هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٣

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٠

بفاسده» ومن المعلوم (١) أنّ صحيح البيع لا يوجب ضمانا للمشتري للمنفعة ، لأنّها (٢) له مجّانا. ولا يتقسّط (٣) الثمن عليها. وضمانها (٤) مع الاستيفاء لأجل الإتلاف ، فلا ينافي القاعدة المذكورة ، لأنّها (٥) بالنسبة إلى التلف لا الإتلاف.

______________________________________________________

المستأجرة بالإجارة الفاسدة ، بدعوى : أنّ متعلّق المعاوضة فيها هو المنفعة ، فتندرج العين في قاعدة «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده».

وكذا يقال في المقام : بأنّ صحيح البيع لا يوجب ضمان المشتري للمنفعة ، حيث إنّ الضمان المعاوضيّ يقع بين المبيع والثمن ، ومنافع المبيع ليست طرفا للمعاوضة ولا تقابل بشي‌ء من الثمن ، فلا تضمن لو تلفت وفاتت. كما أنّ العين المستأجرة لا تضمن لو تلفت بيد المستأجر.

نعم إتلاف العين واستيفاء المنفعة يوجب الضمان ، لقاعدة الإتلاف ، وهذا لا ينافي قاعدة «ما لا يضمن» المختصّة بمورد التلف ، لا الإتلاف كما لا يخفى.

(١) هذا تقريب شمول قاعدة «ما لا يضمن» للمنفعة الفائتة ، وقد عرفته آنفا.

(٢) يعني : لأنّ المنفعة تكون للمشتري مجّانا ، لكون تمام الثمن بإزاء نفس العين.

(٣) بأن يكون مقدار من الثمن بإزاء العين ، ومقداره بإزاء المنفعة حتى تندرج المنافع ـ كنفس العين ـ في قاعدة «ما يضمن» ليكون نتيجة تقسيط الثمن ضمان منافع المبيع بالبيع الفاسد سواء استوفيت أم فاتت.

(٤) مبتدأ خبره «لأجل» وغرضه دفع توهّم المنافاة بين نفي الضمان للمنافع بقاعدة «ما لا يضمن» وبين الالتزام بالضمان في استيفائها ، وقد عرفت تقريبه بقولنا : «نعم إتلاف العين ..».

(٥) يعني : لأنّ قاعدة «ما لا يمضن» نافية للضمان في مورد التلف ، ولا تتعرّض لحال الإتلاف أصلا حتى يتحقق التنافي بينها وبين ما يوجب الضمان كالإتلاف والاستيفاء.

٢٦١

مضافا إلى الأخبار (١) الواردة في ضمان المنافع المستوفاة من الجارية

______________________________________________________

(١) هذا ثالث الوجوه المستدلّ بها على عدم ضمان المنافع الفائتة ، ومحصّله : استفادة عدم الضمان من السكوت في مقام بيان مورد الضمان في الجارية المسروقة ، ثم إثباته في المقبوض بالبيع الفاسد بالأولويّة القطعيّة ، فهنا أمران ينبغي توضيحهما.

الأوّل : أصل دلالة الأخبار على عدم ضمان المنفعة الفائتة في مورد بيع الجارية المسروقة.

الثاني : أولويّة المقام بعدم الضمان.

أمّا الأوّل فبيانه : أنّه قد ورد في جملة من الأخبار سؤال الراوي عن حكم جارية مسروقة بيعت ، فاستولدها المشتري وانتفع بلبنها وخدمتها ، فحكم عليه‌السلام بضمان قيمة الولد واللبن واجرة مثل خدمتها من طبخ وكنس وطحن ونحوها من المنافع التي استوفاها المشتري في المدّة التي مكثت عنده ، كقوله عليه‌السلام ـ كما في خبر زرارة ـ : «ويعوّضه في قيمة ما أصاب من لبنها وخدمتها» (١) وسكت عليه‌السلام عن ضمان منافعها الفائتة ، مع كون السائل بصدد استعلام وظيفته الفعليّة وما تشتغل عهدته به ، ومن المعلوم أنّ السكوت في مقام البيان بيان العدم.

فإن قلت : إنّ كون هذه الأخبار ناظرة إلى المنفعة الفائتة حتى يستفاد عدم ضمانها من السكوت محلّ تأمّل ، لأنّه عليه‌السلام اقتصر على بيان ضمان قيمة الولد والمنافع المستوفاة ، ولم يفرض فوت بعض منافع الجارية حتى يتحقق موضوع للكبرى المقرّرة ، وهي : أنّ السكوت في مقام البيان بيان العدم.

قلت : ليس كذلك ، لأنّ مورد السؤال منزّل على المتعارف ، ولا ريب في أنّ للجارية منافع يستوفى بعضها ويفوت بعضها الآخر ، وليست تستخدم بمثابة لا يفوت شي‌ء من منافعها. ولو شكّ كفى استفادة الإطلاق من ترك الاستفصال ،

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٤ ، ص ٥٩٢ ، الباب ٨٨ من أبواب نكاح العبيد والإماء ، الحديث ٤ ، وقد تقدم في ص ٤٩ و ٥٠ نقل بعض هذه الأخبار ، فراجع.

٢٦٢

المسروقة المبيعة الساكتة (١) عن ضمان غيرها (٢) في مقام البيان (*).

______________________________________________________

إذ لم يسأل عليه‌السلام عن أنّ المشتري هل استخدمها في تمام منافعها أم في مقدار منها؟ وعليه ففوت المنفعة مفروض في الرّواية ، ويتّجه الاستدلال بسكوته عليه‌السلام عن ضمان المنافع الفائتة ، واقتصاره على ضمان المستوفاة.

وأمّا الأمر الثاني ـ وهو الأولويّة ـ فتقريبه : أنّ الأخبار الواردة في بيع الجارية المسروقة لم تضمّن المشتري عوض المنفعة الفائتة ، مع كون موردها شراءها من الغاصب الأجنبيّ عن المالك ، وكون مقتضى أخذ الغاصب بأشقّ الأحوال هو ضمان المشتري للمنفعة الفائتة أيضا ليرجع على الغاصب من جهة غروره. فإذا كان البائع مالكا للجارية كان عدم ضمان المشتري أولى قطعا ، لأنّ المالك أقدم على البيع وتسليمها إلى المشتري.

هذا تمام الكلام في تقريب دلالة هذه الطائفة على انتفاء الضمان في المنفعة الفائتة. وكذا الكلام في رواية أخرى وهي صحيحة محمّد بن قيس الآتية.

(١) صفة ل «الأخبار» وهذا إشارة إلى الكبرى المقرّرة في الأصول من : أنّ السكوت في جواب السؤال عن الوظيفة الفعليّة دليل على عدم الحكم ، ففي المقام لو كان المشتري ضامنا لبيّنه الإمام عليه‌السلام ، لئلّا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة ، مع عدم حكمة ظاهرة في تأخيره.

(٢) أي : غير المنافع المستوفاة ، وهذا الغير هو المنافع الفائتة.

__________________

(*) قد يقال : إنّ تلك الأخبار ليست في مقام بيان حكم المنافع من حيث الضمان وعدمه ، والتعرّض لدفع قيمة الولد إلى مالك الجارية إنّما هو لدفع توهم رقيّة الولد وكونه ملكا لمالك الجارية ، لأنّه نماء ملكه. ولو كانت في مقام بيان حكم المنافع فلا بدّ من بيان ضمان المنافع المستوفاة التي هي مضمونة على مستوفيها قطعا ، ومن المعلوم عدم التعرّض لها مع استيفائها عادة ، كخدمة الجارية في المدّة التي كانت عند المشتري.

٢٦٣

وكذا (١) صحيحة محمّد بن قيس الواردة في من باع وليدة أبيه بغير إذنه ،

______________________________________________________

(١) معطوف على «الأخبار» ومقصوده أنّ الأمرين المتقدمين في تلك الأخبار ـ من السكوت والأولويّة ـ جاريان في صحيحة محمّد بن قيس أيضا ، فالتقريب مشترك بينهما.

أمّا الصحيحة فقد رواها شيخ الطائفة بإسناده عن علي بن الحسن بن فضّال ، عن سندي بن محمّد وعبد الرحمن بن أبي نجران ، عن عاصم بن حميد ، عن محمّد بن قيس ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : «قضى في وليدة باعها ابن سيّدها وأبوه غائب ، فاشتراها رجل ، فولدت منه غلاما ، ثم قدم سيّدها الأوّل ، فخاصم سيّدها الأخير ، فقال هذه وليدتي باعها ابني بغير إذني. فقال : خذ وليدتك وابنها. فناشده المشتري ، فقال : خذ ابنه ـ يعني الذي باع الوليدة ـ حتى ينفذ لك ما باعك. فلمّا أخذ البيّع الابن قال أبوه : أرسل ابني. فقال : لا أرسل ابنك حتى ترسل ابني ، فلمّا رأى سيّد الوليدة الأوّل أجاز بيع ابنه» (١).

وسيأتي الكلام في مفاد الصحيحة في بيع الفضول إن شاء الله تعالى. إلّا أنّ

__________________

لكن فيه : أنّ أخبار الباب متعدّدة ، وقد صرّح في بعضها بضمان خدمتها. كما أدرجناه في التوضيح ، ومعه لا مجال لدعوى اختصاص القيمة بالولد لأجل دفع توهّم رقيّة الولد وكونه ملكا لسيّد الجارية ، فلاحظ.

ولم يظهر من المتن اعتماد المصنّف قدس‌سره على خصوص الرواية المتضمّنة لقيمة الولد حتى يتّجه ما ذكر ، بل مقصوده الاستدلال بمجموعها ، وقد عرفت اشتمال بعضها على ضمان ما أصاب من خدمتها ، وهو المنفعة المستوفاة ، فيبقى مجال استفادة عدم ضمان المنفعة الفائتة من السكوت.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٤ ، ص ٥٩١ ، الباب ٨٨ من أبواب نكاح العبيد والإماء ، الحديث : ١ ، ورواه ثقة الإسلام بسنده ، وفيه «قضى أمير المؤمنين عليه‌السلام».

٢٦٤

فقال عليه‌السلام : «الحكم أن يأخذ الوليدة وابنها» وسكت عن المنافع الفائتة. فإنّ (١) عدم الضمان في هذه الموارد (٢) ـ مع كون العين لغير البائع (٣) ـ يوجب عدم الضمان هنا (٤) بطريق أولى.

والانصاف أنّ للتوقّف في المسألة ـ كما في المسالك تبعا للدروس والتنقيح (٥) ـ مجالا.

______________________________________________________

المقصود من نقلها فعلا دلالتها على عدم ضمان ما فات من الجارية المبيعة بغير إذن مالكها. فإنّه عليه‌السلام قضى أوّلا للمالك بأخذ الجارية من المشتري ، وكذا ولدها الذي هو منفعتها ، ولم يضمّن المشتري ما فات من منفعتها في المدّة التي كانت عنده. وحيث إنّ الصحيحة في مقام بيان الوظيفة الفعليّة كان اقتصاره على ضمان قيمة الولد دليلا على عدم استقرار عوض المنفعة الفائتة على عهدة المشتري. هذا تقريب أصل الدلالة. وأمّا أولويّة المقام ـ وهو البيع الفاسد مع إقدام المالك على البيع ـ فقد تقدّمت آنفا.

(١) هذا تقريب الأولويّة ، وأمّا الدلالة على عدم ضمان المنفعة الفائتة فمنشؤها السكوت.

(٢) يعني : مورد الصحيحة وموارد بيع الجارية المسروقة ، لظهورها في تعدّد الواقعة ، لأنّ المسؤول في بعض الأخبار أبو جعفر عليه‌السلام ، وفي بعضها أبو عبد الله عليه‌السلام.

(٣) يعني : ليس المبيع ملكا للبائع ، إذ البائع فضول ، إمّا غاصب كما في الجارية المسروقة ، وإمّا غير غاصب كما في صحيحة محمّد بن قيس.

(٤) أي : في المقبوض بالبيع الفاسد ، إذ قد ينشأ الفساد من اختلال بعض شروط الصيغة خاصّة ، مع اجتماع شروط العوضين والمتعاقدين ، بأن يكونا مالكين أو مأذونين في التصرّف. هذا تمام الكلام في وجه عدم الضمان وسيأتي التوقّف في المسألة.

(٥) قال الفاضل المقداد قدس‌سره : «وأمّا مع الفوات فوجهان ، من أصالة البراءة ، ومن أنّها منافع عين مضمونة فتضمن» (١).

__________________

(١) التنقيح الرائع ، ج ٢ ، ص ٣٢.

٢٦٥

وربّما (١) يظهر من القواعد في باب الغصب عند التعرّض لأحكام البيع الفاسد اختصاص الاشكال والتوقّف بصورة علم البائع ، على ما استظهره السيد العميد والمحقّق الثاني من عبارة الكتاب (٢) ،

______________________________________________________

وقال الشهيد قدس‌سره في حكم البيع الفاسد : «ويرجع صاحب العين بمنافعها المستوفاة ، فلو فاتت بغير استيفاء فوجهان» (١).

وقال الشهيد الثاني قدس‌سره : «ولو فاتت بغير استيفاء فوجهان» (٢).

ولكنّه في موضع آخر من البيع رجّح الضمان فقال : «وكما تضمن العين تضمن منافعها ؛ سواء استوفاها أم لا ، على الأقوى» (٣).

وكيف كان فقد جعل المصنّف قدس‌سره هنا ـ وفي عبارته الآتية قريبا ـ التوقّف مقتضى الإنصاف في المسألة ، ولعلّه لأجل تمانع وجهي الضمان وعدمه لو تمّ المقتضي في كلّ منهما ، بعد عدم ترجيح أحدهما على الآخر. لكنّه قدس‌سره عدل عن هذا الإنصاف إلى القول المشهور وهو الضمان اعتمادا على الإجماع المصرّح به في التذكرة ، وسيأتي.

(١) غرضه قدس‌سره من هذه العبارة ـ إلى عدّ الأقوال في المسألة ـ هو : أنّ الأقوال في ضمان المنافع الفائتة أربعة ، إلّا أنّ اختلاف شرّاح القواعد في الاستظهار من العبارة جعلها خمسة ، ففخر المحقّقين قدس‌سره جعل مصبّ إشكال العلّامة في ضمانها أعمّ من علم البائع بالفساد وجهله به ، ولكنّ المحقّق الثاني والسيد العميد استظهرا من عبارة القواعد اختصاص التوقّف في ضمان المنافع الفائتة بما إذا علم البائع بالفساد ، فلو كان جاهلا به كان ضامنا لها.

(٢) يعني : عبارة كتاب القواعد ، وهي قول العلّامة المتقدم في (ص ٢٦٠) وفيه : «وبدونه إشكال» فإن كان مرجع ضمير «بدونه» الاستيفاء ، اتجه ما استظهره

__________________

(١) الدروس الشرعية ، ج ٣ ، ص ١٩٤.

(٢) مسالك الأفهام ، ج ٣ ، ص ١٥٤.

(٣) المصدر ، ص ١٧٤.

٢٦٦

وعن الفخر (١) حمل الإشكال في العبارة على مطلق صورة عدم الاستيفاء.

فيتحصّل (٢) من ذلك كلّه أنّ الأقوال في ضمان المنافع غير المستوفاة خمسة.

______________________________________________________

فخر المحقّقين من التوقّف في ضمان المنافع الفائتة مطلقا سواء علم البائع بالبطلان أم جهل به.

وإن كان مرجع الضمير الاستيفاء مع قيد «علمه» اتّجه ما استظهره المحقّق الثاني ، إذ المعنى حينئذ : «انّه مع علم البائع بالفساد إذا فاتت المنفعة ففي الضمان إشكال وتوقّف» فيتألّف موضوع توقّف العلّامة من أمرين : أحدهما علم البائع بالبطلان ، والآخر عدم استيفاء المشتري للمنفعة.

قال المحقّق الثاني في ضمان المنافع : «فلا تفاوت في كون المتجدّد في البيع عينا كالولد أو منفعة كسكنى الدار ، ولا في كون البائع عالما بالفساد وجاهلا ، ولا بين أن يستوفي المشتري فاسد المنفعة وعدمه ، على إشكال في بعض الصور ، وهو ما إذا علم البائع بفساد البيع ولم يستوف المشتري المنفعة» (١).

(١) الحاكي لكلام فخر المحققين هو السيّد الفقيه العاملي قدس‌سرهما ، قال في الإيضاح ـ في شرح عبارة القواعد المتقدمة : «وبدونه إشكال» ـ ما لفظه : «ينشأ من تبعيّة الأصل ، ولأنّ الأصل في قبض مال الغير الضّمان إلّا بسبب عدمه ، ولم يثبت. ومن أنّها لم تقبض بالبيع الفاسد ولا بالغصب. والحقّ الثاني ، لأنّ مال الغير يجدّد في يده بغير فعلهما ، فكان كالثوب تطيره الريح» (٢).

وما ذكره قدس‌سره من وجه عدم الضمان بقوله : «ومن أنّها لم تقبض بالبيع الفاسد ولا بالغصب» جار في صورتي علم البائع بالفساد وجهله به ، ومقتضاه أنّه فهم من عبارة والده توقّفه في ضمان المنافع الفائتة مطلقا بلا فرق بين العلم والجهل.

(٢) يعني : بعد أن اختلف شرّاح القواعد في مراد العلّامة قدس‌سره من قوله : «وبدونه إشكال» فقد تحصّل أقوال خمسة في حكم المنافع الفائتة.

__________________

(١) جامع المقاصد ، ج ٦ ، ص ٣٢٤.

(٢) مفتاح الكرامة ، ج ٦ ، ص ٣٠٥ ؛ إيضاح الفوائد ، ج ٢ ، ص ١٩٤.

٢٦٧

الأوّل : الضمان ، وكأنّه للأكثر (١).

الثاني : عدم الضمان ، كما عن الإيضاح (٢).

الثالث : الضمان ، إلّا مع علم البائع (٣) ، كما عن بعض من كتب على الشرائع.

الرابع : التوقّف (٤) في هذه الصورة ، كما استظهره جامع المقاصد والسيد العميد (١) من عبارة القواعد.

______________________________________________________

إلّا أن يقال : بأن الأقوال ثلاثة ، والتوقّف ليس قولا ، بل هو تردّد في الحكم ، فتأمّل.

(١) تقدم الاستدلال له بقاعدتي اليد والاحترام ، وناقش فيهما المصنف ، وبقي وجه آخر وهو الإجماع المنقول ، فلا منافاة بين إنكار الضمان ، للخدشة في القاعدتين ، وبين إثباته للإجماع.

(٢) واستدلّ عليه في عبارته المتقدّمة بقوله : «لأنّ مال الغير يجدّد في يده بغير فعلهما ..» ويمكن المناقشة فيه بأنّ المشتري قبض المبيع باختياره ، ويكفي في قبض المنافع قبض العين ، فقياس المقام بإطارة الريح في غير محلّه.

(٣) لعلّ وجهه ـ كما عن بعض ـ أنّ البائع مع علمه بفساد البيع هو المقدم على تسليط المشتري على المنافع مجّانا ، فلا وجه حينئذ لضمان المشتري للمنافع.

لكن فيه أوّلا : أنّ قضية هذا الوجه عدم ضمان المنافع مطلقا حتى المستوفاة منها ، وهو كما ترى.

وثانيا : أنّ مجرّد التسليط ليس رافعا للضمان ، لا مكان بناء البائع تشريعا على صحّة المعاملة ، وكون التسليم إلى المشتري بعنوان الوفاء بالمعاملة ، فالتسليط معاوضيّ ، والرافع للضمان هو التسليط المجّانيّ وبلا عوض.

(٤) وسيأتي إن شاء الله تعالى ، في التعليقة وجهه وضعفه.

__________________

(١) جامع المقاصد ، ج ٦ ، ص ٣٢٤ ؛ كنز الفوائد ، ج ١ ، ص ٦٧٦.

٢٦٨

الخامس : التوقّف مطلقا (١) كما عن الدروس والتنقيح والمسالك ومحتمل القواعد ، كما يظهر من فخر الدين.

وقد عرفت (٢) أنّ التوقّف أقرب إلى الانصاف.

إلّا (٣) أنّ المحكيّ عن التذكرة : «أنّ منافع الأموال من العبد والثياب والعقار وغيرها مضمونة بالتفويت والفوات تحت اليد العادية ، فلو غصب عبدا أو جارية أو عقارا أو حيوانا مملوكا ضمن منافعه سواء أتلفها بأن استعملها ، أو فاتت تحت يده ، بأن بقيت مدّة في يده لا يستعملها ، عند (٤) علمائنا أجمع (٥)».

______________________________________________________

(١) يعني : مع علم البائع بالفساد وجهله به.

(٢) حيث قال قبل أسطر : «والانصاف أنّ للتوقّف في المسألة كما في المسالك .. إلخ».

(٣) يعني : أنّ المانع عن التوقّف هو الإجماع الذي ادّعاه في التذكرة على ضمان الغاصب للمنافع مطلقا ـ من المستوفاة وغيرها ـ بعد البناء على كون يد المشتري فيما نحن فيه من اليد العادية خصوصا مع علمه بفساد العقد.

وكذا يظهر الإجماع من عبارة السرائر من قوله : «المنافع تضمن عندنا بالغصب» (١).

وتقدّم منه أيضا : «أن البيع الفاسد يجري عند المحصلين منزلة المغصوب إلّا في ارتفاع الإثم بإمساكه».

(٤) هذا متعلّق بقوله : «مضمونة بالتفويت والفوات» يعني : أنّ ضمان مطلق المنافع اتّفاقيّ.

(٥) ثم قال العلّامة قدس‌سره : «وبه قال الشافعيّ وأحمد بن حنبل ، لأنّ المنافع مضمونة بالعقد الفاسد ، فتضمن بالغصب كالأعيان .. إلخ» (٢).

__________________

(١) السرائر الحاوي ، ج ٢ ، ص ٤٧٩.

(٢) تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٣٨١.

٢٦٩

ولا يبعد (١) أن يراد باليد العادية مقابل اليد الحقّة ، فيشمل (٢) يد المشتري فيما نحن فيه ، خصوصا (٣) مع علمه ،

______________________________________________________

(١) غرضه قدس‌سره من هذا الاستظهار : أنّ عبارة التذكرة تحتمل وجهين :

أحدهما : اختصاص معقد الإجماع بباب الغصب ، لأنّ المتيقّن من قوله : «تحت اليد العادية» هو الغصب الذي يكون استيلاء الغاصب اعتداء على مال الغير. وبناء على هذا الاحتمال يمتنع الاستدلال بإجماع التذكرة على ضمان المنفعة الفائتة في المبيع بالبيع الفاسد ، وذلك لتعدّد الموضوع ، إذ ليست يد المشتري عادية حتّى تندرج في موضوع حكمهم بالضمان في منافع المغصوب.

ثانيهما : شمول «اليد العادية المضمّنة» للمقام ، لوضوح أنّ اليد على مال الغير إمّا حقّة ، لاستنادها إلى إذن مالكي أو شرعي ، وإمّا عادية ، ولا ثالث لهذين القسمين. ولا ريب في أنّ يد المشتري ـ على المبيع بالبيع الفاسد ـ ليست حقّة واقعا ، لفرض فساد السبب المملّك. نعم قد يزعم استحقاقه للتصرّف فيه في صورة الجهل بالفساد ، لكن لا عبرة بهذا الاعتقاد ، لأنّ المناط في جواز التصرّف تملّكه للمبيع واقعا. وحيث لم يدخل في ملكه كانت يده عادية وإن لم يعلم به المشتري.

وعلى هذا الاحتمال لا يختصّ الاعتداء على مال الغير بباب الغصب ، بل تندرج منافع المبيع بالبيع الفاسد فيه ، فتتّجه دعوى الإجماع على ضمان المنفعة الفائتة.

واستظهر المصنّف قدس‌سره هذا الاحتمال الثاني ، لما ذكرناه آنفا من صدق «اليد العادية» على كلا المقامين ، ولا قرينة على الاختصاص بباب الغصب. بل في ما نقلناه من التذكرة قرينة على أنّ ضمان منافع المبيع فاسدا أوضح وجها من باب الغصب ، فلاحظ قوله : «لأنّ المنافع مضمونة بالعقد الفاسد ، فتضمن بالغصب».

(٢) لعدم كون يد المشتري حقّة بعد فساد العقد واقعا.

(٣) وجه الخصوصيّة : أنّه لو نوقش في صدق «اليد العادية» على يد المشتري الجاهل بفساد العقد ـ بأنّه يزعم استحقاق التصرّف في المبيع ـ فلا ريب في صدقها

٢٧٠

سيّما (١) مع جهل البائع به.

وأظهر منه (٢) ما في السرائر في آخر باب الإجارة من «الاتّفاق أيضا على ضمان منافع المغصوب الفائتة» (١) مع قوله في باب البيع : «انّ البيع الفاسد عند أصحابنا بمنزلة الشي‌ء المغصوب إلّا في ارتفاع الإثم عن إمساكه» (٢) انتهى.

وعلى هذا (٣) فالقول بالضمان لا يخلو عن قوّة ، وإن كان المتراءى من ظاهر

______________________________________________________

على يده عند علمه بالفساد ، لاعتقاده حينئذ بأنّ استيلاءه على المبيع اعتداء على البائع.

(١) وجه الخصوصيّة : أنّ البائع العالم بفساد البيع ربما يرضى بتسلّط المشتري على المبيع ، فيشكل صدق «اليد العادية» على يد المشتري. وأمّا مع جهل البائع بالفساد وعلم المشتري به فلا ريب في صدق الاعتداء كما تقدّم آنفا.

(٢) يعني : وأظهر من كلام التذكرة ـ في دعوى الإجماع على ضمان المنافع مطلقا استوفيت أم فاتت ـ كلام ابن إدريس قدس‌سره بعد ضمّ كلامه في باب البيع الفاسد إلى ما أفاده في الغصب من تصريحه بضمان المنفعة الفائتة. فيتحصّل منه الإجماع على ضمانها في البيع كالغصب.

ووجه أظهريّة عبارة السرائر في الإجماع على ضمان المنافع الفائتة هو أنّ تعبير العلّامة باليد العادية يحتمل وجهين كما ذكرناه ، لكن تعبير ابن إدريس بضمان منافع المغصوب وكون البيع الفاسد بمنزلة المغصوب لا يقبل الحمل على معنى آخر.

(٣) أي : وبناء على الإجماع الذي حكاه ابن إدريس والعلّامة فالقول بالضمان قويّ.

__________________

(١) السرائر الحاوي ، ج ٢ ، ص ٤٧٩.

(٢) المصدر ، ص ٣٢٦.

٢٧١

صحيحة أبي ولّاد (١) اختصاص الضمان (١) في المغصوب بالمنافع المستوفاة من البغل المتجاوز به إلى غير محلّ الرخصة.

______________________________________________________

(١) غرضه قدس‌سره دفع توهّم يورد به على الحكم بضمان المنافع الفائتة في البيع الفاسد. ومحصّل التوهّم : أنّ صحيحة أبي ولّاد الواردة في البغل المغصوب خصّت الضمان بالمنافع المستوفاة ، فحكم الإمام أبو عبد الله جعفر بن محمّد الصادق عليهما‌السلام على أبي ولّاد بضمان اجرة مثل كراء البغل بالنسبة إلى خصوص المنفعة المستوفاة ، لقوله عليه‌السلام : «أرى له عليك مثل كراء البغل ذاهبا من الكوفة إلى النيل ، ومثل كرى البغل من النيل إلى بغداد ، ومثل كرى البغل من بغداد إلى الكوفة ، توفيه إيّاه» وسكت عليه‌السلام عن ضمان ما فات من منفعة البغل في المدّة ، فإنّ قطع هذه المسافة يتحقق بأقلّ من خمسة عشر يوما ، فيتراءى من ذلك أنّ ذمّته لم تشتغل إلّا بأجرة المنافع التي استوفاها من البغل ، دون ما لم يستوفها من المنافع ، فإنّ طيّ المسافة المزبورة إذا تحقق في مدّة عشرة أيّام كانت منافع البغل الفائتة في مدّة الخمسة غير مضمونة على مستأجر البغل.

والحاصل : أنّ المنافع التي فاتت في مدّه الخمسة التي لم يستعمل البغلة فيها غير مضمونة ، فالصحيحة تدلّ على عدم ضمان المنافع غير المستوفاة.

ومحصّل دفع التوهّم هو : أنّ ضمان المنفعة الفائتة من المغصوب من مسلّمات الفقه ، فلو فرض ظهور سكوت الامام عليه‌السلام في عدم ضمانها قلنا بأنّ هذا الظهور معرض عنه ، ومن المعلوم أنّ إعراض جميع الأصحاب عنه يوهن أصالة الجدّ فيها ، فلا يمكن التمسّك به لإثبات عدم الضمان في باب الغصب ، فكيف يعارض به الإجماع على ضمان المنفعة الفائتة للمبيع بالبيع الفاسد.

ثمّ إنّ تعبير المصنّف قدس‌سره بقوله : «وإن كان المتراءى .. إلخ» ظاهر في عدم جزمه بالاستظهار المزبور. ولعلّ وجهه أنّ سيره لم يكن من الطريق المتعارف في هذه

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ٢٥٥ ، الباب ١٧ من أبواب الإجارة ، الحديث ١.

٢٧٢

إلّا أنّا لم نجد (١) بذلك عاملا في المغصوب الذي هو موردها (٢) (*).

______________________________________________________

الأعصار من الكوفة إلى بغداد ، فإنّ السير في هذا الزمان من الطريق المتعارف من الكوفة إلى بغداد وبالعكس بالبغال والحمير يتحقّق في مدّة ثمانية أيّام تقريبا ، لكن السّير في مورد الصحيحة كان على غير المتعارف ، لأنّه ركب من الكوفة إلى النيل الواقع في الواسط ـ ويسمى فعلا بالحيّ ـ ومن النيل إلى بغداد ، وقيل : إنّ السير على هذا النحو يحتاج إلى زمان أوسع.

وعلى هذا فلا يبقى للصحيحة ظهور في عدم ضمان المنافع غير المستوفاة حتى يقال : إنّه موهون بالاعراض عن العمل بها في موردها وهو الغصب ، فكيف يمكن التعدّي عن موردها إلى المقام ، وهو منافع المقبوض بالعقد الفاسد؟

(١) هذا دفع التوهّم ، وقد أوضحناه آنفا.

(٢) أي : مورد صحيحة أبي ولّاد.

__________________

(*) قد عرفت أن الأقوال في المسألة خمسة :

الأول ـ وهو المشهور ـ : الضمان مطلقا.

الثاني : عدمه كذلك ، كما ظهر من عبارة الإيضاح.

الثالث : التفصيل بين علم البائع بالفساد وجهله به ، بعدم الضمان في الأوّل ، وبالضمان في الثاني.

الرابع : التوقّف عن الحكم بالضمان في الصورة الثالثة ، وهي صورة علم البائع.

الخامس : التوقّف في الضمان مطلقا.

لكن لا يستقيم عدّ التوقّف في هاتين الصورتين من الأقوال ، لأنّ مرجع التوقّف إلى عدم الحكم ، ومن المعلوم أنّه ليس قولا ورأيا في المسألة. وعليه فالأقوال ثلاثة ، ثالثها : التفصيل بين علم البائع بالفساد وجهله به ، بالضمان في الثاني ، وعدمه في الأوّل.

أمّا القول المشهور ـ وهو الضمان مطلقا ـ فقد استدلّ له بوجوه :

أحدها : الإجماع الذي يظهر من عبارة السرائر المتقدّمة.

٢٧٣

.................................................................................................

__________________

ثانيها : قاعدة اليد ، بعد صدق «الأخذ» على المنافع بأخذ الأعيان ، كما أفاده المصنّف قدس‌سره.

ثالثها : قاعدة الاحترام المستفادة من جملة من الروايات الدالّة على «أنّ حرمة مال المؤمن كحرمة دمه» والمفروض كون المنافع من الأموال ، لتنافس العقلاء عليها ، فمنعها عن المالك بدون الضمان ينافي حرمة مال المؤمن.

رابعها : قاعدة نفي الضرر ، حيث إنّ عدم ضمان من فوّت منافع الغير ضرر عليه ، فينفى بقاعدته.

خامسها : قاعدة الإتلاف ، كما استدلّ بها السيد قدس‌سره «فإنّ الاستيلاء على العين ومنع المالك عن الانتفاع بها تفويت وإتلاف لمنافعها. ومقتضى قاعدة الإتلاف ضمانها. ولأجل هذه القاعدة نحكم بضمان منافع المغصوب التي لم يستوفها الغاصب» (١).

سادسها : قوله عجل الله تعالى فرجه وصلّى عليه وجعلناه فداه : «فلا يحلّ لأحد أن يتصرّف في مال غيره بغير إذنه» (٢).

سابعها : ما في حاشية المحقّق الخراساني قدس‌سره من «أنّ الدّليل على ضمان المنافع هو الدليل على ضمان الأعيان ، لكون ضمانها من آثار ضمانها ولوازمه. ولا يتفاوت في ذلك بين كونها مستوفاة وغير مستوفاة كما لا يخفى. والظاهر أنّ هذا هو الوجه في ضمانها مطلقا في باب الغصب قولا واحدا. ولا أظنّ اختصاص ذلك الباب بوجه غير جار في الباب. إلّا أن يكون هو إجماع الأصحاب. لكنّه لا يظن أن يكون مدركهم أيضا إلّا ما ذكرنا ، فافهم» (٣).

وحاصله : أنّ الوجه في ضمان المنافع المستوفاة وغيرها هو : أنّ من آثار ضمان

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ص ٩٦.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ٦ ، ص ٣٧٧ ، الباب ٣ من أبواب الأنفال ، الحديث ٣.

(٣) حاشية المكاسب ، ص ٣٤.

٢٧٤

.................................................................................................

__________________

العين ضمان منافعها ، فدليل ضمان العين دليل على ضمان منافعها. وادّعى قدس‌سره أنّ هذا هو الوجه في ضمانها مطلقا في باب الغصب. إلّا أن يكون الوجه في ضمان منافع المغصوب مطلقا هو الإجماع المفقود هنا ، لكون الأقوال في ضمان منافع المقبوض بالعقد الفاسد متعدّدة ، هذا.

أمّا الاستدلال بالإجماع ففيه أوّلا : عدم الاتّفاق ، لكون المسألة ذات أقوال ، كما عرفت.

وثانيا : أنّ من المحتمل كونه مدركيّا ، بأن يكون مستندهم في الضمان ما تقدّم من قاعدتي اليد والاحترام.

وثالثا : بأنّه من الإجماع المنقول الذي تقرّر في الأصول عدم حجيّته.

مضافا إلى : أنّ الظاهر من عبارة السرائر ترتيب خصوص وجوب الرّدّ من أحكام الغصب على المقبوض بالعقد الفاسد ، ضرورة أنّ الغاصب إذا استولد الجارية المغصوبة لا يلحق به الولد ، لأنّه زان ، بخلاف ما إذا أولدها من قبضها بالعقد الفاسد ، فإنّ الولد يلحق به.

وتوجيه إجماع السرائر والتذكرة بما في تقرير شيخ مشايخنا المحقّق النائيني قدس‌سره من قوله : «ولكنّه لا يخفى انّ اختياره الضمان أخيرا ليس لاعتماده على الإجماع المنقول ، مع أنّه قدس‌سره منكر لحجّيّته في الأصول ، بل اعتمد على نقل الإجماع من جهة كشف اتفاق الأعلام على شمول قاعدة اليد والاحترام للمنافع» (١) لا يخلو من الغموض ، إذ فيه أوّلا : أن لازم الاتفاق على شمول قاعدتي اليد والاحترام للمنافع عدم الاختلاف في ضمان المنافع غير المستوفاة. وقد عرفت تعدّد الأقوال فيه.

وثانيا : أنّ موضوع القاعدتين ـ أعني بهما اليد والاحترام ـ من الموضوعات العرفيّة التي يكون المرجع في معرفتها العرف ، وليس بيد الفقيه بما هو فقيه. فالإجماع

__________________

(١) منية الطالب ، ج ١ ، ص ١٣٤.

٢٧٥

.................................................................................................

__________________

التعبّديّ القائم على تشخيص المفهوم العرفيّ أو تطبيقه على مصاديقه غير الإجماع الذي هو حجّة ـ أعني به الإجماع ـ على الحكم الشرعي.

نعم إذا كان الموضوع من الموضوعات المستنبطة التي لا بدّ فيها من الرجوع الى الفقيه ، كالغناء ، والمفازة والصعيد والآنية وغيرها وكان مرجع الإجماع إلى تحديد الموضوع الذي يترتّب عليه الحكم الشرعيّ ، فهو وإن كان وجيها. إلّا أن جماعة ناقشوا في صدق اليد على المنافع ومنهم المصنّف ، حيث قال قبل أسطر ـ بعد تسليم كون المنافع أموالا ـ ما لفظه : «بأنّ مجرّد ذلك لا يكفي في تحقّق الضمان. إلّا أن يندرج في عموم «على اليد ما أخذت ، ولا إشكال في عدم شمول صلة الموصول للمنافع».

ومع هذه المناقشة ـ بل نفي الاشكال عن عدم صدق اليد على المنافع ـ كيف يمكن أن يدّعى رجوع الإجماع إلى الاتّفاق على صدق اليد على المنافع؟ وقد تقدّم كلام الإيضاح وتنظير المنافع بالثوب الذي أطارته الريح ، فإنّه ظاهر في إنكار صدق اليد على المنافع ، فلا بدّ أن يراد بالإجماع الاتّفاق على نفس الحكم أعني به الضمان ، لا على دليل الحكم ، ولا على تحديد موضوعه. لكن قد عرفت عدم الإجماع على الضمان ، هذا.

ثمّ أفاد المحقق المذكور في وجه الضمان ما حاصله : «أنّ المقتضي له وهو اليد الشاملة للعين أصالة والمنافع تبعا ـ لصدق اليد والأخذ عليهما ـ موجود ، والمانع عنه مفقود ، لأنّه إمّا قاعدة «ما لا يضمن» في كلتا صورتي العلم بالفساد والجهل به. وإمّا تسليط البائع للمشتري على المنافع مجّانا في صورة علم البائع بالفساد.

وكلاهما مفقود ، إذ الأوّل مختصّ أصلا وعكسا بمصبّ العقد وهو العين في المقام ، والمنافع خارجة عنه ، فيرجع فيها إلى القواعد الأخر.

والثاني لا يستلزم المجّانيّة الرافعة للضمان ، لإمكان البناء على الصحة تشريعا» (١).

__________________

(١) منية الطالب ، ج ١ ، ص ١٣٤.

٢٧٦

.................................................................................................

__________________

انتهى ملخّصا.

ويتوجّه عليه : أنّ جعل وجود المقتضي وهو اليد مفروغا عنه أوّل الكلام ، لما عرفت من المناقشة في صدق اليد على المنافع ، لظهور النبويّ في اعتبار كون المأخوذ بنفسه قابلا للرّدّ ، وليست المنافع كذلك. فالظاهر قصور الحديث عن شموله للمنافع. فمع عدم تسلّم وجود المقتضي لا تصل النوبة إلى البحث عن وجود المانع أو عدمه.

بل لو سلّمنا صدق اليد على المنافع أمكن المناقشة فيه أيضا بأنّ اليد المضمّنة هي خصوص العادية ، وهي مفقودة هنا ، لعدم منع القابض للمالك عن استيفاء المنافع كما لا يخفى.

نعم قاعدة الاحترام ـ بناء على عدم اختصاصها بالحكم التكليفيّ ـ تجري في المنافع غير المستوفاة. وكذا قاعدة الإتلاف فيما إذا استند تفويت المنافع إليه على التفصيل الآتي.

وأمّا الاستدلال بقاعدة اليد ، ففيه : أنّ اليد وإن كانت كناية عن الاستيلاء الصادق على الأعيان والمنافع ، وليس المراد بها خصوص الأخذ بالجارحة الخاصّة قطعا ، وإلّا يشكل الأمر في غير المنقولات كالأرض والدار ونحوهما ، لكن الذيل وهو «حتى تؤدي» ظاهر في كون المأخوذ بنفسه مردودا ، فيختصّ النبويّ بما كان في نفسه قابلا للرّدّ وإن امتنع عرضا كالتلف.

وبالجملة : فجعل اليد كناية عن الاستيلاء الشامل للأعيان والمنافع لا يجدي في شمول النبويّ أيضا للمنافع ، مع قرينيّة «حتى تؤدّي» على كون المأخوذ بعينه قابلا للرّدّ ، فيختصّ النبويّ بالأعيان.

وأمّا قاعدة الاحترام فهي متوقّفة على صدق المال على المنفعة ، لإضافة نفي الحل إلى المال في قوله عليه‌السلام : «حرمة ماله كحرمة دمه» أو «لا يحل مال امرء مسلم» ومع الصدق لا ينبغي الإشكال في صحة الاستدلال بها.

٢٧٧

.................................................................................................

__________________

ودعوى كونها في مقام بيان الحكم التكليفي ـ وأنّه لا يجوز التصرّف فيه بدون إذنه ، بقرينة السياق المستفاد من الجمل السابقة ، كقوله : «سباب المؤمن فسوق ، وقتاله كفر ، وأكل لحمه معصية» إذ لا ريب في ظهورها في الحكم التكليفيّ ـ غير مسموعة ، لأنّه خلاف إطلاق الحرمة ، فاحترام المؤمن وشرفه يقتضي حرمة التصرّف في ماله بدون إذنه ، وضمانه أيضا لو أتلفه متلف بغير إذنه الرافع للضمان.

وأمّا قاعدة الإتلاف فهي منوطة أيضا بصدق المال على المنافع ، وإلّا فلا إشكال فيها من حيثيّة أخرى.

والإتلاف وإن كان إعدام الموجود ، إلّا أنّ التّفويت الّذي هو إبداء المانع عن الوجود يستفاد من النصوص الّتي هي مدرك قاعدة الإتلاف أيضا.

فالاتلاف أعمّ من إعدام الموجود ومن المنع عن الوجود.

وقد يستشكل في جريان القاعدة في المنافع المستوفاة فضلا عن غير المستوفاة بما في حاشية سيّدنا الأستاذ قدس‌سره من : أنّ المستفاد من أدلّة القاعدة خصوص الإضرار بالعين بالجناية على ذاتها أو صفاتها ، فلا تشمل المنافع الّتي هي اعتبار محض ، فالتمسك بقاعدة الإتلاف لضمان المنافع مطلقا مشكل (١).

لكن يمكن أن يقال : إنّ المراد بالنقص هو العرفي الصادق على المنافع التي هي اعتبار محض ، فتفويت المنافع بلا عوض جناية عرفا على المنفعة التي هي صفة العين.

وأمّا قاعدة الضرر فلا إشكال في التمسّك بها أيضا ، بعد صدق النقص على فوت المنافع تحت يد قابض العين. والاشكال عليها بما قيل من : «أنّها ناظرة إلى الأحكام الشرعيّة التي ينشأ منها الضرر ، وعدم الضمان ليس حكما شرعيّا ، فلا تجري القاعدة فيه» مندفع بما عرفت من : أنّ عدم الضمان كسائر الأعدام بعد تشريع الأحكام أيضا حكم شرعيّ يحكم عليه القواعد الثانويّة كقاعدتي الضرر والحرج ، فإنّ تفويت المنافع على

__________________

(١) نهج الفقاهة ، ص ١٣٦.

٢٧٨

.................................................................................................

__________________

مالكها ضرر عليه ، لكونها مالا عرفا ، فينفى بقاعدة نفي الضرر فإتلافها يوجب الضرر وهو النقص في مال مالكها ، لا أنّه يوجب عدم النفع ، كما لا يخفى.

وأمّا قوله عجّل الله تعالى فرجه وصلّى عليه : «فلا يحلّ لأحد أن يتصرّف ..» فحاصل الكلام فيه : أنّ عدم حلّيّة التصرّف ـ الذي هو فعل اختياريّ ـ ظاهر في الحرمة التكليفيّة المستتبعة للمؤاخذة والعقوبة ، وعدم حلية المال ظاهر في التبعيّة والخسارة ، وذلك هو الضمان. فحرمة المال يراد بها الحكم الوضعيّ أعني به الضمان ، وحرمة الفعل كالتصرّف يراد بها الحكم التكليفيّ أعني به الحرمة. وهذا هو ظاهر الرواية.

وأمّا ما أفاده المحقّق الخراساني قدس‌سره في عبارته المتقدّمة ففيه : أنّه إن أراد اقتضاء أخذ العين ضمان منافعها ـ لتحقّق الاستيلاء عليها بجميع حيثيّاتها وشؤونها بسبب الاستيلاء على العين ـ فيرد عليه ما أفاده المحقّق الأصفهاني قدس‌سره من : أنّ المنافع لا فعليّة لها ، لأنّها موجودات بالقوّة ، فلا يصدق عليها الاستيلاء (١).

لكن لا يخفى أنّ هذا ما يقتضيه النظر الدّقّي العقليّ الذي لا عبرة به في المقام. وأمّا النظر العرفي فيساعد على صدق الاستيلاء على المنافع غير المستوفاة. ولذا يصحّ جعلها طرفا لإضافة الملكيّة ، فإنّ الإجارة تمليك لتلك المنافع الّتي هي حيثيّات قائمة بالعين ، فلا يعتبر في صحّة تمليكها ، ولا في صدق الاستيلاء عليها فعليتها ، بل المدار في صدق الاستيلاء عليها وصحّة اعتبار الملكيّة لها عرفا وجودها الشأنيّ كقابليّة الدار للسكنى ، لا الوجود الفعلي ، حتّى يقال : إنّها قبل فعليتها إعدام ، فلا يصحّ الاستيلاء عليها.

فالاستيلاء على العين من قبيل الواسطة في الثبوت للاستيلاء على منافعها ، لا من قبيل الواسطة في العروض كحركة السفينة ونحوها بالنسبة إلى جالسهما ، إذ لو كان من قبيل الواسطة في العروض لزم عدم ضمان حابس الحرّ الأجير المقدّر عمله بأجرة ، لأنّ الاستيلاء على العين لا يوجب ضمانها حتى تضمن منافعها عرضا ، فلا بدّ من الحكم

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٧٨.

٢٧٩

.................................................................................................

__________________

بعدم ضمان حابس الحرّ ، إذ لا ضمان لنفس العين التي استولى عليها ذاتا ـ وهي الحرّ ـ حتى يصح نسبته عرضا إلى منفعته وهي عمله.

وإن أراد أنّ نفس ضمان العين بدليله الخاصّ مستلزم لضمان منافعه من دون سبب آخر بالإضافة إلى منافعها ، فيرد عليه ما أفاده المحقق الأصفهاني قدس‌سره (١) من أنّه يشبه الجزاف ، إذ معناه أنّ ضمان شي‌ء بموجبه سبب لضمان شي‌ء آخر ، فنفس الضمان يكون من أسباب الضمان. مع أنّه لا شبهة في ضمان المنافع المستوفاة بدون ضمان العين ، كما إذا اشترى عينا مسلوبة المنفعة مدّة ، فاستوفى منافعها في تلك المدة ، فإنّ المنافع مضمونة والعين غير مضمونة حتى يكون ضمانها بضمان العين. وكما إذا استوفى عمل الحرّ ، فإنّ الحرّ غير مضمون ، مع أنّ عمله المستوفي مضمون إلى غير ذلك.

نعم لا مانع من أن يكون الحديث دليلا على قاعدة التبعيّة ، يعني : أنّ ضمان العين في موارده يوجب ضمان ما يعدّ من توابعها من باب التبعيّة ، كتمليك العين الموجب لتمليك منافعها تبعا ، لكون البيع تمليك العين لا المنفعة ، فإنّ التبعيّة جارية في كثير من الموارد كالطهارة والنجاسة والإسلام والكفر وغير ذلك.

ولا يرد عليه : أنّ لازمه أن يكون ضمان شي‌ء بسببه سببا لضمان شي‌ء آخر. وجه عدم الورود : أنّ ذلك الشي‌ء إن كان من توابع العين المضمونة فلا مانع من ضمانه تبعا. وإن لم يكن من توابعها لم يلزم ذلك أصلا ، للاختصاص بالتوابع ، لا كل شي‌ء ولو كان أجنبيا عن مورد اليد. فلا يلزم أن يكون سبب ضمان الدار مثلا موجبا لضمان العبد.

ومن هنا يظهر الاشكال فيما ذكره قدس‌سره من النقض باستيفاء منافع العين المسلوبة المنفعة واستيفاء عمل الحرّ ، فإنّ اليد تدلّ على عقد إيجابيّ ، وهو أنّ العين إذا صارت مضمونة صارت منافعها مضمونة أيضا. ولا تدلّ على عقد سلبي وهو عدم ضمان المنافع إذا لم تكن العين مضمونة.

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٨٨.

٢٨٠