تفسير كنز الدّقائق وبحر الغرائب - ج ٦

الشيخ محمّد بن محمّد رضا القمّي المشهدي

تفسير كنز الدّقائق وبحر الغرائب - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّد بن محمّد رضا القمّي المشهدي


المحقق: حسين درگاهى
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الطبع والنشر التابعة لوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٥

قال : نعم قال : فاقعد ، وكل معي.

قال : فترك إخوته الأكل وقالوا : إنّا نريد أمرا ، ويأبى الله إلّا أن يرفع ولد يامين علينا.

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم (١) : فخرجوا وخرج معهم بنيامين. وكان لا يؤكلهم ، ولا يجالسهم ، ولا يكلّمهم. فلمّا وافوا مصر ، دخلوا على يوسف وسلّموا. فنظر يوسف إلى أخيه ، فعرفه. فجلس منهم بالبعيد.

فقال يوسف : أنت أخوهم؟ قال : نعم. قال : فلم لا تجلس معهم؟ قال : لأنّهم أخرجوا أخي من أمّي وأبي ، ثمّ رجعوا ولم يردّوه ، وزعموا أنّ الذّئب أكله. فآليت على نفسي أن لا أجتمع [معهم] (٢) على أمر ، ما دمت حيّا.

قال : فهل تزوّجت؟ قال : بلى.

قال : كم ولد لك؟ قال : ثلاثة (٣) بنين. قال : فما سمّيتهم؟ قال : سمّيت واحدا منهم الذّئب. وواحدا القميص. وواحدا الدّم. قال : وكيف اخترت هذه الأسماء؟ قال لئلّا أنسى أخي. كلّما دعوت واحدا من ولدي ، ذكرت أخي.

قال لهم يوسف : اخرجوا. وحبس بنيامين. فلمّا خرجوا من عنده ، قال يوسف لأخيه : أنا أخوك يوسف. (فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ). ثمّ قال له : أنا أحبّ أن تكون عندي. فقال : لا يدعني (٤) إخوتي. فإنّ أبي قد أخذ عليهم عهدا لله وميثاقه أن يردّوني إليه. قال : أنا أحتال بحيلة. فلا تنكر إذا رأيت شيئا ، ولا تخبرهم. فقال : لا.

(فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ) : المشربة (فِي رَحْلِ أَخِيهِ) :

قيل (٥) : كانت مشربة جعلت صاعا يكال به.

وقيل (٦) : كانت يسقى به الدّوّاب ، ويكال فيها. وكانت من فضّة. وقيل : من ذهب.

وقرئ (٧) : «وجعل» على حذف جواب «فلمّا». تقديره : أمهلهم حتّى انطلقوا.

__________________

(١) تفسير القمي ١ / ٣٤٨.

(٢) من المصدر.

(٣) المصدر : ثلاث.

(٤) المصدر : يدعوني.

(٥ و ٦) أنوار التنزيل ١ / ٥٠٣.

(٧) نفس المصدر والموضع.

٣٤١

(ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ) : [نادى مناد] (١).

(أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) (٧٠) :

والعير : القافلة. وهي : الإبل الّتي عليها الأحمال ، لأنّها تعير ، أي : تتردّد. فقيل لأصحابها. كقوله ـ عليه السّلام ـ : يا خيل الله : اركبي.

وقيل (٢) : جمع عير. وأصلها فعل ، كسقف. فعل به ما فعل ببيض. تجوز به لقافلة الحمير. ثمّ استعير لكلّ قافلة.

قيل (٣) : لعلّه لم يقله بأمر يوسف. أو كان تعبئة السّقاية ، والنّداء عليها ، برضا (٤) بنيامين.

وقيل (٥) : معناه : انّكم لسارقون يوسف من أبيه. أو : أإنّكم لسارقون؟

وفي أصول الكافي (٦) : عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد بن خالد ، عن عثمان بن عيسى ، عن سماعة ، عن أبي بصير قال : قال أبو عبد الله ـ عليه السّلام ـ : التّقيّة من دين الله [قلت : من دين الله!؟] (٧) قال : إي والله ، من دين الله. ولقد قال يوسف : (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ). والله ما كانوا سرقوا شيئا. ولقد قال إبراهيم (٨) : (إِنِّي سَقِيمٌ). والله ما كان سقيما.

عليّ بن إبراهيم (٩) ، عن أبيه ، عن أحمد بن محمّد بن [أبي] (١٠) نصر ، عن حمّاد بن عثمان ، عن الحسن الصّيقل (١١) قال : قلت لأبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ إنّا قد روينا عن أبي جعفر ـ عليه السّلام ـ في قول يوسف : (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ). فقال : والله ما سرقوا ، وما كذب. وقال إبراهيم (١٢) : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ). [فقال : والله ما فعلوا ،] (١٣) وما كذب.

__________________

(١) ليس في أ ، ب.

(٢ و ٣) أنوار التنزيل ١ / ٥٠٣.

(٤) أ ، ب : برحلنا.

(٥) نفس المصدر والموضع.

(٦) الكافي ٢ / ٢١٧ ، ح ٣.

(٧) من المصدر.

(٨) الصافّات / ٨٩.

(٩) الكافي ٢ / ٣٤١ ـ ٣٤٢ ، ح ١٧.

(١٠) من المصدر.

(١١) كذا في المصدر. وفي النسخ : الصقيل.

(١٢) الأنبياء / ٦٣.

(١٣) من المصدر.

٣٤٢

قال : فقال أبو عبد الله ـ عليه السّلام ـ : ما عندكم فيها ، يا صيقل (١)؟ قلت : ما عندنا فيها إلّا التّسليم.

فقال : إنّ الله أحبّ اثنين ، وابغض اثنين. أحبّ الخطر (٢) فيما بين الصّفين ، وأحب الكذب في الإصلاح. وأبغض الخطر في الطّرقات ، وأبغض الكذب في غير الإصلاح. إنّ إبراهيم ـ عليه السّلام ـ إنّما قال : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) إرادة الإصلاح ، ودلالة على أنّهم لا يفعلون. وقال يوسف إرادة الإصلاح.

أبو علي الأشعريّ (٣) ، عن محمّد بن عبد الجبّار عن الحجّال عن ثعلبة عن معمّر بن عمر ، عن عطا ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال : قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ : «لا كذب على مصلح». ثمّ تلا : (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ). ثمّ قال : والله ما سرقوا وما كذب. ثمّ تلا : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ). ثمّ قال : والله ما فعلوه ، وما كذب.

محمّد بن يحيى (٤) ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن أبي يحيى الواسطيّ ، عن بعض أصحابنا ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال : الكلام ثلاثة : صدق ، وكذب ، وإصلاح بين النّاس.

وفي روضة الكافي (٥) : الحسين بن محمّد الأشعريّ ، عن معلّى بن محمّد ، عن الوشّاء ، عن أبان بن عثمان ، عن أبي منصور ، عن أبي بصير ، قال : قيل لأبي جعفر ـ عليه السّلام ـ وأنا عنده : إنّ سالم بن أبي حفصة وأصحابه (٦) يروون عنك أنّك تكلّم على سبعين وجها لك (٧) منها المخرج. فقال : ما يريد سالم منّي!؟ أيريد أن أجيء بالملائكة!؟ والله ما جاء (٨) بهذا النّبيّون. ولقد قال يوسف ـ عليه السّلام ـ : (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ). والله ما كانوا سارقين ، وما كذب.

وفي كتاب علل الشّرائع (٩) ، بإسناده إلى أبي بصير قال : سمعت أبا جعفر ـ عليه

__________________

(١) المصدر : زيادة قال.

(٢) الخطر : التبختر في المشي.

(٣) الكافي ٢ / ٣٤٣ ، ح ٢٢.

(٤) الكافي ٢ / ٣٤١ ، ح ١٦.

(٥) الكافي ٨ / ١٠٠ ، ح ٧٠.

(٦) ليس في أ ، ب.

(٧) ليس في أ ، ب ، ر.

(٨) المصدر : ما جاءت.

(٩) العلل ١ / ٥١ ، ح ١.

٣٤٣

السّلام ـ يقول : لا خير فيمن لا تقيّة له. ولقد قال يوسف : (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) وما سرقوا.

وبإسناده (١) إلى هشام بن الحكم ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ في قول يوسف : (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) قال : ما سرقوا ، وما كذب.

وبإسناده (٢) إلى صالح بن سعيد ، عن رجل من أصحابنا ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال : سألته عن قول الله ـ عزّ وجلّ ـ في يوسف : (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ). قال : إنّهم سرقوا يوسف من أبيه. ألا ترى أنّه قال لهم حين قالوا (٣) : (ما ذا تَفْقِدُونَ قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ). ولم يقولوا : سرقتم صواع الملك. إنّما عنى : انّكم سرقتم يوسف من أبيه.

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم (٤) : عن الصّادق ـ عليه السّلام ـ في قوله ـ عزّ وجلّ ـ : (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) قال : ما سرقوا وما كذب يوسف وإنّما عنى سرقتم يوسف من أبيه.

(قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ) (٧١) : وأيّ شيء ضاع منكم؟ والفقد : غيبة الشّيء عن الحسّ بحيث لا يعرف مكانه.

وقرئ (٥) : «تفقدون». من : أفقدته : إذا وجدته فقيدا.

(قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ) :

وقرئ (٦) : «صاع» و «صوع» بالفتح والضّمّ والعين والغين. و «صواغ» من الصّياغة.

وفي تفسير العيّاشيّ (٧) : [عن أبي حمزة الثمالي] (٨) ، عن الباقر ـ عليه السّلام ـ قال : صواع الملك الطّاس (٩) الّذي يشرب فيه.

وعن الصّادق ـ عليه السّلام ـ (١٠) قال : كان قدحا من ذهب. و [قال :] (١١) كان صواع يوسف إذا كيل (١٢) كيل به ، [قال : «لعن الله الخوّان. لا تخونوا به». بصوت

__________________

(١) العلل ١ / ٥٢ ، ح ٣.

(٢) نفس المصدر والموضع ، ح ٤.

(٣) كذا في المصدر. وفي النسخ : قال.

(٤) تفسير القميّ ١ / ٣٤٩.

(٥ و ٦) أنوار التنزيل ١ / ٥٠٣.

(٧) تفسير العياشي ٢ / ١٨٥ ، ح ٥١.

(٨) من المصدر.

(٩) المصدر : طاس.

(١٠) نفس المصدر والموضع ، ح ٥٢. (١١) من المصدر.

٣٤٤

حسن] (١).

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم (٢) : وكان الصّاع الّذي يكيلون به من ذهب. فجعلوه في رحله من حيث لم يقف عليه إخوته (٣).

(وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ) : من الطّعام ، جعلا له.

(وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) (٧٢) : كفيل أؤدّيه إلى من ردّه.

(قالُوا تَاللهِ) :

قسم فيه معنى التّعجب. والتّاء بدل من الباء ، مختصّة باسم الله.

(لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ) (٧٣) :

قيل (٤) : استشهدوا بعلمهم على براءة أنفسهم لما عرفوا منهم في كرّتي مجيئهم ومداخلتهم للملك ، ممّا يدلّ على فرط أمانتهم ، كردّ البضاعة الّتي جعلت في رحالهم ، وكعم (٥) الدّوابّ كيلا تتناول زرعا أو طعاما لأحد.

(قالُوا فَما جَزاؤُهُ) : فما جزاء السّارق ، أو السّرق ، أو الصّواع ، بمعنى سرقته ، على حذف المضاف.

(إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ) (٧٤) : في ادّعائكم البراءة.

(قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ) ، أي : جزاء سرقته أخذ من وجد في رحله واسترقاقه.

هكذا كان شرع يعقوب. وقوله : (فَهُوَ جَزاؤُهُ) تقرير للحكم وإلزام له. أو خبر «من» والفاء لتضمّنها معنى الشّرط. أو جواب لها على أنّها شرطيّة. والجملة كما هي خبر «جزاؤه» على إقامة الظّاهر فيها مقام الضّمير. كأنّه قيل : جزاؤه من وجد في رحله ، فأحبسه.

وفي تفسير العيّاشي (٦) ، عن الصّادق ـ عليه السّلام ـ : يعنون السّنّة الّتي كانت

__________________

(١٢) المصدر : «إذ» بدل «إذا كيل».

(١) من المصدر.

(٢) تفسير القميّ ١ / ٣٤٨.

(٣) المصدر : «لم يقفوا عليه» بدل «لم يقف عليه اخوته».

(٤) أنوار التنزيل ١ / ٣٥.

(٥) كعم البعير : شدّ فاه في هياجه لئلّا يعضّ أو يأكل.

(٦) لم نعثر عليه في تفسير العياشي بل يوجد في تفسير الصافي ٤ / ٨٤٥.

٣٤٥

تجري فيهم أن يحبسه.

(كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) (٧٥) : بالسّرقة.

(فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ) : فبدأ المؤذّن.

وقيل (١) : يوسف ، لأنّهم ردّوا إلى مصر.

(قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ) : بنيامين ، نفيا للتّهمة.

(ثُمَّ اسْتَخْرَجَها) ، أي : السّقاية. أو : الصّواع ـ لأنّه يذكّر ويؤنّث ـ (مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ).

وقرئ (٢) بضمّ الواو ، وبقلبها همزة.

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم (٣) : فتشبّثوا بأخيه ، فحبسوه.

(كَذلِكَ) : مثل ذلك الكيد. (كِدْنا لِيُوسُفَ) ، بأن علّمناه إيّاه ، وأوحينا به إليه.

(ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ) : ملك مصر. لأنّ دينه الضّرب وتغريم ضعف ما أخذ دون الاسترقاق. وهو بيان للكيد.

(إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) : إلّا أن يجعل ذلك الحكم حكم الملك.

فالاستثناء من أعمّ الأحوال. ويجوز أن يكون منقطعا. أي : لكن أخذه بمشيئة الله وإذنه.

(نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) : بالعلم ، كما رفعنا درجته.

(وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) (٧٦) : أرفع درجة منه.

(قالُوا إِنْ يَسْرِقْ) بنيامين ، (فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) : يعنون يوسف.

في الخرائج والجرائح (٤) : وروى سعد بن عبد الله ، عن محمّد بن الحسن بن ميمون ، عن داود بن قاسم الجعفريّ قال : سئل أبو محمّد ـ عليه السّلام ـ عن قوله ـ تعالى ـ : (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) ـ والسّائل رجل من قمّ ـ وأنا حاضر. فقال ـ عليه السّلام ـ :

ما سرق يوسف. إنّما كان ليعقوب منطقة ورثها من إبراهيم ـ عليه السّلام ـ. وكانت تلك المنطقة لا يسرقها أحد إلّا استعبد. فكانت (٥) إذا سرقها إنسان ، نزل جبرئيل

__________________

(١ و ٢) أنوار التنزيل ١ / ٥٠٣.

(٣) تفسير القميّ ١ / ٣٤٨.

(٤) الخرائج ٢ / ٧٣٨ ، ح ٥٣.

(٥) كذا في المصدر. وفي النسخ : فكان.

٣٤٦

ـ عليه السّلام ـ فأخبره بذلك. فأخذت منه ، وصار (١) عبدا.

وإنّ المنطقة كانت عند سارة بنت إسحاق بن إبراهيم ، وكانت سمّية أمّه. وإنّ سارة أحبّت يوسف ، وأرادت أن تتّخذه ولدا لها (٢). وإنّها أخذت المنطقة ، فربطتها في وسطه. ثمّ سدلت عليه سرباله وقالت ليعقوب : إنّ المنطقة سرقت. وأتاه جبرئيل فقال : يا يعقوب ، إنّ المنطقة مع يوسف. ولم يخبره بخبر ما صنعت سارة ، لما أراد الله.

فقام يعقوب إلى يوسف ، ففتّشه ـ وهو يومئذ غلام يافع ـ واستخرج المنطقة. فقالت سارة بنت إسحاق : منّي سرقها يوسف ، فأنا أحقّ به. فقال لها يعقوب : فإنّه عبدك أن لا تبيعيه (٣) ، ولا تهبيه. قالت : فأنا أقبله على أن لا تأخذه منّي ، وأعتقه السّاعة. فأعطاها إيّاه ، فأعتقته. ولذلك قال إخوة يوسف : (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ).

قال أبو هاشم : فجعلت اجيّل (٤) هذا في نفسي ، أفكّر وأتعجّب من هذا الأمر ، مع قرب يوسف من يعقوب وحزن يعقوب عليه ، حتّى ابيضّت عيناه من الحزن ، والمسافة قريبة!

فأقبل عليّ أبو محمّد ـ عليه السّلام ـ فقال : يا أبا هاشم! تعوّذ بالله ممّا جرى في نفسك من ذلك. فإنّ الله لو شاء أن يرفع السّتائر (٥) [من الأعلى ما] (٦) بين يعقوب ويوسف حتّى كانا يتراءيان (٧) ، لفعل. ولكن له أجل هو بالغه ، ومعلوم ينتهي إليه ما كان من ذلك. فالخيار من الله لأوليائه.

وفي تفسير العيّاشيّ (٨) : عن إسماعيل بن همام ، قال : قال الرّضا ـ عليه السّلام ـ [في قول الله : (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ) قال :] (٩) كانت لإسحاق النّبيّ منطقة يتوارثها الأنبياء والأكابر ، وكانت عند عمّة يوسف. وكان يوسف عندها ، وكانت تحبّه. فبعث إليها أبوه أن ابعثيه إليّ ، وأردّه إليك. فبعثت إليه أن دعه عندي اللّيلة (١٠) أشمّه ، ثمّ أرسله إليك غدوة. فلمّا أصبحت ،

__________________

(١) بعض نسخ المصدر : أخذ.

(٢) المصدر : لنفسها.

(٣) كذا في المصدر. وفي النسخ : لا تبيعه.

(٤) كذا في المصدر. وفي النسخ : اجيل.

(٥) كذا في المصدر. وفي النسخ : الساتر.

(٦) ليس في المصدر.

(٧) كذا في المصدر. وفي النسخ : كان يراه.

(٨) تفسير العياشي ٢ / ١٨٥ ، ح ٥٣.

(٩) من المصدر.

(١٠) ليس في أ ، ب.

٣٤٧

أخذت المنطقة ، فربطتها في حقوه (١). وألبسته قميصا ، وبعثت به إليه. وقالت : سرقت المنطقة ، فوجدت عليه ، وكان إذا سرق أحد في ذلك الزّمان ، دفع إلى صاحب السّرقة. فأخذته ، فكان عندها.

وفي عيون الأخبار (٢) ، بإسناده إلى إسماعيل بن همّام ، عن الرّضا ـ عليه السّلام ـ نحوه.

حدّثنا المظفّر بن جعفر بن المظفّر العلويّ (٣) ـ رضي الله عنه ـ قال : حدّثنا جعفر بن مسعود ، عن أبيه ، عن عبد الله (٤) بن محمّد بن خالد قال : حدّثني الحسن بن عليّ الوشّاء قال : سمعت عليّ بن موسى الرّضا يقول :

كانت الحكومة في بني إسرائيل إذا سرق أحد شيئا ، استرقّ به. وكان يوسف عند عمّته ، وهو صغير. وكانت تحبّه. وكانت لإسحاق ـ عليه السّلام ـ منطقة ألبسها إيّاه يعقوب ـ عليه السّلام ـ فكانت عند ابنته.

وإنّ يعقوب طلب يوسف (٥) من عمّته. فاغتمّت لذلك ، وقالت : دعه حتّى أرسله إليك. فأرسلته. وأخذت المنطقة فشدّتها (٦) في وسطه تحت الثّياب.

فلمّا أتى يوسف [أباه ، جاءت ، فقالت : سرقت المنطقة. ففتّشته ، فوجدتها في وسطه. فلذلك قال إخوة يوسف ،] (٧) حيث جعل الصّاع في وعاء أخيه (٨) ، فقال لهم يوسف : ما جزاء من وجد في رحله؟ قالوا : هو جزاؤه ، كما جرت السّنّة الّتي تجري فيهم. (فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ). ولذلك قال إخوة يوسف : (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ). يعنون المنطقة. (فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ).

وفي تفاسير العامّة (٩) : كان لأبي أمّه صنم. فسرقه وكسّره ، وألقاه في الجيف.

__________________

(١) الحقو : معقد الإزار ، ويسمّى بالخصر.

(٢) العيون ٢ / ٧٥ ، ح ٥.

(٣) نفس المصدر والمجلّد / ٧٥ ـ ٧٦ ، ح ٦.

(٤) المصدر : عبيد الله.

(٥) المصدر : زيادة يأخذه.

(٦) المصدر : وشدّها.

(٧) ليس في أ ، ر ، ب.

(٨) المصدر : زيادة «إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل».

(٩) أنوار التنزيل ١ / ٥٠٤ ، وتفسير الجلالين المطبوع في هامش أنوار التنزيل ١ / ٥٠٤.

٣٤٨

وفي بعضها (١) : كان في البيت عناق أو دجاجة سرقه وأعطى السّائل.

(فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ) : أكنّها ولم يظهرها لهم.

والضّمير للإجابة أو المقالة أو نسبة السّرقة إليه.

وقيل (٢) : إنّها كناية بشريطة التّفسير ، يفسّرها قوله : (قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً).

فإنّه بدل من «أسَرّها». والمعنى : قال في نفسه : (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً) ، أي : منزلة في السّرقة ـ لسرقتكم أخاكم ـ أو في سوء الصّنيع بما كنتم عليه. وتأنيثها باعتبار الكلمة أو الجملة.

وفيه نظر ، إذ المفسّر بالجملة ، لا يكون إلّا ضمير الشّأن.

(وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ) (٧٧) وهو يعلم أنّ الأمر ليس كما تصفون ، وأنّه لم يسرق.

(قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً) في السّنّ ، أو القدر.

ذكروا له حاله ، استعطافا له عليه.

(فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ) : بدله. فإنّ أباه ثكلان على أخيه الهالك مستأنس به.

(إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (٧٨) إلينا ، فأتمم إحسانك. أو : من المتعوّدين الإحسان ، فلا تغيّر عادتك.

وفي تفسير العيّاشيّ (٣) ، عن الباقر ـ عليه السّلام ـ : نراك من المحسنين إن فعلت.

(قالَ مَعاذَ اللهِ) : نعوذ بالله معاذا.

(أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ) : فإنّ أخذ غيره ظلم على فتواكم ، فلو أخذنا أحدكم مكانه (إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ) (٧٩) : في مذهبكم.

هذا وأنّ مراده : أنّ الله أذن في أخذ من وجدنا الصّاع في رحله لمصلحته ورضاه عليه ، فلو أخذت غيره كنت ظالما عاملا بخلاف ما أمرت به.

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم (٤) : [قال أي يوسف] (٥) وكانوا يجادلونه في حبسه ، وكانوا ولد يعقوب إذا غضبوا خرج من ثيابهم شعر وتقطر من رؤوسها دم أصفر.

وفي تفسير العيّاشيّ (٦) : عن الحسين (٧) بن أبي العلا ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ

__________________

(١ و ٢) أنوار التنزيل ١ / ٥٠٤.

(٣) تفسير العياشي ٢ / ١٨٢ ، ح ٤٢ في ضمن حديث طويل.

(٤) تفسير القميّ ١ / ٣٤٩.

(٥) ليس في المصدر.

(٦) تفسير العياشي ٢ / ١٨٦ ، ح ٥٥.

٣٤٩

قال : ذكر بني يعقوب قال : كانوا إذا غضبوا اشتدّ غضبهم حتّى تقطر جلودهم دما أصفر ، وهم يقولون : خذ أحدنا مكانه ، يعني : جزاؤه (١). فأخذ الّذي وجد الصّاع عنده.

وفي كتاب علل الشّرائع (٢) : أبي ـ رحمه الله ـ قال : حدّثنا سعد بن عبد الله ، عن محمّد بن أحمد عن أحمد بن محمّد اليساري (٣) ، قال : حدّثنا محمّد بن عبد الله بن مهران الكوفيّ قال : حدّثني حنان بن سدير ، عن أبيه ، عن أبي إسحاق اللّيثيّ قال : قلت لأبي جعفر ، محمّد بن عليّ الباقر ـ عليه السّلام ـ : يا ابن رسول الله ، إنّي لأجد من شيعتكم من يشرب الخمر ، ويقطع الطّريق ، ويخيف السّبيل ، ويزني ، ويلوط ، ويأكل الرّبا ، ويرتكب الفواحش ، ويتهاون بالصلاة والصّيام والزّكاة ، ويقطع الرّحم ، ويأتي الكبائر ، فكيف هذا ولم ذلك؟

فقال : يا إبراهيم ، هل يختلج في صدرك شيء غير هذا؟

قلت : [نعم] (٤) يا ابن رسول الله ، أخرى أعظم من ذلك.

فقال : وما هو ، يا أبا إسحاق؟

قال : فقلت : يا ابن رسول الله ، وأجد من أعدائكم ومن ناصبكم من يكثر من الصلاة والصّيام ، ويخرج (٥) الزّكاة ، ويتابع بين الحجّ والعمرة ، ويحضّ (٦) على الجهاد ، ويأثر على البرّ وعلى صلة الرّحم ، ويقضي حقوق إخوانه ويواسيهم (٧) من ماله ، ويجتنب شرب الخمر والزّنا واللّواط وسائر الفواحش ، فممّ ذلك ولم ذاك؟ فسّره لي ، يا ابن رسول الله ، وبرهنه وبيّنه ، فقد والله كثر فكري واسهر ليلي وضاق ذرعي.

قال : فتبسّم [الباقر] (٨) ـ صلوات الله عليه ـ ثمّ قال : يا إبراهيم ، خذ إليك بيانا شافيا فيما سألت وعلما (٩) مكنونا (١٠) من خزائن علم الله وسرّه. أخبرني ، يا إبراهيم ، كيف تجد اعتقادهما؟

__________________

(٧) كذا في المصدر. وفي النسخ : الحس.

(١) كذا في المصدر. وفي النسخ : جزاء.

(٢) العلل ١ / ٦٠٦ ـ ٦٠٩ ، ح ٨١.

(٣) كذا في المصدر. وفي النسخ «بن اليساري» بدل «عن أحمد بن محمد اليساري»

(٤) من المصدر.

(٥) كذا في المصدر. وفي النسخ : ومخرج.

(٦) المصدر : يحرض.

(٧) كذا في المصدر. وفي النسخ : ويواسهم.

(٨) من المصدر.

(٩) كذا في المصدر. وفي النسخ : علمنا.

(١٠) ب : مكتوما.

٣٥٠

قلت : يا ابن رسول الله ، أجد محبّيكم وشيعتكم على ما هم فيه ، ممّا وصفته من أفعالهم ، لو أعطي أحدهم ما بين المشرق والمغرب ذهبا وفضّة أن يزول عن ولايتكم و (١) محبّتكم إلى موالاة غيركم وإلى محبّتهم ما زال ، ولو ضربت خياشيمه (٢) بالسّيوف فيكم ، ولو قتل فيكم ما ارتدع ولا رجع عن محبّتكم وولايتكم. وأرى النّاصب على ما هو عليه ، ممّا وصفته من أفعالهم ، لو أعطي أحدهم ما بين المشرق والمغرب ذهبا وفضّة أن يزول عن محبّة الطّواغيت (٣) وموالاتهم إلى موالاتكم ما فعل ولا زال ، ولو ضربت خياشيمه بالسّيوف فيهم ولو قتل [فيهم] (٤) ما ارتدع ولا رجع ، وإذا سمع أحدهم منقبة لكم وفضلا اشمأزّ من ذلك وتغيّر لونه ، ورأى (٥) كراهية ذلك في وجهه بغضا لكم ومحبّة لهم (٦).

[قال] (٧) فتبسّم الباقر ـ عليه السّلام ـ ثمّ قال : يا إبراهيم ، ها هنا هلكت العاملة النّاصبة (تَصْلى ناراً حامِيَةً ، تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) ومن ذلك قال الله ـ عزّ وجلّ ـ : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) (٨). ويحك ، يا إبراهيم ، أتدري ما السّبب والقصّة في ذلك ، وما الّذي قد خفي على النّاس منه؟

قلت : يا ابن رسول الله ، فبيّنه لي واشرحه وبرهنه.

قال : يا إبراهيم ، إنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ لم يزل عالما (٩) قديما خلق الأشياء لا من شيء ، ومن زعم أنّ الله ـ عزّ وجلّ ـ خلق الأشياء من شيء فقد كفر ، لأنّه لو كان ذلك الشّيء الّذي خلق منه الأشياء قديما [معه] (١٠) في أزليّته وهويّته كان ذلك الشّيء أزليّا ، بل خلق ـ عزّ وجلّ ـ الأشياء كلّها لا من شيء فكان ممّا خلق الله تعالى (١١) أرضا طيّبة ثمّ فجّر منها ماء عذبا زلالا ، فعرض عليها ولايتنا ، أهل البيت ، فقبلتها فأجرى ذلك الماء عليها

__________________

(١) كذا في المصدر. وفي النسخ : «لما فعل ولا عن» بدل «و».

(٢) خياشيم ـ جمع الخيشوم ـ : أقصى الأنف.

(٣) كذا في المصدر. وفي النسخ : محبّته للطّواغيت.

(٤) من المصدر.

(٥) الأظهر : رئي.

(٦) كذا في المصدر. وفي النسخ : لغيركم.

(٧) من المصدر.

(٨) الفرقان / ٢٣.

(٩) كذا في المصدر. وفي النسخ : قائما.

(١٠) من المصدر.

(١١) كذا في المصدر. وفي النسخ : «وممّا خلق الله ـ عزّ وجلّ ـ أن خلق» بدل «فكان ممّا خلق الله ـ تعالى ـ».

٣٥١

سبعة أيّام حتّى (١) طبقها وعمّها ، ثمّ نضب (٢) ذلك الماء عنها ، فأخذ من صفوة ذلك الطّين طينا فجعله طين الأئمّة ـ عليهم السّلام ـ ثمّ أخذ ثفل (٣) ذلك الطّين فخلق منه شيعتنا ، ولو ترك طينتكم ، يا إبراهيم ، كما ترك طينتنا ، لكنتم ونحن شيئا واحدا.

قلت : يا ابن رسول الله ، فما فعل بطينتنا؟

قال : أخبرك يا إبراهيم ، خلق الله ـ عزّ وجلّ ـ بعد ذلك أرضا سبخة خبيثة منتنة (٤) ، ثمّ فجّر (٥) منها ماء أجاجا [آسنا] (٦) مالحا ، فعرض عليها ولايتنا ، أهل البيت ، فلم تقبلها فأجرى ذلك الماء عليها سبعة أيّام حتّى طبقها وعمّها ، ثمّ نضب ذلك الماء عنها ، ثمّ أخذ من ذلك الطّين فخلق منه الطّغاة وأئمتهم (٧) ، ثمّ مزجه بثفل طينتكم ، ولو ترك طينتهم على حالها ولم يمزج بطينتكم لم يشهدوا الشّهادتين ، ولا صلوا ولا صاموا ولا زكّوا ولا حجّوا ، ولا أدّوا أمانة ، ولا أشبهوكم في الصّور ، وليس شيء [أكبر] (٨) على المؤمن أن يرى صورة عدوّه مثل صورته.

قلت : يا ابن رسول الله ، فما صنع بالطّينتين؟

قال : مزج بينهما بالماء الأوّل والماء الثّاني ، ثمّ عركهما عرك الأديم (٩) ، ثمّ أخذ من ذلك قبضة فقال : هذه إلى الجنّة ولا أبالي ، وأخذ قبضة أخرى وقال : هذه إلى النّار ولا أبالي. ثمّ خلط بينهما فوقع من شبح (١٠) المؤمن وطينته على شبح (١١) الكافر وطينته ، ووقع من شبح (١٢) الكافر وطينته على شبح المؤمن وطينته. فما رأيته من شيعتنا من زنا أو لواط أو ترك صلاة أو صيام أو حج أو جهاد أو خيانة أو كبيرة من هذه الكبائر ، فهو من طينة النّاصب وعنصره الّذي قد مزج فيه ، لأنّ من شبح (١٣) النّاصب وعنصره وطينته اكتساب المآثم والفواحش والكبائر. وما رأيت من النّاصب من مواظبته على الصّلاة والصّيام والزّكاة والحجّ والجهاد وأبواب البرّ ، فهو من طينة المؤمن وشبحه (١٤) الّذي قد مزج فيه ، لأنّ من

__________________

(١) ليس في المصدر.

(٢) المصدر : انضب.

(٣) الثفل : ما استقرّ تحت الماء من كدر.

(٤) كذا في المصدر. وفي النسخ : ميته.

(٥) كذا في المصدر. وفي النسخ : «فجرى» بدل «ثمّ فجّر».

(٦) من المصدر. والآسن : المتغيّر الطعم.

(٧) كذا في المصدر. وفي النسخ : أممهم.

(٨) من المصدر.

(٩) عرك الأديم : دلكه. والأديم : الجلد المدبوغ.

(١٠ و ١١ و ١٢) المصدر : سنخ.

(١٣) المصدر : سنخ.

٣٥٢

شبح (١) المؤمن وعنصره وطينته اكتساب الحسنات واستعمال الخير واجتناب المآثم. فإذا عرضت هذه الأعمال كلّها على الله ـ عزّ وجلّ ـ قال : أنا الله (٢) عدل لا أجور ، ومنصف لا أظلم ، وحكم لا أحيف (٣) ولا أميل ولا أشطط (٤) ، ألحقوا الأعمال السّيّئة الّتي اجترحها المؤمن بشبح (٥) النّاصب وطينته ، وألحقوا الأعمال الحسنة الّتي اكتسبها النّاصب بشبح (٦) المؤمن وطينته ردّوها كلّها إلى أصلها ، فإنّي أنا الله (٧) لا إله إلّا أنا عالم السّرّ وأخفى ، وأنا المطّلع على قلوب عبادي لا أحيف ولا أظلم ولا ألزم [أحدا] (٨) إلّا ما عرفته منه قبل أن أخلقه.

ثمّ قال الباقر ـ عليه السّلام ـ : أقرأ [يا إبراهيم] (٩) هذه الآية.

قلت : يا ابن رسول الله ، أيّة آية؟

قال : قوله ـ تعالى ـ : (قالَ مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ) هو في الظّاهر ما تفقهونه (١٠) ، هو والله في الباطن هذا بعينه ، يا إبراهيم. إنّ للقرآن ظاهرا وباطنا ، ومحكما ومتشابها ، وناسخا ومنسوخا. والحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة.

(فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ) : يئسوا من يوسف وإجابته إيّاهم. وزيادة السّين والتّاء ، للمبالغة.

وعن البزّيّ (١١) : «استيَاس» بالألف وفتح الياء من غير همزة ، وإذا وقف [حمزة ألقى] (١٢) حركة الهمزة على الياء على أصله.

(خَلَصُوا) : انفردوا واعتزلوا.

(نَجِيًّا) : متناجين.

وإنّما وحّده لأنّه مصدر ، أو بزنته ، كما قيل : هم صديق. وجمعه أنجية ، كندى

__________________

(١٤) المصدر : سنخه.

(١) المصدر : سنخ.

(٢) ليس في المصدر.

(٣) كذا في المصدر. وفي النسخ : لا أخيف.

(٤) شطط الرجل : أفرط وتباعد عن الحقّ.

(٥ و ٦) المصدر : بسنخ.

(٧) ليس في أ.

(٨ و ٩) من المصدر.

(١٠) المصدر : تفهمونه.

(١١) أنوار التنزيل ١ / ٥٠٤.

(١٢) من المصدر.

٣٥٣

وأندية.

(قالَ كَبِيرُهُمْ) :

قيل (١) : في السّن ، وهو روبيل. أو في الرّأي ، وهو شمعون.

وفي تفسير العيّاشيّ (٢) : عن الصّادق ـ عليه السّلام ـ : قال لهم يهوذا ، وكان أكبرهم.

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم (٣) : قال لهم لاوي.

(أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ) : عهدا وثيقا. وإنّما جعل حلفهم بالله موثقا منه ، لأنّه بإذن منه وتأكيد من جهته.

(وَمِنْ قَبْلُ) : هذا.

(ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ) : قصّرتم في شأنه.

و «ما» مزيدة.

ويجوز أن تكون مصدريّة في موضع النّصب بالعطف على مفعول «تعلموا» ولا بأس بالفصل بين العاطف والمعطوف بالظّرف ، أو على اسم «أنّ» وخبره «في يوسف» أو «من قبل». أو الرّفع بالابتداء والخبر «من قبل» وفيه نظر ، لأنّ «قبل» إذا كان خبرا أو صلة لا يقطع عن الإضافة حتّى لا ينقص.

وأن تكون موصولة ، أي : ما فرّطتموه ، بمعنى : ما قدّمتموه في حقّه من الخيانة ، ومحلّه ما تقدّم.

(فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ) : فلن أفارق أرض مصر.

(حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي) : في الرّجوع إليه.

(أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي) ، أي : يقضي لي بالخروج منها ، أو بخلاص أخي منهم ، أو بالمقاتلة معهم لتخليصه.

(وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) (٨٠) : لأنّ حكمه لا يكون إلّا بالحقّ.

وفي تفسير العيّاشيّ (٤) : عن هشام بن سالم ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال : لمّا استيأس (٥). إخوة يوسف من أخيهم قال لهم يهودا ، وكان أكبرهم : (فَلَنْ أَبْرَحَ

__________________

(١) أنوار التنزيل ١ / ٥٠٥.

(٢) تفسير العياشي ٢ / ١٨٦ ، ح ٥٦.

(٣) تفسير القمي ١ / ٣٤٩.

(٤) تفسير العياشي ٢ / ١٨٦ ، ح ٥٦.

٣٥٤

الْأَرْضَ) (الآية).

قال : ورجع إلى يوسف يكلّمه في أخيه ، [فكلمه] (١) حتّى ارتفع الكلام بينهما حتّى غضب يهودا ، وكان إذا غضب يهودا قامت شعرة في كتفه وخرج منها الدّم [حتّى يمسّه بعض ولد يعقوب] (٢).

قال : وكان بين يدي يوسف ابن له صغير ، معه رمّانة من ذهب ، وكان الصّبيّ يلعب بها ، فأخذها يوسف من الصّبيّ فدحرجها نحو يهودا.

قال : وحبا (٣) الصّبي نحو يهودا (٤) ليأخذها فمسّ يهودا ، فسكن يهودا. ثمّ عاد إلى يوسف فكلّمه في أخيه حتّى ارتفع الكلام بينهما حتّى غضب يهودا وقامت الشّعرة وسال منها الدّم ، فأخذ يوسف الرّمانة من الصّبيّ فدحرجها نحو يهودا ، وحبا الصّبي نحو يهودا فسكن يهودا.

فقال يهودا : إنّ في البيت معنا لبعض ولد يعقوب.

قال : فعند ذلك قال لهم يوسف : (هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ).

وفي رواية هشام بن سالم (٥) ، عنه ـ عليه السّلام ـ قال : لمّا أخذ يوسف أخاه اجتمع عليه إخوته ، فقالوا له : خذ أحدنا مكانه ، وجلودهم تقطر دما أصفر وهم يقولون : خذ أحدنا مكانه.

قال : فلمّا أن أبى عليهم وأخرجوا من عنده قال لهم يهودا : قد علمتم ما فعلتم بيوسف (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ).

قال : فرجعوا إلى أبيهم ، وتخلّف يهودا.

قال : فدخل على يوسف يكلّمه في أخيه حتّى ارتفع الكلام بينه وبينه وغضب ، وكان على كتفه شعرة إذا غضب قامت الشّعرة فلا تزال تقذف بالدّم حتّى يمسه بعض ولد يعقوب.

__________________

(٥) كذا في المصدر. وفي النسخ : استيأسوا.

(١) من المصدر.

(٢) ليس في المصدر.

(٣) حبا الصبيّ : زحف.

(٤) كذا في المصدر. وفي النسخ : «وجاء الصبيّ» بدل «وحبا الصبيّ نحو يهودا».

(٥) تفسير العياشي ٢ / ١٨٧ ، ح ٥٦.

٣٥٥

قال : فكان بين يدي يوسف ابن له صغير في يده رمّانة من ذهب يلعب بها ، فلمّا رآه يوسف قد غضب وقامت الشّعرة تقذف بالدّم أخذ الرّمانة من يد الصّبي ثمّ دحرجها نحو يهودا ، واتّبعها الصّبيّ ليأخذها فوقعت يده على يهودا ، [قال : فذهب غضبه ، قال : فارتاب يهودا ، ورجع الصّبيّ بالرّمانة إلى يوسف. ثمّ ارتفع الكلام بينهما حتّى غضب وقامت الشّعرة فجعلت تقذف بالدّم ، فلمّا رأى يوسف دحرج الرّمانة نحو يهودا ، واتّبعها الصّبيّ ليأخذها فوقعت يده على يهوذا] (١) فسكن غضبه.

قال : فقال يهودا : إنّ في البيت لمن ولد يعقوب ، حتّى صنع ذلك ثلاث مرّات.

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم (٢) : فرجع إخوة يوسف إلى أبيهم وتخلّف يهودا ، فدخل على يوسف فكلّمه حتّى ارتفع الكلام بينه وبينه. وذكر مثل ما نقلناه عن تفسير العيّاشيّ ـ إلى قوله ـ : ثلاث مرّات.

وبإسناده (٣) إلى عليّ بن محمّد الهادي ـ عليه السّلام ـ حديث طويل ، وفيه : فنزل جبرئيل ـ عليه السّلام ـ فقال له : يا يوسف ، أخرج يدك. فأخرجها ، فخرج من بين أصابعه نور.

فقال يوسف : ما هذا ، يا جبرئيل؟

فقال : هذه النّبوّة أخرجها الله من صلبك ، لأنّك لم تقم لأبيك.

فحطّ الله نوره ومحى النّبوّة من صلبه وجعلها في ولد لاوي ، أخي يوسف ، وذلك لأنّهم لمّا أرادوا قتل يوسف قال : (لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِ) فشكره الله على ذلك. ولمّا أرادوا أن يرجعوا إلى أبيهم من مصر ، وقد حبس يوسف أخاه ، قال : (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) فشكر الله له ذلك ، فكان أنبياء بني إسرائيل من ولد لاوي ، وكان موسى من ولده ، وهو موسى بن عمران بن يهصر بن واهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.

وستقف على الحديث بتمامه ـ إن شاء الله ـ عن قريب.

(ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ) : على ما شهدنا من ظاهر الأمر.

__________________

(١) ما بين المعقوفتين ليس في أ ، ب.

(٢) تفسير القمّي ١ / ٣٤٩.

(٣) تفسير القمّي ١ / ٣٥٦.

٣٥٦

وقرئ (١) : «سرّق» ، أي : نسب إلى السّرقة.

(وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا) : بأن رأينا أنّ الصّواع استخرج من وعائه.

(وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ) : لباطن الحال.

(حافِظِينَ) (٨١) : فلا ندري أنّه سرق ، أو دسّوا الصّاع في رحله. أو ما كنّا للعواقب عالمين ، فلم ندر حين أعطيناك الموثق أنّه سيسرق ، أو أنّك تصاب به ، كما أصبت بيوسف.

(وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها) ، يعنون : مصر ، أو قرية بقربها لحقهم المنادي فيها. والمعنى : أرسل إلى أهلها واسألهم عن القصّة.

(وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها) : وأصحاب العير الّتي توجّهنا فيهم وكنّا معهم.

(وَإِنَّا لَصادِقُونَ) (٨٢) : تأكيد في محلّ القسم.

(قالَ بَلْ سَوَّلَتْ) ، أي : فلمّا رجعوا إلى أبيهم ، وقالوا له ما قال لهم أخوهم ، قال : بل سوّلت ، أي : زيّنت وسهّلت.

(لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) : أردتموه ، لتعليمكم إيّاه أنّ السّارق يؤخذ بسرقته ، وإلّا فما أدرى الملك أنّ السّارق يؤخذ بسرقته.

(فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) ، أي : فأمري صبر جميل ، أو فصبر جميل أجمل.

في تفسير العيّاشيّ (٢) : عن جابر قال : قلت لأبي جعفر ـ عليه السّلام ـ : رحمك الله ، ما الصّبر الجميل؟

قال : فذلك صبر ليس فيه شكوى إلى النّاس.

وفي أمالي شيخ الطّائفة (٣) ـ قدّس سرّه ـ وبالإسناد في قوله ـ عزّ وجلّ ـ في قول يعقوب : (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) قال : بلا شكوى.

(عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً) : بيوسف وبنيامين وأخيهما الّذي توقّف بمصر.

(إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ) : بحالي وحالهم.

(الْحَكِيمُ) (٨٣) : في تدبيرها.

__________________

(١) أنوار التنزيل ١ / ٥٠٥.

(٢) تفسير العياشي ٢ / ١٨٨ ، ح ٥٧.

(٣) أمالي الشيخ ١ / ٣٠٠.

٣٥٧

(وَتَوَلَّى عَنْهُمْ) : وأعرض عنهم كراهة لما صادف منهم.

(وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ) ، أي : يا أسفى تعال فهذا أوانك.

و «والأسف» أشدّ الحزن والحسرة. و «الألف» بدل من ياء المتكلّم.

وإنّما تأسّف على يوسف دون أخويه والحادث رزؤهما ، لأنّ رزأه كان قاعدة المصيبات وكان غضّا آخذا بمجامع قلبه ، ولأنّه كان واثقا بحياتهما (١) دون حياته.

وفي الحديث النّبويّ (٢) : لم تعطَ أمّة من الأمم (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) عند المصيبة إلّا أمّة محمّد ، ألّا ترى إلى يعقوب حين أصابه ما أصابه لم يسترجع ، وقال : يا أسفى.

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم (٣) : سئل أبو عبد الله ـ عليه السّلام ـ : ما بلغ من حزن يعقوب على يوسف؟

قال : حزن سبعين ثكلى على أولادها.

وقال : إنّ يعقوب لم يعرف الاسترجاع ، فمن هناك قال : (يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ).

وفي تفسير العيّاشيّ (٤) : عن هشام بن سالم ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ مثله.

وبهذا الإسناد (٥) ، عنه ـ عليه السّلام ـ قال : قيل له : كيف يحزن يعقوب على يوسف ، وقد أخبره جبرئيل أنّه لم يمت وأنّه سيرجع إليه؟

فقال له : إنّه نسي ذلك.

(وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ) : لكثرة بكائه من الحزن ، كأنّ العبرة محقت سوادهما [يعني عمت من البكاء سوادها] (٦).

وقيل : ضعف بصره.

وقيل : عمي ـ عليه السّلام ـ.

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم (٧) ، يعني : عميت من البكاء.

__________________

(١) كذا في المصدر. وفي النسخ : يحبّونهما.

(٢) أنوار التنزيل ١ / ٥٠٦.

(٣) تفسير القمّي ١ / ٣٥٠.

(٤) تفسير العياشي ٢ / ١٨٨ ، ح ٥٨.

(٥) نفس المصدر والموضع ، ح ٥٩.

(٦) ليس في المصدر والمتن.

(٧) تفسير القمّي ١ / ٣٥٠.

٣٥٨

وقرئ (١) : «من الحزن».

قيل (٢) : فيه دلالة على جواز التّأسّف والبكاء عند التّفجّع ، ولعلّ أمثال ذلك لا يدخل تحت التّكليف ، فإنّه قلّ من يملك نفسه عند الشّدائد. ولقد بكى رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ على ولده إبراهيم ، وقال : القلب يحزن والعين تدمع ولا نقول ما يسخط الرّبّ ، وإنّا عليك يا إبراهيم لمحزونون.

(فَهُوَ كَظِيمٌ) (٨٤) : مملوء من الغيظ على أولاده ، ممسك له في قلبه لا يظهره.

فعيل ، بمعنى : مفعول ، كقوله ـ تعالى ـ : (وَهُوَ مَكْظُومٌ) (٣). من كظم السّقاء : إذا شدّه على ملئه. أو بمعنى : فاعل ، كقوله : (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ). من كظم الغيظ : إذا اجترعه. وأصله : كظم البعير جرّته : إذا ردّها في جوفه.

(قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ) ، أي : لا تفتأ ولا تزال تذكره تفجّعا عليه ، فحذف «لا» ، كما في قوله :

فقلت يمين الله أبرح قاعدا

لأنّه لا يلتبس بالاثبات ، فإنّ القسم إذا لم يكن معه علامة الإثبات (٤) كان على النّفي.

(حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً) : مريضا مشفيا على الهلاك.

وقيل (٥) : «الحرض» الّذي أذابه همّ أو مرض ، وهو في الأصل مصدر ولذلك لا يؤنّث ولا يجمع. والنّعت بالكسر ، كدنِف ودنَف ، وقد قرئ به ، وبضّمتين ، كجنب.

(أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ) (٨٥) : من الميّتين.

في كتاب الخصال (٦) : عن أبي جعفر ، محمّد بن عليّ الباقر ـ عليهما السّلام ـ قال : كان عليّ بن الحسين ـ عليهما السّلام ـ يصلّي في اليوم واللّيلة ألف ركعة.

... إلى أن قال : ولقد بكى على أبيه الحسين ـ صلوات الله عليه ـ عشرين سنة ، ما وضع بين يديه طعام إلّا بكى ، حتّى قال له مولى له : يا ابن رسول الله ، أما آن لحزنك أن ينقضي؟

__________________

(١ و ٢) أنوار التنزيل ١ / ٥٠٦.

(٣) القلم / ٤٨.

(٤) علامة الإثبات هو اللّام والنون. وقيل : لو كان إثباتا لم يكن بدّ من اللّام والنّون.

(٥) أنوار التنزيل ١ / ٥٠٦.

(٦) الخصال ٢ / ٥١٧ ـ ٥١٩ ، ح ٤.

٣٥٩

فقال له : ويحك ، إنّ يعقوب النّبيّ ـ عليه السّلام ـ كان له اثنا عشر ابنا ، فغيّب الله عنه واحدا منهم ، فابيضّت عيناه من كثرة بكائه عليه [وشاب رأسه من الحزن] (١) واحدودب وقوّست ظهره من الغمّ ، وكان ابنه حيّا في الدّنيا ، وأنا نظرت إلى أبي وأخي وعمّي وسبعة عشر من أهل بيتي مقتولين حولي ، فكيف ينقضي حزني؟!

عن محمّد بن سهل البحرانيّ (٢) ، يرفعه إلى أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال : البكّاؤون خمسة : آدم ويعقوب ويوسف وفاطمة بنت محمّد ـ صلّى الله عليه وآله ـ وعليّ بن الحسين ـ عليهما السّلام ـ. فأمّا آدم فبكى على الجنّة حتّى صار في خدّيه أمثال الأودية ، وأمّا يعقوب فبكى على يوسف حتّى ذهب بصره حتّى قيل له : (تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ).

وفي كتاب الاحتجاج (٣) للطّبرسيّ ـ رحمه الله ـ : عن موسى بن جعفر ، عن أبيه ، عن آبائه ، عن الحسين (٤) بن عليّ ـ عليهم السّلام ـ قال : إنّ يهوديّا من يهود الشّام وأحبارهم قال لأمير المؤمنين ـ عليه السّلام ـ : فأمّا يعقوب قد صبر على فراق ولده حتّى كاد يحرض من الحزن.

قال له عليّ ـ عليه السّلام ـ : لقد كان كذلك ، وقد كان حزن يعقوب حزنا بعده تلاق ، ومحمّد ـ صلّى الله عليه وآله ـ قبض ولده إبراهيم قرّة عينه في حياته منه ، وخصّه بالاختيار ليعظم له الادخار ، فقال ـ صلّى الله عليه وآله ـ : «تحزن النّفس ويجزع القلب ، وإنّا عليك يا إبراهيم لمحزونون ، ولا نقول ما يسخط الرّب» في كلّ ذلك يؤثر الرّضا عن الله ـ عزّ وجلّ ـ والاستسلام له في جميع الفعال.

(قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي) : همّي الّذي لا أقدر الصّبر عليه. من البثّ بمعنى : النّشر.

(إِلَى اللهِ) : لا إلى أحد منكم ومن غيركم ، فخلّوني وشكايتي.

(وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ) : من صنعه ورحمته ، فإنّه لا يخيب داعيه ولا يدع الملتجئ إليه. أو من الله بنوع من الإلهام.

(ما لا تَعْلَمُونَ) (٨٦) : من حياة يوسف.

__________________

(١) من المصدر.

(٢) الخصال ١ / ٢٧٢. ح ١٥.

(٣) الإحتجاج ١ / ٣١٩.

(٤) أ ، ب : الحسن.

٣٦٠