هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٣

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٠

والمفروض عدمه ، وإلّا يضمن (١) بصحيحه. وإمّا (٢) من حكم الشارع بالضمان بواسطة هذه المعاملة الفاسدة ، والمفروض أنّها لا تؤثّر شيئا (*).

ووجه الأولويّة (٣) : أنّ الصحيح

______________________________________________________

تعليل الضمان في «ما يضمن بصحيحه» في موارد متعددة من المبسوط ـ بالاقدام والدخول على أن تكون العين مضمونة ، فإذا كان الضمان للإقدام في مثل عقد البيع كان عدم الضمان في الرّهن لأجل عدم الاقدام على المعاوضة والمبادلة. ولا بأس بما صنعه المصنّف قدس‌سره استقصاء لجهات البحث.

(١) أي : لو كان الراهن والمرتهن أقدما على الضمان لكان الرّهن الصحيح مؤثّرا في الضمان ، مع أنّ المفروض عدم مضمّنيّته.

(٢) يعني : أنّ الموجب الثاني للضمان هو حكم الشارع بالضمان في هذا الرهن الفاسد ، ولكن لا يجتمع الفساد الشرعيّ مع الضمان ، لأنّ معنى الفساد لغويّة العقد وكونه كالعدم ، والضمان الشرعيّ يدور مدار الجعل ولو إمضاء ، والمفروض عدمه.

(٣) ظاهر العبارة أولويّة الرهن الفاسد ـ بعدم الضمان ـ من البيع الفاسد الذي يضمن بصحيحه ، لا أولويّة الرهن الفاسد بعدم الضمان من الصحيح منه. وتوضيحه :

أنّه قد سبق في (ص ٥٨ و ١١٥) استدلال شيخ الطائفة على الضمان في الفاسد ـ ممّا يضمن بصحيحه ـ بقاعدة الاقدام والدخول على المعاوضة. وناقش المصنّف فيه بأنّه

__________________

(*) هذا الوجه إنّما يتّجه بناء على كون الضمان ناشئا عن العقد بحيث يكون نفس العقد سببا له ، إذ يصح حينئذ أن يقال : إذا لم يكن الصحيح مقتضيا للضمان فالفاسد ـ الذي يكون كالمعدوم في عدم ترتّب أثر عليه ـ أولى بعدم تأثيره في الضمان. وأمّا بناء على كون سبب الضمان ومقتضية غير العقد من اليد والتصرّف فلا بدّ أن يكون عدم الضمان في الصحيح لاقتضاء العقد له ، ولا يلزم من اقتضاء الصحيح للعدم أن يكون الفاسد كذلك ، ومن الواضح أنّ الأمر كذلك أي يكون سبب الضمان غير العقد.

١٨١

.................................................................................................

______________________________________________________

لا سبيل لإثبات الضمان في مثل البيع الفاسد بقاعدة الإقدام ، لأنّهما أقدما في العقد الصحيح على ضمان خاصّ وهو الضمان الجعلي المسمّى في العقد ، ولم يقدما على طبيعيّ الضمان ، حتّى يثبت الضمان بالبدل الواقعي في العقد الفاسد ، فثبوت المثل أو القيمة في عهدة المتبايعين منوط بالدليل عليه.

فمقتضى قاعدة الإقدام انتفاء الضمان بالمسمّى في البيع الفاسد ، لفرض أنّ الشارع لم يصحّح العقد ولم يمض ما أقدما عليه. مع وضوح أنّ البيع الفاسد يقتضي الضمان من جهة كونه مصداقا لطبيعيّ البيع المتقوّم بالمبادلة والمعاوضة بين المالين.

وعليه نقول : إنّ انتفاء الضمان بالعوض المسمّى في البيع الفاسد ـ لعدم الاقدام على طبيعيّ العوض وعدم إمضاء الضمان الخاص ـ يدلّ بالأولويّة القطعيّة على انتفاء الضمان في مثل الرّهن الفاسد الذي لا يضمن بصحيحه.

ووجه الأولويّة : أنّ الرهن الفاسد لا يتوقّع ترتب الضمان عليه ، وذلك لانتفاء كلّ من الاقدام على الضمان والإمضاء ، بخلاف البيع الفاسد ، فإنّه من جهة كونه مصداقا لمفهوم البيع المتقوّم بالمبادلة والمعاوضة يترقّب منه الضمان ، ومع ذلك لم يترتب عليه.

وهذا البيان كما ترى ظاهر في أولويّة فاسد العقد ـ الذي لا يضمن بصحيحه ـ بعدم الضمان من فاسد العقد الذي يضمن بصحيحه كالبيع. وهو لا يلتئم مع كلام المبسوط ـ بناء على إرادة الأولويّة دون التعجّب والمساواة ـ لدلالته على أولويّة فاسد العقد ـ الذي لا يضمن بصحيحه ـ من صحيحه كالرهن الصحيح والفاسد.

ولذا تكلّف المحقّق الأصفهاني قدس‌سره في توجيه الأولويّة التي ادّعاها المصنّف قدس‌سره ، بأن يقال : إنّ الملحوظ طبيعيّ العقد الصحيح ، فالصّحّة في كلّ عقد تقتضي الضمان ، سواء أكان بيعا أم رهنا ، فإذا لم يثبت الضمان فيه فعلا ـ مع اقتضاء الصحة ثبوته ـ فالفاسد الذي ليس فيه اقتضاء الضمان ـ إمّا لعدم إقدام مضمّن كما في الرهن ، وإمّا لعدم إمضاء مضمّن كالبيع الفاسد ـ أولى بأن لا يوجب الضمان.

وعلى هذا فالرّهن الفاسد أولى بعدم الضمان من الرّهن الصحيح ، لأنّ الصحة بنفسها

١٨٢

إذا كان مفيدا للضمان (١) أمكن أن يقال : إنّ الضمان من مقتضيات الصحيح (٢) ، فلا يجري في الفاسد ، لكونه لغوا غير مؤثّر ، على ما سبق تقريبه (٣) من أنّه أقدم على ضمان خاصّ (٤) ، والشارع لم يمضه ، فيرتفع أصل الضمان (٥) (*).

______________________________________________________

مقتضية للضمان ، وإن لم يبلغ مرتبة الفعلية ، وهذا الاقتضاء الناقص مفقود في الفاسد (١).

(١) هذه الجملة قرينة على أن المصنّف قدس‌سره قاس الأولوية بين نوعين من العقود ، يعني العقد الصحيح المفيد للضمان الذي لا يؤثّر فاسده في الضمان ، وبين العقد الصحيح الذي لا يفيد ضمانا كالرّهن ، فجعل العقد الفاسد ممّا لا يضمن بصحيحه أولى بعدم الضمان من العقد الفاسد الذي يضمن بصحيحه.

(٢) يعني : أنّ الصحة الشرعيّة تقتضي الضمان ، سواء أكان مضمّنا بالفعل أم لا ، فإذا انتفت الصحّة لم يبق المقتضي له.

(٣) حيث قال في الاعتراض على استدلال شيخ الطائفة بالاقدام ما لفظه :

«وهذا الوجه لا يخلو من تأمّل ، لأنّهما إنّما أقدما وتراضيا بالعقد الفاسد على ضمان خاصّ ، لا الضمان بالمثل أو القيمة ، والمفروض عدم إمضاء الشارع لذلك الضمان الخاصّ ، ومطلق الضمان لا يبقى بعد انتفاء الخصوصيّة».

(٤) وهو الضمان بالبدل المسمّى في العقد المعاوضيّ ، كضمان الكتاب بدينار في بيعه به.

(٥) يعني : فيرتفع أصل الضمان في العقد الفاسد الذي يضمن بصحيحه ، فكيف حال العقد الفاسد الذي لا يضمن بصحيحه ، فإنّه أحرى بعدم الضمان؟

هذا كله في تقرير الأولوية ، وسيأتي مناقشة المصنّف قدس‌سره فيها.

__________________

(*) لا يخفى أنّ المحقق الايرواني قدس‌سره استظهر من المتن : أنّ مقصود المصنّف قدس‌سره ملاحظة الأولويّة بين عقدين يقتضي صحيح أحدهما الضمان ، ولا يقتضيه الآخر ، لكنه قدس‌سره لغموض كلام الماتن قال : «ينبغي تقرير الأولويّة هكذا : إنّ

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٨٥.

١٨٣

لكن يخدشها (١):

______________________________________________________

(١) أي : يخدش الأولويّة ، ومحصّل الخدشة : أنّ مبنى الأولويّة ـ وهو إمكان كون علّة الضمان صحة العقد وإمضاء الشارع لما أقدم عليه المتعاقدان ـ معارض بإمكان دعوى كون الصحة في العقد الصحيح غير المفيد للضمان كالرهن والإجارة ـ بالنسبة إلى العين المستأجرة ـ وإمضاء الشارع لما أقدما عليه من التسليط المجّانيّ هو السبب الرافع للضمان ، والمانع عن تأثير القبض فيه. ولا يجري في العقد الفاسد ، لعدم إمضاء الشارع للتسليط المجّانيّ على ما هو معنى الفساد ، فلا أولويّة.

والحاصل : أنّ لكلّ من الصحيح والفاسد مزيّة ترفع أولويّة الفاسد من الصحيح في عدم الضمان. أمّا مزيّة الفاسد فقد عرفتها من عدم إقدام مضمّن وإمضاء مضمّن. وأمّا مزيّة الصحيح فهي أنّ إمضاءه المقتضي للسلطنة الشرعيّة الرافعة للضمان عند وجود سببه مختصّ به ، فبلحاظ الإمضاء ـ الذي هو أمر وجوديّ رافع للضمان ـ يمتاز الصحيح عن الفاسد ، فلا أولويّة.

واعلم أنّ المذكور في المتن من المناقشة في استدلال شيخ الطائفة قدس‌سره أمران :

أحدهما : ما أفاده المصنّف بقوله : «لكن يخدشها» وغرضه منع أولويّة العقد

__________________

صحيح العقد الذي كان فيه إقدام على الضمان ليس في فاسده إقدام ، لما عرفت أنّ الاقدام حاصل على المسمّى ، ولا ضمان به. وما به الضمان وهو المثل أو القيمة لا إقدام عليه. فإذا كان هذا حال ما كان الإقدام في صحيحه على الضمان موجودا ، فكيف ما لا إقدام في صحيحه على الضمان ، فإنّه بالأحرى أن لا يكون في فاسده إقدام على الضمان» (١).

وهذا كما ترى ملاحظة للأولويّة بين عقدين لا بين صحيح عقد وفاسده ، مع أنّ ظاهر عبارة المبسوط كما تقدّم في التوضيح جعل عدم ضمان فاسد الرهن أولى من عدمه في صحيحه. إلّا أن يتكلّف في توجيه المتن بما أفاده المحقق الأصفهاني ، وأدرجناه في التوضيح ، فتأمّل فيه حقّه.

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٩٥.

١٨٤

أنّه (١) يجوز أن يكون صحّة الرّهن والإجارة (٢) المستلزمة لتسلّط المرتهن والمستأجر على العين شرعا (٣) مؤثّرة في رفع الضمان ، بخلاف الفاسد الذي لا يوجب تسلّطا لهما على العين ، فلا أولويّة (٤).

فإن قلت (٥) : إنّ الفاسد وإن لم يكن له دخل

______________________________________________________

الفاسد من العقد الصحيح بعدم الضمان ، وقد عرفته.

ثانيهما : ما أفاده بقوله : «فان قلت» وأجاب عنه ، ومحصّله منع مساواة العقد الفاسد للصحيح في عدم الضمان ، لوجود المقتضي للضمان في الفاسد ، وعدمه في الصحيح ، فكيف يكون الفاسد أولى بعدم الضمان؟

(١) هذا مرفوع محلّا على أنّه فاعل «يخدشها» والضمير للشأن.

(٢) عطف الإجارة على الرّهن ـ في كون العين غير مضمونة بيد المرتهن والمستأجر للتسليط المالكي ـ مبنيّ على دخول العين المستأجرة في قاعدة «ما لا يضمن» كما استظهره قدس‌سره بقوله : «فالقاعدة المذكورة غير مخصّصة بالعين المستأجرة ولا متخصّصة» وإلّا فبناء على ما ذهب إليه صاحب الرياض وغيره من ضمانها لا تكون الإجارة كالرّهن.

(٣) قيد لقوله : «تسلّط» يعني : فتكون العين أمانة شرعيّة ومالكيّة ، فلا وجه للضمان في العقد الصحيح.

(٤) أي : فلا أولويّة للفاسد من الصحيح في عدم الضمان.

(٥) هذا الاشكال ناظر إلى أصل استدلال شيخ الطائفة قدس‌سره مع الغضّ عن الخدشة التي ذكرها بقوله : «لكن يخدشها» وهو مبنيّ على أمرين :

الأوّل : أنّ حديث «على اليد» يقتضي ضمان المستولي على مال الغير مطلقا ، سواء أكانت يده عدوانيّة أم أمانيّه ، وسواء أكان بعقد صحيح أم لا ، لصدق «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي» على جميع موارد الوضع.

١٨٥

في الضمان (١) ، إلّا أنّ مقتضى عموم «على اليد» هو الضمان (٢) ، خرج منه المقبوض بصحاح العقود التي يكون مواردها غير مضمونة على القابض ، وبقي الباقي (٣).

______________________________________________________

الثاني : أنّ هذا العموم خصّص في جملة من العقود الصحيحة ، حيث لا ضمان فيها كالوديعة والعارية والرهن والوكالة ونحوها ممّا يكون التسليط بإذن الشارع والمالك. وأمّا إذا كانت هذه العقود باطلة غير ممضاة شرعا كان وضع اليد فيها مندرجا في عموم «على اليد» كاليد العدوانيّة في موارد الغصب المقتضية للضمان.

وبناء على هذين الأمرين يتّضح منع مساواة العقد الفاسد ـ ممّا لا يضمن بصحيحه ـ للصحيح في عدم الضمان ، فضلا عن أولويّة الفاسد من الصحيح فيه.

والوجه في المنع : أنّ سبب الضمان غير منحصر في ما أفاده شيخ الطائفة قدس‌سره من إقدام المالك على الضمان وإمضاء الشارع له ، حتى يقال بتساوي الصحيح والفاسد في علّة عدم الضمان وهي عدم الاقدام المضمّن وعدم الإمضاء المضمّن. بل للضمان سبب آخر ، وهو قاعدة اليد الشاملة لكلّ من العقد الصحيح والفاسد. إلّا أنّها خصّصت في العقود الصحيحة التي لا ضمان فيها ، كالرهن والوديعة والمضاربة ، ولم تخصّص في فاسد هذه العقود. ومقتضى عموم قاعدة اليد ـ التي هي أمر خارج عن مرحلة العقد ـ هو الضمان في العقد الفاسد. ومعه كيف حكم شيخ الطائفة قدس‌سره بعدم الضمان في الرّهن الفاسد ، استنادا إلى مساواته للصحيح في السببيّة لعدم التضمين؟

(١) لما عرفت من انتفاء علّة الضمان ، وهي الإقدام على الضمان ، وإمضاء هذا الاقدام ، وهذه مشتركة بين الرهن الصحيح والفاسد.

(٢) فالعقد الفاسد من جهة وجود هذا العموم فيه أولى بالضمان من الصحيح.

(٣) والعقد الفاسد ممّا بقي تحته ، لعدم صلاحيّته لتخصيص عموم قاعدة اليد.

١٨٦

قلت (١) : ما خرج به المقبوض بصحاح تلك العقود يخرج به (٢) المقبوض

______________________________________________________

ب : عموم دليل الهبة والأمانات

(١) هذا جواب الاشكال على المساواة بين العقد الصحيح والفاسد في عدم الضمان ، وغرض المصنّف قدس‌سره إثبات الملازمة في عدم الضمان بين العقد الصحيح غير المضمّن وبين فاسده.

وهذا الجواب دليل ثان على قاعدة «ما لا يضمن». ومحصّله : أنّ الدليل المخرج للمقبوض بصحاح تلك العقود عن عموم على اليد ـ على ما اعترف به المستشكل ـ هو المخرج بعينه لفاسد تلك العقود عن العموم المزبور. وذلك الدليل عموم ما دلّ على عدم ضمان من تسلّم مال الغير من دون أن يضمّنه المالك ، من غير فرق في عدم الضمان بين التمليك المجّانيّ كالهبة ، وبين التسليط على الانتفاع بعين مجّانا كالعارية ، أو بعوض كالإجارة ، إلى غير ذلك من موارد الاستيمان المالكيّ ، بعد تساوي صحيح هذه العقود وفاسدها في الجهات الداخليّة والخارجيّة. أمّا الداخليّة فهي عدم الاقدام المضمّن ، وعدم الإمضاء المضمّن. وأمّا الجهات الخارجيّة فهي اليد الموجبة بذاتها للضمان والاذن المالكيّ الرافع له.

والمراد بالاستئمان المالكي هو التسليط عن الرضا وعدم كونه بلا إذن منه حتى تكون يده عادية ، والتسليطات المجانيّة كلّها كذلك. وليس المراد بالاستئمان المالكي الاستنابة في الحفظ ، ضرورة أنّه لا شي‌ء من العقود كذلك إلّا الوديعة.

وبعد فرض تساوي العقود الصحيحة والفاسدة في الجهات الداخليّة والخارجيّة تكونان متساويتين أيضا في الحكم بالضمان وعدمه. فإذا دلّ دليل على عدم الضمان في الصحيحة دلّ على عدمه في الفاسدة أيضا.

(٢) هذا الضمير وضمير «به» المتقدم راجعان إلى «ما» الموصول المراد به عموم ما دلّ على عدم الضمان في موارد الاستيمان.

١٨٧

بفاسدها (١) ، وهي عموم (٢) ما دلّ على : أنّ من لم يضمّنه (٣) المالك سواء ملّكه إيّاه بغير عوض (٤) ، أو سلّطه على الانتفاع به (٥) ، أو استأمنه عليه لحفظه (٦) أو دفعه إليه لاستيفاء حقّه (٧) ، أو العمل فيه بلا اجرة (٨) أو معها ، أو غير ذلك (٩) ، فهو (١٠) غير ضامن.

أمّا (١١) في غير التمليك بلا عوض ـ أعني الهبة ـ فالدليل المخصّص لقاعدة

______________________________________________________

(١) لمساواة فاسد تلك العقود مع صحاحها في الجهة المخرجة لها عن إطلاق «على اليد».

(٢) هذا العموم يستفاد من النصوص المتفرّقة كما سيأتي ذكر جملة منها إن شاء الله تعالى.

(٣) بصيغة التفعيل ، أي : لم يقصد المالك ضمان القابض لماله.

(٤) كما في الهبة بغير عوض ، لكونها تمليكا للعين مجّانا.

(٥) كما في العارية ، فإنّ المالك المعير يسلّط المستعير على العين للانتفاع بها.

(٦) كما في الوديعة ، فإنّها استيمان لحفظ المال عن الضّياع.

(٧) كما في إجارة الأعيان ، فالمؤجر يسلّط المستأجر على العين ليستوفي حقّه منها ، كالسكنى في الدار.

(٨) كما إذا دفع القماش إلى الخيّاط ليخيطه ثوبا تبرّعا منه بالخياطة ، أو دفع القماش إليه ليخيطه ثوبا بأجرة معيّنة. وهذه إجارة على الأعمال المحترمة. فسواء أكان العمل مع أجرة أم بدونها تكون يده على الثوب أمانية لا يضمن تألفها.

(٩) كما في دفع مال المضاربة إلى العامل للتجارة به. وكدفع المال الموكّل في بيعه إلى الوكيل ، فهما غير ضامنين لما بيدهما.

(١٠) جزاء الشرط في قوله : «من لم يضمّنه».

(١١) غرضه قدس‌سره إبداء الفرق بين الهبة غير المعوّضة ، وبين العقود الأمانيّة التي لا تضمن بصحيحها وفاسدها ، والفارق هو عدم صدق الأمانة في باب الهبة ،

١٨٨

الضمان (١) عموم ما دلّ على أنّ من استأمنه المالك على ملكه غير ضامن ، بل «ليس لك أن تتّهمه» (٢).

______________________________________________________

لكونها رافعة للملك ولا تكون العين أمانة بيد المتّهب ، بل هي ملكه ، بخلاف العارية والوكالة والمضاربة والوديعة والرهن ونحوها ، فإنّها مصاديق لعموم ما دلّ على «عدم ضمان الأمين». ولا بدّ حينئذ من دليل آخر لإثبات عدم الضمان في الهبة الفاسدة ، وذلك الدليل هو الأولويّة القطعيّة ، وسيأتي بيانها.

(١) يعني : قاعدة اليد المقتضية للضمان في كلّ استيلاء على مال الغير ، سواء أكان بالعقد أم بغيره ، وسواء أكان العقد صحيحا أم فاسدا.

(٢) كما في رواية مسعدة بن زياد عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «ليس لك أن تتهم من قد ائتمنته ، ولا تأتمن الخائن وقد جرّبته» (١). ورواية مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «ليس لك أن تأتمن من خانك ، ولا تتّهم من ائتمنت» (٢).

وهناك نصوص أخرى دالة على عدم ضمان الأمين في موارد الوديعة والعارية والإجارة على الأعمال ، فمنها : مرسلة أبان

بن عثمان عن أبي جعفر عليه‌السلام في حديث ، قال : «وسألته عن الذي يستبضع المال ، فيهلك أو يسرق ، أعلى صاحبه ضمان؟ فقال :

ليس عليه غرم بعد أن يكون الرجل أمينا» (٣) رواها الكافي والتهذيب بسند كالصحيح عنه عليه‌السلام.

ومنها : صحيح الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «صاحب الوديعة والبضاعة مؤتمنان ، وقال : ليس على مستعير عارية ضمان ، وصاحب العارية والوديعة مؤتمن» (٤).

ومنها : معتبرة غياث بن إبراهيم عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «انّ أمير المؤمنين عليه‌السلام

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ٢٢٩ ، الباب ٤ من أبواب الوديعة ، الحديث ١٠.

(٢) المصدر ، الحديث ٩.

(٣) المصدر ، ص ٢٢٨ ، الحديث ٥.

(٤) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ٢٣٧ ، الباب ١ من كتاب العارية ، الحديث ٦.

١٨٩

.................................................................................................

______________________________________________________

أتي بصاحب حمّام وضعت عنده الثياب ، فضاعت ، فلم يضمّنه ، وقال : إنّما هو أمين» (١). والتعليل ظاهر في كبرى عدم ضمان الأمين ، وأنّ عدم تضمين الحمّامي إنّما هو لأمانته.

ومنها : معتبرة أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «قال : لا يضمن الصّائغ ولا القصّار ولا الحائك ، إلّا أن يكونوا متهمين ، فيخوف (فيجيئون) بالبيّنة ، ويستحلف لعلّه يستخرج منه شيئا. وفي رجل استأجر جمّالا فيكسر الذي يحمل أو يهريقه. فقال : على نحو من العامل ، إن كان مأمونا فليس عليه شي‌ء ، وإن كان غير مأمون فهو ضامن» (٢). وظهورها في إناطة الضمان بالتهمة ، وعدمه بالأمانة مما لا ينكر.

ومنها : قول الفقيه عليه‌السلام في مكاتبة الصفّار في ضمان القصّار : «هو ضامن له إلّا أن يكون ثقة مأمونا إن شاء الله» (٣).

إلى غير ذلك من النصوص المتفرقة الواردة في المستعير والمرتهن والودعيّ والمستبضع ، والأجير على العمل كالقصّار والحمّال والجمّال ، والمستأجر للعين ، وغير ذلك المتضمّنة لعدم ضمانهم ، بدعوى : أنّ اشتمال بعضها على تعليل عدم الضمان «بكون الرجل أمينا» يدلّ على قاعدة كلّية ، وهي عدم ضمان المؤتمن وعدم الغرم على كلّ أمين. ومقتضي ترك الاستفصال عدم الفرق بين كون الاستيمان في العقد الصحيح أو الفاسد.

وبدعوى : أنّ التسليم في باب الإجارة والمضاربة والشركة ونحوها يكون من قبيل جعل العين أمانة.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ٢٧٠ ، الباب ٢٨ من أبواب أحكام الإجارة ، الحديث ١.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ٢٧٤ ، الباب ٢٩ من أبواب أحكام الإجارة ، الحديث ١١.

(٣) المصدر ، ص ٢٧٥ ، الحديث ١٨.

١٩٠

أمّا في الهبة الفاسدة فيمكن الاستدلال على خروجها من عموم اليد بفحوى (١) ما دلّ على خروج مورد الاستيمان ، فإنّ (٢) استيمان المالك لغيره على ملكه إذا اقتضى عدم ضمانه له (٣) اقتضى (٤) التسليط المطلق (٥) عليه مجّانا عدم

______________________________________________________

والحاصل : أنّ المدّعى عدم ضمان كلّ من استأمنه الرجل على ماله. وهذا بمنزلة الكبرى ، فكأنّه قيل : «كلّ أمين ليس بضامن». وكون العقود الفاسدة من صغرياته ، لصدق الأمين على المستعير في العارية الفاسدة ، وعلى المستأجر في الإجارة الفاسدة ، إلى غير ذلك. وصغرويّة العقود الفاسدة تثبت بترك الاستفصال.

هذا كلّه في العقود الفاسدة الأمانيّة التي لا تضمن بصحيحها. وأمّا الهبة فسيأتي وجه عدم الضمان بفاسدها.

(١) متعلّق ب «خروج» وهذا وجه عدم الضمان في الهبة الفاسدة حتى تكون قاعدة «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده» شاملة لها كشمولها للعقود الأمانية ، فهي خارجة عن عموم «على اليد» المقتضي للضمان.

وتقريب الأولويّة : أنّ عدم الضمان في صورة قطع العلقة عن المال بالمرّة أولى من عدم ضمانه في موارد الاستيمان التي تبقى إضافة الملكيّة على حالها.

(٢) تقريب للفحوى ، وقد عرفته آنفا.

(٣) أي : للمالك.

(٤) جزاء الشرط ، وجملة الشرط والجزاء خبر قوله : «فإنّ استيمان».

(٥) المراد بالتسليط المطلق هو سلطنة المتّهب على التصرفات الخارجيّة والاعتباريّة المشروعة في العين الموهوبة ، وهذا في قبال تسليط المالك في باب العارية ، لكون متعلّقه الانتفاع بالعين بنفسه. وكذا في باب الإجارة ، فإنّ المستأجر مسلّط على العين في جهة الانتفاع بها واستيفاء حقّه منها ، لا مطلقا ، ولذا لا يجوز له التصرّف الأجنبيّ عن حيثيّة الانتفاع. وكذا في باب البيع ، فإنّ تسليط المالك.

١٩١

ضمانه بطريق أولى (١). والتقييد (٢) بالمجّانيّة لخروج التسليط المطلق بالعوض كما في المعاوضات ، فإنّه عين التضمين.

فحاصل (٣) أدلّة عدم ضمان المستأمن (٤) أنّ من دفع المالك إليه ملكه على وجه لا يضمنه بعوض واقعيّ ـ أعني المثل والقيمة ـ ولا جعلي فليس

______________________________________________________

وإن كان مطلقا غير مقيّد بتصرّف دون آخر ، إلّا أنّه مقابل بالعوض ، وليس مجّانيّا.

(١) تقدم تقريب الأولويّة آنفا.

(٢) غرضه من هذه الجملة أنّ الموجب لتقييد التسليط المطلق في قوله : «اقتضى التسليط المطلق عليه مجّانا» بالمجّانيّة هو : أنّ للتسليط المطلق على المال فردين ، أحدهما : بلا عوض وهو الهبة ، والآخر معه وهو البيع والصلح المفيد فائدة البيع. وما ذكر ـ من أولويّة التسليط المطلق بعدم الضمان من موارد الاستيمان المالكيّ ـ فمورده الهبة التي لا يضمن المتّهب عوض ما أخذه من الواهب. وأمّا التسليط المطلق في باب البيع ونحوه فحقيقته التضمين ، فلا معنى لتوهّم كونه كالهبة ممّا لا ضمان فيه.

(٣) هذا الحاصل راجع إلى ما أفاده بقوله : «قلت» الذي محصّله خروج العقود الأمانيّة صحيحها وفاسدها عن الحديث النبويّ «على اليد» المقتضي للضمان في مطلق موارد الاستيمان. وعليه فإذا دفع المالك ماله إلى آخر من دون الاقدام على تضمين الآخذ ببدله الواقعي ولا ببدل جعليّ مسمّى لم يكن ماله مضمونا ، فلو تلف لم يلزم تداركه ببدل على الآخذ. وبذلك تمّ الدليل على أنّ «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده».

(٤) بصيغة المفعول أي : من جعله المالك أمينا على ماله لا يكون ضامنا. هذا تمام الكلام في ضمان نفس المقبوض بالبيع الفاسد ، وسيأتي الكلام في وجوب ردّه وسائر آثاره إن شاء الله تعالى.

١٩٢

عليه ضمان (*).

__________________

(*) لا يخفى أنّه قد استدلّ على قاعدة «ما لا يضمن» بوجوه :

الوجه الأوّل : الأولويّة. ويكفي في ردّها ما أفاده المصنّف قدس سره من الخدشة.

الوجه الثاني : الأصل ، إذ الضمان حكم وضعيّ ، فإن شكّ في ثبوته ولم يكن عليه دليل ينفى بأصالة البراءة.

وفيه : أنّ هذا مبنيّ على عدم إمكان التمسّك بالنبوي «على اليد ما أخذت» لضعف السند أو غيره. وقد تقدّم البحث فيه ، وأنّه حجة ويصحّ الاستدلال به ، فراجع.

الوجه الثالث : إقدام المتعاقدين على المجّانيّة الرافع للضمان في كل من الصحيح والفاسد.

وفيه : أنّ ما أقدما عليه عنوان خاصّ صحيح ، وقد انتفى ، وارتفاع العنوان يوجب انتفاء السبب الرافع للضمان ، فمقتضى عموم «على اليد» هو الضمان.

الوجه الرابع : الأدلّة الدالّة على عدم الضمان في الأمانات كالوكالة والوديعة ونحوهما ، وذلك كعموم ما دلّ على «أنّ من استأمنه المالك على ملكه غير ضامن ، بل ليس لك أن تتّهمه» وضمّ المصنّف رحمه‌الله إلى ذلك : الفحوى بالنسبة إلى مثل الهبة ، فإنّه إذا لم يضمن فيما لم يكن فيه بذل المال بل كان مجرّد استيمان ، ففيما كان فيه بذل المال يكون عدم الضمان أولى بالقبول.

وأورد عليه : بأنّ الكلام إنّما هو في مثل الشركة الفاسدة ، وكذا الإجارة الفاسدة بالنسبة إلى العين ، وفي مثل حمل المبيع بالبيع الفاسد على القول بكونه مضمونا على المشتري مع عدم الضمان في صحيحه ، وفي مثل استعارة المحلّ من المحرم على تقدير فساد العارية.

وحينئذ نقول : إنّ العموم المزبور ونحوه من أدلة الاستيمان لا يستفاد منها إلّا حكم ما هو استيمان محض قصد منه مصلحة المالك كالوكالة والوديعة ، أو ما كان مثل العارية بالنسبة إلى الصحيح منها الذي هو مورد الاذن ، دون غيره ، إذ ليس في المورد

١٩٣

.................................................................................................

__________________

إلّا الإذن المقيّد بكونه في ضمن العارية الصحيحة أو الإجارة الصحيحة مثلا ، وقد انتفى القيد فينتفى المقيّد بانتفائه.

ودعوى كون مطلق الاذن رافعا للضمان ، خالية عن البرهان ، فإنّ المقبوض بالسوم مع اقترانه بالاذن مضمون على القابض كما عن المشهور. فالحق أنّ هذه القاعدة لم يقم عليها دليل واضح.

فحينئذ نقول : إنّ كلّ مورد قام الدليل على عدم ضمان المقبوض باليد كان ذلك مخرجا له عن عموم «على اليد» وكلّ مورد لم يقم فيه دليل على عدم الضمان فالمرجع فيه قاعدة اليد. وعليه فلا دليل على عدم الضمان في العقود الفاسدة.

فالنتيجة : أنّ قاعدة «ما لا يضمن» خالية عن الدليل. بل مقتضى عموم «اليد» الضمان.

أقول : بناء على تسليم الكبرى ـ وهي : أنّ كل أمين ليس بغارم ـ وتسليم صغرويّة المستأجر والمستعير والمرتهن والودعي والمستبضع بالعقود الفاسدة لكبرى الأمين لا وجه للضمان.

ودعوى «تقيّد الاذن بصحّة العقد بأن يقال : إنّ العقود الفاسدة ليست من موارد الأمانات حتى لا يكون فيها ضمان ، إذ الأمانة فرع الاذن ، وهو مقيّد في العقود بصحتها ، فينتفي الإذن بانتفاء الصحة كانتفاء كل مقيد بانتفاء قيده» خالية عن الشاهد ، بعد صدق عناوين العقود على صحيحها وفاسدها بوزان واحد ، واشتراكها فيما عرفت في التوضيح من الجهات الداخلية والخارجية.

لا يقال : إنّ الاستيمان المالكي هو الاستنابة في الحفظ ، وليس شي‌ء من العقود كذلك إلّا الوديعة ، فاستناد عدم الضمان في قاعدة «ما لا يضمن» إلى الاستيمان المالكي في غير محله. بل لا بدّ من الالتزام بالضمان في تلك العقود.

فإنّه يقال : إنّ المراد بالاستئمان المالكيّ هو التسليط عن الرضا وعدم كونه بلا إذن

١٩٤

.................................................................................................

__________________

حتى تكون يده عادية ، ومن المعلوم أنّ ما ذكره من التسليطات المجّانيّة كلّها كذلك ، فلا تكون اليد عادية حتى يضمن القابض ، بل اليد مأذونة وليس مضمّنة.

وأمّا ما ورد من «أنّ المستعير والمستأجر ، مؤتمنان» فهو تنزيل لهما منزلة من استأمنه المالك حقيقة في عدم الضمان بمجرّد التلف ، لا أنّهما مؤتمنان حقيقة من قبل المالك.

وأمّا ما ورد في النصوص من «أنّه إذا كان مأمونا لا يضمن» فإنّه في قبال المتّهم ، فالفرق بين الأمين والمتّهم هو : أنّ الأمين في صورة دوران الأمر بين التلف والإتلاف لا يحكم عليه بالضمان ، إمّا واقعا كما إذا لم يتلف بالتعدّي أو التفريط ، وإمّا ظاهرا وفي مقام الدعوى ، فليس لصاحب المال مطالبته بالبينة واليمين ، بخلاف المتّهم ، فإنّه يطالب بهما.

فهذه الأخبار في مقام التفكيك بين الأمين والمتّهم في الحكم الظاهريّ ، لا في مقام بيان حكم التلف المحض الذي نتكلّم فيه. ولا يتفاوت فيه بين الأمين والمتّهم. كما أنّه لا تفاوت بينهما في الضمان بالتلف مع التعدي أو التفريط.

ثمّ إنّ لبعض الأعلام كلاما ، وهو : «أنّ ما ورد في مرسلة أبان بن عثمان المتقدّمة ـ من عدم الضمان بعد كون الرجل أمينا ـ يحتمل فيه وجوه ، بعد الخدشة في كون ما ذكر بمنزلة التعليل ، واحتمال أن يكون بيانا لمورد القضيّة ، أي بعد ما جعلته في المورد أمينا لا غرم عليه ، وهذا نحو أن يسأل الطبيب عن الرّمان ، فيقول بعد أن كان حلوا لا مانع منه ، الذي يفهم منه أنّ كلّ حلو لا مانع منه» هذا.

وفيه : أنّ قوله : «بعد أن يكون الرجل أمينا» مساوق لقوله في خبر غياث المتقدّم : «إنّما هو أمين» وظهور مثل هذه التعبيرات في بيان الكبرى الكلّية وهي عدم ضمان كل أمين ـ خصوصا بعد ملاحظة كون وظيفة الشارع بيان الأحكام الكلّية ـ مما لا ينكر ، إذ من

١٩٥

.................................................................................................

__________________

المعلوم أنّ التعليل بكون الرّجل أمينا ظاهر عرفا في حكم كلّي وهو عدم ضمان كلّ أمين ، ولا ظهور له في كونه بيانا للمورد ، فإنّ المورد من قبيل ما إذا أمر الإمام عليه‌السلام بأخذ معالم الدين من أحد الأصحاب ، وقال : «إنّه ثقة» فإنّه لا ريب في كونه تنبيها على وثاقته الموجبة لاندراجه في «الثقة» الذي يكون قوله حجة.

ثمّ قال : «إنّ في الرواية احتمالات : أحدها : أنّ المقصود الاخبار عن قضيّة واقعيّة ، وهي : أنّ الأمين لا تصدر منه الخيانة حتى يضمن ، فلا ضمان عليه واقعا. وعليه فلا يكون تعليلا ليستفاد منه حكم غير المورد».

وفيه : أنّ الاخبار ـ الذي هو حكاية أمر خارجي ـ خلاف الأصل في كلام الشارع ، فإنّ الأصل في كلامه هو الحمل على إنشاء الأحكام. فقوله عليه‌السلام : «ليس عليه غرم» حكم قد علّل بكونه أمينا ، فكأنّه قال عليه‌السلام : «علّة عدم الغرم شرعا هي أمانة الرجل» فموضوع عدم الضمان هو الأمين. كتعليل حرمة الخمر «بأنّه مسكر» الظاهر في كون موضوع الحرمة حقيقة هو المسكر ، وأنّ حرمة الخمر إنّما هي لأجل انطباق موضوع الحرمة أعني طبيعيّ المسكر عليه ، فيكون المقام من قبيل العلّة المنصوصة ، لا من قبيل علّة التشريع.

وإن شئت فقل : إنّ ما نحن فيه من قبيل علّة المجعول ، لا علّة الجعل على ما هو مصطلح بعض المحققين.

ثانيها : «أن يراد بقوله : ـ بعد أن يكون الرجل أمينا ـ أنّه بعد ما اتّخذته أمينا وجعلت المال أمانة عنده لم يحكم عليه بالغرم ، إلّا مع قيام البيّنة. وعلى هذا يمكن أن يقال : إنّ الاتّخاذ أمينا في عقد الوديعة إنّما يصدق مع صحّته. وأمّا مع فساده فلا ، إذ ليس المراد كونه أمينا واقعا أو كونه مورد وثوق المودع ، بل المراد أنّه مع اتّخاذه في العقد أمينا وجعلت بضاعتك أمانة لديه لم يحكم عليه بالغرم ، فلا يكون صادقا في فاسد العقد ، لأنّه لم يتّخذه أمينا مطلقا ، بل في العقد مع البناء على صحته».

١٩٦

.................................................................................................

__________________

وفيه : أنّ كون الرجل أمينا معناه : أنّ كونه أمينا واقعا دعا الناس إلى أن يجعلوا أموالهم أمانة عنده. وهذا الداعي موجود في كلتا صورتي صحة العقد وفساده ، لأنّ إمضاء الشارع لا دخل له في الرضا بكون المال أمانة عند الأمين. بل بعد البناء على أمانته يرضى بجعل المال عنده وديعة سواء أمضاها الشارع أم لا. بل الرضا مقيّد بالأمانة المحرزة بالفرض.

نعم إن كان الموجب لفساد الوديعة اختلال ما هو مقوّم لمفهومها عرفا ـ لا اختلال ما هو شرط لصحّتها شرعا ـ كانت دعوى تقيّد الوديعة بالرضا في محلّها ، حيث إنّ الرضا تعلّق عرفا بالوديعة ، والمفروض عدم تحققها ، فلا موضوع للاستيمان ، فتأمّل.

ثالثها : «أن يراد به أنّه بعد اتّخاذه أمينا لا يكون ضامنا بالتلف السماويّ ، من غير إفراط وتفريط ، فيأتي فيه الاشكال المتقدم».

والفرق بينه وبين سابقه : إنّ هذا الوجه راجع الى الحكم الواقعي ، وهو أنّ التلف من غير إفراط وتفريط ـ لا يوجب الضمان. والوجه السابق راجع الى الحكم الظاهري ، وهو عدم الضمان مع قيام البيّنة. وغرضه من الاشكال المتقدم هو أنّ الاتّخاذ أمينا لا يصدق مع فساد عقد الوديعة.

وفيه ما تقدّم من : أنّ الاتخاذ أمينا لا يتوقّف على صحّة العقد ، بل يتوقّف على أمانته واقعا ، وأن لا يكون العلم بأمانته جهلا مركّبا. وأمّا حكم الشارع بصحّة العقد فليس مقوّما لاتّخاذه أمينا.

رابعها : «أن يكون المراد أنّه بعد ما كان أمينا واقعا لا يضمن. ومقتضى التعليل : أن لا يضمن الأمين بالتلف السماوي مطلقا ، ويضمن غير الأمين. ففي المقبوض بالعقد الفاسد مثلا إذا كان القابض أمينا ثقة لا يضمن ، بخلاف غير الأمين».

والظاهر أنّ غرضه أخصيّة هذه الرواية من المدّعى ، لأنّها تدلّ على عدم ضمان الأمين ، فالمقبوض بالعقد الفاسد غير مضمون على القابض إن كان أمينا ، ومضمون عليه

١٩٧

.................................................................................................

__________________

إن لم يكن أمينا. والمدّعى أعمّ من ذلك ، إذ المقصود من قاعدة «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده» هو عدم الضمان مطلقا وإن لم يكن القابض أمينا.

وفيه : أنّ عدم الضمان في العقود الصحيحة منوط أيضا بالوثوق والأمانة ، لأنّ رضى المالك منوط بالأمانة ، فإن لم يكن أمينا لا يرضى المالك بأن يكون المال أمانة عنده اتّجه من الحكم بالضمان مع الأمانة وإن كان العقد صحيحا ، وبعدم الضمان وإن كان العقد فاسدا ، لأنّ المدار حينئذ الأمانة. فإن كان أمينا فلا ضمان عليه ، وإلّا فعليه الضمان.

خامسها : «أن يراد : كل من استأمنته لا يضمن ، بمعنى أن كل من جعلت الشي‌ء عنده بعنوان الأمانة ليس بضامن ، فيشمل الصحيح والفاسد. وهذان الاحتمالان بعيدان» (١).

وفيه : أنّ الظاهر إرادة هذا المعنى من الرواية ، لأنّ استبضاع المال لا يحصل عادة إلّا عند الأمين ، فالاستيمان متحقق من صاحب المال ، فالمستفاد من الرواية : أنّ كل من استأمنه المالك على ماله وكان القابض أمينا لا يضمن ، فالاستيمان من المالك وأمانة القابض دخيلان في ارتفاع الضمان.

فتحصّل : من جميع ما تقدم أنّ ما أفاده الشيخ قدس‌سره من ارتفاع الضمان باستيمان المالك يستفاد من النصوص ، فلاحظ وتدبّر.

تكملة : هل المستفاد من الروايات المتفرّقة في هذه الأبواب هو كون الضمان في مورده وعدمه في مورده بنحو الاقتضاء كوجوب الصلاة وحرمة شرب الخمر ، حتى يكون شرطه وجودا أو عدما مخالفا لمقتضى العقد ، فشرط الضمان في العارية مثلا مخالف للكتاب ، وشرط عدمه في عارية الذهب والفضة ـ التي فيها الضمان ـ مخالف لمقتضى العقد المستفاد من الأدلّة الخاصّة الدالّة على الضمان في عاريتهما؟ أم التفصيل بين شرط عدم الضمان في مورد ثبوته ، وبين شرط الضمان في مورد عدمه ، كشرط

__________________

(١) كتاب البيع ، ج ١ ، ص ٢٩١ و ٢٩٢.

١٩٨

.................................................................................................

__________________

الضمان في عارية غير الذهب والفضة ، بدعوى : أنّ الظاهر من جعل الضمان كونه حكما اقتضائيّا ، لأنّ ثبوت الحكم لموضوع لا يكون إلّا عن الاقتضاء ، فشرط عدمه مخالف للشرع ، بخلاف شرط الضمان في مورد عدمه ، وذلك لأنّ أدلّة نفي الضمان لا تدلّ على أزيد من عدمه ، ولا تدلّ على أنّه عن اقتضاء ، فإنّ دلالة تلك الأدلّة على ذلك محتاجة إلى قرينة مفقودة. كما أنّ دلالة دليل إباحة شي‌ء على أنّ الإباحة تكون لوجود المقتضي أو لوجود المانع عن جعل الحرمة منوط بدلالة دليل.

أم يقال : إنّ شرط عدم الضمان في مورد ثبوته أيضا ليس مخالفا للشرع ، لإمكان دعوى أنّ تشريع الضمان إنّما هو إرفاق بالمالك ومراعاة لمصلحته ، فأدلّة الضمان منصرفة عن مورد الاشتراط برضا المالك بعدمه.

والحاصل : أنّه يحتمل وجوه :

أحدها : صحّة اشتراط الضمان في مورد عدمه ، واشتراط عدمه في مورد ثبوته ، فالشرط مطلقا ـ أي وجود الضمان وعدمه ـ في مطلق الموارد ليس مخالفا للشرع.

ثانيها : عدم صحة الشرط مطلقا ، أي شرط الضمان في مورد عدمه ، وبالعكس.

ثالثها : التفصيل بين شرط عدم الضمان في مورد ثبوته ، وبين شرط الضمان في مورد عدمه ، بكون الأوّل مخالفا للشرع دون الثاني.

لا يبعد أن يقال : إنّ الظاهر هو الاحتمال الأوّل ، فشرط الضمان في مورد عدمه وشرط عدمه في مورد ثبوته ليس مخالفا للشرع. وذلك لإمكان استفادة هذه الكليّة من جملة من الروايات ، كصحيحة زرارة : «قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : العارية مضمونة؟

فقال : جميع ما استعرته فتوى فلا يلزمك تواه إلّا الذهب والفضة ، فإنّهما يلزمان ، إلّا أن تشترط عليه أنّه متى توى لم يلزمك تواه. وكذلك جميع ما استعرت فاشترط عليك

١٩٩

.................................................................................................

__________________

لزمك. والذهب والفضة لازم عليك وإن لم يشرط عليك» (١). فإنّ المستفاد منه نفوذ شرط الضمان في مورد عدمه ، وشرط عدمه في مورد ثبوته ، إذ عارية غير الذهب والفضة لا ضمان فيها ، لقوله عليه‌السلام : «جميع ما استعرته فتوى ..» وعارية الذهب والفضة فيها الضمان ، وشرط تعدمه ينفيه ، لقوله عليه‌السلام : «فإنهما يلزمان إلّا أن تشترط ..».

وصحيحته الأخرى : «قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن وديعة الذهب والفضة؟ قال : فقال : كلّ ما كان من وديعة ولم تكن مضمونة لا تلزم» (٢) ومن المعلوم أنّ المراد به اشتراط عدم الضمان ، وإلّا فهو من توضيح الواضح كما لا يخفى.

وتدلّ أيضا على صحة الشرط مطلقا ـ الكاشفة عن عدم كون الضمان وعدمه اقتضائيا ـ بعض روايات الإجارة ، فلاحظ.

ولعلّ المستفاد من هذه الروايات نفوذ شرط الضمان وعدمه في جميع الموارد. ففي الأمانات التي نفى الشارع فيها الضمان يجوز شرط الضمان فيها ، كالعين المستعارة والمستأجرة ، ولا يكون الشرط مخالفا للكتاب والسنة. وكذا يجوز شرط عدم الضمان فيما جعل فيها الضمان كعارية الذهب والفضة.

والحاصل : أنّ هذه الروايات ترجّح الاحتمال الأوّل وهو نفوذ شرط الضمان وعدمه في الأمانات ، فيتعيّن في مقام الإثبات ، دون الاحتمالين الآخرين. فجعل الضمان شرعا في بعض موارد الأمانات وعدمه في بعضها الآخر ليس من باب المقتضي والعلّة التامّة ، فيتغير بالشرط الذي هو من العناوين الثانوية المغيّرة للأحكام الأوّليّة.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ٢٣٩ ، الباب ٣ من كتاب العارية الحديث ٢ ، رواه الكليني عن علي بن إبراهيم عن ابن أبي عمير عن جميل عن زرارة ، والرواية صحيحة كما لا يخفى على من راجع تراجم هؤلاء.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ٢٢٨ ، الباب ٤ من أبواب الوديعة ، الحديث ٤ ، رواه الكليني عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن حمّاد عن حريز عن زرارة ، والرواية صحيحة.

٢٠٠