هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٣

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٠

الذي هو سبب للضمان (*) ، وإمّا (١) لأنّه سبب (٢) الحكم بالضمان بشرط القبض (**). ولذا (٣) علّل الضمان الشيخ وغيره «بدخوله على أن تكون العين مضمونة عليه» (١). ولا ريب (٤) أنّ دخوله على الضمان إنّما هو بإنشاء العقد الفاسد ، فهو (٥) سبب لضمان ما يقبضه.

______________________________________________________

(١) هذا هو الوجه الثاني ، يعني : وإمّا لأنّ العقد الفاسد مقتض للحكم بالضمان بشرط كون القبض على وجه الضمان لا على وجه المجانية ، وبهذا يكون العقد من أفراد مطلق السببيّة.

(٢) فالعقد هو المقتضي للضمان ، لا أنّه سبب السبب كما كان في الوجه الأوّل.

(٣) أي : ولأجل اشتراط الضمان بالقبض علّل شيخ الطائفة وغيره .. إلخ. وغرضه الاستشهاد بكلامهم على صحة الوجه الثاني ، وأنّ العقد الفاسد من أفراد مطلق السببيّة ، إذ بالعقد الفاسد يتحقق إقدام المتعاقدين على الضمان.

(٤) غرضه تطبيق التعليل ـ الوارد في كلام الشيخ ـ على الوجه الثاني ، وهو أنّ الاقدام على الضمان يكون بإنشاء العقد الفاسد.

(٥) يعني : فإنشاء العقد الفاسد سبب لضمان ما يقبضه ، إذ لولاه لما وقع القبض على وجه الضمان المقرّر عند المتعاقدين.

__________________

(*) لا يختص هذا التوجيه بالعقد الفاسد ، بل يجري في الصحيح أيضا ، فلا وجه لتخصيصه بالفاسد.

(**) لكن هذا التوجيه ينافي ما ذكره سابقا بقوله : «ثمّ إنّ المتبادر من اقتضاء الصحيح للضمان اقتضاؤه له بنفسه». وجه المنافاة : أنّ الضمان يكون باقتضاء الشرط لا نفس العقد.

__________________

(١) المبسوط ، ج ٣ ، ص ٥٨ و ٦٥ و ٦٨ و ٨٥ و ٨٩ ؛ مسالك الأفهام ، ج ٣ ، ص ١٥٤

١٠١

والغرض من ذلك كلّه (١) دفع توهّم أنّ سبب الضمان في الفاسد هو القبض لا العقد الفاسد ، فكيف يقاس الفاسد على الصحيح في سببيّة الضمان ، ويقال :

______________________________________________________

(١) أي : من توجيه سببيّة العقد الفاسد للضمان بالوجهين المتقدمين ، وهما : كون العقد سبب السبب ، أو سببا ناقصا. وغرضه من هذا البيان دفع توهّمين :

الأوّل : أنّ جعل «الباء» للسببيّة في العقد الصحيح أمر معقول. بخلاف العقد الفاسد ، لعدم تأثيره في ضمان المتعاقدين ، إذ تمام المؤثّر في الضمان هو القبض. وعليه فلا معنى لأن يقال : «إنّ العقد الذي يضمن بسببه إن كان صحيحا يضمن بسببه إن كان فاسدا» لما عرفت من عدم دخل العقد الفاسد في الضمان ، وعليه يتعيّن جعل الباء للظرفيّة ، هذا.

وقد دفعه المصنف بصحة إطلاق «السبب» على العقد الفاسد ، إمّا لأنّه سبب السبب ، ومن المعلوم أنّ سبب السبب سبب بمقتضى قياس المساواة. وإمّا لأنّه سبب ناقص ، ويكون مشروطا بالقبض ، لا أنّ تمام السبب هو القبض كما زعمه المتوهّم.

الثاني : أنّ مقتضى سببيّة «الباء» هو كون العقد علّة تامة للضمان ، من دون أن يكون للقبض دخل فيها أصلا ، سواء أكان العقد صحيحا أم فاسدا. ومن المعلوم أنّ هذا الظهور ينافي ما تقرّر عندهم من عدم تأثير العقد الفاسد في الضمان إلّا بالقبض. ولا يرتفع هذا التنافي إلّا بتخصيص قاعدة «ما يضمن» بأن يقال : «كل عقد يضمن بسبب صحيحه يضمن بسبب فاسدة ، إلّا العقد الفاسد قبل القبض» ويبقى للقاعدة موارد ثلاثة وهي العقد الصحيح مطلقا مع القبض وبدونه ، والعقد الفاسد بعد القبض.

وقد دفعه المصنّف قدس‌سره بأنّه لا موجب للتخصيص المزبور أصلا ، إذ لا يراد من سببيّة العقد للضمان عليّته التامة حتى يقع التنافي المذكور ، بل المراد مطلق السببيّة ولو الناقصة ، ولا يستند الضمان في العقد الفاسد إلى خصوص القبض حتى يبقى مجال للتوهم. وعليه فالضمان مستند إلى العقد ، إمّا لأنّه علة العلة ، وإمّا لأنّه مقتض وسبب ناقص له.

١٠٢

كلّ ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده؟ (١).

وقد ظهر من ذلك (٢) أيضا فساد توهم أنّ ظاهر القاعدة عدم توقف الضمان في الفاسد على القبض ، فلا بدّ من تخصيص القاعدة بإجماع ونحوه (٣) (*).

______________________________________________________

(١) يعني : مع أنّه لا يضمن بنفس العقد الفاسد ، بل بالقبض المترتب عليه.

(٢) أي : من تفسير سببيّة الضمان بقوله : «إمّا .. وإمّا» فإنّ السببية بأحد الوجهين المتقدمين تدفع توهم عدم توقف الضمان في الفاسد على القبض ، كما عرفته آنفا.

(٣) كحديث «على اليد» الظاهر في إناطة الضمان بالقبض. هذا تمام الكلام في الجهة الاولى ، وهي شرح مفردات القاعدة.

__________________

(*) لا يخفى أنّ المقبوض بالعقد الفاسد جعل من صغريات القاعدة المعروفة وهي : كلّما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده. والبحث فيه يقع في جهات :

الأولى : أنّ المذكور في التذكرة هو العقد ، فإنّه قال في إجارتها : «وحكم كل عقد فاسد حكم صحيحه في الضمان في وجوب الضمان وعدمه ، فما وجب الضمان في صحيحه وجب في فاسده ، وما لم يجب في صحيحه لا يجب في فاسده» (١). ونحوه ما عن القواعد.

وفي إجارة جامع المقاصد : «فلأنّ كلّ عقد لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده وبالعكس» (٢).

وفي إجارة مجمع الفائدة : «ولما تقرّر عندهم أنّ كلّ ما لا يضمن وبصحيحه لا يضمن بفاسده» (٣).

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ١٣٨ ، السطر ١٧ و ١٨.

(٢) جامع المقاصد ، ج ٧ ، ص ٢٥٨.

(٣) مجمع الفائدة والبرهان ، ج ١٠ ، ص ٦٩.

١٠٣

.................................................................................................

__________________

وبالجملة : المذكور في كلمات الأصحاب عدا العلّامة قدس‌سره عنوانان : أحدهما «ما يضمن» والآخر «كل ما يضمن .. إلخ». ومقتضى كونهما من ألفاظ العموم ما لم تقم قرينة على العهد هو مطلق السبب عقدا كان أو إيقاعا أو برزخا بينهما كالنكاح على ما قيل. وتعبير العلّامة بالعقد لا يقدح بعد إجرائهم لهذه القاعدة في غير العقد من الإيقاعات كالخلع والجعالة الفاسدين بناء على عدم كون الجعالة عقدا كما قيل. ومن الأحكام كالشفعة والقسمة عندنا من كونها إفراز حقّ ، لا معاوضة كما عن العامة. واللقطة إن وقع قصد تملكها على وجه الفساد ، هذا.

ويمكن إرادة العقد بمعناه اللغوي أعني به التعهّد ، فيشمل جميع ما ذكرنا.

وكيف كان فاختلاف العبارات في كون الموضوع عنوان العقد كما في التذكرة ، أو «ما يضمن» كما في إجارة مجمع الفائدة ، أو «كلما يضمن» كما في غصب جامع المقاصد غير مهمّ بعد كون العبرة بدليل القاعدة ، لعدم كون هذه القاعدة بنفسها متن رواية معتبرة ، ولا معقد إجماع حتى يبحث في أنّ الموضوع هو مطلق الإنشاء عقدا كان أم إيقاعا ، أو خصوص العقد ، فدائرة موضوع القاعدة سعة وضيقا تابعة لدليلها ، كما لا يخفى.

الجهة الثانية : أنّ الضمان يستعمل في ثلاثة معان :

أحدها : ما اختاره المصنّف قدس‌سره من كون المال متداركا بعوض بحيث تكون الخسارة واقعة في ماله الأصلي ، ففي طرف العقد الصحيح يكون المال متداركا بسبب المعاوضة بماله الأصلي ، بحيث إذا تلف كانت خسارته من ماله الأصلي المجعول عوضا ، وفي طرف العقد الفاسد يكون متداركا بما يؤدّيه عند تلفه بدلا عنه من ماله الأصلي.

وبعبارة أخرى : المراد بالضمان في الجملتين هو كون درك المضمون عليه بمعنى وقوع خسارته في ماله الأصلي ، فتلفه يوجب نقصان ماله ، لوجوب تداركه منه. وقد جعل الضمان بهذا المعنى جامعا للضمان في العقود الصحيحة والفاسدة ، وفي تلف

١٠٤

.................................................................................................

__________________

الموهوب بشرط التعويض قبل دفع العوض. ثمّ قال : «انّ المراد بالضمان بقول مطلق هو لزوم تداركه بعوضه الواقعي» وكأنّ مراده أنّ الضمان ظاهر في الضمان الواقعي ما لم تقم قرينة على خلافه ، وقد قامت على الضمان بالمسمّى في المقبوض بالبيع الصحيح ، دون البيع الفاسد ، فيحمل على المعنى الظاهر فيه.

وهذا ليس تفكيكا في الضمان ، لوجود الجامع. واختلاف الخصوصيّات لا ينافي وجود الجامع الذي بلحاظه لم يكن تفكيك ، لكونها من قبيل تعدّد الدال والمدلول.

ثانيها : ما نقله المصنف قدس‌سره وزيّفه ، وهو : كون تلفه عليه وأنّه يتلف مملوكا له ، فالمأخوذ بالعقد الصحيح يكون تلفه منه ، وهو عين كونه خسارة عليه ، والمأخوذ بالعقد الفاسد يكون تلفه موجبا لترتب الخسارة عليه ، للزوم تداركه بالبدل.

وعلى هذا فالتالف تارة نفسه خسارة كما في العقد الصحيح ، فإنّ الكتاب المبيع بدينار مثلا إذا تلف عند المشتري يكون نفسه خسارة على المشتري ، لأنّه ماله. وأخرى بدله خسارة كما في العقد الفاسد ، فإنّ الكتاب المزبور ليس نفسه خسارة على المشتري ، لفرض بقائه على ملك البائع ، بل يكون بدله ـ مثلا أو قيمة ـ خسارة على المشتري.

هذا ما ينسب إلى الشيخ الجليل الشيخ علي رحمه‌الله في حاشية الروضة. وقد تقدّمت عبارته في التوضيح ، فراجع. وقد ينسب الى الرياض أيضا في النقد والنسيئة في مسألة تقدير الثمن.

ثالثها : مطلق التعهد الجامع بين صورتي التلف وعدمه ، فالتعهّد في صورة البقاء يكون بحفظه وردّه إلى صاحبه ، وفي صورة التلف بردّ مثله أو قيمته. يعني : أنّ ما يقتضي صحيحه التعهّد ـ أي عدم المجّانية ـ ففاسده أيضا كذلك. وأمّا كونه بالمثل أو القيمة أو المسمّى فلم يتعرض القاعدة لها حينئذ.

وتظهر الثمرة بين هذه التفاسير الثلاثة في شمول القاعدة أصلا للهبة غير المعوّضة الفاسدة ، كشمول القاعدة لها على التفسير الثاني ، لأنّه يصدق على صحيحها

١٠٥

.................................................................................................

__________________

عند تلف الموهوب أنّه تلف في ملك المتّهب ، ففاسده أيضا كذلك ، مع أنّها داخلة في العكس ، لحكمهم فيها بعدم الضمان.

وعدم شمولها على الأوّل والأخير ، الموجب لعدم دخول الهبة المعوّضة في أصلها ، لعدم صدق التعهّد بدفع المثل أو القيمة عند التلف في ملك المتّهب على تقدير إرادة التعهّد من الضمان ، كما هو المعنى الثالث. كعدم صدق دفع البدل والعوض على تقدير إرادة اللزوم والدرك كما هو المعنى الأوّل ، إذ التلف وإن كان في ملك المتّهب ، إلّا أنّه ليس من ماله الأصلي ، لعدم دفعه شيئا في مقابله بعنوان العوضية ، فتدخل على التقديرين في عكسها ، هذا.

كما تظهر الثمرة بين الأوّل والثالث في شمول الثالث لضمان الحيلولة ، كمن أقرّ بمال زيد لعمرو ، ثمّ أقر لزيد ، فإنّ ضمان القيمة للمالك ضمان بمعنى التعهّد الذي هو المعنى الثالث ، دون الضمان بالمعنى الأوّل وهو لزوم البدل من المثل أو القيمة ، لاختصاصه بصورة التلف. والمفروض في ضمان الحيلولة وجود العين. إلّا أن يعمّم العوض والبدل بالنسبة إلى الموجود والتالف ، فيدخل في المعنى الأوّل أيضا ، لصدق دفع العوض على بدل الحيلولة ، فيدفع البدل المزبور إلى مالك العين.

وكذا تظهر الثمرة في صدق المعنى الثالث ـ وهو التعهّد ـ على الموجود والمعدوم واختصاص المعنى الأوّل بالمعدوم ، إلّا أن يعمّم كما عرفت آنفا.

وكيف كان ففي المعنى الأوّل الذي اختاره المصنّف قدس‌سره : أنّ ردّ مال الغير إلى مالكه لاقتضاء العقد ذلك ليس ضمانا ودركا ، فإذا كان المثمن موجودا في يد البائع وردّ المشتري الثمن لا يصدق أنّه أدّى دركه. بل يقال : إنّه أدّى دينه. وكذا لو كان المبيع في يد المشتري ، وردّ الثمن إلى البائع.

لا يقال : إنّ الثمن درك المبيع ، وكان الشيخ قدس‌سره يعترف بذلك ، ولذا فرض مورد التلف ، ولا شبهة في أنّ دفع الثمن إلى البائع بعد تلف المبيع في يد المشتري ليس إلّا

١٠٦

.................................................................................................

__________________

كدفعه في حال وجود المبيع سواء أكان في يد البائع أم المشتري.

وعليه فتلف المبيع لا دخيل في الضمان بوجه ، لأنّ العقد مع فرض صحته يقتضي الضمان أي رد الثمن إلى البائع مع وجود المبيع عند البائع أو المشتري. كما لا دخيل في كيفية ردّ مال الغير بوجه ، فتلف المبيع لا يعقل أن يكون مضمونا على مالكه ، لعدم تعقّل ضمان الشخص مال نفسه ، كما أنّ ردّ مال الغير كالثمن إلى البائع ليس من قبيل الدرك. فما فرضه جامعا بين العقد الصحيح والفاسد ـ حتى لا يلزم التفكيك في معنى الضمان بين الصحيح والفاسد ـ لا يخلو من غموض ، هذا.

وفي المعنى الثاني الذي زيّفه المصنف قدس‌سره ـ وهو كون تلفه عليه ، وأنّه يتلف مملوكا له ـ أوّلا : استدراك قيد المملوكية ، إذ لا يعتبر في الضمان والتغريم كون التالف مملوكا للضامن ، إلّا بناء على قول من يقول بكون أداء البدل من باب التعاوض القهري شرعا بين التالف وبدله. لكنّه ضعيف كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

وثانيا : أنّ الإنسان لا يكون ضامنا لأمواله التالفة ، فتلف المال من الشخص لا يحقّق عنوان الضمان.

وثالثا : أنّ مجرّد تلف مال من شخص غير تلفه عليه ، إذ معنى كون تلفه عليه ترتب تدارك التالف وجبران خسارته عليه بسبب التلف. وأمّا كون نفس التلف خسارة فهو خسارة منه بلا تدارك عليه. فعنوان «تلفه» الموجب لتداركه عليه هو معنى الضمان ، وذلك منحصر في الفاسد ، فلا يكون بين تلفه منه وتلفه عليه جامع حتى يكون أحد مصداقيه في الصحيح والآخر في الفاسد.

نعم مجرّد شباهة ضمان الصحيح بضمان الفاسد ـ إمّا من جهة كونه ذا بدل كما في التفسير الأوّل ، وإمّا من جهة الخسارة كما في التفسير الثاني ـ يوجب حسن المقابلة مع الضمان في الفاسد ، كما في قوله تعالى (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا).

وربّما يقال : في تصحيح عدم التفكيك المزبور : «بأنّ الضمان في الصحيح

١٠٧

.................................................................................................

__________________

والفاسد كليهما بالمثل أو القيمة ، فإنّ الضمان بالمسمّى في الصحيح قبل القبض ، وهو خارج عن القاعدة الّتي أسّست لتشريع الضمان في موارد ، وهو يتحقق بالقبض ، ويقال : إنّ بالقبض ينتقل الضمان. ومعنى انتقاله أنّ المسمّى ينقلب بعد القبض بالمثل أو القيمة. ومعنى ضمان القابض بعد قبضه ـ مع أنّ المقبوض ملكه ـ أنّه لو تلف وطرأ عليه فسخ أو انفساخ وجب عليه ردّ المثل أو القيمة ، وهو المضمون في الصحيح والفاسد .. إلخ» (١).

فمحصّل كلامه : أنّ القاعدة أجنبية عن ضمان المسمّى ، فالضمان حينئذ هو تدارك المضمون بالمثل أو القيمة مطلقا. أمّا في العقد الفاسد فواضح ، لكون الضمان فيه في صورة التلف بالمثل أو القيمة. وأمّا في العقد الصحيح فلأنّ الضمان فيه أيضا بعد التلف والفسخ أو الانفساخ إنّما هو بالمثل أو القيمة ، هذا.

وأنت خبير بما فيه ، لأنّ حمل قوله : «كلّ عقد يضمن بصحيحه» على أنّه يضمن بعد فسخه وبعد تلف المبيع في غاية الغرابة ، لأنّ المراد بالعقد حينئذ فسخه أو الفسخ بعد العقد والقبض والتلف ، وهو يحتاج إلى التقدير من غير قرينة على أصله ، ولا على تعيين المقدّر. وطرح الدليل أولى من ارتكاب ذلك بلا دليل ، هذا.

مضافا إلى : أنّ قوله : «إنّ الضمان بالمسمّى قبل القبض ، وهو خارج عن القاعدة ، فإنّها أسّست لموارد ضمان اليد» تخريص منه ، لعدم دليل على الخروج ، ولا على تأسيسها لموارد ضمان اليد. فلو أريد بتلك القاعدة قاعدة اليد ، فلا معنى لتغيير عبارته الصحيحة الجامعة بهذه العبارة المجملة المحتاجة إلى التأويل كما لا يخفى ، هذا.

ثمّ إنّ المحقق الأصفهاني قدس‌سره فسّر الضمان بكون الشي‌ء في العهدة. وهذا المعنى جامع بين موارد الضمان. قال في جملة ما أفاده : «وبالجملة : الضمان كما يناسبه معناه الأصلي كون الشي‌ء في ضمن شي‌ء ، فإذا نسب إلى الشخص فمعناه : أنّه في ضمن

__________________

(١) منية الطالب ، ج ١ ، ص ١١٩.

١٠٨

.................................................................................................

__________________

عهدته. وهذا المعنى قد يكون بتسبيب من الشخص كما في عقد الضمان بأنحائه حتى ضمان النفس ، فإنّ مرجعه إلى تعهّد إحضاره. وكما في مطلق المعاوضات ، لتعهّد كلّ منهما والتزامه بأخذ المال ببدله ، ولذا عبّر عنه بضمان المعاوضة فليس مجرّد كونه ذا عوض أو مملوكا بعوض مناط الضمان ، بل تعهّد أخذه ببدله هو المناسب للضمان. وقد يكون بجعل من الشارع أو العرف كما في التغريمات الشرعية والعرفية ، فإنّهما يعتبران المأخوذ أو المتلف في عهدة الشخص. والعهدة في كل مقام لها آثار تكليفية أو وضعية ، ولكنه لا يختلف معنى العهدة باختلافها ، فكون الضمان تارة ضمان المعاوضة ، وأخرى ضمان التكفل ، وثالثة ضمان الغرامة ، وهكذا ، لا يوجب اختلافا في معناه.

وبناء على ما ذكرناه في معنى الضمان فمفاد القاعدة : أنّه كل مورد كان عهدة مورد العقد على المتعاقدين في الصحيح فعهدته عليهما في الفاسد» (١) انتهى كلامه علا مقامه.

وأورد عليه : «ـ مضافا إلى أنّ ما ذكره في معنى الضمان وأصله اللغوي مخالف للعرف واللغة. والأوّل ظاهر. ويعلم الثاني بالمراجعة إلى كتب اللغة ـ بأنّ كلّ عهدة ليست ضمانا ، فعهدة أداء الدين غير كونه ضامنا له ، والدّين متعلق بالعهدة ، لكن المديون ليس ضامنا ، وبناء العقلاء في باب البيع ونحوه على تسليم العوضين معنى غير الضمان في العرف واللغة ، فلا يقال بعد تحقق البيع : إنّ كلّا من المتبايعين ضامن للأداء أو للمال ، وهو واضح ، فلا جامع بما ذكر بين ضمان اليد والتزام المتبايعين لتسليم العين ، إذ الثاني ليس بضمان» (٢).

أقول : أمّا ما أفاده في مخالفة معنى الضمان عرفا فلم يظهر له وجه ، إذ العرف يساعد على كون الضمان نوع تعهّد بشي‌ء ، وأنّ مناط الضمان عندهم هو التعهد

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٧٦.

(٢) كتاب البيع ، ج ١ ، ص ٢٦٢.

١٠٩

.................................................................................................

__________________

والالتزام بأخذ شي‌ء مع البدل ، كالقرض الذي هو تمليك بالضمان.

وأمّا ما أفاده من كونه مخالفا للغة ، ففيه : أنّ في المصباح : «ضمنت المال وبه ضمانا فأنا ضامن وضمين التزمته» (١). وفي الصحاح : «ضمنت الشي‌ء ضمانا كفلت به فأنا ضامن وضمين» (٢) فإنّ التعهد بشي‌ء في ذمته هو الموافق لمعناه اللغوي.

فما أفاده المحقق الأصفهاني قدس‌سره ـ من معنى الضمان ـ ليس مخالفا لمعناه اللغوي ، كما ليس مخالفا لمعناه العرفي.

وأمّا ما أفاده بقوله : «بأنّ كل عهدة ليست ضمانا» فإن أريد به عدم صدق الضمان اللغوي عليه ، ففيه ما عرفت من صدقه على مطلق التعهد والالتزام. وإن أريد به عدم صدق معناه العرفي على كلّ تعهّد ، ففيه : ـ مضافا الى رجوعه إلى الإشكال الأوّل ، وهو مخالفة الضمان بهذا المعنى للضمان العرفي ، وعدم كونه اشكالا على حدة ـ أنّه وإن كان صحيحا ، لكن المقام ـ أعنى به ضمان المقبوض بالعقد الفاسد ـ مما يصدق عليه الضمان العرفي.

نعم الإنصاف أنّ الضمان العرفي لا يصدق على العقد الصحيح المعاوضي ، إذ لا يصدق الضمان على الثمن والمثمن ، ولا الضامن على كلّ من المشتري والبائع بالنسبة إلى ما انتقل عنه. فما أفاده المحقق المتقدّم لا يكون جامعا بين العقد الصحيح والفاسد حتّى لا يلزم التفكيك في معنى الضمان بين الجملتين.

ولعلّ الأولى أن يقال : إنّ الضمان عبارة عن كون مال الغير في العهدة ، فيجب دفع عينه مع وجوده ، وبدله مع تلفه حتى يخرج عن عهدته. وهذا ما يساعده العرف واللغة. وليس معناه لزوم التدارك بالعوض الواقعي حتّى يغاير الضمان في العقد الفاسد الضمان

__________________

(١) المصباح المنير ، ص ٣٦٤.

(٢) صحاح اللغة ، ج ٦ ، ص ٢١٥٥.

١١٠

.................................................................................................

__________________

في العقد الصحيح ، ويلزم التفكيك بينهما ، بل لزوم التدارك مثلا أو قيمة ـ كلزوم دفع العين بنفسها إن كانت موجودة ـ من أحكام الضمان بالمعنى المزبور ، وهو كون مال الغير في العهدة ، فلا يلزم تفكيك في معنى الضمان بين الجملتين.

وتوضيحه : أنّه إذا باع زيد كتاب المكاسب مثلا على عمرو بدينار بيعا صحيحا ، فهنا أمور :

الأوّل : الخسارة الواردة على كلّ منهما بخروج الكتاب عن ملك زيد ، وخروج الدينار عن ملك عمرو ، وهذه الخسارة تجبر بكلّ من العوضين.

الثاني : ضمان زيد الكتاب قبل قبض المشتري له ، وضمان عمرو للدينار قبل قبض البائع له ، فلو تلف الكتاب كانت خسارته على زيد. كما أنّه إذا تلف الدينار كانت خسارته على عمرو ، وهذا ضمان المعاوضة.

الثالث : أنّه بعد التقابض إذا طرء فسخ بإقالة أو غيرها أو انفساخ ، فإن كانت العين باقية دفعها القابض إلى المالك. وإن كانت تالفة دفع بدلها مثلا أو قيمة إليه. وهذا يدلّ على ضمان القابض ، وإلّا امتنع الفسخ مع التلف ، لانتفاء الموضوع.

والقول بامتناع ضمان القابض ، لأنّه ماله ، ولا يضمن الإنسان مال نفسه ، مندفع بأنّه لا مانع من هذا الضمان إذا كان موضوعا لحقّ الغير ، كإتلاف الراهن العين المرهونة ، فإنّه ضامن لها مع أنّها ماله.

وكذا إتلاف المالك منذور التصدّق ، أو العين الزكويّة بعد تعلّق حق الفقراء بها ، بناء على عدم كون الزكاة جزءا من العين ، إذ بناء عليه يكون الضمان تداركا لمال الغير لا لمال نفسه.

وكيف كان فإن كان تطبيق الضمان في العقد الصحيح بلحاظ الأمر الأوّل فليس ذلك من الضمان المصطلح ، ضرورة أنّ كلّا من العوضين صار ملكا لمن انتقل إليه ، فلا يكون ضمانه تداركا لمال الغير.

١١١

.................................................................................................

__________________

وإن كان بلحاظ الأمر الثاني فكذلك ، لأنّ تلف المبيع قبل القبض يوجب انفساخ البيع ورجوع المبيع إلى ملك البائع ، فيتلف في ملكه لا في ملك غيره ، فيكون الضمان المصطلح أجنبيّا عنه أيضا.

وإن كان بلحاظ الأمر الثالث كان إطلاقه على الصحيح والفاسد بمعنى واحد ، إذ معنى الضمان فيهما هو كون مال الغير في العهدة ، فمع وجوده يجب ردّ عينه إلى مالكها ، ومع تلفه يجب ردّ بدله من المثل أو القيمة إليه. نعم يكون الضمان بهذا المعنى في الصحيح تبعيّا ، لترتّبه على انحلال العقد ، وفي الفاسد أصليا ، لعدم توقفه على شي‌ء.

وعليه فلا يلزم تفكيك بين معنى الضمان في الفقرتين. بخلاف تفسير المصنّف تبعا للجواهر للضمان في الفقرة الأولى بالمسمّى ، فإنّه يستلزم التفكيك بين الفقرتين في معنى الضمان ، فلاحظ.

فالمتحصل : أنّه على ما ذكرناه من كون الضمان عبارة عن التعهد والالتزام بمال الغير ـ وكون حكم هذا التعهد تارة وجوب دفع عينه مع وجودها ، بناء على كون ردّ العين أيضا ضمانا. وأخرى دفع بدلها من المثل أو القيمة مع تلفها ، لعموم على اليد وغيره ـ لا يلزم اختلاف في معنى الضمان ومفهومه. واختلاف الأحكام ناش عن الأدلة كما لا يخفى.

هذا تمام الكلام في الجهة الثانية المتعلقة بمعاني الضمان.

الجهة الثالثة : أنّ العموم في قاعدة «ما يضمن بصحيحه .. إلخ» هل هو بلحاظ أنواع العقود أم بلحاظ الأصناف أم بلحاظ الأشخاص؟ وقبل الخوض فيه لا بدّ من تقديم أمرين :

الأوّل : أنّ التقسيم ظاهر في فعلية أقسامه كما هو ظاهر.

الثاني : أنّ القضية الحقيقية وإن كان الموضوع فيها مفروض الوجود ، إلّا أنّه لا بدّ أن يكون المفروض وجوده ممكن الفعلية ، فإن كان ممتنع الفعلية لم يصحّ جعله

١١٢

.................................................................................................

__________________

موضوعا للجعل والتشريع ، إذ يلزم حينئذ لغوية إنشاء الحكم له.

إذا عرفت هذين الأمرين تعرف أنّه لا يصح أن يكون عموم القاعدة بلحاظ الأفراد ، إذ معنى العبارة حينئذ : كل فرد وشخص من أفراد العقد إذا كان صحيحه مضمونا ففاسده أيضا مضمون. ومن المعلوم أنّ الفرد إمّا يقع فعلا صحيحا أو فاسدا ، ويمتنع اتصافه بالصحة والفاسد معا لتناقضهما ، إذ المراد بهما التمامية وعدمها. فاتصافه بهما يكون فرضيا ، ولا يمكن أن يكون فعليّا ، فلا يصح جعله موضوعا لحكم.

فما في بعض كلمات الأعلام ـ كصاحب الجواهر وبعض أجلّة المعاصرين (١) ـ من «كون عموم القاعدة بلحاظ الأفراد» في غاية الغموض : وإن فرضنا ظهور مثل هذا الكلام في العموم الأفرادي ، كقوله : «أكرم كلّ عالم» لكنّه لا يمكن المصير إلى ذلك فيما نحن فيه كما لا يخفى.

والاعتذار عن إشكال امتناع اتّصاف فرد واحد بالصحة والفساد بما في القواعد الفقهية من قوله : «ليست هذه الجملة بهذه الصورة وهذه الألفاظ واردة في آية أو رواية معتبرة حتّى نقول يجب الأخذ بظاهرها ، وظاهرها كذا وكذا ، بل لا بدّ من الأخذ بها بمقدار ما يدلّ عليه مدركها» اعتراف بورود الاشكال على ظاهر الجملة ، وإنكار لاعتبارها ، لعدم ورودها في آية ولا رواية معتبرة ولا معقد إجماع.

وليس هذا جوابا عن الاشكال ، بل هو اعتراف به مع إنكار اعتبار أصل القضية ، وهذا مطلب آخر.

هذه جملة مما يتعلّق بالقاعدة ، وبقي بعض الكلام حولها سيأتي إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) جواهر الكلام ، ج ٢٧ ، ص ٢٤٧ ؛ القواعد الفقهية ، ج ٢ ، ص ٩٦.

١١٣

ثمّ إنّ المدرك (١) لهذه الكلية على ما ذكره في المسالك ـ في مسألة الرهن المشروط بكون المرهون مبيعا بعد انقضاء الأجل ـ هو إقدام الآخذ على الضمان.

______________________________________________________

مستند قاعدة «ما يضمن»

الأوّل : إقدام المتعاملين

(١) هذا شروع في تحقيق ما يمكن أن يستدل به على القاعدة ، وهو أمور ، قاعدة الاقدام ، وحديث «على اليد» وقاعدة الاحترام ، وقاعدة نفي الضرر. وسيأتي بيانها مرتّبا إن شاء الله تعالى.

الأوّل : قاعدة الإقدام على الضمان التي ذكرها في رهن المسالك وتوضيحه : أنّه إذا رهن المديون مالا عند المرتهن واشترط فيه كون العين المرهونة مبيعا بالدين إذا حلّ الأجل ولم يؤدّ المديون دينه ، فهل يصحّ ذلك أم لا؟

ذهب الشهيد الثاني قدس‌سره إلى أنّ الرهن والبيع فاسدان. أمّا الرّهن فلأنّه لا يتوقّت إلّا بوفاء الدين ، لا بالأجل كشهر أو سنة مثلا. وأمّا البيع فلأنّه معلّق على عدم وفاء الدين ، والتعليق مبطل ، ثم قال : «فلو قبضه المرتهن على هذا الوجه ضمنه بعد الأجل ، لا قبله ، لأنّه في مدّة الأجل رهن فاسد ، وبعده مبيع فاسد. وفاسد كل عقد يتبع صحيحه في الضمان وعدمه ، فحيث كان صحيح الرهن غير مضمون كان فاسده كذلك. وحيث كان صحيح البيع مضمونا على المشتري ، ففاسده كذلك. والسّرّ في ذلك ـ يعني في الضمان ـ أنّهما تراضيا على لوازم العقد ، فحيث كان مضمونا فقد دخل القابض على الضمان. ودفع المالك عليه. مضافا إلى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي» (١) (*).

__________________

(*) لا يخفى دلالة هذا الكلام على استناد قاعدة «ما يضمن» إلى الاقدام واليد ،

__________________

(١) مسالك الأفهام ، ج ٤ ، ص ٥٥ و ٥٦.

١١٤

ثم أضاف إلى ذلك (١) قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي».

والظاهر أنّه (٢) تبع في استدلاله بالاقدام الشيخ في المبسوط ، حيث علّل الضمان في موارد كثيرة من البيع والإجارة الفاسدين «بدخوله على أن يكون المال مضمونا عليه بالمسمّى ، فإذا لم يسلم له المسمّى رجع إلى المثل أو القيمة» (١).

______________________________________________________

وغرض المصنّف قدس‌سره من الاستشهاد بكلام الشهيد الثاني أنّه قدس‌سره استدلّ على ضمان الرهن بعد الأجل بقاعدة «ما يضمن» ثم استدل عليها بقاعدة الإقدام على الضمان. وعليه فمدرك قاعدة «ما يضمن» هو الإقدام.

(١) يعني : أنّ الشهيد الثاني لم يقتصر ـ في مستند القاعدة ـ على الاقدام فحسب ، بل جعل الحديث النبوي دليلا عليها أيضا.

(٢) يعني : أنّ استدلال الشهيد الثاني بقاعدة الإقدام مسبوق باستدلال شيخ الطائفة بها ـ في موارد عديدة ـ على الضمان.

__________________

كما نقله المصنف عنه. لكنّه في بحث المقبوض بالعقد الفاسد جعل القاعدة دليلا مستقلا على الضمان كاليد والاقدام ، ولا بدّ أن يكون مدرك القاعدة أمرا آخر بنظره ، قال في شرح قول المحقق : «ولو قبض المشتري ما ابتاعه بالعقد الفاسد لم يملكه وكان مضمونا عليه» ما لفظه : «لا إشكال في ضمانه إذا كان جاهلا بالفساد ، لأنّه أقدم على أن يكون مضمونا عليه ، فيحكم عليه به ، وإن تلف بغير تفريط. ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : على اليد ما أخذت حتى تؤدّي. ومن القواعد المقرّرة في هذا الباب : أنّ كل عقد يضمن بصحيحه يضمن بفاسده ، وأنّ ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده» (٢).

وهذا يقتضي أن يكون للقاعدة مدرك آخر غير الاقدام واليد ، حتى يصح جعلها دليلا ثالثا على الضمان ، إذ لو كان مستندها الاقدام واليد المذكورين في العبارة كانت العبرة بهما ، لا بقاعدة ما يضمن ، فتأمّل في كلامه.

__________________

(١) تقدمت جملة من كلمات الشيخ في ص ٥٨ ، فراجع.

(٢) مسالك الافهام ، ج ٣ ، ص ١٥٤

١١٥

وهذا الوجه لا يخلو عن تأمّل (١) ، لأنّهما إنّما أقدما وتراضيا وتواطئا بالعقد الفاسد على ضمان خاص (٢) ، لا الضمان بالمثل أو القيمة ، والمفروض عدم إمضاء الشارع لذلك الضمان الخاصّ (٣). ومطلق (٤) الضمان لا يبقى بعد انتفاء الخصوصية حتى يتقوّم بخصوصية أخرى. فالضمان بالمثل أو القيمة إن ثبت فحكم شرعي تابع لدليله ، وليس ممّا أقدم عليه المتعاقدان.

______________________________________________________

(١) ناقش المصنّف قدس‌سره في الاستدلال بقاعدة الإقدام على قاعدة «ما يضمن» بوجوه ثلاثة ، أحدها : منع صغروية العقد الفاسد لقاعدة الإقدام. ثانيها : منع الملازمة بين الاقدام والضمان. ثالثها : منع قاعدة الإقدام كبرويّا ، بمعنى عدم كونها من موجبات الضمان.

توضيح الوجه الأوّل : أنّ الضمان في العقد المعاوضي ـ الممضى شرعا ـ يكون بحسب العوض المسمّى. وفي العقد الفاسد بحسب البدل الواقعي. وعلى هذا نقول : بعدم صلاحية قاعدة الإقدام للاستدلال بها ، وذلك لأنّ الضمان الخاصّ وهو ضمان المسمّى ـ الذي أقدما عليه وتراضيا به ـ لم يسلم ، لفساد سببه أعني به العقد. والضمان الآخر ـ وهو ضمان البدل مثلا أو قيمة ـ ممّا لم يقدما عليه ، فلو ثبت ضمان مع التلف لم يكن ذلك بقاعدة الإقدام ، بل بدليل آخر.

فتوجيه الضمان في العقد الفاسد بقاعدة الإقدام في غير محلّه ، إذ المقدم عليه ـ وهو الضمان المعاوضي ـ غير واقع ، والواقع ـ أعني به الضمان بالمثل أو القيمة ـ غير المقدم عليه ، كما هو ظاهر.

(٢) أي : الضمان الجعلي ، كما إذا باع الكتاب بدينار ، وكان قيمته السوقية أزيد أو أقلّ من الدينار.

(٣) ومن المعلوم عدم العبرة بالإقدام على الضمان الجعلي ، لعدم إمضاء الشارع له ، فهذا الاقدام يكون بحكم العدم.

(٤) إشارة إلى توهّم ودفعه. أمّا التوهّم فهو : أنّ الاقدام على الضمان الخاص

١١٦

هذا كلّه مع أنّ (١) مورد هذا التعليل أعمّ من وجه من المطلب ، إذ قد يكون الاقدام موجودا ولا ضمان كما قبل القبض (*) ، وقد لا يكون إقدام في العقد الفاسد مع تحقّق الضمان ، كما إذا شرط في عقد البيع ضمان المبيع على البائع

______________________________________________________

وإن كان منتفيا من جهة فساد العقد. إلّا أنّ انتفاء الضمان الجعلي لا يوجب انتفاء إقدامهما وتراضيهما على مطلق الضمان ، ضرورة عدم تواطئهما على المجّانيّة ، ومن المعلوم أنّ مطلق الضمان ينصرف إلى البدل الواقعي. وعليه فلا بأس بجعل قاعدة الإقدام على الضمان والدخول عليه مدركا لقاعدة «ما يضمن».

وأمّا الدفع فهو : أنّ ما أقدم عليه المتعاقدان ضمان خاصّ ، وهو المعاوضيّ ، والمفروض انتفاؤه بفساد العقد ، وينتفي مطلق الضمان أيضا ، والضمان بالبدل الواقعي يتوقّف على الاقدام والرّضا به ، وهو غير حاصل حسب الفرض.

وعليه فثبوت الضمان بالبدل الواقعيّ في العقد الفاسد منوط بدليل يدلّ عليه ، ولا ربط له بإقدام المتعاقدين عليه.

(١) هذا هو الوجه الثاني من المناقشة في استدلال الشيخ والشهيد الثاني قدس‌سرهما بقاعدة الاقدام ، وبيانه : أنّ النسبة بين المدّعى ـ وهو قاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده ـ وبين الإقدام الذي استدلّا به عليه عموم من وجه ، مع أنّه يعتبر كون الدليل مساويا للمدّعى أو أعمّ منه مطلقا. وهذا الضابط مفقود في المقام ، ضرورة اجتماع الضمان والاقدام تارة وافتراقهما اخرى. فقد يكون الاقدام متحققا ولا ضمان كما في تلف المبيع قبل القبض ، فإنّه يتلف من مال بائعه ، مع أنّ المشتري أقدم على ضمانه بالثمن المسمّى في العقد الصحيح ، وليس بضامن له. وقد لا يكون إقدام على الضمان ـ في العقد الفاسد ـ ومع ذلك يتحقق الضمان ، كما في الأمثلة المذكورة في المتن :

__________________

(*) لكن موضوع كلامهم يكون بعد القبض ، فمقصودهم من كون الاقدام موجبا للضمان أنّه موجب له في المقبوض ، فلا يرد النقض المذكور.

١١٧

إذا تلف في يد المشتري. وكما إذا قال : «بعتك بلا ثمن» أو : «آجرتك بلا اجرة».

نعم (١) قوّى الشهيدان في الأخير عدم الضمان ، واستشكل العلّامة في مثال البيع في باب السّلم (٢).

______________________________________________________

أحدها : البيع بلا ثمن ، فإنّ المشتري لم يقدم على ضمان المبيع ، لفرض توافقهما على انتقال المبيع إليه مجرّدا عن الثمن. مع أنّ جمعا حكموا بضمان المشتري ، وكون المبيع على عهدته ، فلو تلف وجب عليه دفع بدله إلى البائع.

ثانيها : الإجارة بلا اجرة ، كما إذا آجر المالك داره لزيد شهرا بلا أجرة ، فإنّ المستأجر ضامن لاجرة المثل ، مع عدم إقدامه على الضمان.

ثالثها : شرط ضمان المبيع على البائع إذا تلف عند المشتري : بأن يقول البائع : «بعتك هذا الكتاب بدينار ، بشرط أن يكون تلفه عندك عليّ» فقبل المشتري.

فلو تلف عنده لم يكن الضمان على البائع ، بل على المشتري ، مع أنّه لم يقدم عليه.

هذا كلّه في موارد افتراق الضمان والاقدام. وأمّا مورد الاجتماع فكثير ، كما إذا باع الكتاب بدينار بعقد صحيح ، وتلف بيد المشتري ، فإنّ الاقدام والضمان متحققان.

فالنتيجة : أنّ النسبة بين المدّعى ودليله ـ وهو الاقدام ـ عموم من وجه ، وفي مثله لا يصح الاستدلال.

(١) هذا استدراك على جعل المثالين الأخيرين ـ وهما البيع بلا ثمن والإجارة بلا أجرة ـ من موارد وجود الضمان بدون الاقدام عليه. ومحصّله : أنّ ضمان المشتري والمستأجر في هذين المثالين ليس متّفقا عليه ، لذهاب الشهيدين قدس‌سرهما إلى عدم الضمان ، فالمسألة خلافية.

وعليه فمثال وجود الضمان بدون الاقدام هو ضمان المشتري للمبيع التالف بيده ، مع شرط ضمانه على البائع.

(٢) تقدم في (ص ٩٣ و ٩٤) توضيح المسألة ، ونقل كلام الشهيدين في الإجارة بلا أجرة ، وكلام العلّامة في البيع بلا ثمن ، فراجع.

١١٨

وبالجملة (١) : فدليل الاقدام ـ مع أنّه (٢) مطلب يحتاج إلى دليل لم نحصّله ـ منقوض (٣) طردا وعكسا (*).

______________________________________________________

(١) ظاهر العبارة أنّها تلخيص ما تقدّم من الاشكال على الاستدلال بقاعدة الإقدام ، لكنّها تتضمّن إشكالا ثالثا على القاعدة لم يسبق له ذكر ، وكان الأنسب تقديمه على الإشكالين السابقين ، ومحصّله : أنّا نطالب الشيخ والشهيد الثاني قدس‌سرهما بالدليل على كون الاقدام من أسباب الضمان ، نظير سببية إتلاف مال الغير واستيفاء منفعته والتسبيب ونحوها له. فلو أغمضنا عن الإشكالين السابقين لم يتّجه أيضا جعل الاقدام مدركا لقاعدة «ما يضمن» لعدم إحراز اقتضائه للضمان ، هذا.

(٢) هذا هو الاشكال الثالث الذي أشرنا إليه من عدم الدليل على كون الاقدام من موجبات الضمان وأسبابه.

(٣) النقض بالطرد والعكس هو ما تقدّم في الاشكال الثاني ، والمراد بالطّرد منع الأغيار ، وهو يقتضي انتفاء الضمان بانتفاء الاقدام ، مع أنّ الضمان موجود بدون الاقدام كما في البيع بلا ثمن ونحوه. والمراد بالعكس جمع الأفراد ، بمعنى ثبوت الضمان في كلّ مورد تحقّق فيه الاقدام ، مع أنّه قد يتحقق الاقدام ، ولا ضمان ، كما في البيع الصحيح إذا تلف المبيع بيد البائع.

والحاصل : أنّ قوله : «طردا وعكسا» إشارة إلى أنّ النسبة بين الدعوى والدليل عموم من وجه. ولعلّ التعبير بالعكس والطرد في مثله لا يخلو من مسامحة.

__________________

(*) لا يخفى أنّ شيخ الطائفة كما استدلّ على الضمان بقاعدة الإقدام المعبّر عنها «بالدخول على أن يكون المال مضمونا عليه بالمسمّى» كما نقلنا مواضع من كلماته ، فكذلك استدل ـ كالشهيد الثاني ـ بقاعدة اليد ، فيمكن أن يكون نظره إلى كلّ منهما مستقلا. ومن مواضع استناده إلى الضمان اليدي قوله في تعاقب الأيدي في البيع الفاسد : «فإذا ثبت أن البيع فاسد ، نظر ، فإن كان المبيع قائما أخذه مالكه وهو البائع الأوّل ، سواء

١١٩

.................................................................................................

__________________

وجده في يد المشتري الأوّل أو المشتري الثاني ، لأنّه ملكه لا حقّ لغيره فيه. وإن كان تالفا كان له أن يطالب بقيمته كل واحد منهما ، لأنّ الأوّل لم يبرأ بتسليمه إلى الثاني ، لأنّه سلّمه بغير إذن صاحبه ، والمشتري الثاني قبضه مضمون بالإجماع.

فإذا ثبت ذلك فإنّه يجب عليه أكثر ما كانت قيمته. وقيل : إنّه يعتبر قيمته وقت التلف. ثمّ ينظر في قيمة المبيع ، فإن كانت قيمته في يدهما واحدة فإنّه يطالب بقيمته إن شاء المشتري الأوّل ، وإن شاء المشتري الثاني ، لأنّ كل واحد منهما ضامن للقيمة .. إلخ» (١).

وقريب منه كلامه في باب الغصب في بيع العبد المغصوب إذا أعتقه المشتري ، فيضمن أعلى القيم من حين القبض إلى حين العتق ، قال : «لأنّه دخل على أنّه عليه بعوض ، وقد تلف في يده .. إلخ» (٢).

وعليه فالاستدلال على الضمان بكلّ من قاعدتي اليد والاقدام موجود في كلام شيخ الطائفة قدس‌سره. فلا وجه للإيراد على المصنّف قدس‌سره بما حاصله : «أنّه لا موضوع للإشكال على استدلال الشيخ بقاعدة الإقدام ، لأنّ المتكرر في كلماته في باب البيع الفاسد والغصب وغيرهما هو استناد الضمان إلى اليد ، كقوله : وإنّما وجب الضمان عليه ـ أي على المشتري ـ لأنّه أخذ الشي‌ء بعوض ، فإذا لم يسلم العوض المسمّى وجب عوض المثل لما تلف في يده .. إلخ» (٣) (٤).

وذلك لما عرفت من استناد الشيخ إلى كلتا القاعدتين ، كما صنعه الشهيد الثاني أيضا. ولعلّه اقتبسه منه ، وحينئذ ينبغي النظر في كل من اليد والاقدام.

__________________

(١) المبسوط ، ج ٢ ، ص ١٥٠.

(٢) المبسوط ، ج ٣ ، ص ٩٨.

(٣) المبسوط ، ج ٢ ، ص ١٤٩.

(٤) كتاب البيع ، ج ١ ، ص ٢٧٠.

١٢٠