هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٣

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٠

والانتفاع به (*) وسيأتي تتمّة ذلك في مسألة بيع الغاصب مع علم المشتري (١).

______________________________________________________

(١) سيأتي في الأمر الثالث ممّا ذكره في العقد المجاز ، حيث قال : «ثم إنّ هنا إشكالا في شمول الحكم بجواز تتبع العقود لصورة علم المشتري بالغصب .. إلخ».

__________________

(*) قد ذكر لهذا التفصيل وجوه :

الأوّل : الأصل ، بتقريب : أنّ أصالة البراءة تنفي الضمان.

وفيه ما لا يخفى ، لحكومة «على اليد» عليه ، سواء أريد به الأصل الحكمي وهو الضمان ، أم أريد به الأصل الموضوعي وهو أصالة عدم تحقق سبب الضمان.

أمّا الأوّل فواضح. وامّا الثاني فلأنّ اليد تقتضي الضمان. إلّا أن يكون هناك مانع وهو الأمانة ، ولا بدّ من العمل على طبق المقتضي حتّى يعلم المانع وهو الأمانة المعلوم عدمها في المقام.

الثاني : التسليط المجّاني المانع عن تأثير اليد في الضمان. توضيحه : أنّ العلم بالفساد موجب للعلم بعدم استحقاق العوض ، وهو مستلزم للإقدام على دفع المال مجّانا.

وفيه : ـ مضافا إلى عدم اختصاص هذا الوجه بجهل القابض ، لجريانه في صورة علمه أيضا ـ أنّه إن أريد عدم تمشي قصد البيع مع العلم بعدم استحقاق العوض ، ولازمه قصد المجّانية ، وهو ينفي الضمان ، ففيه أوّلا : منع الملازمة بين العلم بعدم الاستحقاق وبين امتناع قصد البيع. ويتضح وجه عدم الملازمة بملاحظة التشريع ، فإنّ الغاصب يشرّع مالكيته للمغصوب ثم يبيعه ، فمع علمه بفساد البيع يقصد المعاوضة لا المجّانيّة.

وثانيا : منع الملازمة بين عدم قصد حقيقة البيع وبين مجّانيّة التسليط الخارجي ، لجواز كونه بعوض كما هو كذلك في مقامنا ، ضرورة أنّ تسليط المشتري على المبيع إنّما يكون في مقابل تسليطه البائع على الثمن ، فلا مجّانيّة حتى تمنع عن تأثير اليد في الضمان.

مضافا إلى : أنّ القبض الخارجيّ يكون متفرّعا على البيع الفاسد ، لأنّ الكلام في المقبوض به ، لا على عدم البيع ، فلا مجال لإنكار قصد البيع حتى يكون القبض عنوانا

١٤١

.................................................................................................

__________________

مستقلّا قصد به المجّانيّة.

فالمتحصل : عدم الفرق في الضمان بين علم القابض وجهله.

نعم الفرق بينهما في ثبوت الحرمة التكليفيّة المنجّزة في صورة علم القابض وعدمها مع جهله ، فلاحظ.

الثالث : قاعدة الغرور ، بتقريب : أنّ الدافع العالم بالفساد قد غرّ القابض الجاهل به ، حيث إنّ المقبض العالم إنّما أقبضه ما هو ماله بنظر القابض خدعة لإتمام المعاملة ، وأخذ عوضه من القابض ، فإبقاء جهله بحاله وإعطاؤه ما ليس بنظره ماله نحو غرور وخدعة ، ومن المعلوم أنّ المغرور يرجع على من غرّه. نعم مع علم القابض لا غرور ولا خديعة.

فهذا الوجه الثالث مختص بصورة جهل القابض.

وفيه أوّلا : أنّه أخصّ من المدّعى ، لاختصاص الغرور بما إذا كان الجاهل القابض مباليا بماله دخل في صحّة المعاملة من الشرائط الشرعيّة ، إذ بدون المبالاة والاقتصار على الصحة العقلائيّة ـ بحيث لو علم بفساد المعاملة شرعا لأقدم عليها أيضا كبيع الخمر والخنزير وغيرهما من البيوع العقلائيّة المنهيّ عنها شرعا ـ لا يصدق الغرور والخدعة ، لأنّ إقدام القابض حينئذ ليس ناشئا من الخدعة أصلا ، بل من عدم مبالاته بالدين. فقاعدة الغرور لا تجري في كلتا صورتي جهل القابض وعلمه ، مع أنّ المدّعى ضمان القابض في كلتيهما ، كما لا يخفى.

وثانيا : أنّ الغرور بمعنى الخديعة متقوّم بأمرين :

أحدهما : علم الغارّ ، والآخر جهل المغرور. وانتفاء أحدهما يوجب انتفاء الغرور. وفي المقام وإن كان القابض جاهلا بفساد العقد. إلّا أنّه عالم بالضمان ومقدم عليه ، غايته أنّه أقدم على ضمان المسمّى لا أكثر ، فلا تجري قاعدة الغرور في أصل الضمان. نعم تجري في الزائد على العوض المسمّى ، بداهة أنّ الدافع غارّ بالنسبة إلى هذا الزائد ، وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

فالمتحصّل : أنّ ما عن المشهور من الضمان في جميع الصور ـ كما في حاشية

١٤٢

وأمّا عكسها (١) وهو «أنّ ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده» فمعناه (٢) : أنّ كلّ عقد لا يفيد صحيحه ضمان مورده (٣) (*) ففاسده لا يفيد ضمانا ،

______________________________________________________

قاعدة : ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده

(١) أي : عكس قاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» وقد تقدم (في ص ٥٧) المسامحة في التعبير بالعكس كما لا يخفى ، فراجع.

وكيف كان فهذا شروع في المقام الثاني ، وهو البحث عن الجهات المتعلقة بقاعدة «ما لا يضمن» واقتصر المصنّف قدس‌سره هنا على جهات ثلاث ، الأولى : مدلول القاعدة ، الثانية : موارد النقض عليها. الثالثة : مدرك القاعدة ومستندها.

وأمّا المباحث المتقدمة في قاعدة «ما يضمن» ـ من معنى الضمان ، وكون عموم العقود أفراديا أو أنواعيا أو أصنافيا ، واقتضاء ذات العقد للضمان أو كفاية اقتضاء الشرط له ـ فلا حاجة إلى إعادتها ، لاشتراكها بين الأصل والعكس.

(٢) هذا شروع في الجهة الأولى.

(٣) مورد العقد ظاهر في نفس ما تعلّق به العقد ، وما هو مصبّه ، كالعين في عقد البيع ، والانتفاع في العارية ، والمنفعة في الإجارة. لكن المراد به هنا بقرينة ما يأتي في

__________________

الفقيه المامقاني قدس‌سره (١) ـ هو الأقوى ، فلا يقيّد الضمان في قاعدة ما يضمن بشي‌ء من العلم والجهل.

كما أنّ المتحصّل ممّا ذكرنا تمامية كلية القاعدة من ناحية إيجابها أعني به «كل عقد يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» ووفاء الأدلة من اليد وقاعدة الاحترام بإثبات إيجابها الكليّ ، فلاحظ وتأمّل.

(*) ظاهره نفي سببيّة العقد للضمان ، لا إثبات سببيّته لعدم الضمان ، فعدم الضمان إنّما هو لعدم المقتضي له ، لا لوجود المقتضي لعدم الضمان.

__________________

(١) غاية الآمال ، ص ٢٨١.

١٤٣

كما في عقد الرهن والوكالة والمضاربة والعارية غير المضمونة ، بل المضمونة ـ بناء على أنّ المراد بإفادة الصحيح للضمان إفادته بنفسه (١) لا بأمر خارج عنه كالشرط الواقع في متنه ـ وغير (٢) ذلك من العقود اللازمة والجائزة.

______________________________________________________

كلامه : «ثم إنّ مقتضى ذلك عدم ضمان العين ..» أعم منه وممّا يكون متعلّق متعلّق العقد ، إذ لو لا هذا التعميم لا يستقيم عدم ضمان العين المستأجرة ، حيث إنّ اليد تقتضي ضمانها ، فعدم ضمانها مبنيّ على تعميم متعلق العقد لمتعلق متعلقة. فمورد نفس متعلق الإجارة هو المنفعة ، والعين تكون متعلق متعلق الإجارة. ففي الإجارة الصحيحة ليست العين مضمونة ، وكذا في فاسدها.

(١) هذا متعلّق بقوله : «بل المضمونة» وهو إشارة إلى ما مرّ من اقتضاء العقد بنفسه للضمان ، لا من جهة الشرط الذي هو خارج عن ماهيّة العقد ، ويكون الضمان لأمر خارج عن حقيقته وهو الشرط. فبناء على التعميم تندرج العارية المشروطة بالضمان في أصل القاعدة ، وبناء على الاختصاص تندرج في العكس.

(٢) معطوف على «عقد الرهن ..» والمراد بالغير هو العقود التي لا تتضمّن معاوضة كالهبة والوديعة.

__________________

وعلى هذا فلو ثبت الضمان في فاسد العقد الذي لا يضمن بصحيحه لم يكن معارضا لهذه القاعدة ، لتوقّف عدم الضمان على استقصاء سائر أسباب الضمان وإحراز عدمها. وإلّا فمجرّد عدم اقتضاء فاسد العقد للضمان لا يجدي في الحكم بعدم الضمان فعلا.

هذا لو كانت «الباء» للسببيّة ، بخلاف ما لو كانت ظرفيّة ، لظهورها في تبعيّة العقد الفاسد لصحيحة في عدم الضمان ، فلو قام دليل آخر على الضمان كان معارضا لهذه القاعدة لو تمّت في نفسها ، للتنافي بين ما يثبت الضمان في الفاسد وما ينفيه ، فلاحظ.

١٤٤

ثمّ إنّ مقتضى ذلك (١) عدم ضمان العين المستأجرة فاسدا ، لأنّ صحيح

______________________________________________________

(١) المشار إليه هو قوله في تفسير القاعدة : «أنّ كلّ عقد لا يفيد صحيحه ضمان مورد ففاسده لا يفيد ضمانا» فمقتضى هذه القاعدة عدم ضمان العين المستأجرة في الإجارة الفاسدة ، لأنّ الإجارة الصحيحة لا تفيد ضمان العين فكذا الفاسدة.

وغرضه قدس‌سره بيان أحد النقوض الواردة على قاعدة «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده» ولكنّه خصّ هذه المسألة بالذّكر هنا ولم يجعلها في عداد النقوض الآتية بقوله : «ثم إنّه يشكل اطراد القاعدة في موارد» ولعلّه لخصوصيّة في هذه ، وهي ابتناؤها على الخلاف في أنّ المراد بالعقد في أصل القاعدة وعكسها هل هو خصوص مصبّ العقد كالعين في باب البيع ، والمنفعة في باب الإجارة ، أم ما يعمّ متعلق المتعلق؟

فإن قلنا بالاختصاص لزم التفكيك بين العين والمنفعة في عقدي البيع والإجارة ، لكون العين في البيع موضوعا لقاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» والمنفعة موضوعا لقاعدة «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده».

وينعكس الأمر في باب الإجارة ، إذ المعوّض فيها هو المنفعة ، فتندرج في أصل القاعدة ، وتندرج العين في العكس ، يعني «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده».

وإن قلنا بالتعميم أي : دخول العين في مصبّ الإجارة ، فلا ضمان في صحيحها وفاسدها. أمّا في الصحيح فلأنّ مالك العين يلزمه تسليم العين للمستأجر ليستوفي منفعتها ، فهو مأذون من قبل المالك ، ويده يد استحقاق. وأمّا في الفاسد فلإقدام المالك على تسليم العين بدون ضمان.

وكيف كان فإذا استأجر زيد من عمرو دارا عاما بمائة دينار ، فإن كانت صحيحة كان المستأجر ضامنا للأجرة المسماة ، ولا يضمن نفس الدار ، فلو تلفت بيده ـ من دون تعدّ وتفريط في الحفظ ـ لم يضمنها ، لكونها أمانة. وإن كانت الإجارة فاسدة ففي ضمانه قيمة الدار قولان :

١٤٥

الإجارة غير مفيد لضمانها ، كما صرّح به (١) في القواعد والتحرير ، وحكي عن التذكرة (٢) وإطلاق (٣) الباقي.

______________________________________________________

أحدهما : الضمان ، وهو المصرّح به في كلام العلّامة السيّد الطباطبائيّ قدس‌سره (١).

والآخر : عدمه ، ولعلّه المشهور ، كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى.

(١) أي : بعدم ضمان العين. قال العلّامة في القواعد : «العين أمانة في يد المستأجر لا يضمنها إلّا بتعدّ أو تفريط ، في المدّة وبعدها إذا لم يمنعها مع الطلب ، سواء كانت الإجارة صحيحة أو فاسدة» (٢). والجملة الأخيرة صريحة في عدم ضمان العين المستأجرة بالإجارة الباطلة شرعا. ونحوه عبارة التحرير (٣).

(٢) الحاكي هو السيد الفقيه العاملي قدس‌سره (٤) ، حكاه بتصرف في اللفظ ، قال في التذكرة : «إذا كانت الإجارة فاسدة لم يضمن المستأجر العين أيضا إذا تلفت بغير تفريط ولا على عدوان ، لأنّه عقد لا يقتضي صحيحه الضمان فلا يقتضيه فاسدة ، كالوكالة والمضاربة. وحكم كل عقد فاسد حكم صحيحه في وجوب الضمان وعدمه ، فما وجب الضمان في صحيحه وجب في فاسده ، وما لم يجب في صحيحه لم يجب في فاسده. ولأنّ الأصل براءة الذمّة من الضمان ، لأنّه قبض العين بإذن مالكها ، فلم يجب عليه ضمانها ، لعدم موجب له مع هذا القبض» (٥).

(٣) الأولى أن يقال : «وأطلق الباقي» ليكون مقابلا لقوله : «كما صرّح به في القواعد». وجعله معطوفا على نائب فاعل «حكي» ـ ليكون مفاده حكي التصريح عن التذكرة كما حكي إطلاق الباقي ـ لا بأس به وإن كان خلاف الظاهر. وقد حكى

__________________

(١) رياض المسائل ، ج ٢ ، ص ٨.

(٢) قواعد الأحكام ، ص ٩٣ ، السطر ١٥ (الطبعة الحجرية).

(٣) تحرير الأحكام ، ج ١ ، ص ٢٥٢.

(٤) مفتاح الكرامة ، ج ٥ ، ص ١٣٢.

(٥) تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٣١٨.

١٤٦

إلّا أنّ صريح الرياض (١) الحكم بالضمان ، وحكى (٢) فيها عن بعض «نسبته إلى المفهوم من كلمات الأصحاب» والظاهر أنّ المحكي عنه هو المحقق الأردبيلي في مجمع الفائدة (٣).

______________________________________________________

السيّد العاملي إطلاق الباقين ، فراجع (١).

وكيف كان فالمقصود أنّ عدم ضمان العين المستأجرة فاسدا يستفاد من تصريح العلامة ومن ظاهر غيره ممّن أطلق عدم الضمان ، ولم يقيّده بالعقد الصحيح ، كالمحقق ، حيث قال : «والعين المستأجرة أمانة لا يضمنها المستأجر إلّا بتعدّ أو تفريط» (٢).

(١) قال في ذيل ما ذكره في شرح قول المحقق قدس‌سره : «ويثبت أجرة المثل في كل موضع تبطل فيه الإجارة» (٣) ما لفظه : «والعين مضمونة في يد المستأجر مطلقا كما نسب إلى المفهوم من كلمات الأصحاب. ولعلّه لعموم الخبر بضمان ما أخذته اليد» (٤).

(٢) يعني : وحكى السيّد الطباطبائي في الرياض نسبة الضمان إلى ما فهمه بعض من كلمات الأصحاب ، والناسب هو المحقق الأردبيلي قدس‌سره.

(٣) قال المحقق المذكور ما نصّه : «ثمّ إنّ الظاهر أنّ العالم كالغاصب لا يجوز له التصرف ، ولا يستحق شيئا ، لما مرّ من أن الاذن إنّما علم بالعقد ، لاعتقاد أنّه صحيح ، ويلزم الطرف الآخر ما يلزمه ، وقد بطل وهو عالم بالفرض ، فيبقى أصل المنع على حاله كما قيل في البيع الباطل ، بل يفهم من كلامهم الضمان مع الجهل أيضا» (٥).

وهذه الجملة الأخيرة محلّ الاستشهاد بكلام المحقق الأردبيلي قدس‌سره ، حيث فهم من كلام الأصحاب ضمان العين المستأجرة.

__________________

(١) مفتاح الكرامة ، ج ٥ ، ص ٢٥٢.

(٢) شرائع الإسلام ، ج ٢ ، ص ١٧٩.

(٣) المختصر النافع ، ص ١٥٣.

(٤) رياض المسائل ، ج ٢ ، ص ٨ ، أواخر الصفحة.

(٥) مجمع الفائدة والبرهان ، ج ١٠ ، ص ٥٠.

١٤٧

وما أبعد (١) ما بينه وبين ما عن جامع المقاصد ، حيث قال في باب

______________________________________________________

(١) يعني : وما أبعد ما بين ما أفاده المحقق الأردبيلي قدس‌سره ـ من أنّ المفهوم من كلمات الأصحاب ضمان العين في الإجارة الفاسدة ـ وبين ما أفاده المحقق الكركي قدس‌سره من أنّه يلوح من كلامهم عدم الضمان. وغرض المصنّف قدس‌سره التعجّب من استظهار هذين العلمين ، حيث ادّعى المحقق الأردبيلي أنّ الضمان يفهم من كلامهم ، وادّعى المحقق الكركي ظهور كلامهم في عدم الضمان.

وكيف كان فيحتمل أن يكون اختلافهما في النسبة إلى الأصحاب ناشئا من الاختلاف في فهم معنى قولهم : «كلّ ما يضمن بصحيحه .. إلخ» بأن يقال : إنّ المحقق الأردبيلي قدس‌سره فهم من هذه العبارة : أنّ مورد إثبات الضمان ونفيه عند الأصحاب خصوص متعلّق العقد كالمنفعة في الإجارة ، فلا يعمّ العين المستأجرة ، فلا بدّ حينئذ من الحكم بضمان العين لقاعدة اليد ، لعدم كون العين موردا للعقد.

والمحقّق الثاني قدس‌سره فهم منها أنّ مورد النفي والإثبات عندهم ما يشمل مورد العقد ومتعلّق المتعلّق ، فيعمّ العين المستأجرة ، فيتعارض اليد والقاعدة ، فيرجع إلى البراءة.

والحاصل : أنّ هنا قاعدتين إحداهما ـ وهي اليد ـ توجب الضمان ، والأخرى وهي قاعدة «ما لا يضمن بصحيحه» تنفي الضمان. والاختلاف إنّما يكون في مفاد الثانية.

فإن كان مفادها عند الأصحاب نفي الضمان عن خصوص مورد العقد ، فلا تشمل العين المستأجرة فاسدا كما زعمه المحقق الأردبيلي. وعليه فمقتضى قاعدة اليد ضمانها.

وإن كان مفادها عندهم نفي الضمان عن الأعمّ من مورد العقد كما استظهره المحقق الثاني من كلام الأصحاب فلازمه نفي الضمان عن العين المستأجرة فاسدا ، إذا المفروض عدم اختصاص قاعدة «ما لا يضمن» بنفس مورد العقد ، وشمولها لمتعلق متعلقة أيضا كالعين المستأجرة ، فإنّ مورد العقد هو المنفعة دون العين.

١٤٨

الغصب : «إنّ الّذي (١) يلوح من كلامهم هو (٢) عدم ضمان العين المستأجرة فاسدا باستيفاء (٣) المنفعة. والّذي ينساق إليه النظر (٤) هو الضمان ، لأنّ (٥) التصرّف

______________________________________________________

لكنّه بناء على تعميم مورد العقد لمتعلّق متعلقة تندرج الإجارة الفاسدة في قاعدة «ما لا يضمن» فإنّ صحيح الإجارة لا يوجب ضمان العين ، وكذا فاسدها.

(١) العبارة منقولة بتصرّف غير قادح في المقصود ، قال قدس‌سره : «وهل العين مضمونة بالاستيفاء؟ يلوح من كلامهم العدم. والذي ينساق إليه النظر كونها مضمونة ، لأنّ التصرف في العين غير جائز ، فهو بغير حق ، فيكون في حال التصرف استيلاؤه عليها بغير حق ، وذلك معنى الغصب ، إلّا أنّ كون الإجارة الفاسدة ..» (١) إلى آخر ما في المتن. وكلامه مشتمل على أنظار ثلاثة سيأتي بيانها.

(٢) هذا هو النظر الأوّل المذكور في جامع المقاصد ، وهو نسبة عدم ضمان العين ـ في الإجارة الفاسدة ـ إلى الأصحاب. وكان مبنى هذه النسبة تصريح العلّامة في القواعد والتحرير والتذكرة بعدم الضمان.

(٣) متعلق ب «عدم ضمان» يعني : أنّ استيفاء المنفعة وإن أوجبت ضمانها بأجرة المثل ، لكنّها لا تقتضي ضمان العين.

(٤) أي : نظر المحقق الثاني ، خلافا لما استظهره من كلام الأصحاب من عدم الضمان. وهذا ثاني الأنظار في المسألة ، وهو إثبات ضمان العين المستأجرة بالإجارة الفاسدة ، لكونه من موارد الغصب ، وهو محرّم شرعا ، ويترتّب عليه الضمان.

والوجه في حرمة التصرّف هو فساد العقد حسب الفرض ، ولا إذن من المالك غير الإذن العقديّ ، فكما يضمن المستأجر منفعتها المستوفاة فكذا يضمن العين لو تلفت بيده.

(٥) تعليل للضمان ، وقد عرفته آنفا ، كما عرفت أن هذه الجملة ليست نصّ عبارة جامع المقاصد.

__________________

(١) جامع المقاصد ، ج ٦ ، ص ٢١٦.

١٤٩

فيه (١) حرام ، لأنّه غصب فيضمنه» ثمّ قال : «إلّا أنّ (٢) كون الإجارة الفاسدة لا يضمن بها كما لا يضمن بصحيحها مناف لذلك (٣) ، فيقال : (٤) إنّه (٥) دخل على عدم الضمان بهذا الاستيلاء وإن لم يكن (٦) مستحقا ، والأصل براءة الذمة من

______________________________________________________

(١) كان المناسب تأنيث هذا الضمير وضمير «فيضمنه» لرجوعهما إلى العين في الإجارة الفاسدة ، وكذا تأنيث ضمير «لأنه» لو لم يرجع إلى التصرّف.

(٢) هذا شروع في بيان النظر الثالث ، وهو الخدشة في الضمان ، وبيانها : أنّ قاعدة اليد وإن اقتضت ضمان العين ، إلّا أنّها معارضة بقاعدة أخرى تقتضي عدم الضمان ، فيتم نظر المشهور الّذين يلوح من كلامهم ذلك ، وتلك القاعدة هي «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده» بتقريب : أنّ الموجر أقدم على عدم الضمان ، حيث إنّه سلّط المستأجر على العين بلا عوض عنها ، وإن لم يكن المستأجر مستحقا لها من جهة فساد العقد. فإن كان الترجيح مع قاعدة «ما لا يضمن» فلا ضمان.

وإن كانتا متكافئتين تساقطتا ، والمرجع أصالة براءة ذمة المستأجر عن بدل العين التي استوفى منفعتها ، هذا.

(٣) أي : للضمان الذي تقتضيه قاعدة اليد.

(٤) هذا تقريب تطبيق قاعدة «ما لا يضمن» على الإجارة الفاسدة بالنسبة إلى العين ، ومحصّله : الاقدام على تسليط المستأجر عليها بلا عوض عنها.

ويستفاد من هذا الكلام أنّ الاقدام على التسليط بعوض يكون من موجبات الضمان ، فيكون المحقّق الثاني موافقا لشيخ الطائفة وابن إدريس قدس‌سرهم في عدّ الاقدام من أسباب الضمان.

(٥) أي : أنّ مالك العين أقدم على عدم ضمانها.

(٦) أي : وإن لم يكن المستولي ـ وهو المستأجر ـ مستحقّا للعين مقدّمة للانتفاع بها ، ووجه عدم استحقاقه لها فساد عقد الإجارة.

١٥٠

الضمان (١) ، فلا يكون العين بذلك مضمونة. ولو لا ذلك (٢) لكان المرتهن ضامنا مع فساد الرهن ، لأنّ استيلاءه بغير حق ، وهو (٣) باطل» (١) انتهى.

______________________________________________________

(١) إن كان الأصل العملي في رتبة الدليل الاجتهادي أعني به قاعدة «ما لا يضمن» فيكون معاضدا لها في تقدمها على قاعدة اليد. وإن كان متأخّرا عنها رتبة ـ كما هو الحق ـ فتكون مؤيّدا ، أو مرجعا على تقدير تساقط القاعدتين بالتعارض.

(٢) أي : ولو لا انطباق قاعدة «ما لا يضمن» على الإجارة الفاسدة بالنسبة إلى العين لكان المرتهن .. إلخ.

وغرض المحقق الكركي قدس‌سره من الاستشهاد بمسألة عدم ضمان العين المرهونة ـ في الرهن الفاسد ـ هو تأييد مقالته من عدم ضمان العين في الإجارة الفاسدة ، لكونه من موارد قاعدة «ما لا يضمن» وبيانه : أنّ مجرّد وضع اليد على مال الغير لا يقتضي ضمانه ، بل يتوقّف على عدم إذن مالكيّ ولا شرعيّ ولا استيمان ولا معاوضة ، فلو كان التسليط المالكيّ مبنيّا على عدم ضمان الآخذ لم تقتض يده ضمانا ، وهذا أمر مطّرد في موارد :

منها : الرهن الفاسد ، فإنّ استيلاء المرتهن على العين المرهونة يكون بغير حقّ حسب الفرض ، إلّا أنّها لو تلفت بيده لم يكن عليه بدلها ، لأنّ الراهن سلّط المرتهن على ماله مبنيّا على كونه وثيقة عنده ، لا بعنوان المعاوضة. وبهذا يندرج الرّهن في قاعدة «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده» وتجري أصالة البراءة عن الضمان. ولو لا هذا لزم الحكم بضمان الرّهن عملا بقاعدة اليد ، مع أنّهم حكموا بعدم الضمان ، أخذا بالقاعدة وبالأصل.

(٣) يعني : والحال أنّ ضمان المرتهن للعين المرهونة ـ في الرّهن الفاسد ـ باطل ، فكذا لا وجه لضمان العين المستأجرة بالإجارة الفاسدة ، هذا تمام كلام المحقق الكركي قدس‌سره.

__________________

(١) جامع المقاصد ، ج ٦ ، ص ٢١٦.

١٥١

ولعلّ الحكم بالضمان في المسألة (١) إمّا لخروجها (٢) عن قاعدة «ما لا يضمن» لأنّ المراد بالمضمون مورد العقد ، ومورد العقد في الإجارة

______________________________________________________

(١) يعني : ولعلّ حكم الأصحاب بالضمان في مسألة الإجارة الفاسدة ـ على ما نسبه المحقق الأردبيلي إليهم ، وعدم عملهم فيها بقاعدة «ما لا يضمن» المقتضية لعدم الضمان ـ مستند إلى أحد وجهين .. إلخ. وغرضه قدس‌سره من هذه الجملة إلى قوله : «وإمّا لأنّ قاعدة ما لا يضمن معارضة بقاعدة اليد» توجيه الحكم بضمان العين بوجهين ذكرهما صاحب الجواهر قدس‌سره وإن تنظّر فيهما في آخر كلامه ، وسيأتي نقل بعض ما أفاده.

وعلى كلّ منهما يشكل ما تقدّم عن المحقق الكركي من ترجيح القول بعدم ضمان العين عملا بقاعدة «ما لا يضمن» وبأصالة البراءة عن الضمان.

(٢) هذا هو الوجه الأوّل للقول بضمان العين ، وهو مؤخّر ـ ذكرا ـ في الجواهر ، قال قدس‌سره : «على أنّه قد يقال : بعدم اندراج العين في قاعدة ما لا يضمن ، فلا تعارض قاعدة اليد حينئذ ، وذلك لأنّ المراد من الإيجاب والسّلب فيها ما كان مضمونا بسبب العقد ، وما لم يكن مضمونا كذلك. على معنى أنّ الضمان وعدمه مورد العقد كالمنفعة في الإجارة ، والعين في الهبة. ولا ريب أنّ عدم الضمان في العين المستأجرة لا مدخليّة للعقد فيه ، وإنّما هو لكونها أمانة ، فيدور الضمان في الفاسد عليها ، لا من القاعدة المزبورة. وكذلك العين في العارية. فمع فرض عدم الأمانة ـ لما سمعته من تقييد الإذن بالصحة ، والمفروض انتفاؤها ـ يتّجه ما نسباه ـ يعني المحقق الأردبيلي وصاحب الرياض ـ إلى الأصحاب من الضمان .. إلخ» (١).

ومحصّل هذا الوجه : عدم شمول قاعدة «ما لا يضمن» للعين تخصّصا ، بتقريب : أنّ المراد ب «ما يضمن وما لا يضمن» ما وقع عليه العقد ، لا ما هو خارج عنه ويعدّ من حواشيه ، كمتعلّق متعلّقه. فاستفادة حكمه منوطة بملاحظة سائر القواعد والأدلّة ، فإن اقتضت الضمان قيل به ، وإن لم تقتضه قيل بعدم الضمان. هذا بحسب الكبرى.

__________________

(١) جواهر الكلام ، ج ٢٧ ، ص ٢٥٢.

١٥٢

المنفعة ، فالعين يرجع في حكمها إلى القواعد (١). وحيث كانت (٢) في صحيح الإجارة أمانة مأذونا فيها شرعا ، ومن طرف المالك (٣) لم يكن فيه ضمان. وأمّا في فاسدها فدفع الموجر للعين إنّما هو للبناء على استحقاق المستأجر لها ، لحقّ الانتفاع فيها ، والمفروض عدم الاستحقاق (٤) ، فيده عليه (٥) يد عدوان موجبة للضمان.

وإمّا (٦) لأنّ قاعدة

______________________________________________________

وأمّا تطبيقها على المقام فهو : أنّ مورد الإجارة ومتعلّقها هو المنفعة لا العين. فإن كانت الإجارة صحيحة لم يضمنها المستأجر ، لكونها أمانة شرعيّة ومالكيّة ، أمّا الاذن الشرعيّ فلوجوب تسليم العين للمستأجر من باب وجوب الوفاء بالعقد ليستوفي منفعتها. وأمّا الاذن المالكيّ فلأنّ الموجر يأذن للمستأجر في الانتفاع بها ، وهو منوط بتسليمها إليه. ومن المعلوم فقدان هذا الاذن في الإجارة الفاسدة. فيتحقق حينئذ موضوع قاعدة اليد المقتضية للضمان ، وبهذا يتجه حكم صاحب الرياض قدس‌سره بالضمان ، هذا.

(١) من قاعدة اليد واحترام مال المسلم ونفي الضرر وغيرها ، المقتضية للضمان ، أو قاعدة الاستيمان المقتضية لعدمه.

(٢) أي العين. وجواب الشرط قوله : «لم يكن فيه ضمان».

(٣) أمّا الاذن الشرعيّ فلصحّة الإجارة شرعا المقتضية لكون العين أمانة لاستيفاء منافعها مدّة الإجارة. وأمّا الاذن المالكيّ فلتسليمه إيّاها بطيب نفسه للانتفاع بها إذا توقّف الانتفاع بها على التسليم.

(٤) لفساد العقد.

(٥) الضمير راجع إلى العين ، فالأولى تأنيثه.

(٦) معطوف على قوله : «إمّا لخروجها» وهذا إشارة إلى ثاني الوجهين للحكم بضمان العين المستأجرة. قال في الجواهر : «وإن كان قد يوجّه ـ يعني الضمان ـ على تقدير صحّة النسبة إلى الأصحاب بما سمعت من عموم ـ على اليد ـ المعارض للقاعدة المزبورة من وجه ، ويرجّح عليها بالنسبة المزبورة. ودعوى العكس باعتضادها

١٥٣

.................................................................................................

______________________________________________________

بقاعدة الأمانة يدفعها ما سمعته من الرياض أخيرا من أنّه إذا كان الدفع بعنوان الصحّة ، لكون الاذن كالمقيّدة بذلك ـ أي بالصحّة ـ فمع الفساد ينكشف أن لا إذن ، فلا تكون أمانة» (١).

ولا يخفى ابتناء هذا الوجه على شمول قاعدة «ما لا يضمن» للعين المستأجرة وعدم اختصاصها بمورد العقد ومصبّه ، إذ لو اختصّت القاعدة بمورد العقد ومتعلقة لم تكن العين المستأجرة مندرجة فيها ، لعدم كونها أحد العوضين ، فهي خارجة موضوعا عن القاعدة.

وبناء على هذا فتوضيح كون النسبة بين قاعدتي «اليد وما لا يضمن» عموما من وجه هو : أنّ قاعدة «اليد» تجري في المغصوب والمقبوض بالبيع الفاسد ونحوهما ممّا يكون المضمون عينا ، وتقتضي الضمان. وقاعدة «ما لا يضمن» تجري في العارية ونحوها من موارد الاستيمان ، فتقتضي نفي الضمان. وتجتمع القاعدتان في العين المستأجرة بالإجارة الفاسدة ، فتنطبق قاعدة اليد عليها ، لعدم كونها أمانة بيد المستأجر ، فتكون مضمونة. وكذلك تنطبق قاعدة «ما لا يضمن» عليها ، وتحكم بعدم ضمانها ، لتبعية الإجارة الفاسدة لصحيحها ، فكما لا تضمن العين في صحيحها فكذا في فاسدها.

وحيث كانت النسبة عموما من وجه ، فإن كان لأحد العامّين مرجّح قدّم على الآخر ، وإن كانا متكافئين تساقطا ويرجع إلى دليل ثالث. هذا بحسب الكبرى.

والمدّعى في كلام صاحب الجواهر قدس‌سره تقديم قاعدة «اليد» في المجمع ـ المقتضية للضمان ـ على قاعدة «ما لا يضمن» النافية له. والوجه في التقديم معاضدتها بفتوى الأصحاب بالضمان ، على ما نسبه المحقق الأردبيلي وصاحب الرياض قدس‌سرهما إليهم. ولا معاضد لقاعدة «ما لا يضمن» لأنّ قاعدة الاستيمان النافية للضمان مخصوصة

__________________

(١) جواهر الكلام ، ج ٢٧ ، ص ٢٥٢.

١٥٤

«ما لا يضمن» معارضة بقاعدة اليد (١).

والأقوى (٢) عدم الضمان ، فالقاعدة المذكورة غير مخصّصة (٣) بالعين

______________________________________________________

بما إذا كان دفع العين إلى المستأجر مبنيّا على صحة الإجارة لا مطلقا. هذا توضيح كلام الجواهر.

ويحتمل أن يكون غرض المصنّف قدس‌سره من هذا الوجه الثاني تقديم قاعدة اليد لكونها أخصّ مطلقا من قاعدة «ما لا يضمن» ومن المعلوم أنّ التعارض بين العامّ والخاصّ المطلقين بدويّ ، ويتعيّن التخصيص. فيقال : إنّ قاعدة «ما لا يضمن» تنفي الضمان عن العين في الإجارة الصحيحة والفاسدة ، وقاعدة اليد تقتضي الضمان في الفاسدة ، فتكون «اليد» مخصّصة لقاعدة «ما لا يضمن» وتبقى العين في الإجارة الصحيحة موضوعا لها ، كموضوعيّة سائر العقود الأمانيّة لها.

(١) لا يخفى قصور العبارة عن تأدية المراد ، فإنّ المقصود توجيه ضمان العين في الإجارة الفاسدة ، ومن المعلوم أنّ مجرّد تعارض القاعدتين ليس من أسباب الضمان ، إذ لو كانتا متكافئتين تساقطتا ، والمرجع حينئذ هو أصالة البراءة عن الضمان كما تقدّم في كلام المحقق الكركي قدس‌سره.

وعليه كان الأولى أن يقال : «معارضة بقاعدة اليد ، لكنّها لأخصّيّتها تخصّص قاعدة ما لا يضمن» كما يستفاد هذا التخصيص من قوله : «غير مخصّصة».

(٢) بعد أن بيّن المصنف كلا دليلي الضمان وعدمه قوّى عدم الضمان ، للخدشة في الوجهين المتقدمين عن الجواهر. ومقصوده قدس‌سره إثبات عدم الضمان بدليل اجتهادي وهو قاعدة «ما لا يضمن» لا بالأصل العملي الذي ركن إليه المحقّق الكركي قدس‌سره.

(٣) هذا دفع الوجه الثاني للضمان ، وهو تخصيص قاعدة «ما لا يضمن» بقاعدة اليد.

ومحصّل الدفع : إباء قاعدة «ما لا يضمن» عن التخصيص بقاعدة اليد ، لما تقرّر في بحث تعارض الدليلين من اشتراط التخصيص ببقاء العام على حيثيّة كونه قانونا ، وعدم لزوم الاستهجان العرفي من كثرة التخصيص ، بحيث تبقى تحت العامّ أفراد

١٥٥

المستأجرة ،

______________________________________________________

نادرة ، فيمتنع التخصيص لو ترتّب محذور الاستهجان عليه. ولا فرق في هذا الامتناع بين كون نسبة المتعارضين عموما مطلقا ومن وجه ، لاتّحاد الملاك في كليهما.

وهذه الكبرى منطبقة على المقام. أمّا بناء على كون النسبة عموما من وجه كما صرّح به صاحب الجواهر قدس‌سره فلأنّ غالب العقود المندرجة تحت عموم «ما لا يضمن» مشمولة لقاعدة اليد أيضا ، كالمضاربة والرهن والهبة ونحوها ممّا تقع على الأعيان ، فلو بنينا على تقديم قاعدة اليد لزم اختصاص «ما لا يضمن» بالعارية غير المضمونة ، وهذا في الحقيقة إلغاء لتشريعها بنحو ضرب القانون. وأمّا لو قدّمنا هذه القاعدة على اليد لم يلزم هذا المحذور ، لبقاء موارد عديدة مندرجة تحت اليد المقتضية للضمان كالمغصوب والمقبوض بالسوم وبالبيع الفاسد وغيرها.

وعلى هذا نقول : إنّ العين المستأجرة بالإجارة الفاسدة باقية تحت قاعدة «ما لا يضمن» بعد البناء على شمول القاعدة لمصبّ العقد ولمتعلّق متعلّقه.

وأمّا بناء على كون النسبة عموما مطلقا فكذا يتعيّن تقديم القاعدة على اليد ، فإنّ الظاهر أخصّيّتها من اليد ، دون العكس ، وذلك لورود هذه القاعدة مورد اليد ، نظير ورود قاعدة التجاوز في مورد استصحاب العدم ، إذ البناء على فعل المشكوك فيه ـ كالرّكوع والسجود ـ مخالف لاستصحاب عدم الإتيان به المقتضي لتداركه ، مع أنّهم بنوا على تقديم القاعدة على الاستصحاب سواء كانا أمارتين أم أصلين محرزين ، أم مختلفين. والوجه في تخصيص دليل الاستصحاب هو ورود القاعدة مورده بحيث يلزم لغويّة تشريعها لو لا التخصيص.

وهكذا الحال في المقام ، لأنّ غالب العقود التي تجري فيها قاعدة «ما لا يضمن» تجري فيها قاعدة اليد ، ولا عكس. فتقديم قاعدة اليد المقتضية للضمان إلغاء لتشريع قاعدة «ما لا يضمن».

هذا كلّه توضيح عدم تخصيص قاعدة «ما لا يضمن» بقاعدة اليد. وعليه فالعين في الإجارة الفاسدة غير مضمونة ، عملا بقاعدة «ما لا يضمن».

١٥٦

ولا متخصّصة (١).

______________________________________________________

(١) هذا إشارة إلى ردّ أوّل الوجهين المتقدمين عن صاحب الجواهر قدس‌سره الذي كان حاصله خروج العين المستأجرة موضوعا عن قاعدة «ما لا يضمن» فتشملها القواعد الأخر كقاعدة اليد الموجبة للضمان.

ومحصّل مناقشة المصنّف قدس‌سره فيه هو : اندراج العين المستأجرة في قاعدة «ما لا يضمن» وعدم خروجها عنها تخصّصا كعدم خروجها عنها تخصيصا.

والوجه في بطلان التخصّص المزبور : أنّ المعوّض في إجارة الأعيان ـ كالدار ـ وإن كان هو المنفعة ، إلّا أنّ الوفاء بالعقد يقتضي تسليم العين للمستأجر كي ينتفع بها ، فالعقد يتضمّن شرطا ارتكازيّا متعارفا ، وهو جعل العين أمانة بيد المستأجر. وحيث كان التسليط مالكيّا ومبتنيا على الأمانة كان خارجا عن قاعدة اليد ومندرجا في «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده» لما تقرّر عندهم من انتفاء الضمان في موارد الاستيمان.

فإن قلت : يختص كون العين أمانة مالكيّة وشرعيّة ـ بيد المستأجر ـ بصحّة عقد الإجارة ، وأمّا مع فسادها فلا ، إذ لا يستحقّها المستأجر حتى تكون أمانة عنده.

قلت : لا فرق في قصد الاستيمان بين صحة الإجارة وفسادها ، فإنّ المالك يرى نفسه ملزما بالوفاء بالشرط الضمني الارتكازي ، فيجعل العين أمانة بيد المستأجر ، ويكون اعتقاد صحة العقد داعيا له إلى تسليم العين. فلو كانت الإجارة فاسدة لم تقدح في قصد المالك ، وإنّما يلزم تخلّف داعيه إلى التسليم. وقد تقرر عندهم عدم العبرة بتخلّف الدواعي ، كما إذا قدّم المضيف طعاما لضيفه معتقدا بأنّه عالم ، فتبيّن كونه جاهلا ، فلا ريب في جواز الأكل ، لأنّه من قبيل تخلّف الداعي.

وقد تحصّل : أنّ العين المستأجرة ـ فاسدة ـ غير مضمونة على المستأجر لو تلفت بيده ، لشمول قاعدة «ما لا يضمن» لها ، ولا مخصّص لها في البين ، كما عرفت. فالأقوى وفاقا للمحقق الكركي عدم الضمان ، لكن للقاعدة ، لا للأصل العملي.

هذا كله في التخلّص عن النقض الأوّل من النقوض الواردة على القاعدة.

١٥٧

ثمّ إنّه يشكل اطّراد القاعدة في موارد :

منها (١) : الصيد الذي استعاره المحرم من المحلّ

______________________________________________________

الجهة الثانية : موارد النقض على قاعدة «ما لا يضمن»

أ : النقض بعارية الصيد

(١) هذا ثاني النقوض التي أوردوها على قاعدة «ما لا يضمن» والنقض الأوّل ما تقدّم من الإجارة الفاسدة على التفصيل المزبور.

ومحصّل هذا النقض الثاني : أنّ العارية الصحيحة لا توجب الضمان ، مع أنّ فاسدها في الصيد الذي استعاره المحرم من المحلّ يوجب الضمان. وفرض هذا النقض هو ما إذا لم يكن في الحرم ، لأنّ الصيد في الحرم غير جائز لغير المحرم أيضا. فالمسألة مفروضة فيما إذا كان هناك شخصان ، أحدهما محرم خارج الحرم ، والآخر محلّ ، فصاد الثاني حيوانا واستعاره المحرم منه ، فإنّه لا إشكال في وجوب إرساله عليه ، فإن أرسله فلا خلاف في ضمانه لمالكه. وهذا خارج عن مورد البحث ، لكونه إتلافا ولو بإذن الشارع ، فلا ينتقض به القاعدة ، لأنّ عدم الضمان في قاعدة «ما لا يضمن» مختص بالتلف ، فالاتلاف خارج موضوعا عن حيّزها.

وإن أمسكه فإن مات بآفة سماويّة أو كان طائرا فطار ـ وهذا هو مورد نقض قاعدة «ما لا يضمن» على القول بفساد عارية الصيد للمحرم ـ ففيه خلاف بينهم ، فمنهم من ذهب إلى الضمان ، مع أنّ صحيح العارية لا ضمان فيه ، ومنهم من قال بعدمه. بل يظهر من الجواهر (١) عدم وجود مصرّح بالضمان في مفروض البحث أعني التلف السماويّ ، وأنّ حكمهم بالضمان إنّما هو في صورة الإتلاف المترتب على الموت بعد الإرسال.

قال في الشرائع : «ولا يجوز للمحرم أن يستعير من محلّ صيدا ، لأنّه ليس له

__________________

(١) جواهر الكلام ، ج ٢٧ ، ص ١٦٥.

١٥٨

بناء (١) على فساد العارية ، فإنّهم (٢) حكموا بضمان المحرم له بالقيمة ، مع أنّ صحيح العارية لا يضمن به. ولذا (٣) ناقش الشهيد الثاني في الضمان على تقديري الصحّة والفساد.

______________________________________________________

إمساكه ، فلو أمسكه ثمّ أرسله ضمنه ، وإن لم يشترط عليه ذلك في العارية» (١). فإنّ ظاهره ترتّب الضمان على الإرسال الذي هو إتلاف الصيد ، فلا يشمل ما نحن فيه وهو التلف.

(١) هذا ظاهر في أنّ فساد استعارة المحرم مسألة خلافيّة كما ستأتي في عبارة المسالك. وعلى كلّ فمنشأ الفساد هو النصوص الناهية عن إمساك الصيد والآمرة بتخلية سبيله. ومن المعلوم اشتراط صحة العارية بحلّيّة الانتفاع بالعين المعارة.

(٢) هذا وجه ورود النقض على قاعدة «ما لا يضمن» وقد عرفته آنفا.

(٣) يعني : ولكون صحيح العارية لا يضمن به ناقش الشهيد في ضمان المحرم قيمة الصيد للمالك على كلّ من تقديري صحة عقد عارية الصيد للمحرم وفساده ، لأنّها إن كانت صحيحة فلا ضمان ، وكذا إذا كانت فاسدة ، لقاعدة «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده».

قال في المسالك : «ومقتضى عبارة المصنّف رحمه‌الله وجماعة أنّه يضمنه مع التلف للمالك أيضا بالقيمة ، لأنّهم جعلوها من العواري المضمونة ، وإن لم يشترط فيها الضمان. ودليله غير واضح ، إذ مجرّد تحريم استعارته لا يدلّ على الضمان ، سواء قلنا بفساد العقد أم بصحّته.

أمّا مع صحّته فالأصل في العارية عندنا أن تكون غير مضمونة ، إلّا أن يدلّ دليل عليه ، ولم يذكروا هنا دليلا يعتمد عليه. وأمّا مع فسادها فلأنّ حكم العقد الفاسد حكم الصحيح في الضمان وعدمه كما أسلفناه في مواضع قاعدة كليّة.

ويمكن الاستدلال على ضمانه هنا بإطلاق النصوص بأنّ المحرم لو أتلف صيدا مملوكا فعليه فداؤه لمالكه ، فيدخل فيه صورة النزاع. وفيه نظر ، لمعارضته بالنص

__________________

(١) شرائع الإسلام ، ج ٢ ، ص ١٧٢.

١٥٩

إلّا أن يقال (١) : إنّ وجه ضمانه

______________________________________________________

الصحيح الدالّ على أنّ العارية غير مضمونة ، فكما يمكن تخصيص الأوّل بالصيد المأخوذ بغير إذن المالك ، يمكن تخصيص الثاني بغير الصيد ، فالترجيح غير واضح» (١) (*).

توضيح وجه نظره : أنّه كما يمكن أن يقال بالضمان ، للنصوص الدالّة على «أنّ من أتلف صيدا مملوكا فعليه فداؤه» الشاملة لمورد النزاع ، كذلك يمكن أن يقال بعدم الضمان ، لما دلّ على أنّ العارية غير مضمونة. وكما يمكن تخصيص نصوص الفداء بالصيد المأخوذ بغير إذن المالك ، فتخرج العارية عنها ، فلا ضمان في الصيد المعار ؛ فكذلك يمكن تخصيص ما دلّ على عدم الضمان في العارية بغير الصيد ، ففي عارية الصيد ضمان ، ولم يظهر ترجيح لأحدهما.

(١) هذا توجيه لضمان قيمة الصيد المعار ، مع اقتضاء قاعدة «ما لا يضمن» عدمه. وحاصل التوجيه : خروج عارية الصيد موضوعا عن حيّز قاعدة «ما لا يضمن» المختصة بالتلف. ووجه الخروج كون الضمان للإرسال الذي هو بمنزلة الإتلاف ، فلا نقض على القاعدة.

ولتوضيح التوجيه ينبغي تقديم أمرين :

الأوّل : الالتزام بوجوب إرسال الصيد المعار ، كما هو المشهور ، بل في

__________________

(*) لا يخفى أنّه على ما أفاده في المسالك تكون النسبة بين ما دلّ على ضمان الصيد المتلف بغير إذن المالك ، وبين ما دلّ على عدم الضمان في العارية عموما من وجه ، ومع عدم المرجّح لتخصيص أحد الدليلين في المجمع ـ وهو الصيد المستعار ـ يرجع إلى الأصل ، وهو هنا البراءة عن الضمان.

__________________

(١) مسالك الأفهام ، ج ٥ ، ص ١٣٩ و ١٤٠.

١٦٠