هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٣

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٠

.................................................................................................

__________________

أمّا اليد فتقتضي الضمان ، لأنّ الاستيلاء على مال الغير ـ ما لم يطرأ عليه ما يرفع الضمان من قصد المجّانية ـ مضمّن ، والضمان الاقدامي على مبادلة المالين كالعدم في نظر الشارع ، فيؤثر الاستيلاء المقتضي للضمان أثره.

وأمّا الاقدام فقد أنكر المصنف إقدامهما على ضمان المثل أو القيمة ، وإنّما أقدما على ضمان خاصّ وهو عوض جعلي لم يسلم لهما ، فلا وجه لاستناد البدل الواقعي إلى الاقدام.

وأورد المحقق الخراساني عليه بوجهين ، قال قدس‌سره : «يمكن أن يقال : بأنّهما أقدما على أصل الضمان في ضمن الاقدام على ضمان خاص ، والشارع إنّما لم يمض الضمان الخاصّ ، لا أصله. مع أنّ دليل فساد العقد ليس بدليل على عدم إمضائه ، فافهم» (١).

أمّا الإشكال الأوّل فيمكن أن يقال : إنّ ما أقدم عليه المتعاقدان حصّة من الضمان أي المسمّى ، ودليل فساد العقد يدلّ بالملازمة على انتفاء هذه الحصّة ، ومعه لا يعقل بقاء طبيعة الضمان الموجودة بوجود هذه الحصّة.

وبعبارة أخرى : المضمون المقدم عليه مقيّد من أوّل الأمر بالمسمّى ، ولا تركيب ولا اشتراط في البين حتى يتصوّر بقاء المشروط بعد انتفاء الشرط ، أو بقاء الجزء بعد انتفاء المركّب.

هذا مضافا إلى غموض «تحقق الاقدام على أصل الضمان في ضمن الاقدام على ضمان خاصّ» فإنّ الإقدام على الحصّة وإن كان متضمنا للإقدام على طبيعي الضمان ، إلّا أنّ المفروض إلغاء هذه الحصّة شرعا. وجعل حصة أخرى وهي البدل الواقعي ـ من المثل أو القيمة ـ مقامها ، ومن المعلوم انتفاء الطبيعة بانعدام حصّتها ، هذا.

وأمّا الإشكال الثاني ، فلا يخلو من إجمال في نفسه ، لأنّ مرجع ضمير «عدم إمضائه» إن كان هو الضمان الخاصّ بمعنى عدم دلالة دليل فساد العقد على عدم

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ص ٣١.

١٢١

.................................................................................................

__________________

الضمان الخاصّ ، ففيه : أنّ دليل الفساد يستلزم انتفاء الضمان بالمسمّى ، لانحصار الدالّ عليه في دليل إمضاء العقد ، ومع فرض الفساد كيف لا ينتفي الضمان الخاص؟

وإن كان مرجع الضمير مطلق الضمان ، بأن يراد عدم اقتضاء دليل فساد العقد انتفاء مطلق الضمان ـ كما لعلّه المراد ـ ففيه : أنّه وإن كان محتملا ثبوتا ، إلّا أنّ الضمان حكم شرعي يتوقف على دليل في مقام الإثبات ، والمفروض عدم الدليل عليه بعد حكم الشارع بإلغاء ضمان المسمّى. وكيف يكون إقدام المتعاملين على أصل الضمان مع أنّه أمر قصدي؟ والمقصود هو الضمان بالعوض الجعلي (١).

وبهذا يسلم أوّل إشكالي الماتن ـ على شيخ الطائفة ـ عن مناقشة المحقق الخراساني قدس‌سرهما.

إلّا أنّه لا يبعد ـ كما أفاده المصنّف أيضا ـ أن يكون مراد شيخ الطائفة احترام المال ، وعدم ذهابه هدرا ، إلّا إذا سلب المالك احترامه ، بأن بذله للغير مجّانا. فإذا لم يقدم المتعاقدان على المجّانية كان الضمان في محلّه ، لكونه حينئذ على طبق السيرة العقلائية الممضاة شرعا. فمراد شيخ الطائفة من الاقدام على الضمان بيان عدم الاقدام على المجّانية ، وسلب احترام ماله.

وعلى هذا لا يرد الإشكال الأوّل المذكور في المتن على شيخ الطائفة قدس‌سره.

وأمّا الإشكال الثاني ـ وهو قوله : إذ قد يكون الاقدام موجودا ولا ضمان كما قبل القبض .. إلخ ـ فيمكن أن يقال : إنّ الكلام في المقبوض بالعقد الفاسد ، فالإقدام مع القبض دليل القاعدة ، لا مجرّد الاقدام. فلا يرد عليه هذا النقض.

وأمّا قضية شرط الضمان على البائع فلا ترد على قاعدة الإقدام ، لأنّ الضمان المعاوضي موضوع عند الشيخ للحكم بضمان المثل أو القيمة مع عدم صحة المعاوضة وعدم سلامة المسمّى. وشرط الضمان على البائع لا ينافي إقدام المشتري على ضمان

__________________

(١) حاشية المكاسب للمحقق الأصفهاني ، ج ١ ، ص ٧٧.

١٢٢

اللهم إلّا أن يستدلّ على الضمان فيها (١) بما دلّ على احترام مال المسلم ،

______________________________________________________

الدليل الثاني : قاعدة الاحترام

(١) أي : في المنافع والأعمال المضمونة في الإجارة الفاسدة ، وهذا إشارة إلى دليل ثالث على قاعدة «ما يضمن». وظاهر العبارة وان اقتضى الاستدلال على ضمان المنافع خاصة ، إلّا أنّ الدليل ـ وهو احترام مال المسلم ـ عامّ ، لصدق الموضوع ـ أي المال ـ على الأعيان والمنافع معا ، وإن كان صدقه على الأعيان أوضح.

وعلى هذا فقاعدة الاحترام دليل على قاعدة «ما يضمن» مطلقا سواء أكان العقد على تمليك الأعيان أم المنافع.

وكيف كان ، فقاعدة الاحترام مصطادة من طوائف ثلاث من الأخبار :

الأولى : ما دلّ على عدم حلّيّة مال المسلم لغيره إلّا عن طيب نفسه ، كمعتبرة سماعة وزيد الشّحّام عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث : «انّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : من كانت عنده أمانة فليؤدّها إلى من ائتمنه عليها ، فإنّه لا يحلّ دم امرء مسلم

__________________

المسمّى. نعم لم يقدم المشتري على ضمان المثل أو القيمة ، وهو ليس موضوعا للضمان.

وأمّا البيع بلا ثمن والإجارة بلا اجرة فلا يندرجان في القاعدة موضوعا ، لعدم كونهما عقدا ، إذ البيع والإجارة متقوّمان بالعوضين ، فانتفاء أحدهما يوجب انتفاء ماهيّتهما ، ولعلّهما يندرجان في الهبة والعارية. غاية الأمر أنّهما قد أنشئتا بلفظي البيع والإجارة ، فهما من صغريات «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده» بناء على صحة إنشائهما بهذين اللفظين. لكن الحقّ عدم صحّته.

ولا بدّ أن يكون النقض بمورد مسلّم ، والشهيدان اختارا عدم الضمان في الإجارة بلا اجرة ، واستشكل العلّامة في الضمان في البيع بلا ثمن.

وبالجملة : فلا يرد شي‌ء من النقوض المزبورة على شيخ الطائفة قدس‌سره.

١٢٣

.................................................................................................

______________________________________________________

ولا ماله إلّا بطيبة نفس منه [نفسه]» (١).

وكرواية تحف العقول عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنّه قال في خطبة حجّة الوداع : أيّها الناس (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) ، ولا يحلّ لمؤمن مال أخيه إلّا عن طيب نفس منه» (٢). ونحوهما ممّا ذكرناه في أدلّة لزوم المعاطاة ، فراجع (٣).

وتقريب دلالتها على الضمان : أنّ الحرمة المسندة إلى مال المسلم أو المؤمن يراد بها حرمة التصرف ، ومن المعلوم أنّ التصرف في المال أعمّ من الخارجي كما في الأعيان المتموّلة التي ينتفع بها بوجه من وجوه الانتفاع كالأكل والشرب واللبس ونحوها. ومن الاعتباري كالبيع والصلح والهبة والوقف ونحوها. ولا ريب في أنّ الحرمة تكليفية في التصرّف الخارجي ، ووضعية في الاعتباري. وحرمة المال تقتضي ضمان المتصرّف فيه ، هذا.

الثانية : ما دلّ على أنّ حرمة مال المسلم كحرمة دمه ، كمعتبرة أبي بصير عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : سباب المؤمن فسوق ، وقتاله كفر ، وأكل لحمه معصية ، وحرمة ماله كحرمة دمه» (٤).

وتقريب دلالتها على الضمان : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نزّل حرمة مال المؤمن منزلة حرمة دمه ، وعموم التنزيل يقتضي ثبوت كل حكم ثبت للدم ـ من التكليف والوضع ـ للمنزّل وهو المال ، ومن المعلوم أنّ الدم لا يذهب هدرا ، وهذا هو المناسب لمقام المسلم وعظم شأنه ، لا مجرّد حرمة إراقة دمه تكليفا. فمقتضى عموم التنزيل

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ٣ ، ص ٤٢٤ ، الباب ٣ من أبواب مكان المصلي الحديث ١ ؛ والرواية بتمامها مذكورة في ج ١٩ ، ص ١٣ ، الباب ١ من أبواب قصاص النفس ، الحديث ٣.

(٢) المصدر ، ص ٤٢٥ ، الحديث : ٣.

(٣) هدى الطالب ، ج ١ ، ص ٥١٦.

(٤) وسائل الشيعة ، ج ٨ ، ص ٦١٠ ، الباب ١٥٨ من أبواب أحكام العشرة ، الحديث ٣.

١٢٤

.................................................................................................

______________________________________________________

ـ بعد عدم قرينة على خصوص الحكم التكليفي ـ احترام ماله بكلّ احترام لدمه ، ومن الواضح أنّ احترام دمه بعدم إراقته وبدفع الدية ـ لو أهرق ـ حتى لا يذهب هدرا ، فكذا المال ، فينبغي ضمانه لو تلف بيد المتصرّف ، هذا.

الثالثة : ما ورد فيها من التعليل بعدم صلاحية ذهاب حق أحد ، كمعتبرة الحلبي ومحمّد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «قال : سألته هل تجوز شهادة أهل ملّة من غير أهل ملّتهم؟ قال : نعم ، إذا لم يوجد من أهل ملّتهم جازت شهادة غيرهم ، إنّه لا يصلح ذهاب حقّ أحد» (١).

وتقريب دلالة التعليل هو : أنّ المراد بالحقّ أعمّ من الحقّ المالي وغيره ، لإطلاقه تارة على المال كالخمس والزكاة ونحوهما ، كقوله تعالى (الَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) ، وكقوله عليه‌السلام : «هلك الناس في بطونهم وفروجهم ، لأنّهم لم يؤدّوا إلينا حقّنا». وأخرى على الحق المصطلح المقابل للحكم والملك ، كحقّ الوصيّة ، كما ورد في موثقة سماعة ، قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن شهادة أهل الذمة؟ فقال لا تجوز إلّا على أهل ملّتهم ، فإن لم يوجد غيرهم جازت شهادتهم على الوصية ، لأنّه لا يصلح ذهاب حقّ أحد» (٢) إذ المراد بالحق ـ في التعليل ـ هو حقّ الوصية الثابت للمسلم.

وعلى هذا فيدلّ التعليل على أنّه إذا ثبت حقّ شخص على غيره لم يصحّ ذهابه وفواته بغير عوض ، وهذا معنى الضمان.

وقد تحصّل من هذه الطوائف الثلاث حرمة مال المسلم وضمانه. ولمّا كان صدق «المال» على المنافع والأعمال المحترمة حقيقيا كصدقه على الأعيان ، دلّت قاعدة الاحترام على قاعدة «ما يضمن» مطلقا سواء أكان متعلق العقد عينا أم منفعة ، هذا.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ٣٩٠ ، الباب ٢٠ من أبواب أحكام الوصايا ، الحديث : ٣.

(٢) المصدر ، ص ٣٩١ ، الحديث ٥.

١٢٥

وأنّه (١) لا يحلّ إلّا عن طيب نفسه ، وأنّ حرمة ماله كحرمة دمه ، وأنّه لا يصلح ذهاب حقّ أحد.

مضافا إلى أدلّة نفي الضّرر (٢) (*).

______________________________________________________

(١) هذا وقوله : «وأنّ حرمة ماله» و «وأنّه لا يصلح» معطوفة على قوله : «احترام» عطف تفسير ، فالمراد بالكلّ قاعدة واحدة وهي قاعدة الاحترام المستفادة من النصوص المتفرقة. ويشهد لهذا قوله بعد أسطر ، «لقاعدتي الاحترام ونفي الضرر» فليس مقصود المصنف جعل كلّ طائفة من الطوائف الثلاث دليلا مستقلّا على ضمان المنافع والأعمال.

الدليل الثالث : قاعدة نفي الضرر

(٢) هذا إشارة إلى دليل آخر على القاعدة ، وهو الأخبار المتضمّنة لنفي الضرر والضرار في الإسلام ، حيث إنّ تلف مال شخص ـ بلا عوض ـ عند غيره بدون إذن مالكه يوجب نقص ماله وتضرّره ، وكذا الحال في استيفاء منفعة الغير بدون أجرة.

ولا يخفى أنّ الاستدلال بقاعدة نفي الضرر على المقام مبنيّ على كون مفاد عموم نفي الضرر نفيه مطلقا وإن كان ناشئا عن عدم جعل الحكم كالمقام ، حيث إنّ المالك يتضرر من عدم حكم الشارع بضمان المنفعة ، ومقتضى حكومة القاعدة على أدلّة الأحكام الأوّليّة نفيها ، سواء أكانت وجوديّة كوجوب الوضوء الضرري ، أم عدميّة كعدم ضمان المستوفي لمنفعة مملوكة للغير ، فيحكم بالضمان لئلّا يتضرر المالك أو العامل.

__________________

(*) قد يستشكل في دلالة قاعدة الاحترام على الضمان بالتلف : بأنّ تنزيل حرمة مال المؤمن أو المسلم منزلة حرمة دمه يقتضي وجوب حفظه وعدم إتلافه حتى

١٢٦

.................................................................................................

__________________

لا يذهب هدرا. وأمّا مجرّد تلفه عنده بآفة سماويّة فلا ظهور لها في ضمانه ووجوب تداركه بالبدل.

وكذا الحال في روايات الشهادة على الوصية ، فإنّ عدم صلاحية ذهاب حق أحد ظاهر في حرمة تضييعه ، وإشغال ذمته بالإتلاف. والكلام يكون في التلف.

لكن يمكن أن يقال : بأنّه ـ بعد عدم اختصاص الحرمة بالتكليف واستفادة الحكم الوضعي منها كما هو الظاهر ـ لا وجه للاختصاص بالإتلاف ، إذ المقبوض بالعقد الفاسد ليس أمانة مالكية بيد المشتري حسب الفرض ، ومقتضى إطلاق دليل الحرمة على الضمان هو الحكم به مطلقا سواء أكان بالتلف أم بالإتلاف ، ولا قرينة على إرادة الإتلاف خاصّة من حرمة مال الغير.

وعليه فالقاعدة سليمة من هذه المناقشة. وللكلام تتمة تأتي في ضمان المنافع إن شاء الله تعالى.

وأمّا قاعدة نفي الضرر فقد تشكل أوّلا : بأنّها أخصّ من المدّعى ، فإن التالف في العقد الفاسد مضمون بالبدل الواقعي ، وربّما كان أكثر ماليّة من البدل المسمّى ، فلو قيل بالضمان الواقعي كان مخالفا لامتنانيّة القاعدة ، لتضرّر المشتري الذي تلف المبيع عنده مع عدم تقصيره في الحفظ. نعم لا بأس بإثبات الضمان لو كان البدل الواقعي مساويا للمسمّى أو أقلّ منه.

وثانيا : باختصاص القاعدة بالإتلاف الذي هو موردها ، وذلك أجنبي عن التلف الذي هو محطّ البحث ، لإصرار سمرة بالإضرار بالأنصاري وتعمّده فيه.

إلّا أن يقال : إن العبرة : بعموم الوارد ـ وهو لا ضرر ـ لا بخصوصية المورد وهو الإضرار ، بل الغرض نفي الضرر في أحكام الإسلام عن المؤمنين سواء كان الضرر من قبيل التلف أم الإتلاف ، فليتأمّل.

١٢٧

وأمّا (١) خبر اليد فدلالته وإن كانت ظاهرة (٢) ، وسنده منجبرا ، إلّا أنّ مورده مختصّ بالأعيان (٣) (*) ،

______________________________________________________

الدليل الرابع : حديث «على اليد ..»

(١) هذا إشارة إلى الدليل الرابع على قاعدة «ما يضمن» وقد ورد ذلك في كلام الشهيد الثاني قدس‌سره ومحصّله : أنّ النبوي «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي» لا بأس به سندا ، لانجبار ضعفه بعمل المشهور ، إلا أنّه أخصّ من القاعدة ، لاختصاص المأخوذ باليد بالأعيان ، لأنّها هي القابلة للأخذ. فتختصّ القاعدة بالعقود المعاوضية الواقعة على الأعيان كالبيع والصلح المعاوضيّ والهبة المشروطة بالعوض ـ بناء على تعميم الاقتضاء للشرط ـ ولا تشمل العقود الواقعة على المنافع كالإجارة الفاسدة ، لأنّها تمليك المنفعة ، وهي لا تؤخذ باليد ، وكذا الجعالة الفاسدة ، مع أنّ قاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» تشمل تمليك المنافع أيضا.

وعليه يكون النبويّ أخصّ من المدّعى ، فلا وجه لاستدلال الشهيد الثاني قدس‌سره به على المقام.

(٢) يعني : أنّ دلالة الحديث على الضمان ظاهرة ، لما تقدم من أنّ إسناد الظرف إلى مال ظاهر في الضمان والتعهّد ، لا الحكم التكليفي.

(٣) لم يرد لهذا الحديث مورد ، لعدم قرينة فيه على اختصاصه بالأعيان من سبق سؤال ونحوه. والظاهر أنّ غرض المصنف قدس‌سره اختصاص الموصول بالأعيان بقرينة الأخذ باليد. والمنفعة حيثيّة قائمة بالعين كمسكونيّة الدار ، ولا يمكن وضع اليد عليها حتى تصير مضمونة على الآخذ.

__________________

(*) سيأتي إن شاء الله تعالى ـ في ثالث الأمور المتفرعة على عدم تملك المقبوض بالعقد الفاسد ـ أنّه لا يمنع ذلك من الاستدلال بالنبوي على ضمان المنافع في صورة قبض العين ذات المنفعة.

ووجه الاختصاص أمران :

أحدهما : ما سيأتي من المصنّف من عدم صدق «الأخذ باليد» بالإضافة إلى المنافع.

١٢٨

فلا يشمل المنافع والأعمال (١) المضمونة في الإجارة الفاسدة. فكلّ (٢) عمل وقع من عامل لأحد ـ بحيث يقع بأمره وتحصيلا لغرضه (٣) ـ فلا بدّ من أداء عوضه لقاعدتي الاحترام ونفي الضرر.

______________________________________________________

(١) لا يخفى صدق المنافع والأعمال على مثل خدمة العبد والأمة ، فإنّها منفعة وعمل ، إلّا أنّ المراد هنا بالمنافع ما يقابل الأعمال ، فالمنافع نظير سكنى الدار وركوب الدابة ، والأعمال المضمونة نظير الخياطة والنجارة والطبابة التي هي أفعال الآدمي. وعليه فإذا استأجر دارا بإجارة فاسدة ، أو استأجر خيّاطا لخياطة ثوبه كذلك كان على المستأجر أجرة المثل ، مع أنّ المنفعة غير قابلة للقبض باليد والاستيلاء عليها.

(٢) هذه نتيجة دلالة قاعدتي الاحترام ونفي الضرر على ضمان منافع الأعيان وأعمال الأشخاص. لكن الضمان مشروط بأن يكون العمل ـ كالخياطة والطبابة والكنس ونحوها ـ صادرا من العامل مستندا إلى أمر المستأجر وتحصيلا لغرضه ، بأن يقول مالك القماش للخيّاط : «خطه ثوبا أو قباء» فخاطه ولم يقصد التبرّع ، فإنّ له أجرة مثل عمله.

(٣) فلو كان العمل مقابلا بالأجرة عرفا ، لكنّ العامل تبرّع بالعمل ـ ولم يأمره شخص آخر ـ لم يكن عمله مضمونا بالأجرة. وكذا لا ضمان لو استند العمل إلى أمر الآمر ، لكنّه لم يحصّل غرضه من الأمر ، كما لو أمره بصنع سرير فجعله منضدة مثلا.

هذا كلّه في الوجوه المستدلّ بها على قاعدة «ما يضمن». وقد تحصّل وفاء ثلاثة منها بإثبات الضمان ، وهي اليد ـ بالنسبة إلى العقود على الأعيان ـ والاحترام ونفي الضرر.

__________________

ثانيهما : ما أفاده المحقق الأصفهاني قدس‌سره من عدم صدق التأدية في المنافع مطلقا ، فإنّ ظاهر قوله : «حتى تؤدّي» كون عهدة المأخوذ مغيّاة بأداء نفس المأخوذ. والمنافع لتدرّجها في الوجود لا أداء لها بعد أخذها في حدّ ذاتها ، لا كالعين التي لها أداء في حدّ ذاتها وإن عرضها الامتناع ابتداء أو بقاء (١).

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٧٨.

١٢٩

ثم (١) إنّه لا يبعد أن يكون مراد الشيخ ومن تبعه (٢) ـ من الاستدلال على الضمان بالاقدام والدخول عليه ـ بيان (٣) أنّ العين (٤)

______________________________________________________

وسيأتي استدارك بعض الأعمال المضمونة عند عدم استيفاء الآمر منفعة العامل كالسبق في المسابقة الفاسدة.

(١) غرضه توجيه استدلال شيخ الطائفة والشهيد الثاني قدس‌سرهما بقاعدة الإقدام بنحو يسلم من مناقشة المصنّف قدس‌سره. وتوضيحه : أنّ المقتضي للضمان والموجب له عند تلف مال الغير ـ من العين والمنفعة ـ هو قاعدة الاحترام ، وقاعدة اليد ـ بالنسبة إلى الأعيان ، لكنهما ليستا تمام السبب للضمان ، ضرورة توقف وجود المقتضى على علّته التامّة من المقتضي والشرط وعدم المانع ، والمانع هو تسليط المالك غيره على العين مجّانا أو دفعها إليه أمانة ، أو تبرّع العامل بعمله ، فالتسليط بهذا النحو مانع عن تأثير الاحترام واليد في الضمان.

وأمّا إذا دفع المالك ماله إلى غيره بقصد أخذ عوضه ، وأقدم الآخذ على ضمانه بالعوض فقد تمّ سبب الضمان وهو اليد والاحترام ، بضميمة انتفاء المانع.

وعليه فغرض شيخ الطائفة من الاستناد إلى قاعدة الإقدام ليس إثبات سببيّتها التامّة للضمان ، بل المقصود بيان عدم المانع عن تأثير مقتضي الضمان ، وهو وضع اليد على مال الغير وقاعدة الاحترام. ولمّا لم تكن القاعدة دليلا مستقلّا لم يرد عليها ما تقدّم من المناقشة فيها صغرى وكبرى.

(٢) كابن إدريس ، حيث قال في ضمان المقبوض بالعقد الفاسد : «لأنّ البائع دخل على أن يسلم له الثمن المسمّى في مقابلة ملكه ، فإذا لم يسلم له المسمّى اقتضى الرجوع إلى عين ماله .. إلخ» (١). وكذا المحقق الثاني (٢).

(٣) خبر «يكون».

(٤) كتسلّم المشتري للمبيع ، فإنّه مبنيّ على دفع الثمن إلى البائع.

__________________

(١) السرائر الحاوي ، ج ٢ ، ص ٤٨٨.

(٢) جامع المقاصد ، ج ٦ ، ص ٢١٦.

١٣٠

والمنفعة (١) اللذين تسلّمهما الشخص لم يتسلّمهما مجّانا وتبرّعا حتّى (٢) لا يقضي (٣) احترامهما بتداركهما بالعوض ، كما في العمل المتبرّع به ، والعين المدفوعة مجّانا (٤) أو أمانة (٥). فليس (٦) دليل الاقدام دليلا مستقلّا ، بل هو بيان لعدم المانع (٧) عن مقتضي اليد في الأموال (٨) واحترام الأعمال.

______________________________________________________

(١) كتسلّم منفعة الدار وهي السكنى فيها ، فإنّ المستأجر أقدم على تسلّمها في قبال الأجرة. هذا في إجارة الأعيان ، وكذا الحال في إجارة الأعمال المحترمة.

(٢) هذا مترتب على المنفيّ وهو التسلّم مجّانا وتبرّعا ، إذ لو كان تسليمهما من قبل مالك العين والمنفعة تبرّعيّا لم يكن لهما احترام حتّى يلزم تداركهما بالعوض.

(٣) أي : لا يحكم احترامهما بتداركهما بالعوض ، وكلمة «العين» مجرور عطفا على «العمل».

(٤) كما في الهبة ، فإنّ تسليم العين مبنيّ على المجّانيّة ، فلا يضمن المتسلّم ـ وهو المتّهب ـ العوض.

(٥) كما في الوديعة والعارية.

(٦) هذه نتيجة توجيه ما أفاده شيخ الطائفة قدس‌سره من جعل الاقدام دليلا على الضمان.

(٧) وهو الاقدام على المجّانيّة ، حيث إنّه يمنع عن تأثير اليد ـ المستولية على الأعيان ـ في الضمان.

(٨) المراد بالأموال هنا هو خصوص الأعيان المتموّلة ، لتصريحه قدس‌سره باختصاص القاعدة بالأعيان. مضافا إلى قوله : «واحترام الأعمال» لظهوره في مغايرة المعطوف للمعطوف عليه. وهذا لا ينافي إطلاق المال على المنافع والأعمال في سائر الموارد.

١٣١

نعم (١) ذكر في المسالك كلّا من الاقدام واليد دليلا مستقلّا ، فيبقى عليه (٢) ما ذكر سابقا من النقض (٣) والاعتراض (٤).

ويبقى الكلام (٥) حينئذ في بعض الأعمال المضمونة التي لا يرجع نفعها إلى

______________________________________________________

(١) هذا استدراك على قوله : «فليس دليل الاقدام دليلا مستقلا» وهو يتضمن أمرين :

أحدهما : أنّ توجيهنا لكلام شيخ الطائفة قدس‌سره من جعل الاقدام بيانا لعدم المانع ـ لا دليلا مستقلا على الضمان ـ لا يجري في كلام الشهيد الثاني قدس‌سره ، لظهور استدلاله على قاعدة «ما يضمن» بدليلين ـ وهما الاقدام واليد ـ في كون كلّ منهما دليلا مستقلا على الضمان ، وهذا آب عن الحمل على عدم المانع.

وعليه فالإشكال على قاعدة الإقدام وارد على الشهيد ، ومندفع عن الشيخ.

ثانيهما : أنّ إسقاط قاعدة الإقدام عن كونها دليلا مستقلا على الضمان قد يوجب الإشكال في ضمان بعض الأعمال عند جمع ، مع أنّه لا يتّجه إثبات ضمانه بقاعدة الاحترام ، وسيأتي بيانه.

(٢) يعني : فيبقى على الشهيد الثاني قدس‌سره ما أورده المصنّف قدس‌سره عليه.

(٣) المراد به النقض من حيث الطرد والعكس ، الناشئ من كون النسبة بين الاقدام والضمان عموما من وجه.

(٤) المراد بالاعتراض هو الإشكال الأوّل والثالث ، أي : منع صغرويّة الضمان في العقد الفاسد لكبرى الاقدام ، ومنع كبرويّة سببيّة الإقدام للضمان.

(٥) يعني : ويبقى الكلام في دليل الضمان ـ حين عدم كون الاقدام دليلا مستقلّا على الضمان ـ في بعض الأعمال المضمونة. وتوضيحه : أنّ إثبات ضمان الأعمال المحترمة بقاعدة الاحترام منوط بأمرين :

الأوّل : أن يعود نفع عمل الغير إلى الضامن ، كتسليم القماش الى الخيّاط ليخيط ثوبا ، فيضمن أجرته ، لانتفاعه بعمله.

١٣٢

الضامن ، ولم يقع بأمره ، كالسبق في المسابقة ، حيث حكم الشيخ (١)

______________________________________________________

الثاني : أن يستند العمل ـ كالخياطة ـ إلى أمر من يضمنه ، بأن يقول للخيّاط : «خط هذا القماش ثوبا» أو للنجار : «اصنع هذا الخشب سريرا» فالآمر ضامن للأجرة المسماة ، أو لأجرة المثل. فلو أوجد العامل عملا تبرّعا منه لا بأمر من شخص ولم يعد نفعه إليه لم يكن ضامنا.

وعلى هذا فإذا تسابق شخصان على الخيل وعيّنا السبق كمائة دينار للسابق منهما ، وتبيّن بعد المسابقة فساد العقد ، ففي المسألة قولان :

أحدهما : عدم استحقاق السابق أجرة مثل عمله ، لعدم ما يوجب ضمان المسبوق ، إذ لم يعد نفع العمل إلى المسبوق ، وإنّما المنتفع هو السابق ، لتدرّبه على فنون الحرب ، ولم يقع العمل بأمر من المسبوق. وعلى هذا فلا مورد للنقض والاشكال ، إذ لا ضمان حتى يتفحّص عن دليله.

ثانيهما : استحقاق السابق اجرة المثل ، لقاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» وحيث إنّ عقد السبق والرماية ممّا يضمن بصحيحه فكذا بفاسده. وبناء على هذا القول يشكل إثبات الضمان ، لعدم جريان قاعدة احترام الأعمال ، لانتفاء الأمر بالعمل ، ولعدم عود النفع إلى غير السابق. وأمّا قاعدة الإقدام فالمفروض عدم كونها من موجبات الضمان كما عرفت في توجيه كلام الشيخ قدس‌سره. فما الدليل حينئذ على وجوب بذل اجرة المثل إلى السابق في المسابقة الفاسدة؟

(١) حيث قال ـ بعد حكمه بعدم استحقاق المسمّى إذا فسد عقد المناضلة ـ ما لفظه : «وقال قوم : يستحق اجرة المثل كالبيع والصلح والإجارة. وقال آخرون : لا يستحقّ شيئا ، لأنّه إنّما يجب اجرة المثل في الموضع الذي يفوّت على العامل عمله ، وعاد به نفعه إلى الناضل. كالقراض الفاسد يجب عليه مثل اجرة العامل ، لأنّه فوّت عليه عمله فيما عاد نفعه إليه» (١). والمستفاد من سكوته وعدم الاعتراض على القول

__________________

(١) المبسوط ، ج ٦ ، ص ٣٠٢.

١٣٣

والمحقق (١) وغيرهما (٢) بعدم استحقاق السابق اجرة المثل (٣). خلافا لآخرين (٤).

______________________________________________________

بعدم استحقاق اجرة المثل ارتضاؤه له.

(١) قال قدس‌سره : «إذا فسد عقد السبق لم يجب بالعمل اجرة المثل ، ويسقط المسمّى لا إلى بدل. ولو كان السبق مستحقا وجب على الباذل مثله أو قيمته» (١).

وفي كلامه تفصيل بين كون منشأ الفساد اختلال الشرط ، وبين كونه عدم مملوكية العوض لمن يجب عليه بذله.

(٢) كالشهيد الثاني والمحقق الأردبيلي قدس‌سره (٢).

(٣) وأمّا عدم استحقاق «السبق» المسمّى فواضح ، إذ المفروض فساد العقد.

(٤) كالعلّامة (٣) ونجله فخر المحققين والمحقق الكركي قدس‌سرهم. قال في جامع المقاصد : «إذا فسدت المعاملة بعد المسابقة من جهة العوض فللفساد طريقان ، أحدهما : أن يظهر كون العوض المعقود عليه مما لا يملك في شرع الإسلام ، كما لو ظهر خمرا ، ففي استحقاق السابق على الباذل شيئا قولان : أحدهما : لا يستحق شيئا ، اختاره نجم الدين بن سعيد .. الى أن قال : وأصحّهما واختاره المصنّف هنا ـ أي في القواعد ـ وفي التذكرة وجوب اجرة المثل ، لأنّ كل عقد استحق المسمّى في صحيحه ، فإذا وجد المعقود عليه في الفاسد وجب عوض المثل. والعمل في القراض قد لا ينتفع به المالك ، ومع ذلك يكون مضمونا ، فيرجع إلى أجرة المثل ، الى أن قال : الثاني : أن يكون سبب الفساد استحقاق العوض. ومقتضى عبارة المصنف أنّ القول بسقوط المسمّى لا إلى بدل غير آت هنا. وهو ظاهر عبارة الشرائع. ويلوح من عبارة التذكرة عدم الفرق.

__________________

(١) شرائع الإسلام ، ج ٢ ، ص ٢٤٠.

(٢) مسالك الأفهام ، ج ٦ ، ص ١٠٩ و ١١٠ ، مجمع الفائدة والبرهان ، ج ١٠ ، ص ١٨٧ ، لاحظ قوله : «ويمكن أن يقال .. إلخ».

(٣) راجع : تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٣٥٦ و ٣٥٧ ؛ قواعد الأحكام ، ص ١٠٦ ، السطر ٦ (الطبعة الحجرية) ؛ تحرير الاحكام ، ج ١ ، ص ٢٦٢.

١٣٤

.................................................................................................

______________________________________________________

وهو الصواب ، فإنّ الدليل في الموضعين واحد ، وكذا الفتوى.

إذا عرفت ذلك فاعلم : أنّه مع ظهور العوض مستحقّا هل يجب مثله إن كان مثليّا ، وإلّا فقيمته .. أم تجب اجرة المثل ، لأنّ العوض المسمّى إذا فات وجب قيمة العوض الآخر ، وهي أجرة مثله كما في سائر المعاوضات؟ وجهان أصحّهما الثاني» (١).

والغرض من نقل كلامه ـ المتضمّن لكلام العلّامة أيضا ـ هو وجوب اجرة المثل في المسابقة الفاسدة سواء أكان فسادها لاختلال شرط الصحة كعدم كون العوض قابلا للتملّك شرعا ، فيبطل به أصل العقد. أم كان فسادها لمغصوبيّة العوض ، لصحة العقد الفضولي وتوقفه على إجازة المالك ، ولو لم يجز انتقل الى مثله أو إلى أجرة المثل على الخلاف (*).

__________________

(*) لكن تنظّر فيه الشهيد الثاني قدس‌سره بأنّ الفرق بين عقد المسابقة وغيره من العقود التي يضمن بفاسدها ليس من جهة رجوع النفع وعدمه ، بل لأنّ تلك العقود اقتضت الأمر بالعمل ، بخلاف هذا العقد ، فإنّه لم يقتض ذلك ، فإنّ قوله : «سابقتك» على معنى : أنّ من سبق منّا فله كذا. وقاعدة ما يضمن لا دليل عليها كليّة ، بل النزاع واقع في موارد .. إلخ (٢).

والتحقيق عدم الضمان ، لانتفاء موجباته من الاستيلاء على مال الغير ، ومن الاستيفاء ، ومن الأمر بعمل محترم يصدر من المأمور حتى إذا لم يعد نفعه إلى الآمر في المسابقة الفاسدة ، وإن كان صحيحها مضمّنا لإمضاء الشارع لها ، للاهتمام بأمر الجهاد مع الكفّار. ولو لا هذه الجهة كانت المسابقة من أنواع القمار المنهيّ عنه وضعا وتكليفا.

وعليه فالمسابقة الفاسدة مصداق للقمار المحرّم ، فيكون أكل المال بها أكلا له بالباطل ، إذ المفروض عدم تحقق ما يوجب الضمان ، لأنّه لم يوجد فيها إلّا سبق السابق.

__________________

(١) إيضاح الفوائد ، ج ٢ ، ص ٣٦٨ ؛ جامع المقاصد ، ج ٨ ، ص ٣٣٧ و ٣٣٨.

(٢) مسالك الأفهام ، ج ٦ ، ص ١١٠.

١٣٥

ووجهه (١) أنّ عمل العامل لم يعد نفعه الى الآخر (٢) ولم يقع بأمره (٣) أيضا ، فاحترام (٤) الأموال ـ التي منها الأعمال ـ لا يقضي بضمان الشخص له ، ووجوب

______________________________________________________

(١) يعني : ووجه حكم الشيخ والمحقق بعدم استحقاق أجرة المثل في المسابقة الفاسدة هو عدم انطباق قاعدة الاستيفاء عليها.

(٢) وهو من يجب عليه بذل السّبق.

(٣) إذ لو وقع عمل العامل بأمر من غيره اقتضى احترامه الضمان حتى إذا لم ينتفع الضامن بذلك العمل ، كما إذا أمره بكنس مسجد ، فإنّ الآمر وإن لم تعد منفعة العمل إليه ، لكنه يغترم بمجرّد صدور العمل عن أمره.

(٤) غرضه أنّ قاعدة الاحترام لا تجري في المسابقة الفاسدة ، كما لا يجري فيها قاعدة اليد والاستيفاء ، فلو قيل بوجوب اجرة المثل فيها كان دليله قاعدة الاقدام لا غير ، مع أنّ المصنّف أسقطها عن الدليلية وأرجعها إلى عدم المانع.

__________________

وليس هذا السّبق بأمر المسبوق ، ولا ممّا يعود نفعه إليه ، ولا أنّه أتلف شيئا من أموال السابق. ومع انتفاء هذه الأمور الموجبة للضمان كيف يحكم في المسابقة الفاسدة بالضمان؟

والحاصل : أنّ المسابقة الفاسدة من القمار المحرّم الذي لا يوجب الضمان.

إلّا أن يقال : إن المراد بعود النفع إلى باذل العوض كون العمل صادرا لغرض عقلائي مخرج له عن المعاملة السفهية ، كما إذا استأجر شخصا لكنس مسجد أو بيت عالم أو نقل متاع مؤمن إلى بيته ، فإنّ النفع إن أريد به المال فلا يعود مال في هذه الموارد الى باذل الأجرة ، مع أنّ المعاملة صحيحة ، فإذا فرض فساد هذه المعاملة كانت مضمونة ، كما إذا صدرت صحيحة. فالمسابقة الفاسدة كالصحيحة تصدر عن غرض عقلائيّ ، وهو التهيّؤ للحرب والوقوف على رموزها ، فتكون كالإجارة لكنس مسجد في كون المسابقة من المعاملات العقلائيّة ، فتندرج في «كلّ ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده».

وعليه فلا ينتقض قاعدة «ما يضمن» بالمسابقة الفاسدة ، فالمسابقة كالإجارة في كون فاسدها كصحيحها موجبة للضمان. فما أفاده العلامة وثاني المحققين قدس‌سرهما من الضمان في المسابقة الفاسدة هو الجدير بالقبول ، والله العالم.

١٣٦

عوضه (١) عليه ، لأنّه (٢) ليس كالمستوفي له ، ولذا (٣) كانت شرعيّته على خلاف القاعدة ، حيث إنّه بذل مال في مقابل عمل لا ينفع الباذل. وتمام الكلام في بابه (٤).

ثمّ إنّه (٥) لا فرق فيما ذكرنا من الضمان في الفاسد بين جهل الدافع بالفساد ، وبين علمه مع جهل القابض (٦).

______________________________________________________

(١) أي : عوض العمل على الآخر الذي لم يأمر بالعمل ولم ينتفع به.

(٢) أي : لأنّ الآخر لم ينتفع ولم يستوف عمل الغير حتى يكون ضامنا بمقتضى قاعدة الاحترام.

(٣) أي : ولأجل عدم المقتضي للضمان في مثل المسابقة الفاسدة كانت مشروعيّتها على خلاف القاعدة ، لعدم بذل مال في مقابل عمل ينتفع به الباذل.

(٤) وهو كتاب المسابقة إذا تبيّن فسادها بعد العمل.

هذا تمام الكلام في الجهة الثانية المعقودة لبيان مدرك قاعدة «ما يضمن».

عدم اختصاص الضمان بالجهل بفساد المعاملة

(٥) هذا إشارة إلى الجهة الثالثة ، ممّا تعرّض له في شرح قاعدة «ما يضمن» وهي اختصاص الضمان بجهل الدافع بفساد المعاملة ، وتعميمه لكلتا حالتي العلم والجهل به.

ولا يخفى أنّ هذا البحث وإن كان له تعلّق بالقاعدة ، ولكنّه لا يختص بها ، بل يجري في ضمان المقبوض بالعقد الفاسد سواء أكان الدليل على الضمان حديث «على اليد» أم حديث ضمان قيمة ولد الأمة المسروقة ، أم قاعدة «ما يضمن» أم الإجماع المدّعى في بعض الكلمات.

وكيف كان فينبغي الإشارة إلى أمر قبل توضيح المتن ، وهو : أنّ للمسألة صورا أربع ، وهي : علمهما بالفساد ، وجهلهما به ، وعلم الدافع وجهل القابض ، وبالعكس. إلّا أنّ المذكور في المتن هي الصور الثلاث الأول ، ولم يتعرّض لحكم صورة جهل الدافع بالفساد مع علم القابض به ، ولعلّه اتّكالا على وضوحه.

(٦) الدليل على عموم الضمان ما سيأتي في كلامه من إطلاق النص والفتوى ،

١٣٧

وتوهّم (١) «أنّ (٢) الدافع في هذه الصورة هو الذي سلّطه عليه ، والمفروض

______________________________________________________

وعدم مقيّد له في البين.

(١) هذا تفصيل في الضمان بين علم الدافع بالفساد وجهل القابض به ، وبين غيره. وهذا التفصيل احتمله الشهيد الثاني قدس‌سره أوّلا ، لكنّه عدل عنه وقال : «والأقوى ثبوته ـ أي الضمان ـ في جميع الصور» (١).

واختاره المحقق الأردبيلي قدس‌سره بناء على مرجعيّة أصالة البراءة عن الضمان في المقبوض بالعقد الفاسد ، لعدم حجيّة حديث «على اليد» ولا قاعدة «ما يضمن» فقال قدس‌سره : «وهو ـ أي عدم الضمان ـ مع الجهل بالفساد قويّ ، ومع علم الآخر أقوى.

ومع علمه بالفساد ـ وبعدم جواز تصرفه ووجوب حفظه ووجوب ردّه إلى مالكه معجّلا ـ كالمغصوب ، وذلك قد يكون بعلمه بطلب من المالك على تقدير الفساد ، وعدم رضاه بكونه عنده .. وأمّا مع الجهل بالفساد ـ سيّما في أمر غير ظاهر الفساد ، وكذا بعد العلم به ، ولكن مع عدم العلم بوجوب الرّد ـ فالضمان غير ظاهر .. الى أن قال : نعم إذا علم عدم الرضا إلّا بوجه البيع أو اشتبه ذلك ، يتوجّه جواز التصرّف ، والضمان على تقدير فهم عدم الرّضا بالمكث عنده ، وكونه أمانة على تقدير غيره» (٢).

وحاصله : أنّه قدس‌سره فصّل بين صورتي العلم بالفساد والجهل به ، فإن كانا جاهلين فعدم الضمان قويّ. وإن كان الآخر ـ أي : الدافع ـ عالما والقابض جاهلا فعدم الضمان أقوى. وإن كان القابض عالما بالفساد وبحرمة التصرّف في المقبوض بالعقد الفاسد ، وبوجوب ردّه إلى مالكه معجّلا فهو ضامن كالغاصب.

(٢) هذا الوجه مذكور في المسالك وإن لم يعتمد عليه. وحاصله : أنّ الدافع ـ مع علمه بالفساد وجهل القابض به ـ سلّط القابض على المقبوض ، وأذن له في

__________________

(١) مسالك الأفهام ، ج ٣ ، ص ١٥٤.

(٢) مجمع الفائدة والبرهان ، ج ٨ ، ص ١٩٢ و ١٩٣.

١٣٨

أنّ القابض جاهل» (١) مدفوع (٢) بإطلاق النص والفتوى. وليس (٣) الجاهل مغرورا ، لأنّه (٤) أقدم على الضمان قاصدا.

______________________________________________________

إتلافه والتصرف فيه مع علمه ببقائه على ملكه ، ولا موجب لضمان القابض حينئذ.

(١) إذ لو كان عالما بالفساد كان ضامنا بلا إشكال.

(٢) هذا خبر «توهّم» ودفع للتوهّم المزبور وملخّص الدفع : أنّ إطلاق النص وهو «على اليد» وكذا إطلاق الفتوى يثبت الضمان ويدفع الشك فيه.

(٣) إشارة إلى وجه آخر لنفي الضمان ، وهو قاعدة الغرور ، بتقريب : أنّ الدافع مع علمه بالفساد وجهل القابض به قد غرّه ، إذ لم يكن موظّفا بدفع المال إلى القابض ، ومع ذلك دفعه إليه.

وببيان آخر : قد تقرّر عندهم في باب الضمان «أنّ المغرور يرجع على من غرّه» كما إذا قدّم شخص طعاما لضيفه بعنوان أنّه ملكه أو مأذون في تقديمه للضيف ، فتبيّن عدم كون المضيف مالكا ومأذونا في التصرّف فيه ، فإنّ الآكل ضامن له. ولكنّه يرجع بقيمته على الغارّ وهو المضيف. والوجه في الرجوع إلى الغارّ هو قاعدة الغرور.

والمدّعى انطباق هذه القاعدة على المقام ، لأنّ الدافع العالم بفساد العقد أقبض ماله للطرف الآخر ـ الجاهل بالفساد ـ بعنوان أنّ المال انتقل إلى القابض ، وأخذ عوضه من القابض. وهذا الإقباض خدعة من البائع العالم بالفساد ، لأنّ المشتري يتخيّل صحة المعاملة ووجوب الوفاء بها. ومن المعلوم أنّ إبقاء جهله وإعطاءه ما ليس بنظر البائع مالا للمشتري نحو غرور وخدعة ، ولا وجه حينئذ لضمان المشتري لما تسلّمه من البائع العالم بالفساد ، بل يرجع عليه بماله ، هذا.

(٤) أي : لأنّ الجاهل. وهذا إشارة إلى دفع الوجه المزبور ـ وهو قاعدة الغرور ـ ومحصّله : عدم كون المقام من صغريات هذه القاعدة ، وذلك لأنّ القابض الجاهل ـ كالمشتري ـ قد قبض المال مع ضمانه بالمسمّى الذي يدفعه إلى البائع ، والعالم بالفساد

١٣٩

وتسليط (١) الدافع العالم لا يجعلها أمانة مالكيّة (٢) ، لأنّه (٣) دفعه على أنّه (٤) ملك المدفوع إليه ، لا أنّه (٥) أمانة عنده أو عارية ، ولذا (٦) لا يجوز له التصرّف فيه

______________________________________________________

إنّما سلّط القابض على المال بعنوان أنّه ملكه ، ولم يقصد عنوانا آخر من الأمانة أو العارية ، فلا غرور في البين.

(١) هذا من إضافة المصدر إلى الفاعل ، وغرض المفصّل الاستناد إلى : أنّ العالم بفساد العقد إذا سلّط الآخر على ماله فقد أسقط حرمة ماله ، فلا وجه لضمان القابض.

وأجاب عنه المصنّف قدس‌سره بما عرفت من أنّ مجرّد التسليط لا يساوق المجّانيّة والاذن في التصرّف ، بل هو أعمّ فإن كان مقرونا بقصد الأمانة أو المجّانيّة لم يضمن الآخذ ، وإن كان مبنيا على كون المال ملكا للآخذ ـ ولو تشريعا ـ كما هو المفروض في البيع الفاسد كان ضامنا ، هذا.

(٢) حتى لا يثبت الضمان ، إذ الأمانة المالكيّة كالشرعيّة رافعة للضمان.

(٣) تعليل لعدم الأمانة المالكيّة ، وحاصله : أنّ المالك لم يدفع المال بعنوان الأمانة ، بل دفعه إليه بعنوان كونه ملكا له.

(٤) هذا الضمير وضميرا «دفعه ، أنّه» راجعة إلى «المقبوض» المستفاد من السياق.

(٥) معطوف على «على» أي : لم يكن دفع المال إلى المدفوع إليه مبنيّا على الأمانة والعارية حتّى يسقط الضمان.

(٦) أي : ولأجل كون دفع المال مبنيّا على كونه ملكا للمدفوع اليه ـ لا بعنوان الأمانة ـ لا يجوز للمدفوع إليه التصرف في المال ، ولا الانتفاع به. ولو كان عارية لجاز الانتفاع به كما هو واضح.

هذا تمام الكلام في المقام الأول وهو البحث عن دليلية قاعدة «ما يضمن» على ضمان المقبوض بالبيع الفاسد.

١٤٠