة الاعتباريّة. ولو بني على

٢٩٢

.................................................................................................

__________________

التضمين بالملكيّة الذاتيّة لزم من ذلك تضمين حابس الحرّ الكسوب وإن لم يستوف عمله. والظاهر عدم التزامهم بذلك ، لأنّهم لم يلتزموا بكفاية الملكيّة الذاتيّة في الضمان ، واعتبروا فيه الملكيّة الاعتباريّة.

لكن يبقى حينئذ سؤال الفرق بين استيفاء الحابس عمل الحرّ وعدمه ، بالضمان في الأوّل دون الثاني ، إذ الاستيفاء لا يجعل عمل الحرّ مملوكا اعتباريّا له حتى يضمنه الحابس.

نعم إذا صار أجيرا ، ثم حبسه الحابس كان ضامنا لعمله ، سواء استوفاه أم لا ، لأنّ عمل الحرّ بسبب الإجارة صار ملكا اعتباريّا للمستأجر ، فيضمنه الحابس كضمان عمل العبد بالحبس ، فإنّ عمله مملوك للسيّد ملكيّة اعتباريّة تبعا لرقبته.

فتلخّص من جميع ما ذكرناه : أنّه لا وجه للضمان في الأمثلة المزبورة.

نعم في طبع الكتاب بدون إذن المؤلّف وإن لم يكن ضمان على الطابع ، إلّا أنّ اختيار نشر مطالبه وكتمانها بيده ، لأنّها نتيجة عمله ، فهي مملوكة له بالملكيّة الذاتيّة. ومقتضى «الناس مسلّطون على أنفسهم» سلطنته على ما هو من شؤون نفسه وأعماله ، فله الاذن في نشر مطالبه مجّانا ومع العوض.

وأمّا القرطاس والخطوط فهي مملوكة للطابع ملكيّة اعتباريّة ، والمؤلّف أجنبيّ عنهما.

ويمكن أن يقال : إنّ المؤلّف يصير مالكا لماليّة مطالب الكتاب لا نفس الخطوط والنقوش ، وتكون مالكيّته لها نظير مالكيّة الزوجة بالإرث ماليّة الأبنية ، إذ لا ترث من نفس البناء ، بل ترث من قيمة الأبنية.

وعليه فالمراد بما تداول كتبه من «أن حق الطبع محفوظ للمؤلّف» إن كان حقّ النشر فلا بأس به. وإن كان غيره فلا بدّ من النظر فيه. وأمّا إذا كتب هذه الجملة غير المؤلّف فلا أثر له.

٢٩٣

الرابع (١) : إذا تلف المبيع ،

______________________________________________________

٤ ـ ضمان المثليّ بالمثل

(١) بعد أن ثبت في المبحث الأوّل ضمان المشتري لما أخذه بالبيع الفاسد ، فتلف ـ وأنّه يجب عليه ردّ بدله إلى البائع ـ يقع الكلام في خصوصيّة هذا البدل المضمون ، وأنّه هل يكفي ردّ ما يشاركه في النوع وهو ماليّته المتحقّقة في ضمن مطلق الأموال من النقود والسّلع المختلفة؟ أم لا بدّ من رعاية خصوصيّته الصنفيّة بدفع ما يكون أقرب إلى التالف مما يشترك معه في الصفات الدخيلة في الرّغبات ، ويلزم حينئذ البحث عن ضمان التالف المثليّ بالمثل ، والقيميّ بالقيمة. وهو بحث مبسوط لما فيه من الفروع التي تعرّض المصنّف قدس‌سره لجملة منها ، فعقد هذا الأمر الرابع المتضمّن لمقامات ثلاثة :

أوّلها : تعريف المثليّ.

ثانيها : دليل اعتبار ضمان المثليّ بمثله ، وهي وجوه ثلاثة ، الإجماع المتضافر نقله ، والإطلاق المقاميّ ، وآية الاعتداء بالمثل. وإن كان مفاد هذه الوجوه مختلفا كما سيظهر إن شاء الله تعالى.

ثالثها : حكم الشك في كون التالف مثليّا أو قيميّا ، وأنّه يتخيّر الضامن بين دفع المثل أو القيمة ، أو أنّه يتخيّر المالك بين مطالبة ما شاء منهما ، وغير ذلك ممّا سيأتي بالتفصيل.

ثمّ إنّ الداعي لمعرفة مفهوم المثليّ هو وقوع هذا العنوان في دليلين :

٢٩٤

فإن كان مثليّا وجب مثله (١) بلا خلاف (٢) ، إلّا ما يحكى عن ظاهر الإسكافي.

______________________________________________________

أحدهما : الإجماع على ضمان المثليّ بمثله ، وعدم إجزاء أداء قيمته مع إمكان المثل.

وثانيهما : الآية الشريفة المجوّزة للاعتداء بالمثل. فيلزم حينئذ تمييز موضوع الحكم ليترتب عليه آثاره ، ولأجله قدّم المصنّف قدس‌سره البحث الموضوعيّ ، هذا.

(١) هذا هو الدليل الأوّل على أنّ المثليّ يضمن بالمثل. ونقل الإجماع تمهيد للبحث المبسوط عن تعريف المثليّ.

(٢) هذا العنوان مقابل لما سيأتي في الأمر السابع في حكم ضمان القيميّ : «لو كان التالف المبيع فاسدا قيميّا فقد حكي الاتفاق على كونه مضمونا بالقيمة» .. ثم قال : «فقد حكي الخلاف في ذلك عن الإسكافي».

والعبارة المنقولة عن ابن الجنيد هي : «إن تلف المضمون ضمن قيمته أو مثله إن رضي صاحبه» (١). فإن كان مراده بالمضمون ما هو أعمّ من المثليّ والقيميّ كان معناه مخالفة ابن الجنيد في ضمان المثليّ بالمثل والقيميّ بالقيمة ، لحكمه بضمان القيمة مطلقا إلّا مع رضا المالك بالمثل. فيتّجه حينئذ ما نسبه المصنّف إليه هنا وفي الأمر السابع من أنّ المخالف لضمان المثليّ بالمثل والقيميّ بالقيمة هو أبو علي الإسكافي.

وإن كان مراده بالمضمون خصوص القيميّ ـ كما احتمله جماعة منهم الشهيد قدس‌سره بقوله : «ولعلّه يريد القيميّ» ـ فما نسبه إليه هنا من قوله : «عدا ما يحكى عن ظاهر الإسكافي» لا يخلو من غموض ، لكون مصبّ كلام الإسكافي خصوص المضمون القيميّ ، ولا تعرّض فيه للمثليّ أصلا ، حتى يكون مخالفا لإجماع أصحابنا على ضمان المثليّ بالمثل (*).

__________________

(*) واحتمل قويّا السيّد المحقّق الخويي قدس‌سره وقوع السّقط في عبارة المتن ، فكأنّه قال : «إذا تلف المبيع فإن كان مثليّا وجب مثله ، وإن كان قيميّا وجبت قيمته ، بلا خلاف

__________________

(١) مفتاح الكرامة ، ج ٦ ، ص ٢٤١.

٢٩٥

وقد اختلف (١) كلمات أصحابنا في تعريف المثليّ. فالشيخ (١) (٢) وابن زهرة (٢) وابن إدريس (٣) والمحقّق (٤) وتلميذه والعلّامة (٥) وغيرهم (٣) «قدّس الله أسرارهم»

______________________________________________________

(١) هذا شروع في تحقيق معنى المثليّ ، وقد اقتصر في أوّل كلامه على تعريف المشهور وحام حوله ، ونقل بعد الفراغ منه تعاريف أخر.

(٢) نقلنا عبارة المبسوط في (ص ٢٦) فراجع ، ومن جملتها قوله : «فماله مثل ما تساوت أجزاؤه. ومعناه : تساوت قيمة أجزائه .. إلخ».

(٣) قال السيد الفقيه العامليّ بعد عدّ كتب الجماعة المصرّح بأسمائها في المتن :

«والمهذّب البارع والمقتصر والتنقيح ، وفيه وفي المسالك والكفاية : أنّه المشهور» (٦).

__________________

في ذلك بين الأصحاب ، إلّا عن الإسكافي ، فإنّه حكم بضمان المثل في القيميّ أيضا» (٧).

وهذا التوجيه منوط بظهور كلام الإسكافي في الاحتمال الثاني ، وهو إرادة القيميّ. وأمّا بناء على إطلاق كلامه فلا نقص في عبارة المتن ، لاقتصار المصنّف في هذا الأمر الرابع على بيان حكم المثليّ ، وفي الأمر السابع على ضمان القيميّ ، ولا مانع من كون الإسكافي مخالفا في المسألتين ، هذا.

__________________

(١) المبسوط في فقه الإمامية ، ج ٣ ، ص ٥٩ و ٦٠ ؛ ونحوه في الخلاف ، ج ٢ ، ص ١٠٣ ، المسألة ٢٩ كتاب الغصب.

(٢) غنية النزوع (ضمن الجوامع الفقهية) ص ٥٣٧

(٣) السرائر الحاوي ، ج ٢ ، ص ٤٨٠

(٤) شرائع الإسلام ، ج ٣ ، ص ٢٣٩ ؛ وتلميذ هو الفاضل الآبي في شرحه على المختصر النافع ، لاحظ كشف الرموز ، ج ٢ ، ص ٣٨٢

(٥) تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٣٨٣ ، السطر ١٠ ؛ قواعد الأحكام (الطبعة الحجرية) ص ٧٩ ؛ تحرير الأحكام ، ج ٢ ، ص ١٣٩

(٦) مفتاح الكرامة ، ج ٦ ، ص ١٤١

(٧) مصباح الفقاهة ، ج ٣ ، ص ١٤٥ و ١٤٦

٢٩٦

ـ بل المشهور على ما حكي (١) ـ «أنّه ما يتساوى أجزاؤه من حيث القيمة».

والمراد (٢) بأجزائه ما يصدق عليه

______________________________________________________

(١) قال الشهيد الثاني قدس‌سره : «والمشهور بين الأصحاب ما ذكره المصنّف من أنّ المثليّ ما يتساوى قيمة أجزائه ، أي : أجزاء النوع الواحد منه ..» (١). والحاكي عنه هو السيّد الفقيه العاملي قدس‌سره كما عرفت آنفا.

(٢) غرضه قدس‌سره توجيه تعريف المشهور للمثليّ ـ بحيث يسلم عن بعض ما يرد عليه ـ ببيان المراد من الأجزاء ، وتوضيحه : أنّ الجزء يقابل الكلّ ، كما أنّ الجزئيّ يقابل الكلّيّ ، فالجزء يطلق على أبعاض المركّبات كالرأس والرقبة واليد بالنسبة إلى كل فرد من أفراد الإنسان ، ومن المعلوم عدم صدق الكلّ ـ كزيد ـ على أجزائه ، فلا يقال : إنّ يده إنسان. وهذا بخلاف الجزئيّ ، لصحّة حمل الكلّيّ على أفراده ، فيقال : زيد إنسان.

وعلى هذا ، يرد على تعريف المشهور للمثليّ ما حكاه الشهيد الثاني قدس‌سره بقوله : «واعترض بأنّه إن أريد بالأجزاء كلّ ما تركّب عنه الشي‌ء ، فيلزم أن لا تكون الحبوب مثليّة ، لأنّها تتركّب من القشور والألباب. والقشر مع اللّب مختلفان في القيمة. وكذا التمر والزبيب ، لما فيهما من النّوى والعجم. وإن أريد بالأجزاء التي يقع عليها اسم الجملة فيلزم أن لا تكون الدراهم والدنانير مثليّة ، لما يقع في الصّحاح من الاختلاف في الوزن ، وفي الاستدارة والاعوجاج ، وفي وضوح السّكّة وخفائها ، وذلك ممّا يؤثّر في القيمة» (٢).

وحاصل الشقّ الأوّل من الاعتراض هو : أنّ المشهور حكموا بكون الحنطة والشعير مثليّين ، مع أنّ التعريف غير صادق عليهما ، إذ الصبرة من الحنطة تحتوي على حبّات مشتملة على ألباب وقشور ، ومن الواضح عدم مساواتهما في القيمة ، فألحقّه من اللباب إذا قوّمت بدينار مثلا كانت الحقّة من القشور درهما لا خمسة دراهم ، مع مساواتهما في المقدار من وزن أو كيل.

__________________

(١ و ٢) مسالك الأفهام ، ج ١٢ ، ص ١٨٢.

٢٩٧

اسم الحقيقة (١).

والمراد (٢) بتساويهما من حيث القيمة تساويهما بالنسبة ، بمعنى (٣) كون قيمة كلّ بعض بالنسبة إلى قيمة البعض الآخر كنسبة نفس البعضين من حيث

______________________________________________________

ولأجل دفع هذا الاعتراض وجّه المصنّف قدس‌سره تعريف المثليّ بأنّ المراد ب «الأجزاء» هنا هو الأفراد والجزئيّات التي تصدق عليها طبيعة واحدة ، كالحنطة الصادقة على كلّ حبّة من حبّاتها.

فملخّص هذا التعريف : أنّ المثليّ هو «ما يكون أفراده متساوية قدرا وقيمة» فالحنطة من المثليّات ، لأنّ فردين منها متساويان في المقدار والقيمة كالمنّين منها مثلا ، فإنّ كلّ واحد من المنّين يسوى خمسة دراهم مثلا. فالمثلي على هذا هو الكلّيّ الذي تكون أفراده المساوية في المقدار مساوية في الماليّة أيضا.

وأمّا بناء على إرادة ظاهر لفظ «الأجزاء» فموضوع المثليّة هو الفرد ، ومثليّته بلحاظ تساوي أجزائه معه. وموضوع المثليّة بناء على خلاف ظاهر الأجزاء هو الكليّ الذي تتساوى أفراده ومصاديقه في القيمة ، ولا يرد إشكال حينئذ.

(١) كمنّ من الحنطة ـ مثلا ـ بالنسبة إلى منّ آخر منها ، فيصدق حقيقة الحنطة على كلا المنّين ، مع تساويهما قيمة.

(٢) هذا مترتّب على توجيه التعريف بإرادة الجزئيّات من «الأجزاء» فالمثليّ هو ما تتساوى قيم أفراده ، فإذا كان المنّ من الحنطة عشرة دراهم كان نصف المنّ منها خمسة دراهم ، وربعه درهمين ونصف ، وهكذا. ولا يكون العبرة بقيمة اللباب والقشور حتى يقال بكون قيمة اللّب أضعاف قيمة القشر. مع وضوح عدم صدق عنوان «الحنطة» على القشر الذي هو بعض المركّب ، بل لا بدّ من إضافته إليها فيقال : قشر الحنطة. وهذا بخلاف إرادة الأفراد ، فإنّ كلّ مقدار منها كالمنّ والحقّة والأوقيّة مصداق حقيقيّ لطبيعيّ الحنطة كما لا يخفى.

(٣) هذا معنى التساوي في القيمة ، وقد عرفته آنفا.

٢٩٨

المقدار ، ولذا (١) قيل في توضيحه : إنّ المقدار منه إذا كان يستوي قيمة فنصفه يستوي نصف تلك القيمة. ومن هنا (٢) رجّح الشهيد الثاني كون المصوغ من النقدين قيميّا ، قال : «إذ لو انفصلت نقصت قيمتها» (*).

______________________________________________________

(١) يعني : ولأجل تساوي الأفراد قيمة ومقدارا قيل في توضيح التساوي .. إلخ ، والقائل هو السيّدان الطباطبائي والعاملي قدس‌سرهما : «والمراد بتساوي قيمة أجزائه تساوي قيمة أجزاء النوع كالحبوب والأدهان ، فإنّ المقدار من النوع الواحد يساوي مثله في القيمة ، ونصفه يساوي بنصف قيمة» (١).

(٢) أي : وممّا قيل في توضيح التساوي ـ المأخوذ في تعريف المثليّ ـ رجّح ثاني الشهيدين قدس‌سرهما كون المصوغ من النقدين قيميّا ، لأنّه لو انفصل نقصت قيمته ، فبعد الانفصال لا يساوي قيمة نصفه الفعلي نصف قيمة المجموع قبل الانفصال ، فقيمة نصفه بعد الانفصال خمسة دنانير مثلا ، مع أنّ قيمته قبل الانفصال كانت سبعة دنانير مثلا.

قال في الاشكال على ما أفاده المحقّق قدس‌سره من قوله : «ولو كان في المغصوب صنعة لها قيمة غالبا كان على الغاصب مثل الأصل وقيمة الصنعة» ما لفظه : «وهذا ـ أي لزوم الرّبا من دفع قيمة الصنعة ـ أقوى ، فضمانها بالقيمة أظهر. مع أنّا نمنع من بقائه ـ أي المصنوع من النقدين ـ مثليّا بعد الصنعة ، لأنّ أجزاءه ليست متّفقة القيمة ، إذ لو انفصلت نقصت قيمتها عنها متّصلة كما لا يخفى» (٢).

__________________

(*) لا يخفى أنّ كلام الشهيد الثاني قدس‌سره مبنيّ على كون موضوع المثليّ هو الفرد ، ومثليّته ملحوظة بالنسبة إلى أبعاض الفرد ، لا الكليّ بالنسبة إلى أفراده ، كما هو مقتضى قول المصنّف : «والمراد بأجزائه ما يصدق عليه اسم الحقيقة» فتدبّر في العبارة.

__________________

(١) مفتاح الكرامة ، ج ٦ ، ص ٢٤١ ؛ رياض المسائل ، ج ٢ ، ص ٣٠٣ ، السطر ٢٧

(٢) مسالك الأفهام ، ج ١٢ ، ص ١٩١

٢٩٩

قلت : وهذا (١) يوجب أن لا يكون الدرهم الواحد مثليّا ، إذ (٢) لو انكسر نصفين نقص قيمة نصفه عن نصف قيمة المجموع.

إلّا أن يقال (٣) (*) : إنّ الدرهم مثلي بالنسبة إلى نوعه ، وهو الصحيح

______________________________________________________

(١) المشار إليه هو قوله : «إنّ المقدار منه إذا كان يساوي قيمة فنصفه يساوي قيمة نصفه» وغرض المصنّف قدس‌سره الإيراد على تعريف المشهور حتّى بعد توجيه السيّد العاملي قدس‌سره له ، وحاصله : أنّه بناء على كون المناط في المثليّ مساواة قيمة نصفه لنصف قيمة كلّه يلزم خروج مسكوك النقدين ـ وهما الدرهم والدينار ـ عن ضابط المثليّ واندراجهما في القيميّ ، فإذا كان الدينار الصحيح يساوي عشرة دراهم لم يكن قيمة نصف الدينار خمسة دراهم ، بل أقلّ ، لأنّ السّكّة المنقوشة على الذهب دخيلة في قيمته ، وليست المادّة بخصوصها مدار ماليّته ، فكيف جعل المشهور الدرهم والدينار مثليّين مع عدم انطباق التعريف عليهما؟

وبهذا ظهر أنّ الذهب والفضّة لا يكونان مثليّين. أمّا المصوغ من أحدهما فلما أفاده الشهيد الثاني قدس‌سره من عدم مساواة قيمة نصفه لنصف قيمة تمامه ، مثلا إذا كانت قيمة سوار عشرة دنانير ووزنها مثقالين لم تكن قيمة مثقال من المكسور منه خمسة دنانير ، بل هي أقلّ منها. وأمّا المسكوك منهما فلما أفاده المصنّف قدس‌سره ، لنفس التقريب. ولعلّه اقتبس المطلب من تعليل الشهيد الثاني قدس‌سره «إذ لو انفصلت نقصت قيمته».

(٢) هذا تعليل ورود الاشكال على المشهور الّذين جعلوا الدرهم مثليّا ، مع أنّهم اعتبروا مساواة قيمة النصف ـ مثلا ـ لنصف قيمة المجموع.

(٣) غرضه قدس‌سره توجيه عدّ المشهور الدرهم من المثليّات ، وتوضيحه : أنّ

__________________

(*) لكن على هذا يكون المصوغ من النقدين أيضا مثليّا ، كالخاتم ، والسوار ، والخلخال ونحوها ، لتساوي أمثالها في القيمة كالدرهم الصحيح.

ثمّ إنّ هذا التوجيه غير وجيه ، لأنّ معنى النقص هو ما ذكر في التوضيح من كون موضوع المثليّة الفرد ، والتوجيه مبنيّ على كون موضوع المثليّة هو الكليّ ، وإرادة الأفراد من الأجزاء.

٣٠٠