هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٣

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٠

.................................................................................................

__________________

ونظير هذه المسألة ما أفاده الشيخ في غصب الخلاف (في المسألة ٢٢) : «إذا غصب ساجة فبنى عليها .. إلى أن قال : كان عليه ردّه .. إلى أن قال : دليلنا ما قلناه في المسألة الأولى .. إلى أن قال : وروى سمرة أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : على اليد ما أخذت حتى تؤديه ، وهذه يد قد أخذت ساجة ، فعليها أن تؤديها. وأيضا قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يحلّ مال امرء مسلم إلّا بطيب نفسه ، نفس منه ، يدلّ عليه ، لأنّه ما طابت نفسه بالبناء على ساجته» (١).

فإنّ قوله : «وأيضا .. إلخ» يدلّ على أنّ ذكر «على اليد» كان للاستناد.

مضافا إلى أنّه ذكر هذا الحديث بعد قوله : «دليلنا» فكلّ ما يذكره بعد هذا اللفظ يكون حجة ومستندا للحكم ، وإلّا كان عليه قدس‌سره» أن يقول : «ويؤيده». ولو كان مقصوده الاحتجاج على العامة لكان المناسب أن يعبّر بما عبّر به السيد قدس‌سره بقوله : «وممّا يمكن أن يعارضوا به ما يروونه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو يقول ـ كما عبّر به في بعض الموارد ـ «ويحتج على المخالف» حتى لا يحرز استناد فتواه إلى خصوص هذا الحديث.

ونظير هذا في العمل بالحديث ما نسبه إليه العلّامة في المختلف بقوله : «مسألة : إذا ارتهن الغاصب الغصب صحّ. قال الشيخ في الخلاف : ولا يزول الضمان ، لثبوته قبل الرّهن ، فمن ادّعى براءته منه فعليه الدلالة. ولما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انّه قال : على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي» ثم قال العلّامة : «وقد ذكرنا نحن في بعض كتبنا زوال الضمان ، لأنّه مأذون له في الإمساك ، فيسقط الضمان ، وقول الشيخ لا يخلو من قوّة» (٢).

ولا يخفى دلالة كلامه في تقوية الضمان على عمله بالحديث تبعا للشيخ ، كظهور نفس عبارة الخلاف في الاستناد ، ولا أثر من الاحتجاج على المخالف في كلامه.

وأظهر من ذلك في الاستناد إلى الحديث كلامه في غصب المبسوط ووديعته ،

__________________

(١) الخلاف ، ج ٣ ، ص ٤٠٨ و ٤٠٩.

(٢) الخلاف ، ج ٣ ، ص ٢٢٨ ، مختلف الشيعة ، ج ٥ ، ص ٤١٧.

٢١

.................................................................................................

__________________

حيث جعل الحديث النبوي في عداد ما رواه من السّنة الدّالة على وجوب ردّ المغصوب والوديعة إلى المالك.

هذا مضافا إلى تصريح هذا القائل باستدلال الشيخ بقاعدة اليد ، في مسألة المقبوض بالعقد الفاسد ـ في الاشكال على المصنف في ما نسبه الى الشيخ من استدلاله بالاقدام ـ حيث قال : «مع أن عبارة الشيخ في بيع المبسوط وغصبه على ما عثرت عليه ليست كما نقلها ، بل ظاهرة بضمان اليد بدليلها» (١).

فلو كان ذكر النبوي لمجرّد التأييد لا الاستناد كان إشكال شيخنا الأعظم على شيخ الطائفة في استدلاله بالاقدام في محله ، ولا يتّجه الاعتراض عليه بأنّ الدليل المتكرر في بيع المبسوط وغصبه هو اليد لا الاقدام. هذا كله في استناد شيخ الطائفة إلى النبويّ.

واستند ابن الجنيد إلى هذا النبوي على ما نقله العلّامة عنه قدس‌سرهما في عارية المختلف ، فقال : «وقال ابن الجنيد : وليس يضمن المعار تلف ما تلف منها إذا كانت السلعة متاعا ، إلّا أن يتعدّى. وما كان منها عينا أو ورقا أو حيوانا ضمن المعار تلف ذلك ، إلّا أن يشترط المال [المالك] سقوط الضمان عنه .. احتجّ بقوله عليه‌السلام : على اليد ما أخذت حتى تؤدّيه» (٢).

وأورده السيّد أبو المكارم أيضا في الغنية (٣) ، وهو وإن كان في مقام الاحتجاج عليهم ، إلا أنّه لم يعبّر بمثل ما عبّر به السيد المرتضى من قوله : «وممّا يمكن أن يعارضوا به» وإنّما أسند الحديث إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وظاهره القطع بصدوره عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّه لا يعمل بالأخبار الآحاد المفيدة للظن.

وأورده ابن إدريس في مواضع من السرائر ، فاستدلّ به فيما إذا اختلف شخصان

__________________

(١) كتاب البيع ، ج ١ ، ص ٢٧٠.

(٢) مختلف الشيعة ، ج ٦ ، ص ٧٢.

(٣) غنية النزوع (ضمن الجوامع الفقهية) ج ٤ ، ص ٥٣٦ ، السطر ٢١ وص ٥٣٧ ، السطر ٢٧.

٢٢

.................................................................................................

__________________

في كون مال وديعة أو قرضا ، وقال : «ويكون القول قول من ادّعى أنّه دين ، لأنّه قد أقرّ بأنّ الشي‌ء في يده أوّلا ، وادّعى كونه وديعة ، والرّسول عليه‌السلام قال : على اليد ما أخذت حتى تردّه .. إلخ» (١). وليس في هذا الكلام شائبة الاحتجاج على المخالفين ، وإنّما عارض رأي شيخ الطائفة في نهايته.

وقال أيضا في مسألة أخرى في باب الرّهن : «والرسول عليه‌السلام قال : على اليد ما أخذت حتّى تؤديه ، إلّا ما خرج بالدليل» (٢).

وقال في كتاب الغصب : «ويحتجّ على المخالف بقوله عليه‌السلام : على اليد ما أخذت حتّى تؤدي» (٣).

وقال في كتاب الغصب أيضا : «ومن غصب ساجة فأدخلها في بنائه ، لزمه ردّها ، وإن كان في ذلك قلع ما بناه في ملكه ، لمثل ما قدّمناه من الأدلة ، من قوله عليه‌السلام : لا يحلّ مال امرء مسلم إلّا عن طيب نفس منه. وقوله عليه‌السلام أيضا : على اليد ما أخذت حتى تؤدّي» (٤).

ومبناه الأصولي في حجية الخبر غير خفي على من يتصفّح السرائر ، وأنه قدس‌سره لا يسند الحديث الى المعصوم عليه‌السلام إلّا بالقطع ، فقد تكرّر منه هذه الجملة في الإيراد على شيخ الطائفة قدس‌سره : «وقد بيّنا أن أخبار الآحاد عند أصحابنا لا توجب علما ولا عملا ، والواجب على المفتي الرجوع في صحة الفتوى إلى الأدلة القاطعة» (٥) ونحوه كلامه في باب الرهن (٦).

__________________

(١) السرائر الحاوي ، ج ٢ ، ص ٤٣٧.

(٢) المصدر ، ص ٤٢٥.

(٣) المصدر ، ص ٤٨١.

(٤) المصدر ، ص ٤٨٤.

(٥) المصدر ، ص ٣٢٢.

(٦) المصدر ، ص ٤٢٢.

٢٣

.................................................................................................

__________________

ولا ينافي حجيّة هذا الحديث عنده واستناده إليه إيراده احتجاجا على المخالف في موضع من كتاب الغصب ، لأنّ غايته إلزامهم بما هو حجة عندهم أيضا. فيكون الحديث مقبولا عند الخاصّة والعامّة ، ولعلّ هذا منشأ استظهار صاحب العناوين وغيره من اتفاق الفريقين على صدوره منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وبهذا ظهر أن شبهة إيراده احتجاجا ـ في عبارة الغنية ـ غير جارية في كلام ابن إدريس في المواضع التي استند فيها الى الحديث.

وأمّا العلّامة قدس‌سره فقد أورده في المختلف والتذكرة ، فاستند إلى الحديث في الكتابين ، ونقل في المختلف استدلال الشيخ في الخلاف ، واستدلال ابن الجنيد وابن إدريس به ، وكذا نقل استدلال المشهور به.

أمّا استناده إلى الحديث ففي مواضع ، ففي التذكرة : «كلّ من غصب شيئا وجب عليه ردّه على المالك ، سواء طالب المالك بردّه أو لا ، ما دامت العين باقية ، بلا خلاف ، لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على اليد ما أخذت حتى تؤدّيه» (١) وأسنده إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الضمان بالمباشرة ، فراجع (٢).

وقال في المختلف : «إذا ادّعى الراكب الإجارة والمالك العارية المضمونة بعد تلفها قبل مضيّ مدة لمثلها أجرة ، قال الشيخ في المبسوط : القول قول الراكب مع يمينه ، لأنّ صاحبها يدّعي ضمانا في العارية فعليه البيّنة ، والأصل براءة ذمة الراكب. والأقرب أنّ القول قول المالك ، لأنّ الأصل تضمين مال الغير ، لقوله عليه‌السلام : على اليد ما أخذت حتى تؤدّيه» (٣) ونحوه في الاستناد كلامه في باب اللقطة (٤).

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٣٨٢ و ٣٨٣.

(٢) المصدر ، ص ٣٧٤.

(٣) مختلف الشيعة ، ج ٥ ، ص ٧٧.

(٤) المصدر ، ص ٨٧.

٢٤

.................................................................................................

__________________

ونقل استدلال المشهور به بقوله : «مسألة : المشهور أن المقبوض بالسّوم مضمون كالمقبوض بالبيع الفاسد. وقال ابن إدريس : لا يكون مضمونا ، وهو الأقرب ، وله قول آخر في باب الغصب : إنّه مضمون. لنا : الأصل عدم الضمان .. احتجوا بعموم قوله عليه‌السلام : على اليد ما أخذت حتى تؤدّي» (١). وهذه الجملة الأخيرة هي المعتمدة في إحراز عمل المشهور بهذا النبوي والفتوى بمضمونه ، وظاهره الأخبار الحسّي باستناد المشهور إليه ، وإلّا كان المناسب أن يقول : «ويحتجّ لهم».

وبهذا ظهر أنّ عدم ظفرنا بالحديث في عدّة من المتون الفقهية القديمة كالمقنع والمقنعة والجواهر والكافي وغيرها غير قادح في استنادهم إليه بعد شهادة مثل العلّامة باستدلالهم به وحجيته عندهم.

كما ظهر أيضا التأمّل فيما ذكره القائل من «عدم ظفره باستدلال العلامة بهذا النبوي ، وإنّما اقتصر على نقل استدلال ابن الجنيد به» إذ عرفت استناد العلّامة إليه في مواضع عديدة ، ونقل استناد شيخ الطائفة وابن إدريس والمشهور به أيضا في مواضع أخرى.

هذا مضافا إلى أنّ دعوى عدم الظفر به في كلام العلّامة ربما ينافي قوله في مقام آخر : «ثم شاع الاستدلال به بين المتأخّرين من زمن العلّامة».

هذا كلّه في إحراز عمل القدماء وبعض المتأخرين كالعلّامة. وأمّا من تأخّر عنه كالشهيدين والمحقق الثاني وغيرهم فقد أسندوه إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلا تأمّل ، كما لا يخفى على من راجع الدروس وجامع المقاصد والمسالك وغيرها.

وقد تحصّل من هذا التتبّع في كلمات فقهائنا الأبرار الوثوق بانجبار ضعف سند الحديث. بل لا تبعد دعوى كون المضمون مجمعا عليه بينهم ، وعليه لا مجال للتشكيك في عمل المشهور به كما لا مجال للمناقشة في كبرى الجبر بعملهم.

__________________

(١) مختلف الشيعة ، ج ٥ ، ص ٣٢١.

٢٥

.................................................................................................

__________________

فالحقّ أنّ النبوي المزبور لا يكون أقلّ من خبر الثقة ، فيصح الاستناد إليه والاعتماد عليه في استنباط الحكم الشرعي ، فلا بدّ من عطف عنان البحث إلى دلالته ، فنقول وبه نستعين ، وبوليّه صلوات الله عليه نتوسل ونستجير :

محتملات حديث «على اليد»

إنّ الوجوه المحتملة في معنى الحديث كثيرة :

الأوّل : أنّه يدلّ على الحكم التكليفي ما دام المأخوذ موجودا ، فيختص بحال وجود العين ، ولا يدلّ على حكم ما بعد تلفها ، وللقائلين بذلك مسلكان :

أحدهما : أن يكون متعلق الحكم التكليفي ردّ العين ، فيجب ردّ العين على من أخذها. وهذا الاحتمال يستفاد من كلام الشيخ قدس‌سره في المبسوط ، حيث إنّه ـ بعد بيان تحريم الغصب وإقامة الأدلة الأربعة عليه وذكر النبوي على اليد ما أخذت .. إلخ ـ قال : «والإجماع ثابت على أنّ الغصب حرام ، فإذا ثبت تحريم الغصب فالأموال على ضربين حيوان وغير حيوان ، فأمّا غير الحيوان فعلى ضربين ماله مثل وما لا مثل له ، فما له مثل ما تساوت أجزاؤه ، ومعناه تساوت قيمة أجزائه ، فكلّ هذا له مثل كالحبوب والأدهان والتمور والأقطان والخلول التي لا ماء فيها ، والأثمان ونحو هذا كلّه له مثل ، فإذا غصب غاصب من هذا شيئا فإن كان قائما ردّه ، وإن كان تالفا فعليه مثله ، لقوله تعالى : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ)» (١) انتهى موضع الحاجة من كلامه زيد في علوّ مقامه.

وقريب منه عبارة التذكرة : «وكلّ من يثبت يده على مال الغير ولا حقّ له في إمساكه وكان المال باقيا وجب عليه ردّه على مالكه ، بلا خلاف ، لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي. ولأنّ حق المالك متعلق بماليّته ، وماليّته لا تتحقّق إلّا

__________________

(١) المبسوط ، ج ٣ ، ص ٥٩ و ٦٠.

٢٦

.................................................................................................

__________________

بردّه إليه» (١).

ولعلّ وجهه عدم تأصّل الوضع بالجعل ، وكونه منتزعا عن الأحكام التكليفية. والمناسب لكونه منشأ لانتزاع الوضع عنه هو وجوب الرّدّ بالنسبة إلى نفس المأخوذ ، لا بدله ، ولا الأعم منه ومن بدله ، لمنافاته للغاية ، ولا وجوب الحفظ.

ثانيهما : ما يفيده كلام الفاضل النراقي قدس‌سره من : أن المراد به وجوب حفظ المال عن الضياع والتلف ، إلى أن يردّه إلى المالك. والوجه فيه : أن الكلام محتاج الى التقدير ، ويدور المقدّر بين الرّد والأداء والضمان. ولا يجوز تقدير ما عدا الحفظ من الرّدّ والأداء والضمان ، لأنّ تقدير الأوّلين يوجب خروج المعنى عن السلاسة ، إذ معناه حينئذ وجوب الرّد حتى يتحقق الرّدّ. وتوقف الحكم على بقاء موضوعه عقلي ، وكذلك انتفاءه بانتفائه ، فالغاية حينئذ عقلية لا شرعية تعبّديّة.

وتقدير الأخير مناف لجعل الغاية أداء نفس المأخوذ ، على ما يقتضيه رجوع الضمير المنصوب مفعولا ل «تؤدّيه» ـ المحذوف في بعض طرق الحديث ، والمذكور في البعض الآخر كما تقدّم في نقل الحديث ـ إلى الموصول.

وجه المنافاة : أنّ الضمان عبارة عن الغرامة المجعولة في ظرف التلف ، إذ لا معنى للغرامة والخسارة مع وجود العين وردّها ، فإنّ ردّ نفس العين ليس غرامة على الآخذ ، بل ردّا للمال إلى مالكه كما لا يخفى.

الثاني : ما عن بعضهم من كون الحديث مسوقا لبيان الحكم الوضعي ، لكن بالنسبة إلى خصوص صورة التلف ، من دون دلالة له على وجوب ردّ العين الذي هو حكم تكليفي ، ولا على ضمانها ما لم تتلف.

وحاصل تقريبه : أنّ تلف العين تحت يده سبب لتعلق الغرامة به ، والمراد بالضمان هو دفع المثل أو القيمة عند التعذّر ، وهو المعبّر عنه بتحمّل الغرامة ، إذ لا يعقل

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٣٧٤ ، السطر ٢٠.

٢٧

.................................................................................................

__________________

لضمان العين معنى محصّل ، لأنّ دفع عين المال إلى المالك ليس ضمانا ولا غرامة ، فمعنى الحديث حينئذ : أنّ ضمان ما أخذته اليد ثابت عليه ، وأنّه لا يخرج عن الضمان إلّا بدفع بدله القائم مقامه مثلا أو قيمة ، هذا. وليس معنى الحديث «أنّه يجب دفع عين المال إلى مالكه» إذ لا يحتاج إلى هذا التعبير ، بل العبارة الدالة عليه : «أنّه يجب دفع أموال الناس إلى ملّاكها» فالتعبير بقوله : «على اليد» إنّما هو لبيان معنى آخر يلائم «على اليد» وذلك المعنى هو الضمان الذي هو مجازاة لجناية اليد. وبهذه العناية أسند الحكم إلى اليد ، وجعل عليها ، وقيل : «على اليد ، لا على آخذ المال» ثم قال هذا القائل في جملة كلامه : «وهذا المعنى ـ أي الضمان ـ مما لا يشك فيه مشكّك بعد ملاحظة فهم العرف حتّى من لم يتشرّع بشرعنا أيضا».

الثالث : ما حكي عن بعض ، وهو : أنّ الحديث مسوق لإفادة كلّ من الحكم التكليفي والوضعي ، وأنّ كلا الحكمين مستفادان من الحديث ، فيجب على الآخذ ردّ المأخوذ ، ويكون عهدته أيضا عليه.

ولعلّ وجه الاستفادة هو : أنّ العرف يفهمون من كون العين المتموّلة على شخص أنّ الأعم من العين والبدل يثبت على عهدته ، فلثبوت المأخوذ في عهدة ذي اليد آثار تكليفية ووضعية من حفظه ، وأدائه مع التمكن ، وأداء بدله عند الحيلولة أو عند التلف ، فإنّ معنى اعتباره في عهدته هو كون ذي اليد مرجعا ومأخوذا به ، فيجب عليه ردّه مع بقاء عينه وردّ بدله مع تلفه ، فبنحو الطولية يثبت الحكم التكليفي والوضعي بعد إرجاعه إلى التكليفي ، هذا.

وأورد عليه بما حاصله : أنّ وجوب الردّ إمّا يستفاد من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «على اليد» أو من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «حتّى تؤدّي» ولا يتمّ المدّعى على شي‌ء منهما.

أمّا الأوّل : فلأنّ لازم استفادة الحكم التكليفي إنّما هو تقدير الرّد ، ولازم الحكم الوضعي تقدير الضمان بمعنى كون المأخوذ على عهدة الآخذ ، وأنّه لو تلف كان عليه

٢٨

.................................................................................................

__________________

بدله ، فإفادته للحكمين منوطة بتقديرهما معا ، وذلك مما لا يفي الكلام بإفادته ، فهو أشبه شي‌ء باستعمال الخطاب في إنشائين ، بل هو منه.

وأمّا الثاني : فلأنّ المغيّا ـ وهو لزوم الخروج عن عهدة المأخوذ على تقدير تلفه ـ ثابت إلى حين الأداء ، وهذا يلائم وجوب الأداء قبل التلف وبعده ، فهو أعم منهما ، ولا دلالة للعامّ على تعيين الخاص ، فلا بدّ من إثبات وجوب الرد قبل التلف بدليل آخر.

إذا عرفت الاحتمالات المتطرقة في معنى الحديث المزبور ، فاعلم : أنّ تنقيح معنى الحديث منوط ببيان أمور :

الأوّل : أنّ الأصل عدم التقدير ، فإذا لم يكن صحة الكلام عقلا منوطة بالتقدير ـ كقوله تعالى (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) أو شرعا كقوله تعالى (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) ـ فلا وجه للالتزام به.

الثاني : أنّ الأصل في الظرف أن يكون مستقرا ، إذ اللغوية منوطة بتقدير فعل خاصّ ربّما لا يكون لتعيين متعلّقه دليل ، فيصير الكلام لأجله مجملا ، فإذا كان الظرف متعلقا ب «يجب» مثلا فلا بدّ من تقدير متعلّق له كالرّد والحفظ والضمان ، ولا قرينة على أحدها ، فيصير الكلام مجملا. بخلاف المستقر فإنّه لا يحتاج الى فعل خاصّ ، بل العامل في الظرف هو أفعال العموم. فمع الدوران بين كون الظرف مستقرّا ولغوا يبنى على كونه مستقرّا متعلقا بفعل من أفعال العموم.

الثالث : أنّ الأصل في كلام الشارع أن يكون في مقام التشريع والإنشاء لا التكوين والاخبار ، فمع الشك في كون كلامه إنشاء أو إخبارا يحمل على الإنشاء ، فلا يصح أن يقال : إنّ معنى «على اليد» هو الاخبار عن كون المال تحت استيلاء الآخذ ، وأنّه لا يرتفع خارجا هذا الاستيلاء إلّا بالرّدّ والأداء.

الرابع : أنّ التشريع يكون من الاعتباريّات التي لها نحو وجود مغاير للوجود التكويني ، فيمكن أن يكون لشي‌ء وجود تكويني ووجود اعتباري ناش من تشريع

٢٩

.................................................................................................

__________________

الشارع ، فإذا اعتبر الشارع شيئا من الأعيان على شخص كقوله تعالى (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ) فالاعتبار الشرعي يقتضي أن يكون ذلك الشي‌ء بوجوده الاعتباري على عهدته ، إذ لا معنى لتعلق التشريع بالوجود التكويني ، فلا بدّ أن يكون متعلق الاعتبار موجودا اعتباريا ثابتا على العهدة. يعني : أنّ الثابت بالتشريع هو الموجود الاعتباري ، وكون الشي‌ء بهذا الوجود على العهدة عبارة أخرى عن الضمان ، إذ لا معنى لأن يكون بوجوده الخارجي في العهدة ، بل الموجودات الاعتبارية يكون وعاؤها العهدة ، كالموجودات الذهنيّة التي يكون وعاؤها الذهن.

المختار في معنى حديث «على اليد»

إذا عرفت هذه الأمور تعرف : أنّ مقتضى كون كلّ من التقدير ولغوية الظرف على خلاف الأصل هو أن يكون نفس المال المأخوذ على صاحب اليد ، لا وجوب ردّه أو حفظه أو ضمانه ، لأنّها مبنيّة على لغوية الظرف والالتزام بالتقدير اللذين هما على خلاف الأصل ، كما أنّ مقتضى إنشائية كلام الشارع وكون التشريع من الاعتباريات هو كون المأخوذ بوجوده الاعتباري ثابتا على عهدة الآخذ.

ففي وعاء الاعتبار يكون المأخوذ فوق يده ، كما أنّه بوجوده التكويني يكون تحت يده ، فللمأخوذ وجودان تكويني ، وبهذا الوجود يكون تحت اليد. واعتباري ناش من التشريع ، وبهذا الوجود يكون فوق اليد ، لأنّه مقتضى كلمة «على» الاستعلائيّة. وحيث إنّ الحاكم بكون نفس المال على العهدة هو الشارع ، وثبوته الشرعي على اليد ليس إلّا ثبوتا اعتباريّا مقتضيا لكون الثابت بهذا الثبوت موجودا اعتباريا في العهدة ، لأنّ العهدة وعاء الاعتباريّات ، فالمعنى حينئذ هو : أنّ نفس المال المأخوذ بوجوده الاعتباري ثابت على العهدة ، وهذا الثبوت مستمر إلى أن يحصل الأداء. وهذا الاستمرار يستفاد من كلمة «حتّى» لدلالتها على ما ثبت بما قبلها من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «على اليد». وليس هذا

٣٠

.................................................................................................

__________________

إلّا عبارة عن الضمان ، حيث إنّ مصداق ذلك الموجود الاعتباري مع تلف العين هو الأقرب الى التالف القائم مقامه ، الواجد لغير خصوصيّاته المشخّصة من الجهات النوعية والصنفية.

وقد ظهر ممّا ذكرنا ضعف الاحتمال الأوّل ، أعني به كون مفاد الحديث تكليفا محضا ، وهو وجوب ردّ العين ، أو وجوب حفظها عن التلف ، على الوجهين المتقدّمين عن الشيخ والعلامة والنراقي قدس‌سرهم وأنّ الحديث متكفل للحكم التكليفي المختص بالعين حال بقائها دون حكمها بعد تلفها.

وجه الضعف : أنّه مبني على لغوية الظرف ، وقد عرفت أنّه خلاف الأصل ، ولا يصار إليه إلّا بالقرينة.

كما أنّه ظهر أيضا ضعف الاحتمال الثاني ، وهو كون الحديث مسوقا لبيان الحكم الوضعي بالنسبة إلى خصوص صورة التلف ، بأن يقدّر الضمان ، بعد قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «على اليد» بأن يقال : على اليد ضمان أي غرامة ما أخذته.

وجه الضعف : أنّ تقدير الضمان خلاف الأصل بعد كون ظاهر الكلام هو اعتبار ثبوت نفس المال المأخوذ على عهدة صاحب اليد. وحيث إنّ الاعتبار يتعلق بالموجودات الاعتباريّة لا التكوينيّة ، فلا بدّ أن يكون الثابت بهذا الاعتبار موجودا اعتباريا ثابتا في العهدة. وهذا الثبوت الاعتباري مستمر حتّى يحصل الأداء بعين المأخوذة التي هي مصداق حقيقي للوجود الاعتباري الذي اعتبره الشارع ، لأنّه واجد للمقوّمات النوعية والصنفية والشخصية. وببدله وهو المثل إن كان مثليا والقيمة إن كان قيميا ، ومع فقد المماثل في المثلي يكون مصداق الأداء منحصرا بالمالية ، هذا.

وكذا ظهر ضعف الوجه الثالث وهو الجمع بين الحكم التكليفي والوضعي ، وذلك لأنّه موقوف على كون الظرف لغوا حتى يتعلق بكلمة «يجب» وعلى كون المتعلق كلمتين وهما : الرد والضمان. ولا قرينة على شي‌ء منهما ، فإنّه مع إمكان الظرف

٣١

.................................................................................................

__________________

المستقر لا تصل النوبة إلى الظرف اللغو.

فالمتحصل : أنّ النبوي الشريف يدلّ على كون المال في وعاء الاعتبار على عهدة الآخذ ، فإن كان موجودا ردّه إلى المالك ، لأنّه المصداق الحقيقي لرد المال ، حيث إنّه واجد للمقوّمات النوعية والصنفية والشخصية. فمفاد الحديث على هذا حكم وضعيّ ، ولا يتكفل حكما تكليفيا ، فيرجع في حكمه التكليفي الى ما يدلّ على حرمة حبس الحقوق ووجوب ردّها الى مالكيها.

وبالجملة : فاستدلال المصنف وغيره بهذا النبويّ على ضمان المقبوض بالعقد الفاسد في محلّه ، هذا.

ثمّ إنّه لا بأس بالتعرّض لبعض الجهات المتعلّقة بالنبويّ المذكور :

١ ـ عدم اختصاص الأخذ بالقهر والغلبة

منها : أنّ الأخذ هل يكون عامّا أم مختصا بما يكون على وجه القهر والغلبة؟ فلا يشمل الأيدي الأمانيّة ، ويكون خروجها عن موضوع الحديث المزبور بالتخصص ، فيختص الحديث بالغصب ، ولا يشمل موارد إذن المالك الحقيقي كاللقطة وغيرها من الأمانات الشرعية ، وتسليط المالك غيره على ماله كالوديعة وغيرها من الأمانات المالكيّة.

وربّما يستشهد لذلك ـ أي الأخذ بالقهر والغلبة ـ بقوله تعالى (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى) (١) ، وقوله تعالى (لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) (٢) وقوله تعالى (فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ) (٣) وغير ذلك من موارد

__________________

(١) سورة هود ، الآية ١٢٠.

(٢) سورة الحاقة ، الآية : ٤٥.

(٣) سورة القمر ، الآية ٤٢.

٣٢

.................................................................................................

__________________

استعماله في الأخذ بالقهر والغلبة. وجعل المحقق النائيني هذا المعنى هو الظاهر (١).

وفيه : أنّ الأخذ لغة هو تناول الشي‌ء مطلقا وإن لم يكن عن قهر وعدوان ، كقوله تعالى (خُذِ الْعَفْوَ) (٢) وقوله عزّ اسمه (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) (٣) فتأمل ، وقوله عليه‌السلام : «خذها فإنّي إليك معتذر». وغير ذلك من الموارد.

وخصوصية القهر والغلبة تستفاد من القرائن الحالية أو المقالية ، من باب تعدد الدالّ والمدلول ، وليست من خصوصيات نفس المعنى اللغوي أو العرفي. فيدلّ الحديث الشريف على الضمان في جميع الموارد سواء أكان هناك قهر أم لا ، إلّا ما خرج بالدليل كالأمانات مطلقا.

وبالجملة : فلم يثبت كون مفهوم الأخذ عرفا هو التناول القهري حتى يحمل اللفظ عليه ، فيحمل على معناه اللغوي ، وهو مطلق التناول الذي منه المقبوض بالعقد الفاسد ، والمسروق ، والوديعة ، والعارية. فالأخذ يكون من قبيل المتواطي لا المشكك. ولو سلّم التشكيك فإنّما هو من قبيل التشكيك البدوي الذي لا عبرة به في رفع اليد عن إطلاق مفهومه ، هذا.

٢ ـ اعتبار الإرادة والاختيار في الأخذ المضمّن

ومنها : أنّ «الأخذ» لمّا كان فعلا اختياريّا فلا بدّ من عدم صدوره بلا إرادة ولا اختيار ، فإذا ألقى مال في حجر شخص بحيث صار تحت يده واستيلائه من دون دخل لإرادته واختياره في ذلك لم يصدق عليه الأخذ حتى يشمله الحديث الشريف. وكذا لا يصدق «الأخذ» على تناول الصبي غير المميّز الذي لا شعور ولا تمييز له بحيث

__________________

(١) منية الطالب ، ج ١ ، ص ١١٧.

(٢) سورة الأعراف ، الآية ١٩.

(٣) سورة التوبة ، الآية ١٠٣.

٣٣

.................................................................................................

__________________

لا يلتفت إلى ما يصدر منه من الفعل وعنوانه ، وكذا المجنون.

فيظهر من اعتبار الإرادة في حال الأخذ وكون الآخذ مستشعرا مميّزا لفعله خروج الصبي غير المميز والمجنون والنائم عن حيّز الحديث إذا أمسكوا على شي‌ء من المنقولات واستولوا عليه ، فلا يشملهم الحديث حتى يحكم عليهم بالضمان.

ويشمل الصبي المميّز المستشعر لفعله ، لصدق الأخذ الاختياري على فعله ، وفاقا للمصنّف قدس‌سره ، حيث قال : «ومن هنا كان المتّجه صحة الاستدلال به على ضمان الصغير بل المجنون إذا لم تكن يدهما ضعيفة لعدم التمييز والشعور».

والحاصل : أنّه يعتبر في شمول الحديث كون الفاعل مختارا في فعله ، هذا.

٣ ـ شمول إطلاق الضمان للعلم بالحكم والجهل به

ومنها : أنّ إطلاق الحديث يشمل كون صاحب اليد عالما بالحكم التكليفي ـ وهو وجوب الأداء ـ والوضعي أعني به الضمان ، وجاهلا بهما. كما يشمل كونه عالما بالموضوع وهو العلم بأنه مال الغير أو مغصوب أو مقبوض بالعقد الفاسد ، وكونه جاهلا به كما إذا زعم أنّه مال نفسه أو أنّه وكيل عن مالكه أو وليّ عليه.

٤ ـ إطلاق الضمان لليد الأصلية والتابعة

ومنها : أنّ مقتضى إطلاقه عدم الفرق بين كون اليد أصلية وبين كونها تابعة ، كيد وكيل الغاصب مع عدم علم الوكيل بالغصب ، إذ مع علمه بالغصب لا تصح الوكالة حتّى ظاهرا. وكذا الحال في الوكيل في قبض المبيع بالبيع الفاسد ، وذلك لأنّه يعتبر في صحة الوكالة كون متعلّقها مباحا ، ولذا قال في المسالك في ذيل قول المحقق قدس‌سره : «ولو وكّله في بيع فاسد لم يملك الصحيح» ما لفظه : «كما لو قال : اشتر لي كذا إلى إدراك الغلّات ، أو مقدم الحاج ، أو بعه كذلك ، أو ما شاكله. ولا فرق في ذلك بين أن يكونا عالمين بالفساد

٣٤

.................................................................................................

__________________

وجاهلين وبالتفريق ، وإنّما لم يملك الصحيح ، لعدم التوكيل فيه فيقع فضوليا» (١).

ففي الصورة المذكورة يكون الوكيل هو الذي يشمله الحديث دون الموكّل.

لا يقال : إنّ المقرّر عندهم أنّ يد الوكيل يد الموكّل ، وكذا يد الأمين يد الحاكم فلا يعدّ يد أحدهما في العرف يدا له ، بل يد الموكّل والحاكم.

فإنّه يقال : إنّ معنى كون يد الوكيل يد الموكّل هو إجراء أحكام يد الموكّل عليه في التصرفات كالآثار المترتبة على قبض المالك ، كفراغ ذمة المقبوض منه بقبض الوكيل ، كفراغ ذمته بقبض الموكل ، فإنّ قبض الوكيل كقبض الموكل في تلك الآثار. وهذا لا ينافي صدق الاستيلاء والتسلط عرفا على يد الوكيل الموجب لضمانه ، فلا وجه لما قيل من : أنّ المالك لا يرجع على الوكيل ، بل على الموكل ، لأنّه صاحب اليد.

والحاصل : أنّ معنى كون يد الوكيل يد الموكّل وقبضه قبضه هو : أنّ القبض ـ الذي من شأنه أن يصدر من الموكّل ـ إذا صدر من الوكيل كان كصدوره من الموكّل في فراغ ذمة المقبوض منه ، أو صحة العقد كالوكيل في عقد الصرف أو السّلم. وإجراء حكم الضمان الثابت للوكيل على الموكل أجنبي عن معنى قولهم : «يد الوكيل يد الموكل» إذ ظاهره هو أنّ كل ما يكون من وظيفة شخص إذا صدر عن غيره وكالة كان كصدوره عن نفس ذلك الشخص في الحكم الشرعي المترتب عليه ، هذا.

٥ ـ إطلاق الضمان لليد المستقلّة والمشتركة

ومنها : أنّ قضية الإطلاق عدم الفرق بين انفراد اليد بالأخذ وتعددها بأن شاركها غيره فيها بحيث أسند إلى المتعدد ، وكان المستولي على المال المأخوذ اثنين في عرض واحد. أو ترتبت إحدى اليدين على الأخرى ، وهذه مسألة تعاقب الأيدي على المغصوب ، وإن كان في كيفية التضمين إشكال ليس هنا محل ذكره ، هذا.

__________________

(١) مسالك الأفهام ، ج ٥ ، ص ٢٨٠.

٣٥

.................................................................................................

__________________

٦ ـ أقسام المأخوذ باليد

ومنها : أنّ المأخوذ قد يكون عينا من المنقول وغيره ، وقد يكون منفعة كسكنى الدار ومنفعة الدكان ونحوهما ، وقد يكون من قبيل الحقوق كحق التحجير ، وقد يكون من قبيل ما لا يدخل تحت الاستيلاء والاستحقاق كالحرّ والخمر والخنزير بالنسبة إلى المسلم ، فهنا أقسام أربعة :

القسم الأوّل : الأعيان الشخصيّة والكلّية

الأوّل : كون المأخوذ هو العين ، وذلك يتصور على نحوين :

أحدهما : أن يكون المأخوذ من المنقولات.

ثانيهما : أن يكون من غير المنقولات ، كالدار والدكّان والأرض ونحوها.

أمّا الأوّل فملخّصه : أنّه لا ريب في صدق أخذ اليد على الاستيلاء عليه بالقبض ونحوه ، فيصدق الأخذ والاستيلاء باليد على ركوب دابة الغير ، فيشمله النبوي «على اليد ما أخذت» وإن لم يحرّكها من مكانها.

وأمّا الثاني فحاصله : أنّ إثبات اليد عليه حقيقة غير ممكن ، لعدم الإحاطة بها كالمنقول ، لكن التصرّف فيه بالدخول ونحوه ممكن ، وهو يتصور على وجهين :

أحدهما : ما يوجب صدق الاستيلاء عليه ، كدخول الجائر ـ عدوانا ـ دار غيره للتصرف والتسلط أو السكنى فيها ، أو إجارتها. وهذا القسم لا إشكال في صدق اليد عليه ، فيشمله النبوي الموجب للضمان.

ثانيهما : ما لا يوجب صدق التسلط والاستيلاء عليه ، كما إذا دخل دار الغير أو بستانه بغير إذن المالك للتفرّج والتنزّه مثلا ، فإنّ الاستيلاء لا يصدق عليه ، فلا يشمله النبوي ، فلا دليل حينئذ على الضمان. وقد صرّح بذلك العلّامة في التذكرة حيث قال : «ولو دخل دار غيره أو بستانه لم يضمن بنفس الدخول من غير استيلاء ، سواء دخلها

٣٦

.................................................................................................

__________________

بإذنه أو بغير إذنه ، وسواء كان صاحبها فيها أم لم يكن» (١).

ولا فرق في هذا القسم ـ أعني الأعيان ـ بين ما لو كان مفرزا وما لو كان مشاعا ، لإطلاق المأخوذ وعدم اختصاصه بالمفرز ، فيعدّ من سكن دار غيره مع مالكها قهرا ذائد على النصف. ولهذا قال العلامة قدس‌سره في التذكرة : «ولو لم يزعج المالك ، ولكنه دخل واستولى مع المالك كان غاصبا لنصف الدار ، لاجتماع يدهما واستيلائهما عليه. نعم لو كان الداخل ضعيفا والمالك قويّا لا يعدّ مثله مستوليا عليه لم يكن غاصبا لشي‌ء من الدار» (٢).

لا يقال : إنّ الاستيلاء لا يتحقق إلّا على الشي‌ء المعيّن.

فإنّه يقال : إنّ الاستيلاء أمر عرفي يتحقق في المشاع كتحقّقه في المعيّن. ويدل عليه صحة بيع المشاع وصلحه وهبته ووقفه ، فقبضه جائز كالمقسوم.

وأمّا الكلّيّ فلا يدخل تحت اليد وإن قيل به ، لأنّ ما يقع تحت الاستيلاء خارجا هو الفرد كما لا يخفى.

إلّا أن يقال : أنّ وجود الفرد عين وجود الكلي الطبيعي ، فلأجله يدخل الكلي تحت اليد والاستيلاء.

ثمّ إنّ مقتضى الإطلاق عدم اعتبار كون العين ممّا له قيمة ومالية. ودعوى تبادر ما كان له مالية ممنوعة.

إلّا أن يقال : إنّ الضمان الذي يدل عليه النبويّ ـ وهو تدارك خسارة المال المفوّت أو الفائت ـ لا يتصوّر إلّا فيما له مالية ، فلا بد من شموله للمأخوذ الذي هو مال ، فما ليس كذلك لا يندرج تحت هذا النبوي ، هذا.

ثمّ إنّه لا فرق في ضمان المأخوذ بين بقاء عينه وبين تلفه ، كعدم الفرق في ضمانه بين الأوصاف الطارية عليه من مزجه بشي‌ء أو تغيّر صورته كالطحن ، فإنّ المأخوذ في

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٣٣٧ ، السطر ١٦.

(٢) المصدر ، السطر : ٢٢.

٣٧

.................................................................................................

__________________

جميع الصور مضمون على الآخذ. كما لا فرق في الحكم بالضمان بين كون المتصدّي لذلك التصرف نفس الآخذ وغيره ، وإن كان للمالك أيضا الرجوع إلى ذلك المتصرّف ، لكنّه كلام آخر.

كما لا فرق في الأعيان بعد دخولها تحت اليد بين أن تكون مقصودة بالذات في الاستيلاء عليها وبين أن يتحقق الاستيلاء عليها بالتبع ، ولهذا قال في الرياض : «ويضمن حمل الدابة لو غصبها. وكذا غصب الأمة الحامل غصب لحملها بلا خلاف أجده ظاهرا ، لأنّه مغصوب كالأمّ. والاستقلال باليد حاصل بالتبعية لها. وليس كذلك حمل المبيع فاسدا ، حيث لا يدخل في البيع ، لأنّه ليس مبيعا ، فيكون أمانة في يد المشتري ، لأصالة عدم الضمان ، ولأنّ تسلّمه بإذن البائع. مع احتمال الضمان ، لعموم على اليد ما أخذت حتّى تؤدي ، مع الشك في صدق الأمانة عليه وبه قطع الماتن في الشرائع» (١) انتهى كلامه رفع مقامه.

القسم الثاني : المنافع

القسم الثاني ـ وهو كون المأخوذ منفعة ـ يتصور على نحوين :

أحدهما : المنافع التي لم يستوفها آخذ العين ، كما إذا استولى على دابّة غيره فغصبها منه غاصب قبل استيفاء الأوّل شيئا من منافعها ، فإنّ المنافع بالنسبة إلى الآخذ الأوّل غير مستوفاة ، فلا تدخل تحت عنوان قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «على اليد ما أخذت» وإن قلنا بضمان الثاني لها ، لمباشرته للاستيفاء بدليل آخر.

وكذا الحال لو بقيت تحت يده ولكن لم يستعملها ولم ينتفع بها ، فإنّه لا يصدق على المنافع حينئذ أنّها مأخوذة ، لعدم استيفائه لها ، وعدم تعلّق فعل منه بها. وإن قلنا بكونها مضمونة عليه لجهة أخرى من جهات الضمان وهي قاعدة الإتلاف ، حيث إنّه

__________________

(١) رياض المسائل ، ج ٢ ، ص ٣٠١.

٣٨

.................................................................................................

__________________

أتلف المنافع على المالك ، ولذا قال العلّامة قدس‌سره في التذكرة : «منافع الأموال من العبيد والثياب والعقار وغيرها مضمونة بالتفويت والفوات تحت اليد العادية ، فلو غصب عبدا أو جارية أو ثوبا أو عقارا أو حيوانا مملوكا ضمن منافعه ، سواء أتلفها بأن استعملها أو فاتت تحت يده بأن بقيت في يده ولا يستعملها ، عند علمائنا أجمع» (١).

ثانيهما : المنافع المستوفاة ، كما إذا ركب الدابة التي غصبها ، أو استخدم العبد أو الجارية مثلا. وهذا كسابقه في عدم صدق الاستيلاء على المنافع ، لأنّ المنفعة غير موجودة بحيث يجتمع طرفاها في زمان واحد ، بل هي تدريجية الوجود ، فلا يتصور الاستيلاء على المنافع من المستولي على العين حتى في صورة استيفائها ، فلا يمكن إثبات ضمانها حتى مع الاستيفاء بحديث اليد. نعم لها سبب آخر للضمان وهو الإتلاف على المالك ، وتدلّ عليه العبارة المتقدمة عن العلامة قدس‌سره.

لكن خالف فيما ذكرناه صاحب الجواهر قدس‌سره ، حيث استدلّ على ضمان المنافع المستوفاة بالحديث المزبور. قال في كتاب العارية : «ولو استعار مستعير من الغاصب ـ وهو لا يعلم بغصبه ـ كان قرار الضمان للمنفعة الفائتة على الغاصب ، لغروره ، وإن كان للمالك أيضا إلزام المستعير بما استوفاه من المنفعة أو فاتت في يده ، لعموم من أتلف وعلى اليد كما هو المشهور بين الأصحاب هنا ، وفي الغصب عند ذكر حكم الأيادي المترتبة على يد الغاصب» (٢).

وأنت خبير بضعف التمسك بقاعدة اليد ، لما عرفت من ظهور «ما» الموصولة في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «على اليد ما أخذت» في عين خارجيّة استولت عليه اليد. وليست المنفعة موجودة مجتمعة أجزاؤها في الوجود ، بل هي من الموجودات التدريجية المتصرّمة التي يتوقف وجود جزء منها على انعدام سابقه ، فلا تجتمع أجزاؤها في الوجود حتى تأخذها

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٣٨١.

(٢) جواهر الكلام ، ج ٢٧ ، ص ١٦٦.

٣٩

.................................................................................................

__________________

اليد وتستولي عليها ، فالمتعيّن التمسّك لضمان المنافع مطلقا حتى المستوفاة بقاعدة الإتلاف.

لا يقال : إنّ مجموع منافع الدار سنة مثلا يعدّ في نظر العرف موجودا واحدا ، ولذا يبذل بإزائه الأجرة. وهذا يدلّ على أنّ المنافع كالأعيان مما يمكن أن تنالها اليد وتندرج تحتها.

فإنّه يقال : إنّ الاعتبار العرفي المزبور إنّما يصحّح اعتبار المالية المعتبرة في العوضين ، كاعتبار مالية عين كالحنطة مثلا في الذمّة ، أو عمل كذلك كخياطة ثوب ، أو بناء دار ، فإنّ الاعتبار المزبور لا يوجب صيرورة الكليّ في الذمّة موجودا خارجيا قابلا لأن تدخل تحت اليد. بل يجدي في المالية فقط ، لا في الوجود الخارجي المتوقف عليه صدق الأخذ باليد. فدعوى عدم صدق اليد على المنافع مطلقا في غاية القرب ، هذا.

لكن الانصاف صدق اليد على المنافع كصدقها على الأعيان. توضيحه : أنّ المنفعة هي الحيثية القائمة بالعين التي تستوفى تارة ولا تستوفى أخرى. وإن شئت فقل : إنّ المنفعة ـ التي هي معنى اسم المصدر ـ قائمة بالعين قيام اللازم بالملزوم والعرض بالمعروض ، فمنفعة الدار مثلا هي صلاحيّتها للمسكونيّة. وهذا القابلية ثابتة للعين ، وليست تدريجية الوجود ، فلا يتقوّم باستيفاء المستوفي لها تدريجا ، حتى يستشكل في شمول النبوي لها بعدم كونها موجودة مجتمعة أجزاؤها في الوجود.

نعم لا تصلح المنافع لشمول الأخذ لها بالأصالة. وهذا لا يقدح في شمول النبوي لها كما تقدّم من إطلاق الأخذ للأصالة والتبعية. فما أفاده الجواهر من التمسك بقاعدة اليد في العبارة المتقدمة في غاية المتانة.

نعم بناء على دخل الاستيفاء ـ الذي هو قائم بالشخص المنتفع في حقيقة المنفعة ـ كان ما أفيد من منع جريان النبوي في المنافع في محلّه ، هذا.

لكنّه في غاية الضعف والسقوط ، إذ لا شبهة في صحة إسناد الفوت إلى المنفعة ، بأن يقال : فاتت المنفعة ، أو : فوّتها الغاصب ، أو : استوفاه. وصحة هذه الإضافة منوطة

٤٠