هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٣

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٠

.................................................................................................

__________________

الروائيّة ، وإلّا فقد عرفت روايته مرسلا عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل نسبه شيخ الطائفة إلى النبيّ جازما ، ولم يقل : «وروي عنه». هذا بعض الكلام في المقام الأوّل.

وأمّا المقام الثاني وهو الدلالة فلنذكر كلام بعض اللغويّين في معنى الخراج والضمان ، ثمّ ما يحتمل في مفاد الحديث.

أمّا الخراج ففي مفردات الراغب : «والخراج مختص في الغالب بالضريبة على الأرض ، وقيل : العبد يؤدّي خرجه أي غلّته ، والرّعيّة تؤدّي إلى الأمير الخراج» (١).

وقال ابن منظور : «وقال الزجّاج : والخراج اسم لما يخرج ، والخراج غلّة العبد والأمة ، والخرج والخراج الاتاوة ، تؤخذ من أموال الناس» ثم قال : «وأما الخراج الذي وظّفه عمر على السواد وأرض الفي‌ء ، فإنّ معناه الغلّة أيضا .. ولذلك يسمّى خراجا يؤدونها كل سنة .. وقيل للجزية التي ضربت على رقاب أهل الذمة : خراج ، لأنّه كالغلّة الواجبة عليهم. ابن الأعرابي : الخرج على الرؤوس ، والخراج على الأرضين» (٢).

وقال العلّامة الطريحي قدس‌سره : «الخرج والخراج ـ بفتح المعجمة فيهما ـ ما يحصل من غلّة الأرض. وقيل : يقع اسم الخراج على الضريبة والفي‌ء والجزية والغلّة ، ومنه خراج العراقين» (٣).

وقال ابن الأثير : «الخراج بالضمان يريد ما يحصل من غلّة العين المبتاعة عبدا كان أو أمة أو ملكا. وذلك أن يشتريه فيستغلّه زمانا» إلى أن قال : «ويكون للمشتري ما استغلّه ، لأنّ المبيع لو تلف في يده لكان من ضمانه ، ولم يكن على البائع شي‌ء. والباء في (بالضمان) متعلّقة بمحذوف ، تقديره : الخراج مستحقّ بسبب الضمان» (٤).

__________________

(١) مفردات ألفاظ القرآن الكريم ، ص ١٤٥.

(٢) لسان العرب ، ج ٢ ، ص ٢٥١ و ٢٥٢.

(٣) مجمع البحرين ، ج ٢ ، ص ٢٩٤.

(٤) النهاية ، ج ١ ، ص ٣٢١.

٢٤١

.................................................................................................

__________________

هذا ما يتعلّق بمعنى كلمة الخراج.

وأمّا الضمان فهو التكفّل بالشي‌ء. قال في المجمع : «وضمنت الشي‌ء ضمانا كفلت به ، فأنا ضامن وضمين ، وضمنت المال التزمته» (١) ونحوه ما في الصحاح والمصباح (٢).

وهذا المعنى ما يساعده العرف العام ، فإنّ الضمان العرفي هو كون مال الغير في العهدة ، سواء أكان سببه اختياريّا كقبول شرط ضمان العين المستأجرة أو عارية غير الذهب والفضة ، أم قهريّا كإتلاف مال الغير غفلة أو في حال النوم.

وأمّا ضمان الشخص لمال نفسه فلا معنى له ، وليس ذلك معنى لغويّا ولا عرفيّا للضّمان ، فإنّ البيع ليس إلّا المبادلة بين المالين ، ولا يخطر الضمان فيه أصلا ، فلا يصح أن يقال : إنّ المنافع غير مضمونة على المشتري ، لأنّه ضمن العين ، وضمانها يوجب أن تكون منافعها للضامن.

بل يقال : إنّ المنافع ـ تبعا للعين ـ مملوكة للمشتري ، فلا يضمنها ، إذ لا معنى لضمان الشخص مال نفسه ، وجعل ماله في عهدته.

بل يقال : إنّ المنافع غير مضمونة عليه ، لعدم ضمانه لها من جهة كونها ماله ، فاستوفى مال نفسه ، ولا معنى لضمان مال نفسه.

ففي مورد الحديث يقال : منفعة العبد المستوفاة غير مضمونة على المشتري في الزمان المتخلّل بين عقد البيع وبين ردّ العبد لأجل العيب على البائع. وجه عدم الضمان : أنّ الخراج كمنفعة العبد غير مضمون على المشتري ، لأنّ المشتري لم يجعلها في عهدته.

__________________

(١) مجمع البحرين ، ج ٦ ، ص ٢٧٥.

(٢) صحاح اللغة ، ج ٦ ، ص ٢١٥٥ ؛ المصباح المنير ، ص ٣٦٤.

٢٤٢

.................................................................................................

__________________

وكذا لم يجعلها الشارع في عهدته. والمفروض أنّ ثبوت الخراج على العهدة منوط بصيرورة الخراج في العهدة ، وبدون صيرورته في العهدة لا ضمان على من استوفى الخراج.

ففي مورد الحديث يقال : إنّ المشتري لا يضمن منافع المبيع المعيب ما لم يردّ المبيع على البائع أخذا بخيار العيب. وجه عدم ضمانها : أنّ المشتري لم يجعلها في عهدته ، لأنّه استوفاها بعنوان كونها مملوكة له بتبعية مملوكية أصل المبيع له. وقاعدة التبعيّة تقتضي كون المنافع كنفس العين ملكا لمالك العين ، ولا معنى لضمان شخص لمال نفسه كما هو الظاهر.

فكأنّه قيل : الخراج كائن على عهدة من استخرجه بسبب ثبوت عهدته عليه. وفي مورد الحديث ليس الخراج ـ أي المنفعة ـ على المشتري ، لأنّه لا بدّ أن تكون عهدة المنفعة على المشتري إذا ضمن وتعهّد ، والمفروض عدم تعهّده لبدل المنفعة ، فلا ضمان عليه. هذا ما خطر ببالي في معنى هذا الحديث ، وليكن هذا أحد المعاني المحتملة فيه ، وسيأتي بيانه.

وكيف كان فيحتمل في مفاد جملة : «الخراج بالضمان» وجوه :

الاحتمال الأوّل : ما استفاده ابن حمزة ، حيث استدلّ به على عدم ضمان المنافع المستوفاة ، وقد خرج منه منافع المغصوب ، حيث إنّها مضمونة على الغاصب بصحيح أبي ولّاد الآتي إن شاء الله تعالى ، فإنّه يخصّص النبويّ المزبور.

وحاصل هذا الاحتمال : أنّ المراد بالخراج مطلق المنافع الشامل للخراج المصطلح وغيره. ويراد من الضمان المعنى اللغوي أعني به مطلق التعهّد ، سواء أكان أمرا اختياريّا مترتّبا على العقود الصحيحة أو الفاسدة ، أم كان أمرا غير اختياريّ مترتّبا على الغصب. فالمراد : أنّ المنافع الحاصلة من الأموال المأخوذة بالعقود الصحيحة

٢٤٣

.................................................................................................

__________________

أو الفاسدة ، أو المأخوذة غصبا مملوكة للضامن ، وأن ضمان العين سبب لملكيّة المنافع ، فتدلّ الرواية على عدم ضمان المنافع المستوفاة كما عليه ابن حمزة وفاقا لشيخ الطائفة. وخلافا للحنفيّة ، إذ المحكيّ عنهم : «ولا يضمن الغاصب منافع ما غصبه ، لأنّها حصلت على ملك الغاصب ، إلّا أن ينتقص باستعماله ، فيغرم النقصان.

الاحتمال الثاني : أن يكون المراد من كلمة «الخراج» فيه ما هو المعروف المتبادر منه من الخراج والمقاسمة. والمراد من كلمة «الضمان» فيه ضمان الأراضي الخراجيّة بسبب التقبّل والإجارة. ولعلّ هذا أقرب الاحتمالات ـ كما في تقرير سيدنا الخويي قدس‌سره (١) ـ وإن لم يذكر في كلمات الفقهاء رضوان الله تعالى عليهم.

وملخّص هذا الاحتمال : أنّ المتقبّل للأرض الخراجية يملك ما يخرج منها من الغلّة بسبب الضمان والتقبّل ، ولا ربط لهذا المعنى بمورد البحث.

الاحتمال الثالث : أن يراد بالخراج مطلق المنافع الخارجة عن الشي‌ء ، لا خصوص الخراج المصطلح ، ويراد بالضمان مطلق العهدة ، سواء أكانت اختياريّة كالمترتّبة على العقود الصحيحة والفاسدة ، أم غير اختياريّة كالعهدة المترتّبة شرعا على الغصب.

وحاصل هذا المعنى : أنّ منافع الأموال المأخوذة بالعقود الصحيحة أو الفاسدة أو بالغصب مملوكة للضامن بسبب ضمانه للعين أو بإزاء ضمانه لها ، ولازم هذا الضمان عدم ضمان المنافع التي يستوفيها ضامن العين ، سواء أكان استيفاء المنفعة في حال التملك كالعبد الذي اشتراه ، فاستغلّه ، ثمّ ردّه بالعيب السابق ، فإنّ مقتضاه كون الغلّة للمشتري. أم في غير حال التملك كانتفاع البائع بالمبيع الذي تلف قبل قبض المشتري له ، فإنّ المنافع التي استوفاها البائع من المبيع تكون له ، لأنّ ضمانه عليه بمعنى : أنّه ينتقل

__________________

(١) مصباح الفقاهة ، ج ٣ ، ص ١٣٣.

٢٤٤

.................................................................................................

__________________

إليه المبيع آنا ما قبل التلف ، فيتلف من ماله.

وعلى هذا المعنى يتمّ ما أفتى به أبو حنيفة من عدم ضمان الغاصب لما يستوفيه من منافع العين المغصوبة ، ولا يلتزم به ابن حمزة ولا غيره ، فلا يكون النبويّ بهذا المعنى سندا للقول بعدم ضمان منافع المقبوض بالعقد الفاسد.

نعم يكون دليلا لأبي حنيفة على عدم ضمان الغاصب لمنافع العين المغصوبة.

الاحتمال الرابع : أن يراد بالضمان خصوص الضمان الاختياري المترتّب على العقود الصحيحة الممضاة شرعا كالبيع والإجارة ونحوهما ، وبالخراج المنافع المستوفاة. فيكون المعنى : من تقبّل العين بعقد صحيح يملك منافعها بالتبع.

وهذا الاحتمال أجنبيّ عن المدّعى ، وهو استيفاء منافع المقبوض بالعقد الفاسد ، فلا يصحّ استدلال ابن حمزة قدس‌سره بالنبويّ على هذا الاحتمال.

الاحتمال الخامس : أن يراد بالخراج ـ كما في الاحتمال الثالث ـ معناه المصدريّ أي الانتفاع بالشي‌ء ، فيختصّ بالمنافع المستوفاة ، وبالضمان الضمان المعاملي الاختياريّ مطلقا ولو لم يمضه الشارع ، فيشمل العقود الصحيحة والفاسدة. وعلى هذا المعنى يصحّ استدلال ابن حمزة قدس‌سره بالنبويّ.

لكن لا بدّ في صحة الاستدلال من كون النبويّ ظاهرا في هذا المعنى بحيث يتبادر في أذهان العرف عند إلقاء الكلام إليهم ، وهو كما ترى. بل قد عرفت أنّ الظاهر من لفظ الخراج ما هو المعروف في باب الخراج والمقاسمة ، كما في حاشية العلّامة الشهيدي قدس‌سره (١). وأنّ المراد بالضمان ضمان الأراضي الخراجيّة بسبب التقبّل والإجارة من السلطان العادل أو الجائر. ومن المعلوم أنّ هذا المعنى أجنبيّ عمّا نحن فيه من ضمان المنافع المستوفاة من العين المقبوضة بالعقد الفاسد ، هذا.

مضافا إلى : ما في هذا الاحتمال الخامس من الإشكال ، إذ لازمه ضمان البائع

__________________

(١) هداية الطالب إلى أسرار المكاسب ، ص ٢٢١.

٢٤٥

.................................................................................................

__________________

للمشتري منافع المبيع بالبيع الفاسد إذا استوفاها قبل تسليمه إلى المشتري.

وأيضا : لازمه ضمان غاصب المبيع للمشتري إذا استوفى المنافع ، إذ المفروض ضمان المشتري للمبيع ، فمنافعه له ، فإذا غصبه غاصب واستوفى منافعه كان ضامنا للمشتري لا البائع. وهذا من الفساد بمكان من الوضوح. فدعوى القطع ببطلان هذا الاحتمال في محلها.

الاحتمال السادس : ما في حاشية المحقق الخراساني قدس‌سره وهو : «أنّ خراج الأرض كمّا وكيفا على من ضمنها إنّما هو بحسب ضمانها» (١).

الاحتمال السابع : ما خطر ببالي ، وهو : أنّ المراد بالضمان معناه العرفي ، وهو صيرورة مال الغير في العهدة ، والمراد بالخراج إمّا معناه المصدري وهو الانتفاع بالشي‌ء ، وإمّا حاصل المعنى المصدريّ وهو ما يخرج من الشي‌ء ويعدّ منفعة له. وعلى الأوّل يختصّ بالمنافع المستوفاة ، وعلى الثاني يكون أعم منها ، فيشمل المنافع غير المستوفاة أيضا.

فمعنى الحديث ـ والله العالم ـ أنّ المنافع مطلقا أو خصوص المستوفاة ثابتة على الشخص بسبب صيرورتها في عهدته ، كما إذا غصب مال الغير ، فإنّ العين ومنافعها مضمونة عليه ، فبدل المنافع ثابت عليه ، لصيرورتها في عهدته بسبب الغصب. وهذا المعنى يستفاد من قرينة المورد ، وهو شراء العبد المعيب واستيفاء المشتري منافعه وردّه بعد ظهور العيب ، فإنّ البائع طلب من المشتري بدل منافع العبد بقوله : «يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّه قد استغلّ عبدي ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : انّ عمله للمشتري ، لأنّ الخراج بالضمان».

وحكي أنّ عمر بن عبد العزيز قضى ـ في عبد اشتراه شخص واستعمله ثم انكشف كونه معيبا فردّه ـ «بأنّ عمله للبائع» يعني : أنّ المشتري ضامن للمنافع التي استوفاها من العبد قبل فسخ البيع. ثم قيل لعمر بن عبد العزيز : إنّه روي عن عائشة أنّ مثله وقع في حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الخراج بالضمان».

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ص ٣٤.

٢٤٦

.................................................................................................

__________________

وبالجملة : فبعد البناء على كون الخراج ظاهرا في مطلق المنافع ـ الذي هو حاصل المصدر ـ أو في الانتفاع بالشي‌ء الذي هو المعنى المصدريّ ، وكون الضمان معناه العرفيّ المتبادر منه حين إطلاقه ، وكون الظرف مستقرّا ، يكون محصّل معنى الحديث : أنّ المنافع ثابتة على الشخص بسبب صيرورتها في عهدته وضمانه ، فما لم يتحقق عهدتها على شخص لا يحكم بضمانه لها وخسارتها عليه.

وهذا المعنى ينطبق على مورد الحديث ، وهو كون منافع العبد للمشتري ، وذلك لأنّ المشتري لم يضمن المنافع أي لم يجعل بدلها في عهدته ، لأنّه استوفى منافع ماله ، ولم يستوفها ضامنا لها ، إذ لا معنى لضمان مال على عهدة مالكه ، فلا وجه لتضمين المشتري بالنسبة إلى المنافع المملوكة له بقاعدة تبعية المنفعة للعين في الملكيّة.

فتلخّص من جميع ما ذكرناه : أنّ حديث «الخراج بالضمان» لم يثبت الوثوق بصدوره ، ولا يكفي مجرّد تشبّث شيخ الطائفة به في ثلاثة موارد ، وكذا تشبّث ابن حمزة به وغيرهما ممن عرفت في المقام الأوّل.

مضافا إلى إجماله وعدم ظهوره فيما ادّعاه ابن حمزة والشيخ قدس‌سرهما ، فلا يصحّ التمسّك بهذا النبويّ لعدم ضمان المنافع التي استوفاها قابض العين بالعقد الفاسد.

ثمّ إنّ المحقق النائيني قدس‌سره ـ على ما في تقرير بحثه الشريف ـ استظهر من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الخراج بالضمان» معنى لا بأس بالتعرّض له ، فإنّه ـ بعد بيان : أنّ مفاد الحديث بمناسبة الحكم والموضوع هو الضمان الجعليّ الفعليّ الأصليّ الممضى شرعا ، وبعد دعوى عدم شموله للبيع الفاسد والضمان القهريّ كما في ضمان المغصوب ـ أفاد ما توضيحه : أنّ الضمان بمعناه المصدري المعبّر عنه بالفارسيّة «عهده گرفتن يا قرار دادن چيزى در عهده» يتصوّر على أنحاء :

أحدها : أن يكون جعل شي‌ء في العهدة ببذل عوض في مقابله ، كما في العقود المعاوضيّة من البيع ونحوه.

ثانيها : أن يكون هذا الجعل بسبب الشرط من دون بذل عوض في مقابل ما جعله في عهدته ، كشرط الضمان في عارية غير الذهب والفضة ، وفي كلّ عقد صحيح.

٢٤٧

.................................................................................................

__________________

أو بسبب التعبّد كحكم الشارع بالضمان في عارية الذهب والفضة.

وكلّ واحد من هذين القسمين تارة يكون في العقد الصحيح ، وأخرى في الفاسد ، لأنّ العقد المعاوضيّ أمّا صحيح وإمّا فاسد. وكذا العقد المشروط بالضمان ، أو كان الضمان فيه بالتعبّد. فالأقسام أربعة.

وظاهر قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الخراج بالضمان» هو كون الضمان معاوضيّا وثابتا ببذل العوض. والوجه في هذا الاستظهار هو دخول باء السببيّة على كلمة «الضمان» الظاهرة في كون الضمان ببذل العوض ، لا بالشرط. فالأموال تبذل بإزاء تعهّد المال بإزائها ، فالمبيع مثلا يبذل بعوض في عهدة المشتري ، فبسبب تعهد المشتري لعوض الجميع يبذل له المبيع ، فكأنّه قيل : الأموال مبذولة بسبب التعهّد بعوضها.

فيختصّ الحديث بما إذا كان الضمان ببذل العوض ، ولا يشمل الضمان بالشرط كضمان عارية غير الذهب والفضّة ، ولا بالتعبّد كضمان عاريتهما. كما يختصّ بالعقد الصحيح ، لوجهين :

الأوّل : ظهور كلمة «الخراج بالضمان» في كون التعهّد بالمبيع مثلا ببذل الثمن في مقابله هو المنشأ لكون الخراج كالمبيع له. وهذا مختصّ بما إذا كان العقد صحيحا ، لأنّ في العقد الفاسد يكون الضمان بالمثل أو القيمة ، لا بالعوض المسمّى في العقد. فضمان العوض اسم لما هو كذلك واقعا. وهو منتف في العقد الفاسد.

الثاني : أنّ منشأ الضمان في العقد الفاسد هو اليد ، ولذا يراد بالضمان فيه معناه الاسم المصدريّ ، فلو أريد تعميمه للعقد الفاسد لزم إرادة معنى اسم المصدر منه كما فهمه أبو حنيفة. فقاعدة «الخراج بالضمان» بعد اختصاصها بالعقد الصحيح لا تصلح لإثبات عدم ضمان منافع المقبوض بالعقد الفاسد كما في الوسيلة.

ثمّ إنّ بذل العوض يكون بإزاء الأموال سواء أكانت باقية مع الانتفاع بها كالدار والدكّان ، أم تالفة كالشبع المترتّب على أكل الخبر ، فإنّ الغرض منه يستوفى بإعدامه

٢٤٨

.................................................................................................

__________________

بالأكل كالعقاقير ، فإنّ ترتّب خواصّها وما هو مناط ماليّتها منوط بإعدامها.

وكيف كان فالظاهر من الضمان في الحديث الضمان المعاوضيّ ، بقرينة الباء في «بالضمان» الظاهرة في السببيّة أو المقابلة ، ومقتضاهما السببيّة والمقابلة من الطرفين ، بمعنى : كون تملّك المنافع داعيا إلى الضمان والتعهّد بالعوض ، فلحاظ تملك المنافع علّة غائيّة للضمان أي بذل العوض ، فالمنفعة علّة غائيّة للبذل ، ومتقدّمة تصوّرا عليه ومتأخرة عنه في الخارج ، كما هو شأن العلّة الغائيّة ، فيصحّ أن يقال : تملّك المنافع سبب للضمان ، والضمان سبب لكون المنافع له ، فالضمان متأخّر عن لحاظ تملّك المنفعة ، كما أنّ وجود المنفعة خارجا متأخّر عن الضمان.

فالمتحصّل : أنّ الحديث ظاهر في الضمان المعاوضيّ الصحيح ، ولا يشمل العقد الفاسد. كما أنّه لا يشمل الضمان الحاصل بالشرط أو التعبّد من دون بذل عوض في مقابله ، لكونه خلاف مقتضى الباء من السببيّة أو المقابلة. فلا يصحّ الاستدلال به على ضمان المنافع المستوفاة من المقبوض بالعقد الفاسد ، لما عرفت من ظهوره في الضمان المعاوضي الصحيح ، أو إجماله (١).

وقد نوقش في كلام المحقق النائيني قدس‌سره تارة بإنكار ظهور الخبر في المعنى الأخير وهو منشأ ضمان العين ، والداعي إليه تملّك المنافع لينحصر بباب البيع. وجه الإنكار : أنّ الضمان بهذا المعنى لا ينطبق على جعل الثمن مقابل العين وبالعكس ، ولا على القرار والعقد ، فإنّها ليست ضمانا عرفا ولغة.

واخرى : بأنّ جعل مبنى استظهار الجعليّ المعاوضيّ ظهور الباء في السببيّة أو المقابلة ، ثم دعوى أن مقتضى السببيّة أن تكون من الطرفين ، مع أنّها لا تقتضي ذلك بلا شبهة ، عجيب.

وثالثة : بأنّ حمل السبب على العلّة الغائيّة خلاف ظاهر آخر.

__________________

(١) منية الطالب ، ج ١ ، ص ١٣٣.

٢٤٩

.................................................................................................

__________________

ورابعة : بأنّ المقابلة من الطرفين لا محصّل لها.

والكلّ كما ترى ، إذ في الأولى : أنّ الضمان المعاوضيّ وإن لم يكن ضمانا عرفا ولغة ، إلّا أنّ قرينيّة مورد النبويّ ـ وهو شراء العبد المعيب ـ توجب الحمل عليه ، وإلّا امتنع تطبيقه على المورد.

وفي الثانية : أنّ الاستظهار المزبور خارج عن طريقة أبناء المحاورة بعد البناء على ظهور الباء في السببيّة والمقابلة.

وأمّا الاستعجاب من أن تكون قضيّة السببيّة من الطرفين ، ففيه : أنّ المراد بالسبب في المعاملات هو الداعي إلى إنشاء المعاملة ، ومن المعلوم أنّه موجود في الطرفين ، فإنّ الدّاعي للمشتري إلى شراء الكتاب مثلا هو الانتفاع به ، والداعي للبائع إلى بيع الكتاب هو انتفاعه بالثمن.

ومنه يظهر ما في المناقشة الثالثة من الإشكال ، إذ لحاظ احتياج كلّ من المتعاقدين علّة غائيّة لإنشاء المعاملة ، بحيث لولاه لم يقدما عليها. فحمل السبب على العلة الغائيّة ليس على خلاف الظاهر وليس مخالفا لطريقتهم ، فإنّ السببيّة مساوقة للعليّة.

وفي الرابعة : أنّ المقابلة من المتضايفات ، فلا يتّصف شي‌ء بالمقابلة إلّا مع اتّصاف غيره بها ، كالأبوّة والبنوّة والاخوّة وغيرها. فيتّصف كلّ من العوضين بالمقابلة. وكيف يمكن أن يكون الثمن مقابلا للمبيع ولا يكون المبيع مقابلا للثمن؟

فالمتحصّل : أنّ الاستظهار المنسوب الى المحقّق النائيني ـ بقرينة الباء وكذا مورد الرواية من بيع العبد والجارية المعيبين ـ في محلّه. لكنّه متّجه في المتن الذي يشتمل على الموردين المزبورين. وأمّا المتن الخالي عنهما فإثبات ظهوره في الضمان المعاوضيّ الصحيح مشكل جدّا.

وعلى كلّ حال لا يصحّ الاستدلال بالنبويّ المذكور لنفي ضمان المنافع المستوفاة من المقبوض بالعقد الفاسد بعد الغضّ عن ضعف سنده ، إمّا لإجماله ، وإمّا لظهوره في العقد المعاوضيّ الصحيح الذي هو أجنبي عن المقام.

٢٥٠

وأمّا المنفعة الفائتة (*) بغير استيفاء (١)

______________________________________________________

ب : ضمان المنفعة الفائتة

(١) هذا شروع في المقام الثاني ممّا تعرّض له في الأمر الثالث المنعقد لبيان حكم منافع المقبوض بالبيع الفاسد ، وقد تمّ الكلام في المقام الأوّل وهو ضمان المنافع المستوفاة خلافا لابن حمزة منّا. والمراد بالمنفعة الفائتة هي المقابلة للمستوفاة ، سواء أكانت عينا ـ كنفس المبيع ـ كثمرة الشجرة المبيعة فاسدا ، ولبن الشاة كذلك وصوفها ، أم كانت حيثيّة متصرّمة الوجود قائمة بالعين ، وهي المعبّر عنها بالمنافع

__________________

(*) قد يقال : إنّ المنافع الفائتة هي الحكميّة. وأمّا المنافع العينيّة المتصلة كالسمن ، والمنفصلة كالصوف واللبن ونحوهما فلا إشكال في ضمانها ، لصدق المال عليها ، وصدق الأخذ بمعنى الاستيلاء عليها ، فيشملها الموصول في «ما أخذت» وعليه فمصبّ الأقوال في المنافع غير المستوفاة هي الحكميّة.

لكنّه ممنوع ، لما سيأتي في المتن من استدلال المصنّف قدس‌سره على عدم ضمان المنافع الفائتة بإخبار الجارية المسروقة التي حكم الامام عليه‌السلام فيها بضمان خصوص النماء المستوفي كاللبن والولد والخدمة ، دون ما فات منها ، حيث إن مقتضى المقابلة عدم ضمان اللبن لو لم ينتفع به ، كما إذا استأجر مرضعة للولد ولم يرتضع منها ، فذهب لبنها هدرا.

مضافا إلى : التصريح بالأعمّيّة في بعض الكلمات كقول العلّامة قدس‌سره : «ويضمنه وما يتجدّد من منافعه ، الأعيان أو غيرها ، .. إلخ» (١).

وعليه فلم يتّضح وجه اختصاص المنفعة الفائتة بالحكمية ، مع عموم المدّعى والدليل ، فلاحظ.

__________________

(١) قواعد الأحكام ، ص ٨١ ، السطر ٢٧ ، (الطبعة الحجرية) ونحوه تصريح المحقق في منافع المغصوب ، وإطلاقه في منافع المبيع فاسدا ، فراجع شرائع الإسلام ، ج ٣ ، ص ٢٤٤ و ٢٤٥.

٢٥١

فالمشهور فيها (١) أيضا (٢) الضمان. وقد عرفت (٣) عبارة السرائر المتقدّمة.

______________________________________________________

الحكميّة كسكنى الدار والأعمال المحترمة المملوكة كخدمة العبد.

وكيف كان فقد أفاد المصنّف قدس‌سره أنّ الأقوال في حكم المنافع الفائتة خمسة :

أوّلها : الضمان ، وهو المشهور ، بل المدّعى عليه الإجماع.

ثانيها : العدم وهو الظاهر من فخر المحققين قدس‌سره.

ثالثها : التفصيل بين علم البائع بالفساد وجهله به ، بالضمان في الثاني وبالعدم في الأوّل.

رابعها : التوقّف في صورة علم البائع بالفساد ، والضمان في صورة الجهل.

خامسها : التوقّف عن الحكم بالضمان ، وبعدمه مطلقا سواء علم البائع بالبطلان أم لم يعلم.

واضطربت كلمات المصنّف في المسألة ، فاختار القول الأوّل في بدء كلامه ، واستدلّ له بوجهين ، ثم ناقش فيهما ، ثم رجّح القول الثاني لوجوه ثلاثة تقتضي عدم الضمان ، ثم جعل التوقّف هو الإنصاف في المسألة ، ثم رجّح في آخر كلامه القول الأوّل وهو الضمان مطلقا. وستأتي الوجوه بالترتيب إن شاء الله تعالى.

(١) أي : في المنفعة الفائتة ، وهذا شروع في القول الأوّل في المسألة.

(٢) يعني : كالمنافع المستوفاة التي تقدّم أنّ المشهور فيها هو الضمان.

(٣) يعني : في أوّل بحث المقبوض بالبيع الفاسد ، حيث قال : «وفي السرائر : أنّ البيع الفاسد يجري عند المحصّلين مجرى الغصب» وغرض المصنّف من الإشارة إلى كلام ابن إدريس قدس‌سره هو استفادة الإجماع المنقول على ضمان المنافع الفائتة في المقبوض بالبيع الفاسد. وذلك لمساواته للمغصوب في ما عدا حرمة الإمساك ، ولمّا كانت المنافع الفائتة مضمونة في باب الغصب فهي كذلك في المقام.

وعلى هذا فالمدّعى وإن كان شهرة القول بالضمان في المنفعة غير المستوفاة ، إلّا أنّ من يعتمد على الإجماع المنقول بخبر الواحد يلزمه الأخذ به ، ولا سبيل له إلى القول بعدم الضمان أو التوقّف فيه.

٢٥٢

ولعلّه (١) لكون المنافع أموالا في يد من بيده العين ، فهي مقبوضة في يده ،

______________________________________________________

(١) أي : ولعلّ الضمان ، وهذا استدلال للقول المشهور ، والمذكور منه في المتن وجهان :

الوجه الأوّل : قاعدة اليد ، فإنّها كما تجري في الأعيان وتثبت ضمانها ، كذلك تجري في المنافع ، وذلك لأمرين مسلّمين :

أحدهما : أنّ المنافع أموال حقيقة ، لما تقدّم في أوّل بحث البيع من جواز كون الثمن منفعة ، مع أنّه تعتبر ماليّة العوضين ، لوضوح كون البيع مبادلة مال بمال.

ثانيهما : أنّ المناط في ضمان العين ـ وهو قبضها والاستيلاء عليها ـ متحقق في المنافع أيضا ، حيث إنّها مقبوضة بقبض العين. والدليل على صدق «القبض» على المنفعة ما ذكروه في مسألتين :

الأولى : أنّ الإجارة هي «تمليك منفعة بعوض» فيجب على الموجر تسليم المنفعة إلى المستأجر وفاء بالعقد ، ومن المعلوم أنّ قبضها يكون بقبض العين ، فإذا أقبض الموجر داره للمستأجر فقد أقبضه سكناها. ولو لم تكن المنافع قابلة لوقوعها تحت اليد لم يكن مجرّد تسلّم المستأجر للدار استيلاء على سكناها. مع أنّه لا ريب في دخول المنفعة في ضمان المستأجر ، وثبوت الأجرة عليه بنفس تسلّطه على العين. وهذا كاشف عن قابلية المنافع للقبض كالأعيان.

الثانية : أنّهم اعتبروا في بيع السّلم قبض الثمن في مجلس العقد ، وجوّزوا وقوع المنافع المملوكة ثمنا ـ كسكنى الدار وخدمة العبد والجارية ـ كما إذا باع طنّا من الحنطة سلفا وجعل المشتري خدمة الجارية سنة عوضا عنه ، فحكموا بصحته ، وأنّ تسليم الجارية ـ لينتفع البائع بخدمتها ـ تسلّم للثمن حقيقة. وهذا كاشف عن قابليّة المنافع للقبض والوقوع تحت اليد ، ولو لا بالاستقلال بل بتبع الأعيان. ولو اختصّ القبض والاستيلاء بالأعيان الخارجيّة لزم بطلان عقد السّلم في الفرض المزبور ، مع أنّ ظاهرهم صحته بلا ريب.

٢٥٣

ولذا (١) يجري على المنفعة حكم المقبوض إذا قبض العين ، فتدخل المنفعة في ضمان المستأجر (٢). ويتحقّق (٣) قبض الثمن في السّلم بقبض الجارية المجعول خدمتها ثمنا ، وكذا (٤) الدار المجعول سكناها ثمنا.

مضافا (٥) إلى أنّه مقتضى احترام مال المسلم ، إذ كونه في يد غير مالكه

______________________________________________________

وبهذا يتّجه الاستدلال بحديث «على اليد» على ضمان المنافع مطلقا سواء استوفيت أم فاتت. هذا تقريب الدليل الأوّل ، وسيأتي تقريب الدليل الثاني وهو قاعدة الاحترام.

(١) يعني : ولأجل كون المنافع أموالا في يد من بيده العين يجري على المنفعة حكم المقبوض إذا قبض العين. وغرضه قدس‌سره الاستشهاد بما ذكره الفقهاء في المسألتين المتقدّمتين آنفا.

(٢) هذا إشارة إلى المسألة الأولى ، فإنّ المنفعة في باب الإجارة تكون كالمبيع ، فكما يكون المبيع في ضمان البائع قبل إقباضه للمشتري ، فكذا المنفعة تكون في ضمان الموجر قبل تسليم العين إلى المستأجر. وأمّا بعد التسليم فتدخل في ضمانه ، ولو تلفت ولم يستوفها فقد تلفت من ماله لا من مال الموجر. والغرض من هذا الفرع صدق قبض المنفعة بقبض العين.

(٣) هذا إشارة إلى المسألة الثانية ، وهي جعل المنفعة المملوكة ثمنا في بيع السّلم ، سواء أكانت سكنى دار أم كتابة عبد أم خدمة جارية ، فيتحقّق قبض الثمن فيها بقبض الجارية أو العبد أو الدار. ولو كانت «اليد» مختصّة بالأعيان أشكل جواز وقوع هذه المنافع ثمنا في بيع السّلم.

(٤) معطوف على «الجارية» يعني : يتحقق قبض الثمن بقبض الدار المجعول سكناها ثمنا في السّلم. والجامع بين منفعة الدار وخدمة الجارية هو كونهما حيثيتين قائمتين بالعين وهي الدار والجارية.

(٥) هذا إشارة إلى الدليل الثاني على ضمان المنافع الفائتة في المقبوض بالبيع

٢٥٤

مدّة طويلة (١) من غير اجرة مناف (٢) للاحترام.

لكن يشكل الحكم (٣) ـ بعد تسليم كون المنافع أموالا

______________________________________________________

الفاسد ، وهو قاعدة احترام مال المسلم. وتقريبها ـ بعد صدق المال على المنفعة ـ أنّ احترام المسلم وشرفه يقتضيان حرمة التصرّف في ماله بدون إذنه ، وحرمة حبسه عن مالكه مدّة طويلة من غير اجرة في قبال منافعه ، سواء استوفى ذلك الغير منفعته أم لا. وعليه فاحترام ماله يقتضي ضمان بدل ما تلف منه أو فات بيد الغير ، فلا احترام لماله بدون الضمان.

(١) الظاهر أنّه لا خصوصيّة لطول المدة ، إذ المناط في الضمان فوت المنفعة التي يبذل بإزائها المال ، ولعلّ ذكرها من جهة الترديد في صدق «فوت المال» على فوات المنفعة في مدّة قصيرة ، كإشغال دار الغير ساعة أو أقلّ.

(٢) خبر قوله : «كونه».

(٣) يعني : يشكل الضمان الذي ذهب إليه المشهور. وغرض المصنّف المناقشة في الدليلين المتقدّمين. وحاصل الاشكال على الأوّل أمران :

أحدهما : أنّ الموصول في «ما أخذت» هو المال ، ولم يحرز صدق «المال» على المنافع حتى تندرج في الضمان اليديّ. فيحتمل اختصاصه بالأعيان المتموّلة ، ويكفي في شبهة شمول المال للمنافع كلام ابن الأثير المنقول في اللسان : «المال في الأصل ما يملك من الذهب والفضّة ، ثم أطلق على كلّ ما يقتني ويملك من الأعيان ، وأكثر ما يطلق المال عند العرب على الإبل ، لأنّها كانت أكثر أموالهم» (١) لظهور قوله : «من الأعيان» في عدم ماليّة المنافع والحقوق.

وعليه فالمنافع خارجة عن حديث «على اليد» موضوعا ، ولا بدّ من التماس دليل آخر على ضمانها.

ثانيهما : أنّ مجرّد صدق «المال» على المنفعة لا يكفي في الضمان ما لم تندرج تحت

__________________

(١) لسان العرب ، ج ١١ ، ص ٦٣٦.

٢٥٥

.................................................................................................

______________________________________________________

عموم قاعدة «على اليد» والمفروض عدم اندارجها تحته ، لأنّ صلة الموصول في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما أخذت» لا تشمل المنافع ، لظهوره في كون المأخوذ باليد قابلا ـ بنفسه ـ للرّدّ والأداء ، ولا يكون ذلك إلّا عينا ، فإنّها تؤخذ وتردّ. بخلاف المنفعة ، لكونها حيثيّة قائمة بالعين ، وليست بنفسها قابلة للأخذ والرّدّ ، هذا.

فإن قلت : قد تقدّم في مسألتي الإجارة وبيع السّلم تحقق قبض المنفعة بقبض العين ، ومعه لا وجه لمنع شمول الصلة ـ وهي «أخذت» ـ للمنفعة ، ودعوى اختصاصها بالأعيان. فإمّا أن يقال : بصدق الأخذ على المنفعة بتبع وضع اليد على العين ، ومقتضاه دلالة الحديث على ضمان المنافع حتى الفائتة منها. وإمّا أن يقال : بأنّ ما يقبل الأخذ والقبض هو خصوص العين ، ومقتضاه الإشكال في المسألتين المتقدّمتين ، لأنّ الكلّ من باب واحد ، هذا.

قلت : إنّ المنفعة تحصل في اليد وتقبض بقبض العين ، ولذا يصحّ وقوعها ثمنا في بيع السّلم ، ويتحقّق قبضها بتسليم العين ذات المنفعة ، ولكن لا يصدق «أخذ المنفعة» عند وضع اليد على العين ، فالأخذ أضيق مفهوما من القبض ، لأعمّيّته ، لصدقه على كلّ من المقبوض استقلالا ، والمقبوض تبعا. بخلاف الأخذ الظاهر في المأخوذ بالأصالة. وبهذا ظهر الفرق بين المسألتين وبين المنافع الفائتة ، لعدم صدق «الأخذ» عليها حتى تندرج في حديث «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي».

فإن قيل : لا وجه لاختصاص صلة الموصول ـ وهي : أخذت ـ بالأعيان التي تتناولها الجارحة الخاصّة ، وإلّا يلزم عدم شمول الحديث لوضع اليد على الأموال غير المنقولة كالبساتين والدور والدكاكين ، مع أنّه لا ريب في تحقق وضع اليد بمجرّد الاستيلاء عليها. وهذا يكشف عن عدم إرادة معنى «الأخذ» حقيقة ، وإنّما هو كناية عن مطلق الاستيلاء. وبناء على هذا المعنى الكنائي نقول بصدق الاستيلاء على كلّ من العين والمنفعة ، ويتعيّن حينئذ الحكم بضمان المنافع الفائتة كالمستوفاة ، هذا.

٢٥٦

حقيقة (١) ـ بأنّ (٢) مجرّد ذلك (٣) لا يكفي في تحقّق الضمان ، إلّا (٤) أن يندرج في عموم

______________________________________________________

قلنا : لا ريب في صدق «الأخذ» على الاستيلاء على الأعيان غير المنقولة كالدار والبستان ، لكنّه لا يوجب شموله للمنفعة أيضا ، وذلك فإنّ الأخذ وإن كان كناية عن الاستيلاء ، إلّا أنّ الاستيلاء الحقيقيّ على شي‌ء يقتضي أن يكون المستولي عليه موجودا حقيقيّا قارّا ، سواء أكان الاستيلاء عليه باليد كالمفتاح والكتاب ونحوهما ممّا يتناول بالجارحة الخاصة ، أم بالتصرّف فيه بالجلوس والمشي وسائر أنحاء التقلّب.

وأمّا المنفعة التي لا وجود لها بالفعل حين الاستيلاء على العين ـ بل إمّا توجد تدريجا على تقدير الاستيفاء ، وإمّا لا توجد أصلا على تقدير الفوات ـ فلا وجه للتكلّف في صدق «الاستيلاء» عليها بمجرّد الاستيلاء على العين ، لما عرفت من أنّها معدومة فعلا ، فكيف يستولي عليها؟.

والحاصل : أنّ حديث «على اليد» لا يشمل المنافع الفائتة ، لمنع صدق الموصول عليها ، فالاستدلال به على ضمانها مشكل. وستأتي المناقشة في الاستدلال بقاعدة الاحترام.

(١) هذا إشارة إلى أوّل الإشكالين على الاستدلال بقاعدة اليد. ومقصوده بقوله : «حقيقة» أنّ المناط في شمول القاعدة للمنافع هو صدق «المال» بمعناه الحقيقيّ عليها ، وإلّا فلا عبرة بعدّها من الأموال بالمسامحة والعناية كما هو واضح.

(٢) هذا هو الإشكال الثاني على الاستدلال بقاعدة اليد ، وقد عرفته آنفا.

(٣) أي : مجرّد كون المنافع أموالا حقيقة لا يكفي في ضمان المنافع الفائتة.

(٤) متعلّق بقوله : «لا يكفي» وهذا تمهيد لبيان عدم شمول الصّلة للمنافع ، لعدم قابليّتها للأخذ.

٢٥٧

«على اليد ما أخذت». ولا إشكال (١) في عدم شمول صلة الموصول للمنافع. وحصولها (٢) في اليد بقبض العين لا يوجب صدق الأخذ (*).

______________________________________________________

(١) يعني : والحال أنّه لا إشكال في عدم شمول «أخذت» للمنافع ، لما عرفت آنفا.

(٢) مبتدأ خبره «لا يوجب» وغرض المصنّف من هذا بيان الفارق بين المنافع الفائتة وبين مسألتي الإجارة وثمن بيع السّلم ، بصدق قبض المنفعة فيهما بقبض العين ، دون المقام ، حيث إنّ دليل الضمان هو حديث اليد المشتمل على مادّة «الأخذ» وهي غير صادقة على المنفعة. وقد تقدم توضيح المطلب بقولنا : «فان قلت .. قلت» فلاحظ.

__________________

(*) لم يظهر الفرق بين قبض المنافع في الإجارة وأخذها هنا ، لأنّ الأخذ والحصول في اليد المعبّر عنه بالقبض متقاربان ، بل هما بمعنى ، ففي اللسان : «أخذت الشي‌ء آخذه أخذا : تناولته» (١) وقال في القبض : «قبضت الشي‌ء قبضا : أخذته .. والقبض : التناول للشي‌ء بيدك ملامسة» (٢).

وعليه فلم يتّضح الفارق بين القبض والأخذ حتى يصدق الأوّل على المنفعة ولو بتبع الاستيلاء على العين ، دون الثاني.

وتوجيه المطلب بما في حاشية سيّدنا الأستاد قدس‌سره من «أنّ الأخذ إذا أخذ موضوعا لحكم شرعي لا يكفي في تحقّقه القبض بالتبع تشبّثا بإطلاق : ما أخذت» (٣) لا يخلو عن غموض أيضا إذا لو كان القبض التبعي مسامحيّا أشكل صدق القبض في بابي الإجارة والسّلم أيضا ، لعدم العبرة بالمسامحات العرفية في مقام التطبيق. ولو كان القبض التبعيّ حقيقيّا لزم صدقه على المنفعة في المقام ، بعد ترادف الأخذ والقبض لغة ، فالفرق بينهما غير متّضح ، هذا.

__________________

(١) لسان العرب ، ج ٣ ، ص ٤٧٢.

(٢) لسان العرب ، ج ٧ ، ص ٢١٤.

(٣) نهج الفقاهة ، ص ١٣٦.

٢٥٨

ودعوى (١) «أنّه كناية عن مطلق (٢) الاستيلاء الحاصل في المنافع بقبض الأعيان» مشكلة.

وأمّا احترام مال المسلم فإنّما (٣) يقتضي عدم حلّ التصرّف فيه وإتلافه بلا عوض ، وإنّما يتحقّق ذلك (٤) في الاستيفاء.

______________________________________________________

(١) غرض المدّعي إثبات شمول الحديث للمنفعة مع الغضّ عن صدق قبضها بقبض العين ، بل لأنّ «الأخذ» هنا بمعنى الاستيلاء كناية ، ومن المعلوم صدق الاستيلاء عرفا على كلّ من العين والمنفعة.

وقد منع المصنّف قدس‌سره هذه الدعوى بقوله : «مشكلة» وتقدم توضيحهما بقولنا : «فان قيل .. قلنا».

(٢) هذه الكلمة قرينة على أنّ «الأخذ» وإن كان بمعنى الاستيلاء في الجملة حتى يتحقّق ذلك بالنسبة إلى ما لا ينقل من الأموال ، إلّا أنّه لا موجب للتوسعة في معناه بجعل الأخذ كناية عن مطلق الاستيلاء كي تندرج المنافع في الحديث ، لكون هذا المفهوم العامّ خلاف الظاهر ، فلا يصار إليه بلا قرينة.

(٣) هذا إشكال المصنّف على الاستدلال بقاعدة الاحترام لضمان المنافع الفائتة ، وحاصل الاشكال : أنّ ظاهر القاعدة ضمان المنافع المستوفاة ، لأنّ الإتلاف عبارة عن إعدام الموجود ، وهو لا يتحقّق إلّا في استيفاء المنافع وإتلاف الأعيان ، فيقال : إنّ حرمة مال المسلم تقتضي ضمان من أتلفه لئلّا يذهب هدرا ، كما أنّ دمه لا يذهب هدرا ، ومن المعلوم أجنبيّة هذا المعنى عن ضمان المنافع الفائتة ، فإنّها تالفة لا متلفة حتى يلزم تداركها ببدلها.

وقد تحصّل : أنّه لا مقتضي للقول المشهور من ضمان المنفعة الفائتة في المبيع بالبيع الفاسد ، لما عرفت من الخدشة في الدليلين ، وهما قاعدتا اليد والاحترام.

(٤) أي : إنّما يتحقّق التصرّف فيه وإتلافه فيما إذا استوفى المنفعة ، وهذا خارج عن محلّ البحث وهو المنفعة الفائتة.

٢٥٩

فالحكم (١) بعدم الضمان مطلقا (٢) كما عن الإيضاح ، أو مع علم البائع بالفساد ، كما عن بعض آخر (٣) موافق (٤) للأصل (٥) السليم.

مضافا إلى : أنّه قد يدّعى (٦) شمول قاعدة «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن

______________________________________________________

(١) غرضه قدس‌سره ـ بعد إبطال المقتضي للضمان ـ إبداء المقتضي لعدم الضمان وفاقا لفخر المحققين ، وهذا المقتضي لنفي الضمان أمور ثلاثة :

أوّلها : الأصل السليم عن الحاكم والمعارض.

وثانيها : قاعدة «ما لا يضمن».

وثالثها : أخبار بيع الجارية المسروقة التي ضمّنت المشتري خصوص المنافع المستوفاة ، وسيأتي بيانها.

(٢) أي : مع علم البائع بالفساد وجهله به ، فالإطلاق في قبال تفصيل بعض بين صورتي العلم والجهل.

(٣) لعلّ مراده من البعض هو العلّامة في القواعد ، حيث استشكل في ضمان المنافع الفائتة. فقال : «ولا يملك المشتري ما يقبضه بالبيع الفاسد ، ويضمنه وما يتجدّد من منافعه ، الأعيان أو غيرها ، مع جهل البائع أو علمه مع الاستيفاء ، وبدونه إشكال» (١) بناء على ما فهمه المحقّق الكركيّ من العبارة من جعل مورد الاشكال علم البائع بالفساد وعدم استيفاء المشتري للمنفعة ، فراجع.

(٤) خبر قوله : «فالحكم».

(٥) وهو أصالة البراءة عن الضمان عند فوت المنفعة بيد المشتري ، ولا معارض لهذا الأصل من دليل اجتهاديّ أو أصل عمليّ.

(٦) هذا وجه آخر استدل به بعضهم على عدم ضمان المنفعة الفائتة في المقبوض بالبيع الفاسد ، وهو مبنيّ على اختصاص قاعدتي «ما يضمن وما لا يضمن» بمصبّ العقد ومورده ، على ما سبق من المصنّف قدس‌سره التنبيه عليه ، وفرّع عليه عدم ضمان العين

__________________

(١) قواعد الأحكام ، ص ٨١ ، السطر ٢٧ (الطبعة الحجرية).

٢٦٠