هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٣

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٠

الثاني من الأمور المتفرّعة على عدم تملّك المقبوض بالبيع الفاسد : وجوب ردّه فورا إلى المالك (١). والظاهر أنّه ممّا لا خلاف فيه على تقدير عدم جواز التصرّف فيه ، كما يلوح (٢) من مجمع الفائدة.

______________________________________________________

وجوب ردّ المبيع فاسدا إلى مالكه فورا

(١) قد تقدّم في أوّل مسألة المقبوض بالعقد الفاسد (ص ٦) أنّه موضوع لأحكام تكليفيّة ووضعيّة ، وقد كان الكلام إلى هنا في عدم التملّك ، وضمان العين لو تلفت بيد الآخذ. وكان المناسب اتباعه ببحث ضمان المنافع المستوفاة والفائتة ، لكنّ المصنّف قدس‌سره قدّم البحث عن حكم تكليفيّ متعلّق بنفس المقبوض بالبيع الفاسد ، وهو وجوب ردّه فورا إلى المالك.

واستدلّ عليه بوجوه ثلاثة ، وهي الإجماع المنقول في مجمع الفائدة ، والتوقيع الشريف ، والنبويّ ، وسيأتي بيانها.

ولا يخفى أنّ محلّ الكلام وموضوع البحث عن وجوب ردّ المقبوض بالعقد الفاسد إلى مالكه فورا هو القول بعدم جواز التصرّف فيه ، وكون القبض وفاء بالعقد الفاسد. فلو قيل بحصول إذن جديد ـ بعد العلم بالفساد على ما سبق تفصيله في أوّل المسألة وفي ثامن تنبيهات المعاطاة ـ أو قلنا ببقاء الاذن المقارن للعقد وعدم ارتفاعه بفساد العقد لم يبق موضوع لوجوب ردّ المقبوض بالمعاملة الباطلة إلى مالكه فورا كما لا يخفى.

(٢) يعني : يلوح من مجمع الفائدة عدم الخلاف في حرمة التصرّف في المقبوض بالبيع الفاسد ووجوب ردّه فورا إلى مالكه ، قال المحقّق الأردبيلي قدس‌سره : «ومع علمه بالفساد ـ وبعدم جواز تصرّفه وحفظه ووجوب ردّه إلى مالكه معجّلا ـ كالمغصوب ، وذلك قد يكون بعلمه بطلب من المالك على تقدير الفساد ، وعدم رضاه

٢٠١

بل (١) صرّح في التذكرة ـ كما عن جامع المقاصد (٢) ـ «أنّ مئونة الرّدّ على المشتري». وإطلاقه (٣) يشمل ما لو كان في ردّه مئونة كثيرة ،

______________________________________________________

بكونه عنده ، وفتوى العلماء له بذلك ..» (١).

والمراد بعدم الخلاف في المسألة قوله : «وفتوى العلماء». ولكن مورد كلامه قدس‌سره علم المشتري بفساد العقد وبحرمة التصرّف بل بحرمة إمساكه ، وأنّ المالك لو اطّلع على فساد العقد لطالب المشتري بالمبيع ولم يرض بكونه عنده. وهذا أخصّ من محلّ البحث وهو عدم اختصاص حرمة التصرّف ـ وما يترتّب عليها من وجوب الرّدّ فورا ـ بصورة علم المشتري بالفساد ، كما أنّ ضمان المقبوض بالبيع الفاسد لا يختصّ بصورة الجهل بالبطلان على ما سبق تصريح المصنّف به في الأمر الأوّل.

(١) غرضه الترقّي والإضراب عن بناء وجوب الرّدّ فورا على حرمة التصرّف إلى أنّ وجوب الرّدّ كأنّه من المسلّمات ، بشهادة جزم العلّامة به ، وبنى عليه وجوب مئونته لو توقّف الرّدّ عليها. قال قدس‌سره : «إذا اشترى شراء فاسدا وجب عليه ردّه على مالكه ، لعدم خروجه عنه بالبيع ، وعليه مئونة الرّدّ كالمغصوب» (٢).

(٢) الأولى إضافة «أيضا» إليه ، لأنّ غرضه قدس‌سره أنّ المصرّح بكون مئونة الرّدّ على المشتري ليس هو العلّامة خاصّة ، بل المحقّق الكركي صرّح به أيضا. والأمر سهل. قال المحقق الثاني قدس‌سره : «فرع : على المشتري مئونة ردّ المبيع فاسدا إن كان له مئونة كالمغصوب ، ولا يرجع بالنفقة إلّا إذا كان جاهلا بالفساد ، إذ لا يعدّ متبرّعا بنفقته ، إذ لم ينفق إلّا بناء على أنّه ماله ، فإذا فات ذلك رجع كلّ إلى حقّه ، وجعل في التذكرة البائع غارّا» (٣).

(٣) يعني : وإطلاق وجوب الرّدّ ـ المنقول عن التذكرة ـ يقتضي إيجاب مقدّماته التي منها بذل المال سواء أكان قليلا أم كثيرا ، إلّا أن تكون كثرة مئونة الرّدّ ضررا

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان ، ج ٨ ، ص ١٩٢.

(٢) تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٤٩٥.

(٣) جامع المقاصد ، ج ٤ ، ص ٤٣٥.

٢٠٢

إلّا أن يقيّد (١) بغيرها (٢) بأدلّة نفي الضرر (*).

______________________________________________________

على المشتري ، فينفى وجوب بذل المال الكثير عنه. بل مقتضى حكومة قاعدة الضرر نفي وجوب بذل المال وإن كان يسيرا ، إلّا إذا كان بمثابة لا يصدق عليه الضرر.

(١) التعبير بالتقييد دون الحكومة ـ مع أنّ مبناه حكومة دليل نفي الضرر على أدلّة الأحكام الأوليّة ـ مسامحة ، ولعلّه لأجل أنّ الحكومة قد تخصّص العامّ وتقيّد المطلق ، وقد تعمّم ، فالتعبير بالتقييد مبنيّ على ملاحظة نتيجة الجمع بين الدليلين.

(٢) أي : بغير المئونة الكثيرة ، وهذا الغير هو المئونة المتعارفة أو ما دونها.

__________________

(*) لم يظهر وجه لكون المئونة على القابض ، لأنّ الرّدّ لا يتوقف غالبا على بذل مال حتى يقال : إنّ الزائد على ما يقتضيه طبع الرّدّ من بذل المال على المالك ، بل تمامه يكون على المالك ، لقاعدة نفي الضرر. ولو كان الرّدّ بذاته وطبعه متوقّفا على مئونة لم تكن منفكّة عن مصاديقه ، هذا.

مضافا إلى : أنّ حرمة الإمساك لا تستلزم وجوب الرّدّ ، لعدم الملازمة بين حرمة الضدّ ووجوب ضدّه. وكذا وجوب نقيض الإمساك لا يدلّ على وجوب الرّدّ ، لما قرّر في الأصول.

مع أنّه على القول به ـ لرفع اليد عن المبنى الأصولي ـ يمكن القول بعدم وجوب الرّدّ أيضا ، لأنّه متقوّم برفع يد الدافع وإثبات يد القابض ، والرّفع مقدّم على الإثبات دائما ، فيتصف هو بالوجوب ، دون ما تأخّر عنه.

لكن فيه ما لا يخفى ، لأنّ الرّدّ ليس مركّبا من الرّفع والإثبات ، بل هو عبارة عن الإيصال إلى المالك ، والإثبات منتزع عنه. وأمّا مراد الشيخ الأعظم قدس‌سره من الاستدلال على وجوب الرّدّ بحرمة الإمساك فليس مبنيّا على اقتضاء حرمة الضّدّ لوجوب ضدّه ، بل على فهم العرف من مثل قوله : «يحرم عليك إمساك مال الناس» لزوم الرّدّ إلى المالك ، سيّما بملاحظة تعليل لزوم ردّ الأمانات إلى أهلها بأنّه «لا يحل دم امرء مسلم ولا ماله إلّا بطيبة نفسه».

٢٠٣

.................................................................................................

__________________

إلّا أن يدّعى : عدم ملازمة وجوب ردّ الأمانات إلى أصحابها للإيصال إليهم ، وأنّ المراد رفع اليد والتخلية بينها وبين صاحبها. لكنّه خلاف ظاهر الأدلّة.

وكيف كان لا يكون وجوب الرّدّ مبنيّا على اقتضاء حرمة الضّد لوجوب ضدّه ، فتدبّر.

ويمكن أن يستدلّ على وجوب الرّدّ بروايات متفرّقة في أبواب اللقطة والتجارة والجهاد والوديعة وغيرها ، فلاحظ.

ثمّ إنّ للسيد قدس‌سره تفصيلا ، وهو ما لفظه : «ثمّ على فرض كون الرّدّ واجبا وكون مئونته على القابض إنّما يتمّ فيما إذا كان هو الناقل له عن مكانه. وأمّا إذا كان في مكان القبض وقد انتقل البائع إلى بلد آخر فلا دليل على وجوب نقله إلى ذلك البلد وكون مئونته على القابض ، فتدبر» (١).

واختار المحقّق النائيني قدس‌سره هذا التفصيل بما حاصله : «أنّه يجب الرّدّ إذا نقل القابض المقبوض بالعقد الفاسد إلى بلد آخر مع كون المالك في بلد القبض. وأمّا إذا كان المقبوض في بلد القبض وانتقل المالك إلى مكان آخر لم يجب نقله إليه ، بل يردّه إلى وكيله أو الحاكم ، إذ لا دليل على لزوم الدفع إلى شخص المالك في هذه الصورة» (٢).

وهذا موافق لما فصّله السيّد ، إلّا أنّه لم يتعرض لوجوب ردّ المال في بلد القبض إلى وكيل المالك أو الحاكم ، وصرّح به الميرزا قدس‌سره.

وفيه : أنّ إطلاق دليل وجوب الرّدّ كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «على اليد .. إلخ» بعد البناء على اعتباره ـ كما هو التحقيق على ما تقدّم ـ كاف في المطلوب ، لأنّ قضيّة إطلاق وجوب الرّدّ إلى المالك عدم الفرق بين كون المقبوض والمالك معا في بلد القبض وبين تفرّقهما ، بأن كان المقبوض في مكان القبض والمالك في بلد آخر ، أو كان المالك في مكان القبض والمال منقولا إلى محلّ آخر. ففي جميع الصور يجب ردّه الى المالك.

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٩٥.

(٢) منية الطالب ، ج ١ ، ص ١٣٢.

٢٠٤

ويدلّ عليه (١) : أنّ الإمساك آنا ما تصرّف في مال الغير بغير إذنه ، فلا يجوز ، لقوله عجّل الله تعالى فرجه : «لا يجوز لأحد أن يتصرّف في مال غيره

______________________________________________________

(١) أي : على وجوب الرّدّ فورا ، وهذا إشارة إلى دليل ثان على المدّعى. وحاصل الاستدلال بهذا التوقيع المبارك على فوريّة وجوب الرّدّ ـ بناء على كون الإمساك تصرّفا ـ أنّ الإمساك آنا ما مصداق للتصرّف المحرّم ، لقوله عليه‌السلام : «لا يجوز لأحد ..» فيجب التخلّص عن هذا الحرام بردّه فورا إلى مالكه.

__________________

نعم إذا استلزم الرّدّ الى المالك ضررا أو حرجا سقط أصل وجوب الرّدّ على فرض وجوده ، ويبقى وجوب تمكين المالك من ماله ورفع اليد عنه.

والحاصل : أنّ الواجب هو الرّدّ إلى المالك إن لم يكن فيه ضرر أو حرج. وأمّا الرّدّ في خصوص مكان القبض لخصوصيّة فيه من كثرة الرغبات ونحوها فلا وجه له ، إذ لا دليل عليه ، وإنّما الدليل دلّ على وجوب الرّدّ إلى المالك سواء أكان في بلد القبض أم لا.

وبالجملة : فالرّدّ واجب مطلقا وفي جميع الصور. إلّا إذا لزم منه الضرر أو الحرج ، فيرفع بقاعدتهما ، وإن كان المال في مكان القبض والمالك فيه أيضا. وإن لم يلزم منه أحد هذين المحذورين وجب الرّدّ إلى المالك وإن كان المالك في مكان ثالث ، أي : لا في محلّ القبض ولا في المكان الذي نقل إليه المال ، كما إذا كان محلّ القبض النجف الأشرف ، والمال نقل إلى كربلاء المقدّسة ، والمالك سافر إلى بغداد.

ولو كان وجه التفصيل لزوم الضرر من الرّدّ في غير مكان القبض فلا بدّ من التفصيل بنحو آخر ، وهو : أنّ الرّدّ إن استلزم الضرر ارتفع وجوبه سواء أكان الرّدّ في محلّ القبض أم غيره ، وسواء أكان المالك في ذلك المحلّ أم غيره. وإن لم يستلزم الضرر وجب الرّدّ من غير فرق فيه بين محلّ الرّدّ وغيره ، وكون المالك في مكان ثالث وغيره ، كما لا يخفى.

٢٠٥

إلّا بإذنه» (١).

ولو نوقش (١) في كون الإمساك تصرّفا كفى عموم (٢) قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يحلّ مال امرء مسلم لأخيه إلّا عن طيب نفسه» (٢) حيث يدلّ على تحريم جميع الأفعال المتعلّقة به ، التي منها كونه في يده.

______________________________________________________

(١) بأن يقال : إنّ «التصرّف» مأخوذ من الصّرف ، فيراد به التقليب والتقلّب ، وهما مفقودان في الإمساك ، فلا يصدق التصرّف على مجرّد الإمساك حتى يكون منهيّا عنه ، ويجب التخلص عنه بالرّد إلى المالك.

(٢) هذا إشارة إلى دليل ثالث على وجوب الرّدّ فورا إلى المالك ، وهو النبويّ الذي رواه زيد الشحّام عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حكاية خطبته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجة الوداع ، وفيه : «قال : اللهم اشهد ، ألا من كان عنده أمانة فليؤدّها إلى من ائتمنه عليها ، فإنّه لا يحلّ دم امرئ مسلم ولا ماله إلّا بطيبة نفسه ..» الحديث.

ورواه صاحب الوسائل (٣) في مكان المصلّي بما يقرب منه ، ولكنّه ليس فيه لفظ «دم».

وكيف كان فتقريب دلالة الحديث على وجوب الرّدّ فورا : أنّ الحرمة المستفادة من «لا يحلّ» منسوبة إلى الذات ـ وهو المال ـ ولا بدّ من تقدير الفعل المناسب ، كما في إسناد الحرمة إلى سائر الأعيان من الخمر والدم والميتة ونحوها. وحيث إنّه لا قرينة تقتضي تقدير فعل خاصّ لزم تحريم جميع الأفعال والشؤون المتعلّقة بالمال ، التي منها إمساكه وجعله في يده ، فإنّ حذف المتعلق يدلّ على العموم.

وعليه فلا وجه لدعوى : «أن حرمة المال تكليفا تقتضي تقدير فعل مناسب

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ٦ ، ص ٣٧٧ ، الباب ٣ من أبواب الأنفال ، الحديث ٦ ، وفيه «فلا يحل» بدل «فلا يجوز».

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٩ ، ص ٣ ، الباب ١ من أبواب قصاص النفس ، الحديث ٣.

(٣) وسائل الشيعة ، ج ٣ ، ص ٤٢٥ ، الباب ٣ من أبواب مكان المصلي ، الحديث ٣.

٢٠٦

وأمّا توهّم أنّ هذا (١) بإذنه ، حيث إنّه دفعه باختياره (٢) فمندفع (٣) بأنّه إنّما ملّكه إيّاه عوضا (*)

______________________________________________________

له وهو التصرّف أو الانتفاع ، وأمّا مجرّد الإمساك فيشكّ في صدق التصرّف عليه ، فيكون التمسّك بهذا النبويّ من التشبّث بالدليل في الشبهة الموضوعيّة». إذ في هذه الدعوى : أنّ حذف المتعلّق يقتضي حرمة كلّ ما يتعلّق بالمال ، ولا وجه لاختصاص المتعلّق بالانتفاع والتصرّف حتى يشك في صدقهما على الإمساك.

خصوصا بملاحظة ورود هذه الجملة تعليلا لوجوب ردّ الأمانات ، فإنّ التعليل يصير نصّا في المورد ، فكيف يدّعى تقدير التصرّف أو الانتفاع؟ إذ لازمه أجنبيّة هذه الكبرى الكليّة عن المورد وهو ردّ الأمانة ، ومن المعلوم أنّ التخلّف عن ردّها إمّا بالتصرّف فيها وإمّا بمجرّد الإمساك ، وكلاهما منهيّ عنه. ومجرّد كون غالب فائدة الأموال التصرّف فيها والانتفاع بها لا يوجب اختصاص العموم ـ المدلول عليه بحذف المتعلّق ـ بهما.

وعليه فقرينيّة حذف المتعلّق على العموم باقية بحالها.

(١) أي : الإمساك ، حاصله : أنّه قد يتوهّم عدم حرمة الإمساك وإن كان تصرّفا ، حيث إنّ المالك قد أذن له بالإمساك حين دفع المبيع إليه ، فيكون الإمساك مأذونا فيه وجائزا.

لكن هذا التوهّم مندفع بأنّ المالك قد دفع المبيع إلى المشتري باعتقاد أنّه ملّكه بإزاء الثمن الذي دفعه المشتري إليه ، والمفروض عدم سلامة العوض له شرعا ، لفساد المعاوضة وبقاء العوضين على ملك مالكيهما.

(٢) الضمائر البارزة في «إذنه ، إنّه باختياره ، بأنه» والمستتر في «دفعه ، ملّكه» راجعة إلى المالك المفهوم من السياق ومن قوله : «امرء مسلم» والضميران البارزان فيهما راجعان إلى المال.

(٣) جواب «وأمّا توهّم» ودفع له ، وقد تقدّم توضيحه آنفا.

__________________

(*) لا يخفى أنّ هذا يختصّ بالمقبوض في العقود المعاوضيّة ، ومحلّ الكلام

٢٠٧

فإذا انتفت (١) صفة العوضيّة باعتبار (٢) عدم سلامة العوض له شرعا ، والمفروض (٣) أنّ كونه على وجه الملكيّة المجّانيّة ممّا لم ينشئها المالك (٤).

______________________________________________________

(١) لم يظهر جواب لهذا الشرط في العبارة ، والتقدير «انتفى الاذن» ونحوه.

(٢) متعلّق ب «انتفت» وهذا وجه انتفاء صفة العوضيّة ، إذ بفساد العقد لا يسلم العوض للبائع ، فينتفي إذنه للمشتري بالتصرّف في المبيع.

(٣) غرضه قدس‌سره نفي الأسباب التي يجوز لقابض المال ـ كالمشتري ـ التصرّف فيه. فما أنشأه البائع ـ وهو التمليك بالعوض ـ لم يقع ، لفرض فساد البيع. والملكيّة المجّانية بعنوان الهبة لم ينشئها ، فلا معنى لأن يتصرّف هذا المشتري في المبيع بزعم كونه هبة بلا عوض. وكذلك لم ينشئ البائع عنوان الوديعة حتى يكون المال بيد المشتري أمانة مالكية.

ولو فرض إنشاء أحد هذين بعد العلم بفساد البيع كان خارجا عن محلّ البحث أعني به ترتّب قبض المبيع وإقباض الثمن على ذلك العقد الفاسد وفاء به ، واندرج في مورد التراضي الجديد.

(٤) حتى يكون الاذن في الإمساك باقيا مع فساد البيع.

__________________

أعمّ ، فالصواب في الجواب أن يقال : إنّ الإقباض في العقود التمليكيّة المعاوضيّة والمجّانيّة لمّا كان بعنوان الوفاء بالعقد ، وكون المقبوض ملكا للقابض لم يكن معنى لإذن الدافع ، لأنّه باعتقاده مملوك للقابض ، ولا محصّل لإذن الغير في تصرّف المالك في ماله ، لعدم تسلطه على ذلك.

وأمّا العقود الاستيمانية فالإذن فيها بالتسليط إنّما كان وفاء بمضمون العقد ، ومع فسادها ينتفي الاذن.

نعم قد يحرز طيب النفس بالتصرّف في العقود التمليكيّة المجّانيّة كالهبة الفاسدة ، فعلى فرض حصوله يجوز التصرّف ، لكن لا بدّ من إحرازه ، ولا يكفي احتماله. وعلى تقدير عدمه لا يجوز التصرّف فيه.

٢٠٨

وكونه (١) مالا للمالك وأمانة في يده (٢) أيضا ممّا لم يؤذن فيه ، ولو أذن له فهو استيداع جديد (٣). كما أنّه لو ملّكه مجّانا كانت هبة جديدة. ولكنّ (٤) الذي يظهر من المبسوط (١) عدم الإثم في إمساكه (٥) ، وكذا السرائر ناسبا له إلى الأصحاب (٦).

______________________________________________________

(١) معطوف على «كونه» وغرضه سدّ باب احتمال أن يكون المبيع أمانة مالكيّة بيد المشتري.

(٢) حتى يندرج هذا البيع الفاسد في الأمانات المالكية ، ويجوز الإمساك من هذه الجهة ، كما يجوز إمساك ملك الغير في باب الوديعة والعارية ونحوهما.

والوجه في عدم اندراجه في الأمانات واضح ، لأنّ البائع أقدم على تمليك ماله بعوض ، لا على جعله أمانة عند غيره.

(٣) في قبال البيع الفاسد القديم ، والمفروض أنّ هذا الاستيداع المالكيّ لم يتحقّق ، واحتماله لا يكفي في صيرورته أمانة ، بل إذا شكّ فيه اقتضى الأصل عدمه.

(٤) هذا تصريح بما فهم من التقييد في أوّل هذا الأمر الثاني بقوله : «على تقدير عدم جواز التصرّف فيه» لظهوره في وجود قائل بجواز الإمساك أو بجواز التصرّف لو كان الإمساك تصرّفا.

(٥) قال شيخ الطائفة قدس‌سره في المقبوض بالبيع الفاسد : «ويجب عليه ردّه وردّ ما كان من نمائه المنفصل منه ، لأنّ ملك الأوّل لم يزل عنه ، فالتصرّف فيه لا يصحّ ، ويلزمه ردّه على البائع لأنّه ملكه. ولا إثم عليه ، لأنّه قبضه بإذن مالكه» وهذه الجملة الأخيرة ظاهرة في عدم فورية وجوب الرّدّ ، فيجوز للمشتري إمساك المبيع.

(٦) قال ابن إدريس قدس‌سره في المقبوض بالبيع الفاسد : «فهو عند أصحابنا بمنزلة الشي‌ء المغصوب ، إلّا في ارتفاع الإثم بإمساكه» (٢) بناء على أن يكون عدم الإثم في

__________________

(١) المبسوط في فقه الإمامية ، ج ٢ ، ص ١٤٩.

(٢) السرائر الحاوي ، ج ٢ ، ص ٣٢٦.

٢٠٩

وهو (١) ضعيف. والنسبة (٢) غير ثابتة. ولا يبعد إرادة صورة الجهل (٣) ، لأنّه لا يعاقب (٤) (*).

______________________________________________________

الإمساك معقدا لإجماع الأصحاب كإجماعهم على لحوق حكم المغصوب بالمبيع بالبيع الفاسد.

(١) أي : وهذا القول الثاني ـ وهو عدم الإثم الكاشف عن عدم الحرمة ـ ضعيف ، لما تقدّم من دلالة النبويّ على حرمة كلّ فعل يتعلّق بمال الغير بدون إذنه ، ولو لم يصدق التصرّف عليه.

(٢) يعني : ما نسبه ابن إدريس إلى الأصحاب من عدم الإثم في الإمساك غير ثابت ، لاحتمال رجوع الاتّفاق المدلول عليه بقوله : «عند أصحابنا» إلى المستثنى منه خاصّة ، بأن يراد : أنّ كون البيع الفاسد بمنزلة الغصب مجمع عليه من جميع الجهات إلّا جهة الإثم في إمساكه ، فإنّها مختلف فيها. وعليه لا يكون جواز الإمساك مجمعا عليه ، فلا مانع من القول بالحرمة عند مساعدة الدليل.

(٣) أي : صورة جهل القابض بفساد المعاملة.

(٤) ومن المعلوم أنّ عدم العقاب يكشف عن عدم الإثم ، وذلك يلائم حال جهل القابض بفساد المعاملة. ويمكن أن يكون عدم الإثم لتوهّم الإذن المالكيّ كما عليه جماعة. ولعلّ هذا الاحتمال أقرب من الحمل على صورة الجهل ، إذ غايته عدم تنجّز التكليف عليه لا عدم حرمته واقعا ، والمدّعى هو حرمة الإمساك واقعا سواء تنجّز على المشتري بإحراز الفساد أم لم يتنجّز عليه.

هذا تمام الكلام في الأمر الثاني. وسيأتي الكلام في ضمان منافع المقبوض بالبيع الفاسد.

__________________

(*) قد ذكر السيد قدس‌سره في حاشيته في الرّدّ على المصنّف قدس‌سره ـ القائل بأنّ الإذن مقيّد بالملكية ، وهي غير حاصلة ـ بما حاصله : أنّ الاذن إنّما تكون بالملكيّة الإنشائيّة ،

٢١٠

.................................................................................................

__________________

والمفروض تحقّقها ، وأنّ البائع بنى ـ ولو تشريعا ـ على كون المشتري مالكا ، لا بالملكيّة الشرعيّة التي لم تحصل لفرض فسادها شرعا.

ثمّ أشكل على ذلك بقوله : «فإن قلت : لم يصدر من البائع إلّا التمليك ، وقد صار لغوا في حكم الشرع بالفرض ، فأين الاذن».

وأجاب عنه بما لفظه : «قلت : هذا التمليك له حيثيّتان ، فهو إذن من حيثية وتمليك من أخرى. ولمّا كان التمليك محتاجا شرعا إلى صيغة صحيحة والمفروض عدمها ، فهو غير مؤثّر من هذه الجهة ، لعدم حصول شرطه. وأمّا من الحيثيّة الأخرى فهي غير مشروطة شرعا ، فيجوز العمل به ، فإنّ الإذن مؤثّر في جواز التصرّف ، من غير اشتراط بصيغة خاصّة ، فيشمله عموم ما دلّ على جواز التصرّف مع الاذن وطيب النفس. وإذا جاز التصرّف فلا يجب الرّدّ إلى المالك فضلا عن كونه فوريّا. نعم لو رجع عن إذنه وطيبه وجب الرّدّ إليه فورا ، فتدبّر» (١).

وحاصله : أنّه لا مانع من تأثير التمليك من حيثيّة الاذن في جواز التصرّف ، وعدم تأثيره من حيثيّة أخرى ، فتأثير الاذن في جواز التصرّف لمّا لم يكن مشروطا بشرط حاصل ، لشمول ما دلّ على جواز التصرّف مع الاذن وطيب النفس له.

وفيه : أنّ جواز التصرّف في المقبوض بالعقد الفاسد منوط بأحد أمرين على سبيل منع الخلوّ : إمّا كون ذلك ملكا للقابض ، وإمّا إذن المالك في التصرّف فيه.

أمّا الأوّل فانتفاؤه معلوم بالفرض.

وأمّا الثاني فكذلك ، إذ لم يأذن فيه المالك أصلا. توضيحه : أنّ الأفعال تارة تتعلّق بالعناوين الكليّة كالأفعال الاعتبارية من بيع الكلّي من الحنطة والشعير وغيرهما ، وكالاذن وطيب النفس. وأخرى تتعلّق بالجزئيّات الخارجيّة كالأكل والشرب والنوم والضرب والقيام والقعود وأشباهها.

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٩٥.

٢١١

.................................................................................................

__________________

فإن كان الفعل متعلّقا بالشخص كان اعتقاد الفاعل بانطباق الكلّيّ عليه داعيا ، فإذا ضرب شخصا باعتقاد أنّه كافر ، فتبيّن أنّه مؤمن كان هذا من التخلّف في الداعي ، فإنّ الضرب وقع على المؤمن حقيقة ، والتخلّف إنّما هو في اعتقاد كفره.

وإن كان متعلّقا بالكلّي فلا يسري إلى غير مصداقه وإن اعتقد الفاعل بمصداقيّته له. مثلا إذا أذن المالك بدخول العلماء في داره لم يجز لغير العالم الدخول فيها وإن اعتقد المالك بعالميّته. ومن المعلوم أنّ متعلّق الاذن في قوله (عج) : «لا يحلّ لأحد أن يتصرّف في مال غيره بغير إذنه» هو العنوان الكلّيّ ، وهو التصرّف في مال الغير بغير إذنه وبعنوان أنّه مال الآذن.

وبعبارة أخرى : إذا أحرز عنوان الاذن في التصرّف في ماله جاز التصرّف. وأمّا الاذن في التصرّف في مال غيره فلا معنى له. ومن الواضح أنّ إذن المالك لغيره في التصرّف في ماله بعنوان أنّه ماله مفقود في المقبوض بالعقد الفاسد ، ضرورة أنّ الدافع سلّم المال إلى القابض بعنوان أنّه ماله لا مال الدافع ، ولم يسلّمه إليه بعنوان العارية ونحوها. وحيث إنّ القابض لم يصر مالكا للمقبوض ولا مأذونا من قبل مالكه في التصرّف فيه لم يجز له التصرّف فيه ، لبقائه في المستثنى منه. وهو : «لا يجوز لأحد أن يتصرّف .. إلخ».

والحاصل : أنّ جواز التصرّف للقابض منوط بإحراز إذن المالك للقابض بالتصرّف في المقبوض بما أنّه ملك للدافع ، لا بما أنّه ملك للقابض ، إذ لا معنى لإذن غير المالك بتصرف المالك في ماله ، فما أفاده الشيخ قدس‌سره من عدم جواز تصرف القابض هو الأقوى.

٢١٢

الثالث (١) : لو كان للعين المبتاعة منفعة استوفاها المشتري قبل الرّدّ (٢) كان

______________________________________________________

ضمان منافع المقبوض بالبيع الفاسد

أ : المنفعة المستوفاة

(١) البحث في هذا الأمر عن حكم آخر من أحكام المقبوض بالعقد الفاسد لو كان له منفعة ، وهو ضمانها ، والكلام في مقامين أحدهما في المنافع المستوفاة ، والآخر في المنافع الفائتة. فإذا اشترى دارا صالحة للسكنى فيها ببيع فاسد ، وتسلّمها من البائع فهل يضمن اجرة مثل السكنى فيها كما يضمن قيمة الدار أم لا؟ وهكذا الكلام في سائر الأعيان ذوات النماء والمنفعة لو بيعت بعقد باطل شرعا.

وقدّم قدس‌سره الكلام في المنافع المستوفاة ، وحكم بضمانها وفاقا للمشهور وخلافا لابن حمزة الطوسي كما سيأتي.

(٢) هذا من القيود المحقّقة لموضوع ضمان المنافع نظير قولهم : «ان رزقت ولدا فاختنه» في سوقه لبيان موضوع الحكم ، ولذا يكون مفهومه سالبة بانتفاء الموضوع. وكذا في المقام لوضوح أنّ منافع المبيع بعد ردّه إلى المالك غير مضمونة على المشتري

٢١٣

عليه عوضها (١) على المشهور (٢). بل ظاهر ما تقدّم من السرائر (٣) ـ من كونه بمنزلة المغصوب ـ الاتّفاق على الحكم (٤).

ويدلّ عليه (٥) عموم قوله : «لا يحلّ مال امرء مسلم لأخيه إلّا عن طيب

______________________________________________________

إلّا بالاستيلاء على العين مرة ثانية عدوانا ، فيصير أجنبيا عن حكم المقبوض بالعقد الفاسد ومندرجا في الغصب.

(١) كما إذا اشترى شاة فانتفع بلبنها وصوفها وسائر نماءاتها ، فيجب عليه ردّ عوضها. ولا يخفى أنّ التعبير بالعوض ـ كما في المتن ـ أولى من التعبير بالأجرة الظاهرة في بدل عمل محترم أو منفعة عين كركوب الدابة. وأمّا المنافع الأخرى التي هي أعيان أيضا كثمرة الشجرة المبيعة بالبيع الفاسد ولبن الشاة كذلك ونحوهما فالأولى التعبير عن بدلها بالعوض دون الأجرة.

(٢) كما في مفتاح الكرامة (١).

(٣) تقدّم كلام السرائر في الأمر الثاني ، فراجع (ص ٢٠٩) (٢) وغرض المصنّف الإضراب والعدول عن مجرّد شهرة ضمان عوض المنفعة المستوفاة إلى كون الحكم إجماعيّا ، لاتّحاد المقبوض بالبيع الفاسد مع الغصب في الأحكام ما عدا الإثم في الإمساك.

(٤) وسيجي‌ء في عبارة التذكرة تصريحه باتفاق علمائنا على ضمان المنافع المستوفاة وغيرها (٣).

(٥) أي : يدلّ على ضمان المنافع المستوفاة عموم قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يحلّ»

__________________

(١) مفتاح الكرامة ، ج ٤ ، ص ٧٤٨.

(٢) السرائر الحاوي ، ج ٢ ، ص ٣٢٦.

(٣) تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٣٨١.

٢١٤

نفسه» بناء (١) على صدق «المال» على المنفعة ،

______________________________________________________

وتقريب الاستدلال يتمّ ببيان أمرين :

الأوّل : أنّ المنافع أموال حقيقة ، سواء أكانت أعيانا تابعة لأعيان اخرى كالثمرة للشجرة ، أم أعراضا وحيثيّات قائمة بالأعيان كالسكنى في الدار والأعمال المحترمة كالخياطة ، لما تقدّم في أوّل كتاب البيع من أنّ مناط ماليّة الأشياء هي رغبة العقلاء فيها وتنافسهم عليها ، ولا ريب في عدم اختصاص رغبتهم بالأعيان المتموّلة ، بل تعمّ المنافع أيضا. ويشهد لماليّة المنافع حكمهم في مسألتين :

إحداهما : جواز جعلها ثمنا في باب البيع ، مع أنّ حقيقته المبادلة بين مالين ، ولو لم تكن المنفعة مالا لما صحّ جعلها عوضا عن المبيع ، بل يتعيّن كون كلا العوضين من الأعيان على ما ذهب إليه الوحيد البهبهاني قدس‌سره وبعض آخر.

ثانيتهما : جواز جعلها صداقا في باب النكاح ، مع وضوح اعتبار ماليّته.

الثاني : أن الحلّ المضاف إلى المال ظاهر في التكليف كما في نظائره. وهذا أجنبيّ عن المدّعى ، وهو ضمان المنافع المستوفاة في المبيع بالعقد الفاسد ، ولذا ينبغي تقريب الاستدلال بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يحل مال ..» بأن يقال : إنّ حلّ المال المتلف عبارة عن عدم تعلّقه بذمّة المتلف وعدم كونه مطالبا بالأداء ، ومقتضى عدم حلّه استقراره على عهدة المتلف له. وهذا هو ضمان ما استوفاه المشتري من المنافع ، فإنّ وزان الاستيفاء في المنافع وزان الإتلاف في الأعيان في كونه مضمّنا.

وبهذا التقريب جاز التمسّك بالنبويّ المذكور لضمان توابع المغصوب من ولد الشاة واللبن والصوف ونحوها من التوابع التي هي من الأعيان التي يصدق عليها المال إذا تلفت ، فإنّ مناط الضمان في الجميع صدق التصرّف في مال الغير بدون إذنه ، والمفروض ماليّة المنافع بأقسامها ، هذا.

(١) مبنى هذا البناء هو ظاهر كلام الفيروزآبادي في القاموس من تعريف المال

٢١٥

ولذا (١) يجعل ثمنا في البيع وصداقا في النكاح (*).

______________________________________________________

بما يختص بالأعيان ، وكذا العلّامة الطريحي في المجمع (١). لكنّه مزيّف ولم يعتمد عليه المصنّف في أوّل البيع ، حيث قال : «وأمّا العوض فلا إشكال في جواز كونها منفعة». وقال أيضا : «إنّ الصلح قد يتعلق بالمال عينا أو منفعة ..» (٢). وكذلك رجّح ماليّة المنفعة بالاستشهاد بجواز وقوعه ثمنا في البيع وصداقا في النكاح ، ولو لم تكن مالا تعيّن كون الثمن والصداق من الأعيان.

(١) أي : ولأجل كون المنفعة مالا يجعل ثمنا وصداقا.

__________________

(*) في كلا الشاهدين منع. أمّا في الأوّل فلعدم اعتبار كون الثمن مالا بعد صدق البيع العرفي على تبديل العين بمنفعة أو حقّ ، كصدقه على تبديلها بعين. وكذا الحال في الصداق.

ثمّ إنّه يمكن أن يستدلّ على ضمان المنافع بوجوه أخر :

منها : قاعدة اليد ، بالتقريب الذي تقدّم في ما يتعلق بمباحث اليد (ص ٤٠).

إلّا أن يستشكل فيه بأنّ الأخذ وإن لم يكن مختصّا بالأعيان الخارجية ، لصحة إضافة الأخذ إلى العلم والبيعة والعهود والمواثيق ، فيراد باليد هنا الاستيلاء الصادق على أخذ المنافع ، إلّا أنّ ذيله يمنع عن الأخذ بظهور الصدر ، حيث إنّه لا يعقل ردّ المأخوذ بعينه في المنافع المتصرّمة الوجود ، إذ لا تضمن قبل وجودها في الخارج ، وبعد وجودها تنعدم ، فيمتنع أداؤها إلى المالك.

والمستفاد من النبويّ اعتبار إمكان أداء المأخوذ ذاتا وإن صار ممتنعا بالعرض حتى ينتقل إلى البدل ، خصوصا على النسخة المشتملة على قوله : «حتى تؤديه» لكونه كالصريح في ردّ نفس المأخوذ.

__________________

(١) القاموس المحيط ، ج ٤ ، ص ٥٢ ؛ مجمع البحرين ، ج ٥ ، ص ٤٧٥.

(٢) راجع هدى الطالب ، ج ١ ، ص ٥٩ و ٢٣٧.

٢١٦

.................................................................................................

__________________

ومنها : قاعدة الإتلاف ، وهي من القواعد العقلائيّة التي لم يردع عنها الشارع ، بل أمضاها في موارد كثيرة. مثل ما ورد في شهادة الزور ، كصحيحة جميل عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إن كان الشي‌ء قائما بعينه ردّ على صاحبه ، وإن لم يكن قائما بعينه ضمن بقدر ما أتلف من مال الرجل» (١) ونحوه غير من روايات الباب.

ومثل ما ورد في تلف الرّهن بتفريط المرتهن ، كموثّقة إسحاق بن عمّار ، قال : «سألت أبا إبراهيم عليه‌السلام عن الرجل يرهن الرّهن بمائة درهم ، وهو يساوي ثلاثمائة درهم ، فيهلك ، أعلى الرّجل أن يردّ على صاحبه مأتي درهم؟ قال : نعم ، لأنّه أخذ رهنا فيه فضل وضيّعه ..» (٢) الحديث.

ونحوها سائر روايات الباب ، فإنّ التعليل يدلّ على ضمان كلّ من ضيّع مال الغير ، إذ لا خصوصيّة عرفا للرّهن ، بل موضوع الضمان هو تضييع مال الغير وإن لم يكن رهنا. وهذا هو قاعدة الإتلاف.

ثمّ إنّ المراد بالإتلاف على ما يستفاد من النصوص التي تستند إليها قاعدته ما يعمّ الأكل والشرب والتضييع والإفساد ، فلو لم يصدق مادّة الإتلاف ـ وهي التلف ـ في مورد ولكن صدق التضييع والإفساد كفى في جريان قاعدة الإتلاف.

فما في حاشية المحقق الايرواني قدس‌سره : من «أنّ المتبادر من إتلاف المال إخراجه عن المالية بتضييعه ، لا إتلافه في سبيل الانتفاع به كأكل المأكول وشرب المشروب» (٣). لا يخلو من غموض ، لما عرفت من أنّ المستفاد من الروايات ما يعمّ ذلك. ولا دليل على ما أفاده.

مضافا إلى : أنّ الأكل والشرب مصلحة للآكل والشارب ، وإتلاف حقيقة لمال

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٨ ، ص ٢٣٩ ، الباب ١١ من كتاب الشهادات ، الحديث ٢.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ١٢٩ ، الباب ٧ من كتاب الرّهن ، الحديث ٢.

(٣) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٩٦.

٢١٧

.................................................................................................

__________________

المالك ، فلم لا تشمله القاعدة.

فالمتحصّل : أنّ الاستدلال بقاعدة الإتلاف لضمان المنافع المستوفاة ـ بعد صدق المال على المنافع عرفا كما هو كذلك وعدم العبرة بما يظهر من بعض اللغويّين من اختصاص المال بالعين ذات المنفعة ، لتقدّم العرف العامّ عليه ـ في محلّه. فالاعدام والإفساد والتضييع كلّها موضوع لقاعدة الإتلاف. ففي معتبرة الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «سئل عن القصّار يفسد؟ فقال : كلّ أجير يعطى الأجرة على أن يصلح فيفسد فهو ضامن» (١).

وفي رواية السكوني عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «إنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام رفع إليه رجل استأجر رجلا ليصلح بابه ، فضرب المسمار فانصدع الباب ، فضمّنه أمير المؤمنين عليه‌السلام» (٢).

وأبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قضى أمير المؤمنين عليه‌السلام في رجل كان له غلام ، فاستأجره منه صائغ أو غيره. قال : إن كان ضيّع شيئا أو أبق منه فمواليه ضامنون» (٣).

ومنها : قاعدة الاحترام المستفادة من موثّقة أبي بصير ، عن أبي جعفر عليه‌السلام : «قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : سباب المؤمن فسوق ، وقتاله كفر ، وأكل لحمه معصية ، وحرمة ماله كحرمة دمه» (٤) بتقريب : أنّ إتلاف ماله يوجب الضمان ، ولا يذهب هدرا ، كما أنّ دمه لا يذهب هدرا. ومن الواضح شموله للمنافع المستوفاة كشموله للأعيان ، لكون المنافع ممّا يصدق عليه المال.

والمناقشة فيه «بأنّ الظاهر من حرمة المال بقرينة سائر الجمل المذكورة في الرواية هو الحكم التكليفي ، فإنّ سبّ المؤمن وأكل لحمه بمعنى اغتيابه حرام تكليفي

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ٢٧١ ، الباب ٢٩ من أبواب الإجارة ، الحديث ١.

(٢) المصدر ، ص ٢٧٤ ، الحديث ١٠.

(٣) المصدر ، ص ٢٥١ ، الباب ١١ من أبواب الإجارة ، الحديث ٢.

(٤) وسائل الشيعة ، ج ٨ ، ص ٦١٠ ، الباب ١٥٨ من أبواب أحكام العشرة ، الحديث ٣.

٢١٨

.................................................................................................

__________________

فقط. ووحدة السياق تقتضي كون حرمة المال أيضا تكليفيّة محضة ، فلا يستفاد الحكم الوضعي وهو الضمان من هذه الرواية» (١).

مندفعة أوّلا : بأنّه لا موجب للحكم الوضعيّ في سائر الجمل ، لأنّ الفسوق والكفر والمعصية كالصريح في الحرمة التكليفيّة ، ولذا عبّر بغير هذه التعبيرات في المال ، فلا مانع من حرمة المال تكليفا ووضعا. وهذا بخلاف النهي عن السباب والغيبة والقتل الظاهر في التكليف خاصة.

وثانيا : بأنّ تشبيه حرمة المال بحرمة الدم ظاهر في الضمان ، وأنّ ماله كدمه لا يذهب هدرا. فحمل هذه الجملة ـ كسائر الجمل ـ على الحكم التكليفي فقط أو جعلها مجملة كما في بعض الكلمات (٢) ليس كما ينبغي.

نعم يمكن المناقشة في قاعدة الاحترام بأخصّيّتها من المدّعي الذي هو ضمان المنافع سواء أكان المقبوض مالا لمسلم أم غيره. وروايات القاعدة تتضمّن حرمة مال المسلم ، وهذه الإضافة ظاهرة في كونها حيثيّة تقييديّة ، فمال المسلم من حيث إضافته إلى المسلم محترم ، فالاحترام إنّما هو لهذه الحيثيّة ، لا لحيثيّة المال ليكون الاحترام مترتبا على المال من حيث كونه مالا حتى يكون دليلا على ضمان منافع المبيع فاسدا المستوفاة.

اللهم إلّا أن يتشبث بعدم الفصل في حرمة المال بين المسلم ومن بحكمه كالذّميّ.

ومنها : الروايات الدالّة على عدم حلّيّة مال امرئ مسلم إلّا بطيب نفسه ، وعلى حرمة التصرّف في مال الغير بدون إذنه (٣). بعد ما عرفت من صدق المال على المنافع ، ولذا تقع ثمنا في البيع وصداقا في النكاح. وقد تقدّم ذلك.

ومنها : ما ورد في جملة من الروايات من : «أنّه لا يصلح ذهاب حق أحد» كحسن الحلبي ومحمّد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «قال : سألته هل تجوز شهادة أهل ملّة

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ٨ ، ص ٦١٠ ، الباب ١٥٨ من أبواب أحكام العشرة ، الحديث ٣.

(٢) مصباح الفقاهة ، ج ٣ ، ص ٩١.

(٣) ذكرنا مصادرها في ص ١٢٤ فراجع.

٢١٩

.................................................................................................

__________________

على غير أهل ملّتهم؟ قال : نعم ، إذا لم يجد من أهل ملّتهم جازت شهادة غيرهم ، انّه لا يصلح ذهاب حق أحد» (١).

والاستدلال بها منوط بصدق الحقّ على المال ، وبكون عدم صلوح ذهابه كناية عن ضمانه ، وإلّا فلا وجه للاستدلال بها على الضمان كما قيل. ومورد بعض هذه الروايات الوصية ، ومقتضاها أنّ للمسلم أن يوصي بماله ، وهذا حقّ له ، ولا يصلح ذهاب حقّه. وهذا المعنى أجنبيّ عمّا نحن فيه.

مضافا إلى ما قيل من : أنها لا تشمل صورة التلف ، فالدليل أخصّ من المدّعى.

إلّا أن يقال : إنّه إذا كان الحق لازم الرعاية ، مع أنّه ليس مالا ، وإضافته إلى من له الحق أضعف من إضافة المال إلى مالكه ، فرعاية المال أولى.

أو يقال : إنّ حقّ أحد إذا ثبت على ذمّة غيره فلا يصح ذهابه بغير عوض ، وهذا يدلّ على الضمان.

وأمّا ورود الروايات في باب الوصيّة فلا يمنع عن الاستدلال بها على الضمان ، لإباء التعليل بعدم صلوح ذهاب حق أحد عن الاختصاص بباب الوصيّة ، وبملّة دون أخرى. إلّا إذا قام دليل على التخصيص وعدم حرمة المال ، كما ورد في الحربي.

ومنها : قاعدة نفي الضرر في الشريعة المقدسة المستفادة من عدّة روايات.

تقريب الاستدلال بها : أنّ الحكم بعدم ضمان القابض لمنافع المال بالعقد الفاسد ضرر على المالك ، فينفى بالقاعدة.

ونوقش فيه بأنّها لا تدلّ على الضمان سواء أريد بها نفي الحكم الضرري أوّلا كما هو مقتضى النفي البسيط وعليه المصنّف. أم أريد بها النفي المركّب أعني نفي الحكم بلسان نفي الموضوع كما عليه صاحب الكفاية وبعض المحققين.

وجه عدم الدلالة : اختصاص أدلّة نفي الضرر برفع الأحكام الوجوديّة الضرريّة كوجوب الوضوء ولزوم البيع. وأمّا إذا كان الضرر ناشئا من عدم جعل حكم كالضمان.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ٣٩٠ ، الباب ٢٠ من كتاب الوصايا ، الحديث ٣.

٢٢٠